جينالوجيا التخريب
كان لقاء الورَّاق بابن الراوَندي بداية فعلية في فلسفة الإلحاد؛
الأول مؤسسٌ، والثاني ممارسٌ. وقد نقل هذا اللقاء النقدَ من الفرق
الثلاث إلى الأديان الثلاثة.
قال ابن الجوزي: «ملاحدة الإسلام ثلاثة: ابن الراوَندي، والتوحيدي،
وأبو العلاء المعري.» إلا إن التوحيدي «مَجْمَجَ ولم يصرح»، كما يقول،
أو كان «يعرض آراءه عرضًا أغمض، فهو من ثم أكثر دهاءً.»
١ أما المعري فإنه «يعرض آراءه من الكفر البارد، الذي لا
يبلغ مبلغ شبهات الملحدين … زعم بأنه مسلم في الباطن، وهذا عكس قضايا
المنافقين والزنادقة حيث تظاهروا بالإسلام، وأبطنوا الكفر، فهل كان في
بلاد الكفار حتى يحتاج إلى تبطن الإسلام؟»
٢ ووُصف بأنه «كان في أعماقه متشككًا قوي الشك، وربما كان في
بعض الأحيان يضع شكوكه موضع الشك، ولم ير بأسًا في أن يكون لقوسه
وتران. كان يؤمن بالتوحيد، بيد أن إلهه ليس إلا قدرًا غير مشخص، كما
أنه لم يأخذ بنظرية الوحي الإلهي، فالدين عنده من صنع العقل الإنساني،
ونتيجة للتربية والعادة، وكان يهاجم مرارًا وتكرارًا أولئك الذين
يستغلون استعداد العامة لتصديق الخرافات بقصد اكتساب السلطة والمال،
ولم يقبل أي صورة من صور الحياة الأخرى.»
٣
ابن الراوَندي الذي تابع أطروحات الورَّاق وأضاف إليها الكثير، لم
يكن لحظة عابرة في تاريخ نقد الفكر الديني، ويمكننا تقدير ما أثارته
كتاباته من جدل عن طريق الكتب التي وُضعت ردًّا عليه، ومنها:
-
كتاب «السبك»، وضعه أبو سهل إسماعيل بن علي النُّوبَخْتي
حول «كتاب التاج» و«اجتهاد الرأي».
-
«الانتصار والرد على ابن الراوَندي الملحد»، وضعه الخياط
ردًّا على «فضيحة المعتزِلة»، ووضع ردودًا أخرى حول
«القضيب» و«عبث الحكمة» و«الزمرد» و«الدامق».
-
خمسة كتب وضعها أبو علي الجُبَّائي شيخ المعتزِلة حول
«الزمرد» و«الدامق» و«التاج».
-
وأمضى أبو الحسن الأشعري، شيخ الأشعرية، وقتًا طويلًا في
محاججة الراوَندي والرد عليه في عدد من الكتب.
وكتب أخرى عديدة، خُصصت للرد عليه، أو جُعل فيها مثالٌ من أمثلة
الإلحاد.
نقل ابن الراوَندي آلياته الجدلية إلى أكثر المواقع إحراجًا: التهكم
من المقدس؛ مما روي عنه في وصف الجنة مثلًا (كتاب الدامغ): «فيها أنهار
من لبن لم يتغير طعمه، وهو الحليب، ولا يكاد يشتهيه إلا الجائع؛ وذكر
العسل، ولا يُطلب صرفًا؛ والزنجبيل، وليس من لذيذ الشراب؛ والسندس،
يفترش ولا يلبس؛ وكذلك الإستبرق، وهو الغليظ من الديباج. ومن تخايل أنه
في الجنة يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد والنبط.»
٤
هذا الأسلوب الساخر كان أكثر مما تحتمله ذائقة المتدينين، ولكنه يدل
من ناحية أخرى على القدر الكبير الذي وصلت إليه تفاعلات الجدل بين
مختلف الأطياف في ذلك العصر.
ردُّ البَلْخي، تلميذ الخياط، في «معاهد التنصيص» على ابن الراوَندي
لا يدل على إدراك طبيعة هذا الجدل الذهني المجرد، بل يأخذه على علات
مفرداته بدلالاتها التجسيمية. يقول: «لقد أعمى الله بصره وبصيرته عن
قوله تعالى:
وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وعن قوله عز وجل
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، ومع ذلك
ففيها اللبن والعسل، وليس هو كلبن الدنيا ولا عسلها، وغليظ الحرير يريد
به الصفيق الملتحم النسج، وهو أفخر ما يُلبس.»
٥
وليس ذلك بأسوأ مما يورده ابن الجوزي في «المنتظم» ردًّا على تعليقات
ابن الراوَندي في «الزمرد»، يقول: «وفيه [أي كتاب الزمرد] أن الأنبياء
وقعوا بطلسمات تجذب، وإن المِغناطيس يجذب. وهذا كلام ينبغي أن يستحيا
من ذكره فإن المِغناطيس يجذب ولا يرد، ونبينا عليه السلام دعا شجرة وردها.»
٦
مثل هذه الأقوال والردود التي تبدو سطحيةً ومدعاة للسخرية تدل على أن
ابن الراوَندي وأستاذه الورَّاق قد دفعا بالجدل الديني إلى عقدته، فلم
يقفا عند الدلالات المباشرة التي توجبها الألفاظ بقدر ما كانا يعملان
على تفكيك سياقاتها منهجيًّا. نباتي مثل الورَّاق ما كان ليستقر في
نفسه أن يأكل لحم طير مما يشتهون، لكن خصومهما التجسيميين لم يكونوا
ليقنعوا بأقل من لذة المأكل والمشرب والنكاح في جنة لا تكلفة فيها
وتخلو من كل إكراه.
قال ابن كثير: «كان أبو عيسى الوارق مصاحبًا لابن الراوَندي، قبحهما
الله، فلما علم الناس بأمرهما طلب السلطان أبا عيسى فأُودع السجن حتى
مات. وأما ابن الراوَندي فهرب فلجأ إلى ابن لاوي اليهودي.»
٧ هل أراد الورَّاق أن يلجأ إليه أيضًا؟ أكان ابن لاوي
اليهودي يغيثه؟ أكان ذلك قبل أن يختلفا، ثم عادا فاتفقا حتى لُوحقا؟ أم
إن نهايتيهما هاتين تشيان بأن اختلافهما لم يكن شيئًا بينهما، أو كان
مؤقتًا، أو كان مدبرًا؟ مثل هذه الأسئلة تزيد غموض سِيرتيهما، وتؤكد
جناية المؤرخين في تجنبهم هذا الجزء من التاريخ الثقافي!
يشير أكثر من تصدى لنقض ابن الراوَندي إلى أن أباه كان يهوديًّا.
ولكن الشذرات النادرة لا تتيح إعادة استظهار الصورة، إذ يبدو أن
الراوَندي الأب لم يتواطأ مع ما يجده من تناقضات استقرت في التوراة،
واحتدمت في نفسه إشكالية العقل والنقل، ولم يرتض التوفيق. هكذا يعمِد
إلى إعادة كتابة الكتاب المقدس، وعندما يُواجَه بتهمة الهرطقة ويتمنع
الحاخامات عن محاججته، يلتجئ إلى الإسلام. لم ينجُ شيء من التوراة
الجديدة التي وضعها ابن إسحق، لا بد أنها غُيبت ولُوحقت نُسخها
ومسوَّداتها وأُتلفت. يذهب بعض اليهود إلى بعض المسلمين ليقولوا:
«ليفسدن هذا (ابن الراوَندي) عليكم كتابكم كما أفسد أبوه التوراة
علينا.»
كان مخرِّبًا سليلَ مخرِّبٍ. هكذا رآه عامة المسلمين، وقد التقى فيه
مشروع أبيه الثائر على اليهودية، مع مشروع معلمه الثائر على جميع
الأديان وعلى «عائلة الأنبياء».