أثر الورَّاق
رثاء الحيوانات نموذجًا
يُعَد «الرد على الثلاث فرق» أقدم نص عقلاني كتبه عربي في نقد عقيدتي
التثليث والتجسيد المسيحيتين، وما يميز نقد الورَّاق أنه لم يعتمد
مرجعية إسلامية أو لاهوتية في نقد عقيدتي التثليث والتجسيد، إذ بدلًا
عن ذلك يبني حِجاجه على قراءة العقيدة من داخلها، باللجوء إلى اقتباسات
قالها أو كتبها مسيحيون، واستظهار مفارقاتها وتناقضاتها وإثبات بطلانها
منطقيًّا.
يخصص الورَّاق «كتاب المقالات» للأديان والفرق، ويصبح هذا الكتاب
مرجعًا مهمًّا للعديد من الكُتَّاب، شتيرن يذكر منهم في دائرة المعارف
الإسلامية: الأشعري (٢٦٠–٣٢٤ﻫ) في «مقالات الإسلاميين»، المسعودي
(٢٨٣–٣٤٦ﻫ) في «مروج الذهب»، البغدادي (ت. ٣٢٩ﻫ) في «الفَرْق بين
الفِرَق»، البيروني (ت. ٤٣٩ﻫ) في «الآثار الباقية»، أبو المعالي
(٤١٩–٤٧٨ﻫ) في «بيان الأديان»، الشهرستاني (ت. ٥٤٨ﻫ) في «الملل والنحل»،
١ إلا إن أكثر ما نجده مقتبسات عنه في «كتاب التوحيد»
٢ للماتريدي (ت. ٣٣٣ﻫ). ويمثل «المقالات» أكثر كتب الورَّاق
أثرًا، إلا إن «رثاء الحيوانات» أكثرها إثارة للجدل.
كان الورَّاق نباتيًّا، كأبي العلاء المعري
(٣٦٣ﻫ/ ٩٧٩م–٤٤٩ﻫ/ ١٠٥٨م)، يؤمن بالآهِمْسا (أو اللاعنف)؛ المبدأ الذي
تمتد جذوره إلى أكثر من ألفي عام قبل الميلاد، «يقول إنه أصبح نباتيًّا
في الثلاثين من عمره، مدفوعًا في ذلك إلى حدٍّ ما بدافع الاقتصاد، ولقد
امتنع عن الإجابة عن هذا السؤال: على أي أساس من الدين امتنعت عن أكل اللحم؟»
٣
يصفه الخياط في «كتاب الانتصار» بقوله: «لا يرى قتلَ شيء، ولا يستجيز إتلافه.»
٤ لكن هذا السلوك بالنسبة إلى الخياط ليس سوى دليل آخر على
مانوية الورَّاق وإلحاده. والامتناع عن اللحم هو جزء من تجرِبة فرقة
«الصيامية». يقول الشهرستاني إنهم: «أمسكوا عن طيبات الرزق، وتجردوا
لعبادة الله، وتوجهوا في عباداتهم إلى النيران تعظيمًا لها، وأمسكوا
أيضًا عن النكاح والذبائح.»
٥
يضع الورَّاق كتابًا باسم مستعار في رثاء الحيوانات: «الغريب
المشرقي»، تعبيرًا عن موقف ضد التأصيل اللاهوتي لحافز الشر في الإنسان،
وانتصارًا للنباتية ضد اللُّحمانية. وقد اعتبر البعض أن «الغريب
المشرقي» عنوان كتاب له، مثل الشريف المرتضى في «الشافي»، إلا إن
روايةً أقدم تنسب «النوح على الحيوان» إلى الغريب المشرقي. يقول ابن
النديم في المقالة الخامسة من «الفهرست» عن الورَّاق: «ثم خلَّط وانتهى
به التخليط إلى أن صار يُرمى بمذهب أصحاب الاثنين.» أي إنه لم يعده —
كأغلبية من كتبوا عنه — من المانوية، بل هي «شبهة» عليه متهمٌ بها. ثم
يقول: «وله … كتاب الغريب المشرقي في النوح على الحيوان.»
لا تشكل الأسماء المستعارة pseudonym
ظاهرة أدبية لدى مُجايِلِيه، لذا يصفه البعض بأنه «نَسَبَه (أو أنحله)
إلى الغريب المشرقي.» لماذا يكتب المؤلف كتابًا ثم ينسبه إلى
مجهول؟
التقية! التشيع إحدى تجارِبه، لكن هذا احتمال بعيد؛ لأن الورَّاق
يمضي إلى ما هو أبعد من رثاء الحيوانات جرأةً دون أن يخشى ذلك، بل إنه
كان يطلب العلنية في آرائه الإلحادية. القراءة الثانية هي أن سانحةً
بدت له في عتمة تلك الأحوال المضنية: هل قرر أن يستبدل اسمه؟ ربما قرر
أن يستعيض بهذه الصفة عن اسمه. الغريب المشرقي! يشير «الغريب» إلى
غربته، لطالما كان وحيدًا، منطويًا وغريبًا. بينما يشي «المشرقي»
بنوستالجيا فلسفية إلى تجارِب النباتيين الشرقيين الأوائل:
الهنود.
قال ابن القيم في طريق الهجرتين: «ولما انتهى أبو عيسى الوراق إلى
حيث انتهت إليه أرباب المقالات فطاش عقله ولم يتسع لحكمة إيلام الحيوان
وذبحه، صنف كتابًا سماه «النوح على البهائم» فأقام عليها المآتم، وناح
وباح بالزندقة الصُّراح، وممن كان على هذا المذهب أعمى البصر والبصيرة
كلب معرة النعمان المكنى بأبي العلاء المعري فإنه امتنع من أكل الحيوان
زَعَمَ لظلمه بالإيلام والذبح.»
٦
الخلاف بين الورَّاق والجاحظ
لم يكن الورَّاق والجاحظ خصمين دائمًا، إذ كانا صديقين يجمعهما
الاعتزال، بل إن الجاحظ لم يكن لينسخ كتبه لدى غير الورَّاق،
ويمكننا أن نتصور جدلًا حادًّا دار بينهما حول أفضلية الخليفتين،
وأن هذا الجدل انتهى بخلاف بينهما لم يلتقيا بعده إلا خصمين.
فالجاحظ كان يميل إلى حزب العثمانية (أصحاب عثمان بن عفان)
٧ بينما كان الورَّاق يظهر تشيعه، وقد شكل مع ابن
الراوَندي وهشام بن الحكم جبهة رفض من داخل المعتزِلة، بإظهار
القول في «النص الجلي» في الإمامة. يقول الشريف المرتضى: «إنما
تجاسر على ذلك ابن الراوَندي وأبو عيسى الوراق وقبلهم هشام بن
الحكم على اختلاف الرواية عنه فيه.»
٨
نقض الورَّاق كتاب الجاحظ المعروف ﺑ «العثمانية» (البعض ينسبه
إلى معاصر له هو ثبيت بن محمد)،
٩ ثم كتب «النوح على الحيوان» في نقد كتاب الجاحظ
«الحيوان»، الذي يبدو أنه قد أخرجه مجزَّأً على أوقات متفرقة،
لأننا نطالع في الجزء السابع، وهو آخرها، استدراكًا يرد فيه على
«الدهري»، الذي يعني به الورَّاق، وقد درج على الإشارة إليه دون أن
يسميه؛ ففي الجزء الخامس من «الحيوان» يحمل على الورَّاق، مستغلًّا
الحديث عن «صيادي السمك وصيادي الوحش وأصناف الجزارين والقصَّابين،
والشوائين والطهَّائين والفهَّادين والبيازرة والصقَّارين
والكلَّابين»، ليدافع عن كتابه ضد انتقادات الورَّاق، المفقودة
الآن. يقول: «ولا ينبغي لهذا الدهري أن يعرض لكتابنا هذا، وإن دل
على خلاف مذهبه، ودعا إلى خلاف اعتقاده، لأن الدهري ليس يرى في
الأرض دينًا أو نِحلة أو شريعة أو ملة. ولا يرى للحلال حرمة، ولا
يعرفه، ولا للحرام نهاية، ولا يعرفه، ولا يتوقع العقاب على
الإساءة، ولا يتوخى الثواب على الإحسان، وإنما الصواب عنده، والحق
في حكمه، أنه والبهيمة سِيَّان، وأنه والسبع سِيَّان، ليس القبيح
إلا ما خالف هواه، وأن مدار الأمر على الإخفاق والدرَك، وعلى اللذة
والألم، وإنما الصواب فيما نال من المنفعة.»
ولكنه في الجزء السابع، كما مر، وفي رده على «النباتيين»
و«المانويين»، يستخدم الألفاظ التي يقتبسها من رواية الورَّاق
نفسه، فيحيل الامتناع عن ذبح الحيوانات وإيذاء الحشرات إلى مبدأي
النور والظلمة، وتنازعهما عنصري الخير والشر. وإن قتل بعض الكائنات
إنما هو إنقاذ لها من شر الظلمة، ولعلنا نلمح في هذا الرد تهكمًا
ضمنيًّا تميز به أسلوب الجاحظ في معظم آثاره. يقول: «أكثر ما سمعت
هذا الباب، من ناس من الصوفية، ومن النصارى؛ لمضاهاة النصارى سبيل
الزنادقة، في رفض الذبائح، والبغض لإراقة الدماء، والزهد في أكل
اللُّحْمان. وقد كان — يرحمك الله — على الزنديق ألا يأتي ذلك في
سباع الطير، وذوات الأربع من السباع، فأما قتل الحية والعقرب، فما
كان ينبغي لهم البتة أن يقفوا في قتلهما طرفة عينٍ؛ لأن هذه الأمور
لا تخلو من أن تكون شرًّا صرفًا، أو يكون ما فيها من الخير مغمورًا
بما فيها من الشر، والشر شيطان، والظلمة عدو النور، فاستحياء
الظلمة وأنت قادر على إماتتها، لا يكون من عمل النور، بل قد ينبغي
أن تكون رحمة النور لجميع الخلائق والناس، إلى استنقاذهما من شرور الظلمة.»
١٠
هذا الجدل نعثر عليه أيضًا في حقل آخر، وبأسلوب آخر، في أحد ردود
القاضي عبد الجبار على الورَّاق، وقد اشتُهر القاضي بإدارته الجدل
إلى الأسس، محاولًا جر خصومه دائمًا إلى التشكيك في منطقية المبادئ
التي يبنون عليها أطروحاتهم، ليتداعى بناؤهم تلقاءَ نفسه. يقول،
بنبرة جادة تخلو من تهكم الجاحظ: «وأما ما حكاه الوراق من أن
الأشياء تختلف في الخير والشر على قدر كثرة أجزاء النور وأجزاء
الظلمة، فكأنه أشار إلى أن أجزاء الظلمة إذا غلبت وقع فيها الشر
وكثر، وذلك يوجب أن طبع النور قد انقلب فصار يقع منه الشر، ولو جاز
فيه ذلك، لصح أن ينقلب فيصير، بعد كونه نورًا ظلامًا، ويصير
محدَثًا بعد كونه قديمًا، وتجويز ذلك يوجب عليه تجويز غلبة النور
على الظلام، فيصير الظلام خيرًا؛ وفي هذا هدم جميع ما يتعلقون به.»
١١