حرب الروايات

لا يوفر معظم الرواة العرب كثيرًا من التروي، أو غيره من مقتضيات التأريخ، عندما يتحدثون عن ابن الراوَندي. لكن الظاهرة التي لا بد من تسجيلها هنا، هي أن النصوص الأقدم حوله كانت على قسمين؛ الأول: هو مجموع الردود التي صُنفت لدحض آرائه، والثاني: هو مجموع النصوص التأريخية التي أوردت نزرًا يسيرًا من سيرته، دون أن يفصل المؤرخون بين منهجيات الحِجاج وسرديات الرواية. ولا نعثر على الكثير مما يشبه رد يحيى بن عدي على أبي عيسى، إذ لعله الوحيد الذي حفظ لنا — كما أسلفنا — جزءًا كبيرًا من نص أبي عيسى المغيَّب.

هذا الفصل يقارن بين ثلاث روايات قصيرة لا تخفي اختلافها حول الراوَندي، ترددت على مدى ثلاثة قرون، هي: الفهرست لابن النديم (ت. ٤٣٨ﻫ/١٠٤٧م)، الوَفَيات لابن خَلِّكان (ت. ٦٨١ﻫ/١٢٨٢م) والبداية والنهاية لابن كثير (ت. ٧٧٤ﻫ/١٣٧٣م).

كان ابن النديم شيعيًّا يدعو إلى آل البيت، وهو من تلاميذ السيرافي، وكان ابن خَلِّكان بَرْمَكِيًّا ذا أصل فارسي، أما ابن كثير فكان سنيًّا من تلاميذ ابن تيمية (٦٦١–٧٢٧ﻫ).

ابن تيمية هذا «كارثة تاريخية»، لا نجد نظيرًا لأثرها المدمر على المكتبة العربية، ربما هولاكو (١٢١٧–١٢٦٥م) فقط، فإذا كان الثاني قد أحرق المخطوطات ورماها في دجلة، بعد أن دمر بغداد عام ١٢٥٧م، وقتل ٨٠٠٠٠٠ من سكانها، فإن الأول، وكان معاصرًا للمغول، جعل إحراق الكتب وتغييبها فعلًا اختياريًّا يقوم به العرب عن جهالة وطيب خاطر، وإذا كان المغول قد هُزموا في عين جالوت عام ١٢٦٠م، فإن حرب التيْميين على العقل العربي ما زالت متواصلة منذ سبعمائة سنة.

كان ابن كثير يُجِل ابن خَلِّكان، قال عنه في «البداية»: «قاضي القضاة ابن خَلِّكان الشافعي، أحد الأئمة الفضلاء، والسادة العلماء، والصدور الرؤساء، وهو أول من جدد في أيامه قضاء القضاة من سائر المذاهب فاشتغلوا بالأحكام بعد ما كانوا نوابًا له.» ويصف كتابه «الوَفَيات» بأنه: «من أبدع المصنفات» ويقول إنه ينقل عن ابن خَلِّكان، لكنه عندما جاء إلى سيرة ابن الراوَندي لم يقف على الحياد الذي تقتضيه الرواية، أو النقل، فاندفع يستمطر عليه اللعنات، ويخوض ضده حربه الصغيرة التي أرادها حربَ ضربةٍ واحدةٍ.

عندما يورد تاريخ وفاته يقول إنه ٢٩٨ﻫ، لا كما قال ابن خَلِّكان؛ أي ٢٤٥ﻫ، ويعقب على ذلك: «قد وهِم [يعني ابن خَلِّكان] وهمًا فاحشًا.» لكن هذا التعقيب لا يتصل لدى ابن كثير بتأريخ الوفاة بقدر ما يتصل بما أورده ابن خَلِّكان عن ابن الراوَندي من رأي «مجرد» رأى ابن كثير أنه لا يليق بالمقام، دفاعًا عن الدين؛ فهو يعترض عليه قائلًا: «لم يجرحه بشيء» و«لا كأن الكلب أكل له عجينًا». إن العبارة الأولى تشي بتواضع ساد لدى المؤرخين على «ضرورة» جرح أمثال هؤلاء كلما مر ذكرهم، أما العبارة الثانية — ولا بد أن أصلها مثلٌ كان سائدًا — فتشي بأن المسألة شخصية لا بد من دم لإطفائها.

ابن كثير أبْلَس الراوَندي، وصفه بالكلب، والكلب في التخييل الإسلامي صورة من صور الشيطان، الكلب «يقطع الصلاة» مثله مثل المرأة والخنزير، كما في الأثر الإسلامي، وليس لابن الراوَندي أن يكون رجلًا، ولا إنسانًا، بل هو كما يتصوره ابن كثير «كلب»، وربما كلب أسود، ﻓ «الكلب الأسود شيطان الكلاب» (كما في صحيح مسلم)، وهذا الحديث متمم لآخر هو: «يقطع الصلاةَ الكلبُ والمرأة والخنزير والحمار واليهودي والنصراني والمجوسي.»

ليس لابن الراوَندي في تخييل ابن كثير إلا أن يكون حيوانًا أو امرأة أو من أهل الكتاب أو من عبدة النار. وبعد ذلك، من الواضح أن «العجين» في لا وعي ابن كثير إنما هو اللاهوت الإسلامي، الذي نال منه ذلك «الكلب»!

يتحدث ابن النديم مؤسسًا نمطًا جديدًا في التأليف لم يألفه العرب، لذا تتداخل الفهرسة مع السرد والتأريخ، ويتحدث ابن خَلِّكان مؤرخًا، أما ابن كثير فيتحدث فقيهًا. الأول يصنف، والثاني يروي، والثالث يقيم الحد، بل يلاحق موضوعه إلى العالم الآخر ليسأل الله أن يصيبه بلعنة أبدية.

ابن النديم (ت. ٩٩٠م)، وهو الأقرب زمنًا إلى ابن الراوَندي (ت. ٩١١م)، كان الأكثر توسطًا وتعقلًا، فلا هو اكتفى بما رآه حسنًا من سيرة الرجل، كابن خَلِّكان، ولا هو اكتفى بما رآه سيئًا منها، كابن كثير. أخذ بالطرفين، فذكر ما زانه وما شانه في تقاليد ذلك العصر، مُوليًا اهتمامه لما تركه من آثار ومصنفات.

ابن النديم ابن خَلِّكان ابن كثير
أبو الحسين الراوَندي. أبو الحسين الراوَندي. الزنديق أحمد.
كان حسن السيرة، جميل المذهب، كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك. العالم المشهور. كان من الفضلاء في عصره. زنديق، ملحد، جاهل، سفيه. خارج عن الإسلام. أحد مشاهير الزنادقة الملحدين.
ألف كتبًا أيام صلاحه، وكتبًا ملعونة أيام فساده. له مائة وأربعة عشر كتابًا. عادى القرآن وألحد فيه وطعن عليه.
ولم يكن في زمانه في نظرائه أحذق منه بالكلام، ولا أعرف بدقيقه وجليله منه. له مجالس ومناظرات مع علماء الكلام. أقل وأخس وأذل من أن يُلتفت إليه.
علمه كان أكبر من عقله. انفرد بمذاهب نقلها عنه أهل الكلام. فضل دين اليهود والنصارى على دين المسلمين.
تاب عند موته مما كان منه. رحمه الله تعالى. لعنه الله وقبحه.

رواية ابن النديم

«قال البَلْخي في كتاب محاسن خراسان: هو أبو الحسين أحمد بن يحيى الراوَندي، من أهل مَرْوِ الرُّوذ، من المتكلمين؛ ولم يكن في زمانه في نظرائه أحذق منه بالكلام، ولا أعرف بدقيقه وجليله منه. وكان في أول أمره حسن السيرة، جميل المذهب، كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك كله بأسباب عرضت له ولأن علمه كان أكبر من عقله.

حُكي عن جماعة أنه تاب عند موته مما كان منه، وأظهر الندم، واعترف بأنه إنما صار إلى ما صار إليه حميَّةً وأنَفة من جفاء أصحابه، وتنحيتهم إياه من مجالسهم. وأكثر كتبه الكفريات ألفها لأبي عيسى بن لاوي اليهودي الأهوازي. وفي منزل هذا الرجل تُوُفي.

فمما ألف له من الكتب الملعونة: كتاب التاج، يحتج فيه لقِدم العالم؛ كتاب الزمرد، يحتج فيه على الرسل وإبطال الرسالة؛ كتاب عبث الحكمة لصفة الله جل اسمه في تكليف خلقه أمره ونهيه؛ كتاب الدامغ، يطعن فيه على نظم القرآن؛ كتاب القضيب الذي يُثبِت فيه أن علم الله بالأشياء مُحدَث وأنه كان غير عالم حتى خلق لنفسه علمًا؛ كتاب الفِرِند في الطعن على النبي عليه السلام؛ كتاب المرجان في [اختلاف أهل الإسلام]؛ كتاب اللؤلؤة في تناهي الحركات.

قال ابن الراوَندي: مررت بشيخ جالس وبيده مصحف وهو يقرأ: ولله «ميزاب» السموات والأرض، سلَّمتُ وقلت: يا شيخ أيش تقرأ؟ قال: القرآن، ولله ميزاب السموات والأرض، فقلت: وما تعني بميزاب السموات والأرض؟ قال: هذا المطر الذي ترى، فقلت: ما يكون التصحيف إلا إذا كان مفسرًا! يا هذا، إنما هو: «ميراث» السموات والأرض. فقال: اللهم غَفرًا، أنا منذ أربعين سنة أقرؤها وهي في مصحفي هكذا.

وتُوفي ابن الراوَندي وله من الكتب — أيامَ صلاحه — كتاب الأسماء والأحكام، كتاب الابتداء والإعادة، كتاب الإمامة، كتاب خلق القرآن، كتاب البقاء والفناء، كتاب الوقف، كتاب الحجر الأحمر؛ وأيامَ فساده، كتاب الحجر الأسود، كذلك كتاب لا شيء إلا موجود، كتاب الاستطاعة، كتاب فضايح المعتزِلة، كتاب الرؤية، كتاب الاحتجاج لهشام بن الحكم، كتاب الإنسان، كتاب الخاص والعام، كتاب الرد على من قال برمي الحركة ببصره، كتاب الجمل، كتاب إثبات الرسل، كتاب فساد الدار وتحريم المكاسب، كتاب الرد على من نفى الأفعال والأعراض، كتاب المسايل على الهاشمية، كتاب كيفية الاستدلال، كتاب الأعراض، كتاب الرد على الزنادقة، كتاب حكاية قول معمر واحتجاجه في المعاني، كتاب النكت والجوابات على المنانية، كتاب كيفية الإجماع وماهيته، كتاب إثبات خبر الواحد، كتاب الرد على المعتزِلة في الوعيد والمنزلة بين المنزلتين، كتاب الإدراك، كتاب حكاية علل هشام في الجسم والرؤية، كتاب الأخبار والرد على من أبطل التواتر، كتاب أدب الجدل، كتاب نقض كتاب الزمرد على نفسه، كتاب نقض المرجان، كتاب نقض الدامغ، ولم يتمه.»١

رواية ابن خَلِّكان

«أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوَندي، العالم المشهور. له مقالة في علم الكلام، وكان من الفضلاء في عصره، وله من الكتب المصنفة نحوٌ من مائة وأربعة عشر كتابًا، منها كتاب «فضيحة المعتزِلة» وكتاب «التاج» وكتاب «الزمرد» وكتاب «القصب» [كتاب القضيب] وغير ذلك. وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها أهل الكلام عنه في كتبهم. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين برحبة مالك بن طوق التَّغلِبي، وقيل ببغداد، وتقدير عمره أربعون سنة، وذكر في «البستان» أنه توفي سنة خمسين، والله أعلم، رحمه الله تعالى.»٢

رواية ابن كثير

«الزنديق أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين المعروف بابن الراوَندي، أحد مشاهير الزنادقة الملحدين عليه اللعنة من رب العالمين، كان أبوه يهوديًّا فأظهر الإسلام، فيقال: إنه حرف التوراة كما عادى ابنُه القرآن بالقرآن وألحد فيه، وصنف كتابًا في الرد على القرآن سماه «الدامغ»، وكتابًا في الرد على الشريعة والاعتراض عليها سماه «الزمردة»، وكتابًا يقال له «التاج» في معنى ذلك، وله كتاب «الفريد» وكتاب «إمامة المفضول الفاضل». وقد انتصب للرد على كتبه هذه جماعةٌ منهم الشيخ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجُبَّائي شيخ المعتزِلة في زمانه، وقد أجاد في ذلك، وكذلك ولده أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي. قال الشيخ أبو علي: قرأت كتاب هذا الملحد الجاهل السفيه ابن الراوَندي، فلم أجد فيه إلا السفه، والكذب، والافتراء.

قال: وقد وضع كتابًا في قِدم العالم ونفي الصانع، وتصحيح مذهب الدهرية والرد على أهل التوحيد، ووضع كتابًا في الرد على محمد رسول الله في سبعة عشر موضعًا من كتابه، ونسبه إلى الكذب — يعني النبي — وطعن على القرآن، ووضع كتابًا لليهود والنصارى، وفضل دينهم على المسلمين؛ يحتج لهم فيها على إبطال نبوة محمد ، إلى غير ذلك من الكتب التي تبين خروجه عن الإسلام. نقله ابن الجوزي عنه.

وقد أورد ابن الجوزي في منتظمه طَرَفًا من كلامه، وزندقته، وطعنه على الآيات والشريعة. ورد عليه في ذلك. وهو أقل وأخس وأذل من أن يُلتفت إليه وإلى جهله وكلامه وهذيانه وسفهه وخذلانه وتمويهه وترويجه وطغيانه. وقد أسند إليه حكايات من المسخرة والاستهتار والكفر والكبائر منها ما هو صحيح عنه، ومنها ما هو مفتعل عليه ممن هو مثله، وعلى طريقه ومسلكه في الكفر والتستر بالمسخرة [في نسخة: يخرجونها في قوالب مسخرة وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة، وهذا كثير موجود فيمن يدعي الإسلام وهو منافق، يتمسخرون بالرسول ودينه وكتابه، وهؤلاء ممن] قال الله تعالى فيهم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.

وقد كان أبو عيسى الوراق مصاحبًا لابن الراوَندي، قبحهما الله، فلما علم الناس بأمرهما طلب السلطان أبا عيسى فأُودع السجن حتى مات، وأما ابن الراوَندي فهرب فلجأ إلى ابن لاوي اليهودي وصنف له — في مدة مُقامه عنده — كتابه الذي سماه «الدامغ للقرآن» فلم يلبث بعده إلا أيامًا يسيرة حتى مات لعنه الله . ويقال: إنه أُخذ وصُلب.

قال أبو الوفاء بن عقيل: ورأيت في كتاب محقق أنه عاش ستًّا وثلاثين سنة مع ما انتهى إليه من التوغل في المخازي في هذا العمر القصير، لعنه الله وقبحه، ولا رحم عظامه.

وقد ذكره ابن خَلِّكان في الوَفَيات وقلس [دلس!] عليه، ولم يجرحه بشيء، ولا كأن الكلب أكل له عجينًا، على عادته في العلماء والشعراء؛ فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقة يترك ذكر زندقتهم. وأرخ ابن خَلِّكان تاريخ وفاته في سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد وهِم وهمًا فاحشًا، والصحيح أنه توفي في هذه السنة [٢٩٨ﻫ] كما أرخه ابن الجوزي وغيره.»٣
١  الفهرست، المقالة الخامسة، ٢١٦-٢١٧.
٢  الوَفَيات، ٣٥.
٣  البداية والنهاية، ابن كثير، ج١١، ١١٢-١١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤