حيوانات مُبهمة
هناك أشياء معروف أنها معروفة؛ إنها أشياء نعرف أننا نعرفها. وهناك أشياء معروف أنها غير معروفة، بمعنى أن هناك أشياء نعرف الآن أننا نجهلها. ولكن هناك أيضًا أشياء غير معروف لنا أننا لا نعرفها؛ أي إن هناك أشياء نجهل أننا نجهلها.
شُعَب جديدة، رؤًى جديدة
إن تاريخ علم الحيوان يمثِّل قصة لآراء متغيِّرة. وعلى مدار قرن من الزمان شهِدْنا جدالًا ونقاشًا حول العلاقات التطورية بين الحيوانات، وقد تعقدت المشكلة مع اكتشاف أنواع جديدة كل يوم. وفيما يخص مئات الأنواع، نعرف المزيد كل سنة عن التشريح والبيئة والنماء والسلوك. لكن من الضروري أن نتمهل قليلًا ونتساءل: ما مدى دقة وضعنا المعرفي الآن؟ أسيكون هناك المزيد من الدراسات العميقة، أم إن لدينا الآن إطارًا موثوقًا به يمكننا من خلاله التعمق بشكل أكبر في دراسة بيولوجيا الحيوان؟ وعلينا أولًا أن نسأل هل كنَّا ندرك حقًّا التنوع الكامل داخل المملكة الحيوانية أم لا؟
من المؤكَّد أن هناك عدة آلاف، أو حتى ملايين، من أنواع الحيوانات التي لم تُستكشف بعدُ. إن الغابات الممطرة الاستوائية والبحار العميقة مثالان لنظامين بيئيين يعجَّان بالحياة، ورغم ذلك فإن التناول العلمي لهما كان سطحيًّا فقط. على أن كشف نوع جديد، أو حتى ألف نوع جديد، لن يغير بشكل جوهري فهمنا لبيولوجيا الحيوان. لا شك أن هذا الأمر له أهمية كبيرة؛ على سبيل المثال، من شأن معرفتنا بكل الأنواع في أي نظام بيئي أنها يمكن أن تساعد في محاولة فهم دورة المواد الغذائية وأنماط تدفق الطاقة. وهذه الرُّؤَى مهمة. لكن معظم الأنواع الجديدة التي اكتُشفت هي أقارب وثيقة الصلة بأنواع معروفة من قبلُ، وعلى ذلك، إذا ما أردنا فهم الإطار الشامل للتنوع الحيواني على الكوكب، فإن هذه الاكتشافات ليست هي المفتاح. إنها تُضيف تفصيلات، ولكنها لن تَفرِض تغييرًا جوهريًّا على حالتنا المعرفية.
القصة مختلفة عند المستويات العليا للتصنيف، إن الفئة الرئيسة في تصنيف الحيوانات، بالطبع، هي الشعبة، ولنستخدم كلمات فالنتين مرة أخرى: «الشُّعَب أفرع من شجرة الحياة تعتمد على الشكل.» وعلى ذلك فإن اكتشاف شعبة جديدة في الحقيقة لا يغير حالتنا المعرفية، إنه يضيف فرعًا جديدًا إلى الشجرة التطورية للحيوانات، وبالدرجة نفسها من الأهمية يكشف مورفولوجيا جديدة طريقة أخرى لبناء الجسم. إن وضع الاثنين معًا — فرع جديد ومورفولوجيا جديدة — يمكن أن يغير وجهات نظرنا حول توقيت وسبب وكيفية ظهور صفات معينة خلال التطور، ربما صفات أساسية مثل التناظر، أو التفلُّق، أو الجهاز العصبي المركزي. ولكن، هل هناك أي شُعَب باقية لم تُكتَشَف؟
لقد ميزتُ في هذا الكتاب ٣٣ شعبة حيوانية مختلفة، ومعظم هذه الشعب معروفة منذ وقت طويل. وقد ظن الكثير من المشتغلين بعلم الحيوان عند نهاية القرن العشرين أنه قد تم اكتشاف كل الشُّعَب. كانت مفاجأة، في عام ١٩٨٣، أن يقوم عالِم علم الحيوان الدنماركي رينهارت كريستنسن بوصْف نوع جديد كان مختلفًا عن أي شيء آخر، لدرجة أنه استلزم وضع شعبة جديدة تمامًا. وقد أطلق على هذه الشعبة اسم الكوسليات. تشبه هذه الحيوانات الدقيقة — التي يبلغ طولها عادة أقل كثيرًا من ملِّيمتر واحد — صورة مصغَّرة جدًّا من قدور حفظ المشروبات أو مخاريط الآيس كريم، وهي تتعلق بحبيبات الرمل. كانت قِلة من متخصصي علم الحيوان الآخرين قد شاهدتْ هذه الحيوانات في ثمانينيات القرن العشرين، منهم روبرت هيجنز، الذي تُسمَّى باسمه الآن اليرقة السابحة هيجنز. ولكن المفاجأة الكبرى هي أن الشعبة الجديدة غير موجودة في أماكن بعيدة يصعب الوصول إليها من العالم، بل هي توجد أمام شاطئ روسكوف في فرنسا؛ حيث يوجد موقع مركز نشط لأبحاث البيولوجيا البحرية.
أيضًا، «الشعبة الجديدة» التي اكتُشفت تاليًا — السيكليوفورا — كان متخصصو علم الحيوان يغفلون عن وجودها هي الأخرى. والسيكليوفورات حيوانات تكافلية تعيش فوق أجزاء أحد القشريات (نيفروبس) وسرطان البحر (هوماروس). إن الأنواع التي تَعُول هذا الحيوان الدقيق شائعة جدًّا، ويقوم الآلاف من البشر بأكلها دون إدراك ما تحتويه من سيكليوفورات تمثل عجائب حيوانية. وتجدر الإشارة إلى أن كريستنسن أيضًا هو الذي وصف الحيوان الجديد في عام ١٩٩٥ — مع بيتر فانش — وذلك بعد أن قام توم فِنشل باكتشافه.
في عام ٢٠٠٠ تم تسجيل بنيان جسدي جديد ثالث، وكان ذلك في موقع بعيد قام بزيارته عدد قليل جدًّا من العلماء. وقد تم ذلك عندما قام كريستنسن — مرة أخرى — بقيادة رحلة ميدانية للطلاب إلى جزيرة دسكو الواقعة أمام شاطئ جرينلاند. اكتشف الطلاب هناك بعض الحيوانات المجهرية الغريبة التي تعيش في ينبوع مياه عذبة جليدية. كان طول الحيوانات يبلغ من ١ / ١٠ إلى ١ / ٨ الملِّيمتر فقط، وله فكوك معقَّدة تستطيع البروز من خلال فتحة الفم، وكان تشريح أجسامها يختلف تمامًا عن أي شيء آخر إلى حدِّ أنها تستحق أن تُفرَد لها رتبة جديدة، أو حتى شعبة جديدة. وقد سُمِّيَتْ باسم «الفكيَّات الدقيقة».
هل يمكن إذن أن تكون هناك شعبة جديدة تَنتَظِر أن تُكتشَف؟ هذا أمر وارد الحدوث. إن الأمثلة الثلاثة التي ذُكرتْ آنِفًا تخص كلها حيوانات دقيقة، يبلغ طولها أقل كثيرًا من ملِّيمتر واحد، وفي إطار هذه الحيوانات المجهرية فإن هناك احتمالات مستقبلية لاكتشافات مماثلة. هناك موقع واعِد للبحث وهو وسط المِيوفونا؛ أي وسط الحيوانات التي تعيش بين حبات الرمال. ويُشِير اكتشاف الكوسليات أمام الشواطئ الفرنسية إلى أن هذا الكشف يمكن تكراره في أي مكان في العالَم، ويُمكِنني أن أقترح بأن البيئات البعيدة في قاع البحار يمكن أن تكون أفضل رهان. ولكنك إذا أردتَ حقيقةً أن تَصِف شعبة حيوانية جديدة؛ فإنني أنصحك بعدم البدء في البحث عن نوع جديد، بدلًا من ذلك، من الممكن أن تكون هناك شعبة جديدة في وسط الشعب التي سبق معرفتها.
شُعَب جديدة من أخرى قديمة؟
قد يبدو الأمر فيه نوع من التناقض، ولكن نتج العديد من التعديلات على القائمة المعروفة للشُّعَب الحيوانية — سواء تمثَّلتْ هذه التعديلات في اكتشاف شُعَب جديدة أو اكتشافات داخل الشُّعَب القديمة — بفضل دراسات أكثر تفصيلًا تناولت أنواع سبق وصفها. إن الشعبة يجب أن تحتوي حيوانات من فرع تطوري واحد؛ ومن ثَم إذا ما دلَّتْ معلومات جديدة على أن الشعبة تحتوي أنواعًا متشابهة ظاهريًّا ولكنها من أجزاء مختلفة من الشجرة التطورية، فإنه حينئذٍ يجب أن تُقسَّم الشعبة إلى شعبتين، ليس هناك بديل آخَر. وقد حدث ذلك عدة مرات على مدى العَقْدين الماضيين، خاصة عندما وُظفت بيانات تتابعات الدنا في اختبار العلاقات التطورية بين الحيوانات. وعندما تقدِّم بيانات الدنا دليلًا واضحًا على أن ثمة نوعًا في غير موقعه الصحيح من الشجرة؛ فإن التصنيف يجب أن يُعدَّل. من الممكن نَسَب نوع قديم لشعبة جديدة.
المثالان الأكثر أهمية — وإثارة للجدل — يتعلقان بمجموعتين من ديدان غير عادية، هما لا جوفيات الشكل والديدان المسطحة الغريبة. ورغم أن أيًّا من النوعين لا يشتمل على حيوانات مألوفة جدًّا، أو حتى حيوانات شائعة، فإنهما معروفان للعلم منذ زمن طويل. وهذان النوعان — رغم أنهما ليسا جديدين — فإنهما يستحقان شعبة أو شعبتين جديدتين. تحتوي لا جوفيات الشكل على كائنات صغيرة بحرية تشبه الديدان المفلطحة، يبلغ طولها عادة ملِّيمترات قليلة. والدودة الأسهل في الحصول عليها هي الجميلة «سيمساجيتيفيرا روسكوفينسيس»، أو «دودة صلصة النعناع»، ذات اللون الأخضر الزاهي بسبب الطحالب التي تعيش داخل أجسامها. تعيش هذه الدودة على الشواطئ الرملية حول أوروبا، خاصة على الساحل الفرنسي قرب روسكوف؛ حيث تَظهَر كمادة لزقة على الرواسب الطينية الموجودة في البِرَك الصغيرة المُوحِلة. إنك إذا اقتربتَ ببطء نحو هذه المادة اللزقة، فإن هذه الحيوانات عادة ما تختفي. إن هذه الرواسب الطينية الحية مكونة من آلاف من الديدان الخضراء التي تزحف ببساطة بين الرمال إذا ما أُزعجت. وضعت هذه الديدان — وكثير مما يشبهها — بشكل تقليدي في شعبة الديدان المفلطحة، جنبًا إلى جنب مع الديدان المفلطحة «الحقيقية»، والوشائع والديدان الشريطية. لكن طالما كانت هناك دائمًا أصوات معارضة قليلة تدعو إلى الانتباه إلى السمات غير العادية لتشريحها، ولكن ظلت دودة صلصلة النعناع وأقرباؤها داخل شعبة الديدان المفلطحة. فقط عندما قورنت تتابعات الجينوم أصبح من الواضح بشدة أنها ليست قريبة على الإطلاق للديدان المفلطحة والوشائع والديدان الشريطية، ووضعت لها شعبة جديدة.
كانت قصة الديدان المسطحة الغريبة مشابهة. هذه الحيوانات أكبر في الحجم من لا جوفيات الشكل، وأول نوع اكتُشف منها هو «زينوتوربيلا بوكي» في زقاق بحري سويدي، ويبلغ طوله عدة سنتيمترات، ونوع آخر أكبر حجمًا اكتُشف في المحيط الهادي. هذه أيضًا ديدان مسطحة، ومنظرها غير جاذب للنظر إليها، وهي حيوانات بسيطة لونها بُنِّيٌّ مُصفَرٌّ، ويصعب تبيُّن أعضائها، فيما عدا قناة هضمية نهايتها مسدودة. وقد اعتبرها معظم المشتغلين بعلم الحيوان ديدانًا مفلطحة أيضًا، رغم أن البعض قالوا بأنها أقرب إلى شويكات الجلد أو نصف الحبليات. وقد ذهب أحد الاقتراحات المعتمِدة على تحاليل تتابعات الدنا إلى أن الجنس زينوتوربيلا هو من الرخويات، ولكن هذا الاستنتاج كان خطأً للأسف سببه أن الدنا المستخلص كان لآخِر وجبة تناولها هذا الحيوان وليس مستخلصًا من خلاياه. وقد أصبح واضحًا بعد استخلاص دنا من الحيوان زينوتوربيلا ذاته، وتحليل تتابعات العديد من الجينات، أن الحيوان ليس من الديدان المفلطحة، ولا من الرخويات أو شوكيات الجلد أو نصف الحبليات، ولكنه شيء مختلف تمامًا عن المجموعات الحيوانية الأخرى. لقد وُضعت له شعبة جديدة في عام ٢٠٠٦.
يبدو من غير المستبعَد أن توجد شُعَب حيوانية جديدة بين ثنايا الشُّعَب القديمة المعروفة من قبل، وأنها قد صُنِّفت في موضع خطأ في شجرة علاقات القربى الحيوانية. أين إذن ينظر الواحد منَّا؟ هناك العشرات من الحيوانات اللافقارية غير المألوفة التي تشارك أقرباءها المفترضين في عدد محدود من الصفات. إن التحدِّيَ الذي يقف أمام المشتغلين بعلم الحيوان هو تحديد أيٍّ من هذه الأنواع له صفات غير متوافِقة مع شُعَبها؛ حيث أدَّى التطور إلى تحور في بناء أجسامها، مما ضلَّل علماء علم الحيوان لعقود. على سبيل المثال، جذبت كاترين فورسا الانتباه إلى دودة بحرية غير عادية تُدعَى «ديورودريلوس» تُعتبَر حاليًّا من الديدان الحلقية، ولكن لها فقط قليل من الصفات المعروفة للحلقيات، كما أنها يمكن أن تكون مفتقِدة للتعقيل. ويمثل الجنس «لوباتوسيريبروم» حالة مماثِلة؛ حيث إن لهذه الدودة صفات كلٍّ من الحلقيات والديدان المفلطحة. كذلك فإن مجموعة الميزوستوميدات — وهي حيوانات غير عادية تشبه الحلقيات وتتطفل على زنابق البحر — تمثل مشكلة أخرى. فهل أيٌّ من هذه تمثل شعبة جديدة؟
يمثل النوع «بوليبوديوم هايدريفورم» إحدى العجائب الأخرى، بل ربما يُعَدُّ أكثر الحيوانات غرابة على سطح الكوكب. إن هذا الحيوان الضئيل يقضي معظم حياته في الواقع داخل بيض أسماك الحفش، وعندما يخرج من البيض فإنه ينطلق كسرب من قناديل البحر المجهرية، وهو في الواقع من أقارب قناديل البحر، وعضو في شعبة اللاسعات، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإنه عضو غريب بالتأكيد. قد يكون قريبًا للنوع «بودينبروكيا بلوماتيلا»، وهو طفيلي عجيب دودي الشكل ليس له مقدمة واضحة أو مؤخرة أو قمة أو قاع أو يسار أو يمين كذلك، كما أنه ليس له جهاز عصبي مركزي. إن لِكلا الحيوانين تراكيب تشبه إلى حدٍّ ما مَحَافظ اللدغ في اللاسعات. وتشير التحاليل الجزيئية إلى أن النوع بودينبروكيا ينتمي في الحقيقة إلى اللاسعات، وهذا يعني أن الشعبة التي كان يُنسب إليها في السابق، المواخط، يجب أن تُصنَّف ضمن اللاسعات. وعلى هذا، تستطيع المعلومات الجديدة أن تزيل شُعَب من القائمة، وتستطيع كذلك أن تُولِّد شُعَبًا جديدة.
وجهة النظر المُترقَّبة
ماذا سيحدث لو أن بعضًا من هذه الحيوانات غير العادية وُضعت في شُعَب لا تخصُّها؟ السبب الأساسي هو أننا في كل مرة نَضَع فيها بنيانًا خاصًّا للجسم، أو شكلًا متفردًا، على شجرة الأنساب التطورية للحياة الحيوانية، يحدث تغير لنظرتنا بشأن مسار التطور. فلنتناول المجموعتين: الديدان المسطحة الغريبة ولا جوفيات الشكل. إن حيوانات كِلا المجموعتين لها تناظر جانبي، ولكنها تفتقد وجود حبل عصبي مركزي رئيس عند الخط المنصِّف للجسم. هذا بالطبع عكس الحال في معظم ثنائيات التناظر، مثل معظم الانسلاخيات والعجلانيات العرفية وثنائيات الفم التي لها حبل عصبي رئيس. فإذا كان وجود حبل عصبي مركزي يمثل سِمَة عامة للحيوانات الثنائية التناظر، فمن المحتمل أن هاتين الشعبتين الجديدتين انحدرتا من تفرعات مبكرة جدًّا في الشجرة التطورية للحيوانات. هل الديدان المسطحة الغريبة ولا جوفيات الشكل، أو حتى إحداهما، تفرعت قبل تشعب ثنائيات الفم والعجلانيات العرفية والانسلاخيات (ولكن بعد اللاسعات)؟ إذا كان الأمر كذلك، فربما تزودنا بلمحة شائقة عن الكيفية التي قامت بها الأجسام الحيوانية الأولى المتناظرة جانبيًّا بوظيفتها قبل ظهور الحبل العصبي الرئيس لتحقيق تكامل المعلومات. وقد أوضحت التحاليل الجزيئية المبدئية صحة هذا الرأي، على الأقل بالنسبة لمجموعة لا جوفيات الشكل، رغم أن الاستنتاجات كانت متضاربة. وقد وَضَعَتْ دراسة جزيئية أخرى مجموعتَيِ الديدان المسطحة الغريبة ولا جوفيات الشكل ضمن ثنائيات الفم بموازاة شوكيات الجلد ونصف الحبليات والحبليات. فإذا كان ذلك صحيحًا، فلماذا لم تمتلك حبلًا عصبيًّا رئيسًا؟ هل فقدتْه خلال عملية التطور عن طريق توزيع الجهاز العصبي في مناطق الجسم المختلفة؟ أم هل جانَبَنَا الصواب في وجهة نظرنا عن الأصل المشترك لثنائيات التناظر؟ هذه أسئلة هامة يجب الإجابة عنها، ولكنها تتوقف على الموضع الذي تستقر فيه المجموعتان؛ لا جوفيات الشكل والديدان المسطحة الغريبة، على شجرة الحياة، وقد اتضح أن عملية تحديد الموضع هذه صعبة، حتى في ظل البيانات الوفيرة للدراسات الجزيئية.
هذا الجدل يدفعنا إلى التساؤل إن كان علينا أن نثق بشجرة الأنساب التطورية للمملكة الحيوانية من الأساس. إن «الشجرة الجديدة للأصول» تُظهِر تشعُّبًا مبكرًا لأنسال منعدمة التناظر الجانبي (الإسفنجيات، والصفيحيات، والممشطيات، واللاسعات)؛ بحيث انفصلت عن الفرع المؤدي إلى ثنائيات التناظر، التي بدورها تنقسم إلى ثلاث شُعَب فائقة كبيرة: الانسلاخيات والعجلانيات العرفية وثنائيات الفم. إلى أي مدًى نحن متأكدون من هذا الطرح؟ لقد تغيرت الافتراضات حول العلاقات التطورية بشكل كبير على مدى القرن الماضي، فهل ستتغير مرة أخرى؟ أتوقَّع ألَّا يحدث ذلك. وبدلًا من ذلك، أرى أنه حان الوقت للوثوق في «الشجرة الجديدة للأصول»، على الأقل في خطوطها العريضة. إن شجرة الأصول تعتمد تمامًا على مقارنة تتابعات الدنا الخاص بالجينات الموجودة في كل الحيوانات. ورغم أن أولى الأشجار الجزيئية بُنيت من جين واحد أو عدد قليل من الجينات، فإن الإطار الأساسي تأيَّد منذ ذلك الحين عن طريق تحاليل مكثفة اشتملت ما يزيد عن مائة جين لكل نوع. إن تتابعات الدنا توفِّر منجمًا من المعلومات عن التاريخ الذي مضى، وهو رغم كونه قابلًا للتحليل بشكل مباشر، فإنه يوفر أفضل مجموعة معلومات متماسكة المضمون بشأن هذه المشاكل. حقيقيٌّ أن عددًا قليلًا من الحيوانات — مثل لا جوفيات الشكل — يصعب تحديد موضعه حتى باستخدام البيانات الجزيئية، ولكن هذه الطرق على الأقل أثبتتْ أنها بلا موضع محدد، أو وضعتْها في مواضع مُختَلَف عليها، ولم تَضَعها عنوة في مواضع تبدو مناسبة وحسب.
إني مؤمن بأننا في وقت من تاريخ علم الحيوان نمتلك فيه للمرة الأولى شجرة تطورية متميزة للتنوع الحيواني. على أنه يجب علينا أن نتذكر أن شجرة الأصول التطورية هذه هي مجرد نقطة بداية للبحوث البيولوجية. إن الشجرة بذاتها لا تقدم تفهمًا لشيء، بل إن ما تقدمه هو إطار يتيح لنا تفسير البيانات البيولوجية بعناية ودقة. إن الدراسات المورفولوجية — التي كانت تستخدم في السابق لبناء الأشجار — أصبحتِ الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ حيث إن هذه الدراسات يمكن تفسيرها في ضوء شجرة مستقلة. وفقط في ظل الإطار المتين لشجرة الأصول التطورية نستطيع أن نقارن بين أنواع الحيوانات من النواحي التشريحية والفسيولوجية والسلوكية والبيئية والنمائية بطريقة ذات معنًى؛ أي طريقة توفِّر رؤًى عن نمط وعملية التطور البيولوجي.