مناظرة

في حين تركز نصوص معظم المؤرخين على شذرات من أقوال الورَّاق ورواياته عن المَثْنَويين والنباتية، فإن أبا منصورٍ الماتُرِيدي السمرقندي (ت. ٣٣٣ﻫ/٩٤٤م) يذهب رأسًا إلى عرض أفكار الورَّاق ويسعى إلى نقضها، وهو تقريبًا الأكثر اعتمادًا على آراء الورَّاق، لا على رواياته عن الآخرين أو روايات الآخرين عنه، وهي الآراء التي نقوم هنا بتحديدها من خلال المناظرة التي يقيمها الماتُرِيدي في «كتاب التوحيد» بالاستناد إلى منظومة المفاهيم التي انتقلت من علم الكلام إلى أصول الدين والعقيدة. وسوف نخلص، عقب ذلك، إلى عدد من النقاط التي نعتقد أنها تسهم في تكوين صورة الورَّاق الغائبة في ثَنِيَّات التاريخ، وطيَّات الآراء المسبَّقة التي أنتجتها مسارات طويلة من المصادرات والملاحقات.

بالرغم من أن الماتُرِيدي يُفرد مسألة «في صفة أقاويل الثنوية» من مانوية ودَيصانية ومَرقونية، إلا إنه لا يأتي فيها على ذكر الورَّاق، بل يحيل ردوده عليه إلى ما يذكره في «مسألة إثبات الرسالة وبيان الحاجة إليها»، وهو فصل يكاد يكون مخصصًا للرد على آرائه، وإن كان يتطرق أحيانًا إلى ما يتجاوز هذه المسألة من موضوعات بحسب استرسال السياق، وهو سياق تلقائي كما يبدو تُعْوِزه دقة التصنيف، ما يجعله في كثير من الأحيان يتزيَّا بمظهر الكُنَّاش، لا بمظهر نصوص المناظرة والجدل التي عرفناها لدى المتكلمين، فضلًا عن أن أسلوب الماتُرِيدي متداخل، مكتظ بالجمل الاستدراكية والاعتراضية والتقديم والتأخير.١

إن الاستثناء الوحيد لذلك هو ما يورده الماتُرِيدي على لسان ابن الراوَندي في بعض ردوده عندما يحاججه ﺑ «تقليد الماني» أو عندما يصله بالمَثْنَوية تلميحًا لا تصريحًا.

يوصف الماتُرِيدي بأنه من متكلمي أهل السُّنَّة، وكان من أشد خصوم المعتزِلة، ونطالع مناظرته للورَّاق بدءًا ﺑ «مسألة إثبات الرسالة وبيان الحاجة إليها»، وهو يضمِّن في تمهيده موقفَ الورَّاق الذي نستشفه من قول الماتُرِيدي: «تكلم الناس في الرسالة، فأثبتها أئمة الهدى، وقادة الخير، وحكماء البشر، وأنكرها مَن جهِل صانعه، ومن أقر ممن جهِل أمرَه ونهيه، ومن أقر بذلك ممن زعم أن في العقل الغنى عن الرسالة، مع ما أمكن [من] مقابلة آيات مَن ادعى الرسالة بصنيع الكهنة والسحرة والمشعبذة.»٢ أي إن «زعم» الورَّاق الأساسي هو إمكان الاستغناء بالعقل عن الرسل، بل وتشبيه النبوة بالكهانة والشعبذة.

قال الورَّاق: «إنهم [أي الرسل] لم يمتحنوا قوى الخلق، ولا وقفوا على طبائع العالم التي يُستعان بها في الأفعال، بل لم تبلغ علم أكثرهم، فكيف يعرفون بذلك مبالغ الحيل؟ وهل الذي رأوا إلا كلعب أتى العجب؟ وهل حدث السحر إلا لجذب حجر المِغناطيس الحديد؟»

تعتمد مناظرة الماتُرِيدي على تحيُّل المنطق بتفريغ السؤال من ممكناته ورده إلى مصدره، يقول: «أبَلغتَ أنت الذي ذكرت؟ لتعلم أن الذي قلت طعن أو تمويه؟» وهو سؤال يستحيل الرد عليه بالإيجاب أو النفي، على أن الماتُرِيدي، بالرغم من عدته الكلامية، إنما يعتمد على تواتر القول بالتصديق لا على أدلته. يقول بعد ذلك: «ما من نبي صحت نبوته إلا وقد شهد قومه منه إعلام الصدق». ثم يلتفت إلى الورَّاق ليشكك ثانيةً في ادعائه بنوع من الإحراج المنطقي: «يقال [للورَّاق]: أنت ممن تقبل خبرًا في الدنيا؟ فإن قال: نعم. كُلِّف دليلًا على صدقه أوضح من أدلة الرسل … وإن قال: لا. يشهد عليه العقل، وكل شيء جعله حجةً، بالكذب.»

ولدفع الجدل إلى نوع من المكيدة فإنه لا يستعين بأحد ممن يشتركون في معتقدهم معه، بل يلجأ إلى ابن الراوَندي؛ تلميذ الورَّاق وصديقه، ثم خصمه بعد ذلك؛ فيعارضه بأن الكذب ملازم للخروج عن الطبائع المعروفة، وبقوله إن من يُكذِّب وليس معه شيء، لا يصمد أمام من يرد بالظنون والاحتمال، فحجته أظهر، وإن بُنيت على الظن.

وينبهنا مثال المِغناطيس الذي أورده الورَّاق أن هذا التحيل — في كل الأحوال — ليس بأسوأ مما أورده ابن الجوزي الذي حوَّل الجدل إلى نادرةٍ طريفة بالغة الدلالة على ما في ردود السلف من حمْق. يقول في «المنتظم» ردًّا على تعليقات ابن الراوَندي في «الزمرد»: «وفيه [أي كتاب الزمرد] أن الأنبياء وقعوا بطلسمات تجذب، وإن المِغناطيس يجذب. وهذا كلام ينبغي أن يُستحيا من ذكره فإن المِغناطيس يجذب ولا يرد، ونبينا — عليه السلام — دعا شجرة وردَّها.»٣

«وقال [الورَّاق] في قول الفلسفة: إن تركيب الحيوان تركيب يموت.» نفهم من ذلك أن الموت شرط بنيوي، ما دام كل كائن حي محتوم الفناء، إلا إن الماتُرِيدي يجيب: «تأملوا حماقته … لو كان بالتركيب لما اختلف قدر الحياة»! أي لكان قدر الحياة متساويًا في أعمار الكائنات. وهو يعضد رأيه من ناحية أخرى بأن الورَّاق «ينكر قول الرسل مع البرهان»، وأنه «لم يمتحن عقول جميع الفلاسفة، ولا هم امتحنوا طبائع الجميع»؛ فمن أين تأتيه الجرأة على التماهي في أمثلة الفلاسفة ما دام هو لم يمتحن جميع عقولهم؟!

ويعود الماتُرِيدي مرةً أخرى إلى التشكيك في أطروحة الورَّاق بإلغاء قدرته على التفكير في العقيدة، من خلال إحراج منطقي سفسطائي لا يختلف عن المثال السابق في «قبول الخبر»: «ثم يقال له: تعتقد شيئًا ألبتة؟ فإن قال: لا. أقر أنه لم يعتقد تكذيب مَن ذكر، ولا أنه هو، ولا هو حي أو ميت، فتَكلُّفه الأجوبةَ والمعارضات خطأ. وإن قال: نعم. قيل لعلك تعتقده بما لم يبلغ قوة دركك وعلمك بالأشياء مبلغ الإحالة، إذ قد رأيت كثيرًا من المعتقدين بطل اعتقادهم، فلعل طبيعتك أرَتْك ذلك الفساد، ويجوز أن يكون في الطبائع طبيعة نقية يدرك لذلك فيما اعتقدت، ويظهر جهلك. فمهما قال من شيء فهو له في جميع ما أنكر جواب.» وبالرغم من أن الماتُرِيدي لا يخرج في أصول المنطق عن حدود الثالوث الكلامي الذي يحيل الوجود إلى ممتنع وواجب (وهما ما لا يجوز مجيء الخبر بغيرهما)٤ وممكن (وهو متقلب من حال إلى حال)٥ إلا إنه يحيل الممكن في مناظرته الورَّاق إلى ممتنع عندما يقول بعد ذلك مباشرة: «إن كل من اختار [في الأصل: استخار] الخروج من المعارف، والتفوُّه بغير الموجود في الطبائع، بلا شيء سوى أنه لم يكن أو لعله يكون، أبطل سبيل تثبيت شيء ألبتة أو نفيه، ويكون في حد الشاكين في البيان كله.» ذلك أن حدود المعارف لا يجوز لها أن تنفتح على «غير الموجود في الطبائع» لأن إثبات ذلك (أو نفيه) يقع خارج منطق العقيدة، ويستدعي الشك في البيان، أي إنه يقود مباشرة إلى الإلحاد بإنكار الرسل الذين لهم وحدهم القدرة على البيان. ولكي يلغي الماتُرِيدي إشكالية الممكن فإنه يحيلها إلى الرسل لتؤخذ عنهم خبرًا، دون عناء التفكير فيها. يقول: «الممكن هو المنقلب من حال إلى حال ويد إلى يد ومِلك إلى مِلك، وفي ذلك ليس في العقل إيجاب جهة، ولا امتناع من جهة، فتجيء الرسل ببيان الأوْلَى من ذلك في كل حال.»٦ أي إن الممكن لا يكون إلا بتحوله إلى ممتنع أو واجب، وإن افتراضه قائمًا يظل مؤقتًا إلى أن يَقر على إحدى الصورتين؛ فإما أن يحق فيندرج فيما تقبله الطبائع، وإما أن يبطل فيكون عدمًا لا سبيل إليه. وربما لا نرى في ذلك إلا ثَنَوية منهجية تعتمد على اصطراع الأضداد، أو بالأحرى فإن فكرة الثالث البيْني هذه تجعل الماتُرِيدي «مرقونيًّا» مثلِّثًا دون أن يدري.
ومن المسائل التي يرد فيها الماتُرِيدي على الورَّاق اهتمامه بمسألة المصدر الإلهي للقرآن، وإنكاره إعجازه وفرادته، وهي مسألة عقلية احتج فيها الورَّاق بأربع فرضيات، نعيد ترتيبها واختصارها لتداخلها وتشاكلها في الأصل (انظر كتاب الشذرات):
  • (١)

    أن القرآن من تأليف أكثر العرب بلاغة (محمد)، وأنه ابتكر ذلك واختص به فلم ينافسوه فيه.

  • (٢)

    أن حروب العرب شغلتهم عن محاولة تأليف نظير له.

  • (٣)

    أن العرب لم يكونوا أهل نظر ومعرفة ليلتفتوا إلى هذا التأليف.

وهي — كما نرى — فرضيات عقلية محضة، أي أنها لا تتساءل عن الإعجاز من موقع العقيدة أو بألفاظها، بل من خارجها، من موقع الباحث الدارس الذي يفكر بمعزل عن حرم اللاهوت ومحرماته. ويرد الماتُرِيدي:
  • (١)

    إن محمدًا الذي نشأ بين العرب وعرف اللسان عنهم لم يكن ليُرسَل لولا أن خصه الله بذلك. ولو أن محمدًا ابتكره واختص به لطمع غيره في تجاوزه بما يشبهه، بل الله خصه به ليكون آية.

  • (٢)

    إن العرب أُمْهِلوا عشرين سنة قبل الحروب، فما كانت هذه لتشغلهم إلا لاحقًا. وقد «تكلفوا الأشعار، ثم نصْب الحروب، وجمع الأعوان، وبذل الأعيان، ثم اقتتال الأقران، والمبادرات الفظيعة … ثم دُعوا إلى إتيان السورة نحو ثلاث آيات» فلو استطاعوا «لكان ساعة من النهار كافية لذلك.»

  • (٣)
    إن العرب أذكى الناس عقلًا، وأشدهم حمية، ولكن آية «التقريع» لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ تدل على أنهم تركوا مضاهاة القرآن طباعًا، لامتناعه عنهم بعد جهدهم؛ وهم قد بذلوا مُهَجهم في فن الشعر حتى اجتهدوا في قصيدة حوْلًا، وقاتلوا الشعراء بالأشعار، فلو استطاعوا بلوغه ما تركوه.

وباستثناء رده على الفرضية الثانية فإن الماتُرِيدي إنما عاد إلى النقل لينقض ما أورده الورَّاق ضدًّا للنقل؛ أي أنه لم يدرك البُعد العقلي المحض في تلك الفرضيات، فعمد إلى الاستدلال بالقرآن (المُتَسَاءل فيه)، وأحال التقدير إلى الله، وأقرب ما يمكن وصفه به في موقفه هذا أنه تحول إلى الجبرية دون أن يدري، بينما حافظ الورَّاق على أهم مبدأين فكريين في الاعتزال، مطورًا تقنيتهما الجدلية، وهما: حرية العقل وحرية الإرادة؛ يتمثل الأول في تساؤله حول القرآن دون التسليم به من حيث هو جزء من العقيدة، بل بإخضاعه إلى شروط واقعية نشأ فيها وتحول بفعلها إلى ظاهرة تاريخية. ويتمثل الثاني في إحالته القرآن والرسالة إلى تاريخية الإسلام، أي دون أن ينفي عنها إرادة الإنسان كما تمثلت في شخص محمد.

ويعود الماتُرِيدي إلى استدراج ابن الراوَندي إلى صف المنافحين عن إثبات الرسالة، ليعيد تدوير رأيه في الرد على الورَّاق. يقول: «واحتج [ابن الراوَندي] في إثبات رسالة محمد ، مع ما بينَّا، بقوله لليهود: «فتمنوا الموت»، بوجهين؛ أحدهما: الوعد بأنهم لو تمنوا الموت لماتوا، والثاني: أنهم لا يتمنون أبدًا، ولا شيء أيسر عليهم من تمني ذلك. وبمباهلة النصارى، والإخبار بوقوع اللعن، ثبت أنه معلوم النعت في كتبهم. فأدخل الوراق [عليه] أنهم لو تمنوا باللسان لقيل إنما أريد به القلب، والثاني أنهم قد آمنوا بموسى وعيسى وقد أخبراهم بذلك كما يخبر المنجِّمة.»

هنا يبني الورَّاق اعتراضه على أن الاسترسال في التأويل وبناء الاحتمالات لا نهاية منطقية له، وتلك طبيعة الجدل المحض؛ فافتراض أن اليهود قد استجابوا لتمني الموت دون أن يصيبهم، سوف يرتِّب، بمنطق الإيمان، ردًّا تلقائيًّا يفرِّق بين التمني بالقلب والتمني باللسان. أما تدخل الماتُرِيدي للرد على هذا الاعتراض فلا يخلو من تأكيد لما ذهب إليه الورَّاق. يقول: «لو ردوا لقالوا بأنهم فعلوا ذلك أيضًا بقلوبهم» وهو ما عناه الورَّاق؛ فالاسترسال جدلي محض لا علاقة له بإثبات الرسالة من عدمه، كما أن الورَّاق يؤكد أن نبوءتي موسى وعيسى إنما هما أشبه بكلام المنجمين الذين يتوقعون المستقبل، أي أنه ينكر القول بالغيب، يستوي لديه في ذلك النبي والمنجِّم.

«وطعَن [الورَّاق] في قوله: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ.» إن الحفظ يقوم مقام الكتاب، وأحال إلى أن «الحفظ يكون عن تلاوة وما بالإلقاء عليه فهو عن كتاب يُقرأ.» إن ذلك إنما يكون بمن يظهر اختلافه عند من يُعرف به، ومعلوم أنه نشأ بين أظهرهم، لم يُعرف في شيء من ذلك، ولولا ذلك لكان هذا القدر من المقابلة سهلًا لا يعجزون عنه.

«وطعَن [الورَّاق] في إخبار القرآن: إنه خبر الآحاد.» أي أنه رُوي متفرقًا بين الصحابة، ويرد الماتُرِيدي: «وذلك كذبٌ، بل رواه كافة عن كافة، مع ما في هذا إقرار أنه حجة.»

«وطعَن [في] التواتر بما لا تخلو الجماعة عن البعد من السمع، فيحتمل الحيلةَ، أو القربِ، فلا يحتمل مباشرةَ مثلِه إلا اليسير.» وهنا يكتفي الماتُرِيدي بقول ابن الراوَندي: «هذه الجَهَلة بالمحافل، وإلا الأمر في ذلك ينتشر ما كان من قبل، حتى لا يكاد شيء منه يخفى على الأبعدين، فضلا عن الأقربين.»

«وطعَن [الورَّاق] أيضًا بإجماعات اليهود والنصارى.» ويعمِد الماتُرِيدي هنا إلى ابن الراوَندي ليصف الورَّاق بالمانوي، لأنه شكك في أخبار ومرويات الديانات الكبرى من يهودية ونصرانية وإسلام. يقول: «قال ابن الراوَندي: إما أن ينكر الخبر ألبتة فيبطل مذهبه في تقليد اﻟ «ماني» وقوله هذا، أو يجيز خبرًا، لا بد إذ ذاك من الرجوع إلى إجماع أهل الحق في الأصول العقلية، فيقبل أخبارهم وإجماعاتهم، إذ هم المتمسكون به، ونحن أولئك بحمد الله.» وفي هذا النص لا يتنصل ابن الراوَندي من الورَّاق فقط، بل يؤكد انتماءه إلى المعتزِلة (أهل الحق) وإجماعهم في الأصول العقلية، ويضمِّن ذلك دعوة الورَّاق إلى العودة إلى هذا الإجماع. ولعلنا نستشف من ذلك أن ابن الراوَندي لم يُقصَ عن المعتزِلة، كما هو سائد لدى الباحثين، مع الورَّاق، بل تخلَّف عن ذلك، ولعلها كانت مكيدة أخرى من مكائد المعتزِلة، الذين أقصوا الثاني، ثم جعلوا الأول ينتقد صاحبه وينقض آراءه، ثم أقصوه بدوره، ووشوا بهما معًا، يؤيد ذلك أنهما طُلِبا في الوقت نفسه فقُبض على الثاني وأُودع السجن، بينما فر الأول إلى صديق له يهودي يُدعى ابن لاوي، ولم يُعرف عنه شيء بعد ذلك.

يرد الماتُرِيدي بأن في مثل هذا الطعن «بطلان حكمة السمع واللسان» التي تتواتر بها الإجماعات والمرويات، بل وأكثر من ذلك «فيه زوال علوم المعاش والمعاد»؛ إذ بانقطاع القول والسماع «انقطاع الأصول إلى الأغذية والأدوية التي بها حياة الأبدان.» ثم يمضي في دفاع مطول عن هذه الحكمة، ليس من أجل إثبات ما لليهود والنصارى من آثار، بل ليؤكد أن السمع واللسان كانا عُدة من عُدَد الرسالة: «وعلى مثل هذا أمر الرسل، لأنهم جاءوا بالأمور العظام الخارجة عن الأمر المعتاد عندهم، فتظهر أخبارهم، فتنتشر حتى تبلغ أقاصي الدنيا وأدانيها، إذ هي على وجه لا يملك السامعون كتمانها، على ما ذكرْتُ من تغاضي الخلقة في نشر مثله، مع ما قد ينتشر مثل ما ذكرت مما لا منفعة فيه»، و«دليل ذلك أمْرُ رسول الله، حتى لا تأتيَ ناحيةً نائية ولا مكانًا بعيدًا، إلا وجدتَ أثره فيه ظاهرًا، وبخاصة في عصره.» ويعود آخر الأمر إلى إجماعات اليهود والنصارى فلا يتوقف لديها كثيرًا، إنما هي «أمور اختلفوا فيها على قدر ما احتمل آراؤهم، فانتشرت في أتباع كل منهم، ليس ذلك في الآيات ولا في الأمور الخطرة»، و«إنه متى بلغ ذلك تبديلَ الشرع، حتى كاد أن يُمحى أثره ويندرس خبره، بفضل الله ومَنِّه في إرسال من يُحيي ذلك، ويظهر ما عليه الرسل بالآيات القاهرة العقول، ليعلموا بهم التغيير والتبديل.» وهي تقنية استدراج وإحالة أراد بها أن يبلغ شأوين معًا: نقض الورَّاق وإثبات الرسالة، دون أن يُضطر إلى الدفاع عن إجماعات أهل الكتاب، موضوع رده الأساسي.

لا ينكر الورَّاق إجماعات اليهود والنصارى فقط، بل وإجماعات المسلمين أيضًا، ويجعلنا ذلك نفكر في دلالة الإنكار لديه؛ فالوراق لم يصرح يومًا بارتداده، أو باعتناقه المانوية، أو غير ذلك مما يخرج به عن صفة الإسلام، أي إن مثل هذا الإنكار لا يطال المعتقد بقدر ما يسائل أدواته، والورَّاق إن كان قد ذهب بأسئلته العقلية المحضة إلى التشكيك فيما في بعض الآيات من إتقان وإحكام، فإنه لا يرى غضاضة في رفض الأحاديث والمرويات الأخرى التي تداخلت بين الديانات الثلاث وشكلت جسمًا ثقافيًّا لاهوتيًّا واحدًا أصبح التسليم به شرطًا من شروط الإسلام الصحيح!

وقد حاول الماتُرِيدي أن يعود إلى الرد على هذا الإنكار من باب آخر اعتمادًا على قول ابن الراوَندي من أن الورَّاق طعن «في أخبار براهين الرسل من حيث وردت»، إلا إن الماتُرِيدي هذه المرة لا يكتفي بالتواتر وعدد الرواة وحكمة السماع واللسان، بل يلجأ إلى الأثر النفسي للإيمان ويعتبره دليلًا على صحة الدين، دون أن يفكر في المعايير التي يمكن اعتمادها للبرهنة على صحة تلك الأخبار. يقول: «بل أجمعت عليها أمتنا، ثم أمر نبي الله مما توارث به الملحدون لتكلف الطعن، والموحدون لرعاية الحق، مع تطابق الكفرة على أن يجدوا في خلقه ضعفًا، أو في شجاعته، أو له في شيء من المطامع رغبة، أو إلى شيء من فنون منافع الدنيا ميلًا، فما وجدوا ذلك. فهذا لو كان شرط صحة الأخبار كثرة العدد، فكيف وشرطه الاستيلاء على القلوب، وسكونها إليه، وطمأنينة النفس بالمَخرج والفحوى، ورفع ما يعترض من الظنون، وهكذا الأمر عند أخبار المحقين وإن قل عددهم.»

«وطعن الوراق في قوله فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أن كيف أمر بذلك مع الشهادة عليهم بكتمان الحق؟»

فالدلالة الشكلية للأمْرين تبدو متناقضة، وهو ما درج الورَّاق على الإشارة إليه في أكثر من موضع، دفعًا بالجدل المعرفي إلى نزْع هالة التقديس عن القرآن والتعامل معه من حيث هو نص تاريخي. لكن الماتُرِيدي يغيب عنه هذا البعد ويندفع إلى تأويل الآية. يجيب بطريقته المتداخلة: «مالوا إلى الكتاب، فقيل لهم على أن الله يسخرهم في ذلك، ويضطرهم إلى الموافقة، فيكون ذلك من جليل آياته، إذ جمع عليه الأعداء والأولياء، وهو قوله أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وأيضًا إن ذا على ما يُعرف من لَجاج الرجل بعد إقامة البرهان عليه، أن يقال فاسأل ذلك فلانًا ممن يطمع سكون قلبه إليه، فيترك اللجاج. والثالث أن يكون المراد: يرجع إلى من أسلم منهم.» إلا إنه يستدرك بعد ذلك، وقد وجد مخرجًا تأويليًّا لإزاحة هذه الإشكالية المنطقية: «وجائز أن يكون المراد بأهل الذكر هم أهل الشرف الذين يمنعهم شرفهم عند التحكيم إليه عن الكذب، والله أعلم.»

«وطعن الوراق في إخبار رسول الله بحضور الملائكة يوم بدر. قال: أين كانوا يوم أحد؟»

يمكننا — بغض النظر عن النبرة التهكمية التي نلمحها هنا — أن نحيل سؤال الورَّاق إلى أسلوبه في المماثلة المنطقية، لا إلى مقتضيات العقيدة، إذ إن العجز عن الرد على هذا السؤال، بأدوات السؤال نفسه، يقوِّض جزءًا من القرآن ينص، كما يقول الشُّرَّاح، على مد المسلمين ﺑ ٣٠٠٠ من الملائكة أولًا ثم ﺑ ٥٠٠٠ آخرين يوم بدر. لكن المسألة تبدو مختلفةً مع الماتُرِيدي الذي لا يترك مجالًا لإعادة التفكير في «الاعتبار» باتباع أوامر الرسول، بوصفه لا ينطق عن الهوى أولًا ثم بوصفه قائدًا عسكريًّا كان عليه أن يمتحن التزام المسلمين بخطته في إدارة المعركة، لربما كان ذلك أقرب ما يمكن أن ينقذ به الماتُرِيدي طريقته في المناظرة ليتجاوز غرائبية هذا السؤال، مع احتفاظه بالجزء الأهم وهو الدفاع عن صحة حضور الملائكة يوم بدر؛ إلا أنه بدلًا من ذلك يفكر في أُحد انطلاقًا من بدر، لا العكس كما يقتضي السؤال. يقول: «جواب الأول: ظهور رءوس ببدر بلا قاتل رأوه … وأنهم رأوا صورًا لم يعرفوهم. وجواب الثاني: أن ذلك أول حرب، فأراد الله تعالى أن ينصرهم ليظهر الحق ويبطل الباطل»!

ابن الراوَندي في رواية الماتُرِيدي يتَّبع استراتيجية أخرى يلغي بها ما يتضمنه السؤال من إحراج منطقي، فهو آخرَ الأمر تلميذُ الورَّاق، وهو أدرى بأساليبه هذه، إذ يلجأ إلى مقارنة تعتمد على تكرار شبهة المانوية التي أُلصقت بالورَّاق بحرفيتها دون ردها إلى المجاز والتأويلية في مماثلة النور والظلمة في العالم بنزعتي الخير والشر في الإنسان: «قال ابن الراوَندي: العجب من الوراق حيث جحد أخبار الرسل مع البراهين، ودعا إلى قبول قول المنانية، وألزم القوم حماقاتهم من بسط السماوات من جلود الشياطين، واضطراب الأرض باضطراب الحيات والعقارب فيها، وقبول أخبارهم بعمل النور والظلمة.» وهو النص الوحيد الذي عثرنا عليه حول دعوة الورَّاق إلى المانوية أو تبرير أمثلتها وصورها بالمقارنة مع غيرها من الأمثلة والصور الكوزموغونية التي ترد في الأديان الكبرى الثلاثة، لذا يمكننا اعتباره مجرد جزء من حملة ابن الراوَندي — والمعتزِلة عمومًا — على الورَّاق، لا أكثر.

«ذكر الوراق أن الرسل لو جاءوا إلى التمسك بحجج العقول فهم منا، وإن جاءوا إلى خلافها فقد جعلها الله حججًا، لم يجز الغير إلا بالتغيير، وفي ذلك زوال الخطاب.»

أحال ابن الراوَندي، في رده العقلَ بالحواس، الأدلةَ العقلية إلى مدركات حسية، كيما يجعل الاختلاف انتقالًا من طور إلى طور، أو تغيرًا في مستويات الأشياء وأحوالها، لا دليلًا على التضاد في طبيعتها. ومن هنا قال الماتُرِيدي: «عارضه ابن الراوَندي بما يُرى أسود الرأس ثم يُراه أبيض، أتغير بصره أو تغير الشيء على البصر، إذ ليس هو بأسود لما يراه البصر، فمثله أمر ما يراه العقل عدلًا للأمر، وكذلك هذا في القيام والقعود، وكل الأحوال، ومثله الحجامة والأكل والشرب، قد تحسن هذه الأحوال على اختلافها، ولم يجب به تغير العقل حتى يحسن فيه الذي كان يحسن بخلافه … وكذلك اختيار ترك النفع لنفع أرجح منه، وعلى ذلك أمر الشرائع.»

لكن الماتُرِيدي — ربما لهذه المرة اليتيمة — لا يُخفي اتفاقه مع الورَّاق عندما يقول: «وأيد الوراق الذي بينَّا أن في العقل ذم الإساءة إلى مَن لم يؤذِ، وإن لم يُحب لغيره ما يحب المرء لنفسه.» ومع ذلك يستدرك قائلًا إن «الذبائح خارجة من ذلك»، فالذبح أو «أكْل اللُّحْمان»، بتعبير الجاحظ، هما بالنسبة إلى الماتُرِيدي جزء من العقيدة والعدل الإلهي، فذبح الحيوان: «جاءت به الرسل، وهم لا يأتون إلا بالعدل.»

«سأل الوراق فقال: يقال لهم هل اتقى أحد معصية الله وهو قادر مراقبته لله؟ فإن قالوا: لا. أعظموا القول في وصف الأنبياء إنهم لم يفعلوا ذلك، وإن قالوا: نعم. لزمهم القول بها قبل الفعل.»

يجيب الماتُرِيدي: «نقول له وبالله التوفيق: إن عنيت بالقدرة الأسباب التي هي أحوال القدرة التي تعرض لا محالة لولا التضييع من العبد فبلى، وكل الأنبياء كذلك كانوا، وكذلك الأخيار. وإن أردت بها القدرة التي هي مع الفعل أحَلْت السؤال، وصرت كمن يقول: هل راقب الله أحدٌ في إبقاء المعاصي وهو فاعل لها، وذلك مما لا معنى له، وهو يعارضك فيقول: هل راقب الله نبي من الأنبياء في إبقاء معصية علمها منه أو أخبرها عنه؟ فمهما أجاب في شيء فمثله الأول. ثم يقال: هل تفضل الله على أحد من أوليائه بمنع قدرة عداوته؟ فإن قال: نعم. نقول إن الله لم يعط أولياءه قدرة معاصيه، فعليه في أعدائه أيضًا أنه لم يعطهم قوة طاعته، وفي ذلك ما أنكر آنفًا، وإن قال: لا. زعم أنه أعطى أولياءه قوة عداوته، ومن قولهم إنه لم يعط أعداءه قوة العداوة، فالآن صار إلى أن أعطى أولياءه قوتها، وذلك عظيم. ثم يقال: هل أعطى الله وليًّا قُوًى على تلك الطاعة حين الطاعة؟ فإن قال: لا. فالوحشة في طاعة لم يقو عليها، ليست بدونها في اجتناب معصية لم يقو عليها، بل قَوِيَ على ترك المعصية، وعندهم لم يقو على الطاعة، وهذا أوحش. ثم يقال: هل والى الله وليٌّ أو عاداه عدوٌّ بفعل قُوًى عليه؟ فإن قال: نعم. أقر بالقوة مع الفعل. وإن قال: لا. زعم أن العداوة والولاية بما لا يقوى عليه، وذلك بعيد، ولا قوة إلا بالله» (٢٨٥-٢٨٦).

•••

إن ردود الماتُرِيدي على الورَّاق ردود سطحية، تلجأ إلى ظاهر الحدود مما يتصل بذهنية التحريم، وتحتج بحد أدنى من المنطق العقلي.

لم يدرك الماتُرِيدي الأبعاد العقلانية التي ذهب إليها الورَّاق في اعتماده على التفكير المجرد عن معايير الفقاهة التي سيطرت على علم الكلام، وفي تبنيه فكرًا متحررًا من تابو اللاهوت إمعانًا في إعمال منطق العقل والاعتماد عليه.

الرسالة عند الماتُرِيدي قولية سمعية، بينما هي عند الورَّاق محض عقلية.

مسألة النباتيين لدى الورَّاق لا علاقة لها بما في الشريعة من حلال وحرام، بل هي اختيار معرفي راقٍ توصل إليه بتكوين رؤية فردية انعكست على سلوكه الخاص، فوُصف بالغرابة والضلال.

في حين كان الماتُرِيدي متمسكًا بمنظومة الشريعة، وما تقتضيه من انغلاق معرفي، كان الورَّاق منفتحًا على الثقافات الأخرى، محاورًا لها، ومدركًا أبعاد حركته وإحداثياتها واتصالها بالمحيط الديني والثقافي العام.

١  ربما يتم تصويب الكثير من الأخطاء الأسلوبية الواردة في كتاب التوحيد إذا ما عُثر على نسخة أخرى من المخطوط الوحيد الذي نعتمد عليه هنا في نشرة د. فتح الله خليف عام ١٩٧٠م.
٢  التوحيد، ١٧٧.
٣  الاقتباس عن الأعسم، ١٥٦.
٤  التوحيد، ١٨٤.
٥  التوحيد، ١٨٤.
٦  التوحيد، ١٨٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤