حيوانات القاعدة: الإسفنجيات والمرجانيات وقناديل البحر
كان القاع مختفيًا تمامًا بفعل سلسلة متصلة من المراجين والإسفنج وشقائق النعمان وكائنات بحرية أخرى ذات أبعاد ضخمة وأشكال متنوعة وألوان رائعة … لقد كان مشهدًا يستحق أن تحدق فيه لساعات، ولا يوجد وصف يُوفِيه حقَّه نظرًا لجماله الفائق وما يتضمنه من تشويق!
الإسفنجيات
الإسفنجيات هي أقل الكائنات شَبَهًا بالحيوانات في المملكة الحيوانية. ومعظم الإسفنجيات تشبه الزُّهرية، ولكن بعضها يتخذ شكل كُتَل ذات نمو غير منتظم تغطي سطح الصخور في البحر أو الحصى والأفرع الساقطة في البحيرات والأنهار. بالنسبة إلى هذه الحيوانات، لا تنطبق بدقة مفاهيم الأبعاد الصريحة، مثل الأمام والخلف، أو الأعلى والأسفل، أو اليسار واليمين، ليس لها خلايا عصبية واضحة أو عضلات، ولكنها تستطيع التحرك ببطء شديد، يمكنها — مثل حيوانات أخرى — الاستجابة إلى اللمس وتستطيع استشعار التغيرات الكيميائية في بيئاتها. على غير الحيوانات الأخرى، ليس لها فم حقيقي أو مِعًى، ولكن بدلًا من ذلك توظف نظامًا معقدًا من تدفق الماء لالتقاط الغذاء. يمكن التعرف على الإسفنج عن طريق وجود ثقب كبير أو أكثر على أسطحها، مع وجود الآلاف من الثقوب الصغيرة جدًّا. يندفع خلال الثقوب الصغيرة تيار مستمر من الماء، الذي يخرج من الثقوب الكبيرة. إن تيار الماء هذا — الذي يحمل الأكسجين الذائب وفتات الغذاء مثل البكتيريا — ينشأ بفعل طراز هام من الخلايا يوجد في بطانة شبكة من القنوات المجوفة والتجاويف الموجودة داخل الإسفنج. هذه الخلايا الغذائية — أو الخلايا المطوَّقة — لها سوط ضارب وتشبه السوطيات المطوَّقة الوحيدة الخلية التي أُشير إليها من قبلُ، ولكنها تعمل بشكل مختلف؛ حيث إن الخلايا المطوَّقة — على عكس السوطيات المطوَّقة — لا تقتنص الطعام باستخدام الأطواق كشبكة بسيطة، بل عوضًا عن ذلك فإن الحجرات المحتوية على الخلايا المطوقة لها مساحة سطحية أكبر مما للثقوب؛ وهذا يعني أن تيار الماء يبطؤ كثيرًا بمجرد دخوله جسم الإسفنج. وبما أن تيار الماء الوافد أصبح الآن ساكنًا تقريبًا، فإن خلايا الإسفنج تستطيع التهام البكتيريا وفتات الطعام الأخرى.
رغم أن للإسفنج العديد من طرز الخلايا المختلفة، فإن معظمها لا ينتظم بحيث يكوِّن أعضاءً ذات وظائف محددة، مثل الكلى أو الأكباد أو المبايض (رغم أن حجرات الخلايا المطوقة يمكن اعتبارها أعضاء بسيطة)؛ ولهذا السبب فإن الإسفنجيات توصف أحيانًا بأنها تمتلك تنظيمًا «على مستوى الأنسجة». لبعض الإسفنجيات قدرة مدهشة على التجدد إلى حدِّ أنها أَلهَمَتِ الكائنات الفضائية الدائمة التجدد في مسلسل الخيال العلمي التليفزيوني «دكتور هو». نُشرَت التجارب الموضحة التي كشفت هذه الخاصية في عام ١٩٠٧ بواسطة هنري فان بيترز ويلسون من جامعة نورث كارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية. قام ويلسون بطحن إسفنج حي ومرَّره من خلال قطعة قماش من ذلك المستخدَم في نخْل الدقيق، وبذلك تم تفكيك معظم الإسفنج إلى خلايا منفصلة. وقد لاحظ ويلسون عندئذٍ أن هذه الخلايا زحفتْ بالتدريج لتتجمع معًا وتنتظم مشكِّلة إسفنجًا جديدًا! بالإضافة إلى ذلك، فإنه إذا تم خلْط خلايا نوعَيْن مختلفَيْن معًا فإن هذه الخلايا سوف تقوم بفرز نفسها لتكوِّن من جديد الفردين الأصليين، كلٌّ منفصلٌ عن الآخَر. ورغم أن التجدد موجود في العديد من أفرع المملكة الحيوانية، فإنه لا يوجد حيوان آخَر لدَيْه القدرة التي تملكها بعض الإسفنجيات.
إن إسفنج أخيليس ناعم للغاية ومنسوج بشكل متماسك وقوي. ويستخدم هذا الإسفنج كبطانة للخوذات ودروع السيقان بغرض إخفات صوت الضربات.
وتجدر الإشارة إلى أن البشر ليسوا هم فقط الذين استخدموا الإسفنج كأدوات. ففي خليج القروش على الشاطئ الغربي لأستراليا هناك عشيرة من الدلافين قارورية الأنف تعلَّمتْ كيف تنتزع قِطَعًا من الإسفنج الحي وتثبِّتها على خطومها لحماية أنفسها عند بحثها عن الطعام في القيعان الرملية.
تؤلف الإسفنجيات شعبة كاملة، تنقسم بدورها إلى ثلاث طوائف: ديموسبونجيا (تشمل إسفنج الحمام)، كالكاريا (ذات شويكات من كربونات الكالسيوم)، وهكسا أكتينليدا، وهي شعبة نادرة تسكن أعماق البحر. إن شعبة هكسا أكتينليدا، التي تُعرف أيضًا باسم الإسفنجيات الزجاجية، جميلة بوجه خاص، وبها بعض الاختلافات الهامة عن باقي الإسفنجيات. ومن سماتها الخاصة أن معظم أجزاء جسمها مدمج خلوي؛ أي طبقات من سيتوبلازم يحوي العديد من الأنوية، وليس منقسمًا بواسطة أغشية إلى خلايا منفردة. وهي أيضًا غير عادية من حيث إن أشواك السليكا لديها منسوجة معًا مكوِّنة تراكيب دقيقة شبكية تُشبِه أقفاصًا زجاجية كثيرة العدد. أشهر مثال لذلك هو إسفنج «سلة زهرة فينوس» الذي يعيش ملتصقًا بالصخور في قاع المحيط الهادي، وله هيكل أسطواني يشبه البرج يبلغ ارتفاعه ٣٠ سنتيمترًا، مصنوع من خيوط ألياف زجاجية متشابكة معقَّدة. في المعتاد يوجد داخلَه زوج من الروبيان الحي؛ ذكر وأنثى، محصوران داخل حيز الألياف الزجاجية التي نَمَتْ بقدْر كبير حالَ بينَ زوج الروبيان وبين السباحة إلى الخارج من خلال الفرجات الموجودة في هيكل الإسفنج. إلَّا أن نسل زوج الروبيان يمكنه الهروب من خلال الجدران الشبكية والسباحة بعيدًا والسكن في سلال زهور فينوس أخرى، تاركًا الأبوين خلفَه عالقَيْن في شراكة دائمة. ووفق عادة يابانية قديمة، كان يتم إهداء عينات من هذا الإسفنج كهدية زواج رمزًا للمشاركة الأبدية.
الحالة الغريبة لجنس تريكوبلاكس
ليست الإسفنجيات الحيوانات الوحيدة التي تفتقد إلى المحاور الثلاثة؛ الرأس إلى الذيل، والقمة إلى القاع، واليسار إلى اليمين (ثنائية التناظر). فهناك شُعَب ثلاث أخرى أيضًا «لا ثنائية» التناظر في تنظيمها، وهي: شعبة اللاسعات (شقائق النعمان والمراجين وقنديل البحر)، وشعبة الممشطيات، وشعبة الصفيحيات. وفي الأصل وُضع نوع واحد فقط في الشعبة الأخيرة، وهو كائن ضئيل يشبه الفطيرة يُسمَّى تريكوبلاكس أدهايرنز ويعني «الصفيحة اللاصقة المُشعرة». لكن تدل التحاليل الجينية الحديثة على أنه ليس الوحيد، وأن هناك في الواقع أنواعًا مماثِلة عديدة من هذه الكائنات الدقيقة، تزحف وتطفو في البحار الاستوائية وتحت الاستوائية من المحيط الهادي حتى الكاريبي، ومن المتوسط حتى البحر الأحمر. من الوهلة الأولى قد يختلط علينا ببساطة أمر الجنس تريكوبلاكس بحيث نعتبره أميبا كبيرة جدًّا يصل عرضها ما بين نصف ملِّيمتر وواحد مليمتر، ولكن عند الفحص الدقيق يتبيَّن أنه مكوَّن من آلاف الخلايا بما يشكل حيوانًا حقيقيًّا. بسبب شكله المفلطح لا يمكن تمييز جهة أمامية، وهو يزحف على الأسطح الصلبة في أي اتجاه من خلال الجمع بين تغيرات الشكل وضربات آلاف من الأهداب المجهرية التي تغطي سطحه السفلي. وهو بلا فم أو مِعًى ويغتذي عن طريق إفراز إنزيمات من سطحه السفلي تقوم بتحليل المادة الغذائية، مثل الطحالب الوحيدة الخلية، إلى مواد يتم امتصاصها. وبشكل عام، فإن الصفيحيات حيوانات غير عادية بقدر كبير وطالما حيَّرتِ المتخصصين في علم الحيوان.
اكتُشِفَت الصفيحيات للمرة الأولى عام ١٨٨٣ بواسطة عالِم علم الحيوان الألماني وخبير الإسفنج فرانز أيلهارد شولز، ولكن مما يُثير الاهتمام أنه لم يكتشف الجنس تريكوبلاكس في الطبيعة؛ إذ وجد شولز هذا الحيوان الجديد يزحف على الجدر الزجاجية لحوض بحري في النمسا، وهذا يعني أنه في البداية لم يكن هناك من سبيل لمعرفة أين يعيش في الطبيعة. في الواقع، زعم العديد من متخصصي علم الحيوان أن شولز أخطأ في وصف الجنس تريكوبلاكس باعتباره حيوانًا جديدًا، وذهبوا ببساطة إلى أنه يَرَقة حيوان معروف شبيه بشقائق النعمان. وبعد مرور قرن تم الإقرار برأي شولز؛ حيث أثبتَتِ الأبحاث المكثَّفة على الصفيحيات الآن، سواء تلك البرية أم تلك التي في المعمل — رغم قلة أعداد أنواعها — أنها تكوِّن شعبة مميزة بذاتها.
لكن يجب تحذير أولئك الراغبين في السَّيْر على نهج شولز؛ فقد أُرغمتُ مرة على مغادرة محل للأحواض المائية عندما وجدني المدير الغاضب أُحدِّق بعدسة مكبِّرة في النفايات الموجودة في أحواض الأسماك.
الممشطيات
تشكل الممشطيات شعبةً ثالثةً للحيوانات اللاثنائية التناظر، وهي مختلفة تمامًا في تنظيم الجسم عن كلٍّ من الإسفنجيات والصفيحيات. تُعرف الممشطيات أيضًا باسم هلاميات المشط، وهي مفترسات بطيئة الحركة مثل القشريات واليَرَقات البحرية. وعلى غير معظم المفترسات، فإن هلاميات المشط لا تتعقَّب فرائسها أو تطاردها، بل هي ببساطة ترتطم بحيوانات صغيرة من العوالق وتأسرها باستخدام قطرات صغيرة من صمغ تفرزه خلايا متخصصة، توجد عادة بكثافة على امتداد لامستَيْن طويلتَيْن تمتدَّان من عند جانبَيِ الفم. وعلى عكس الإسفنجيات والصفيحيات، فإن الممشطيات لها خلايا عصبية وعضو حساس للتوازن؛ ولذا فهي تستطيع التفاعل مع بيئتها بسرعة واستجابة. ورغم أن معظم هلاميات المشط في الأساس قطرات من الهلام يصل حجمها إلى بضعة سنتيمترات قليلة، فإن كل مَن يَرَى أحدها حيًّا يقوم بوضعه ضمن أجمل الحيوانات على الكوكب. إن أكثر ملامحها وضوحًا هي الأمشاط الثمانية التي تمتد كشرائطَ على مدى امتداد الجسم، وكل واحد منها يحوي آلاف الأهداب. إن الأهداب تضرب بشكل متضافر جدًّا، حيث يضرب كل واحد منها تمامًا عقب المجاور له لإصدار مجموعة من الموجات المتناسقة التي تُشبِه إلى حدٍّ ما «الموجات المكسيكية» التي تدور أحيانًا حول استاد كرة القدم خلال فترات الهدوء من اللعب. إن هذا الاندفاع الهادئ لآلاف الأهداب الدقيقة يدفع الحيوان ببطء وهدوء في البحر، ولكنه أيضًا يشتِّت الضوء بما يُنشئ قوس قُزَح مُضِيئًا من الألوان، يتغيَّر ويتذبذب باستمرار. إن أكثر هلاميات المشط المعروفة هي «الكشمش البحري» الذي في حجم العنب مثل النوع بليوروبرانشيا الموجود في المحيطين الهادي والأطلنطي، وحول الساحل البريطاني. ولكن هلام المشط الأكثر روعة هو بلا شك النوع العملاق سنتوم فنيريس البالغ طوله مترًا واحدًا، والمعروف أيضًا باسم حزام فينوس على اسم إلهة الحب عند الرومان. وبدلًا من شكل البيضة المعتاد لدى الممشطيات، فإن هذا الحيوان المدهش المُشِع بألوان قوس قُزَح، له جسم مستطيل شريطي الشكل، وهو يومض في البحر مع ارتطام أشعة الشمس بصفوف أهدابه. وحسب كلمات ريتشارد دوكينز فإن النوع سنتوم «أجمل من أن تتزين به أي إلهة.»
إن معظم هلاميات المشط ليس لها تأثير مباشر يُذكَر على البشر، إلَّا من خلال الدَّور الضئيل الذي تلعبه في شبكة الغذاء البحري. إلَّا أن نوعًا واحدًا برز على نحو خبيث من بين هذه اللافقاريات القاعدية؛ ففي ثمانينيات القرن العشرين أُدخل هلام المشط الأطلنطي نميوبسيس إلى البحر الأسود عرضًا، ومن المحتمل أن ذلك تمَّ بمياه مُحمَّلة بالحصى محمولة على سفن تجارية. وبمجرد أن جاءت هذه الكائنات إلى بيئتها الجديدة، بعيدًا عن المنافسين الطبيعيين والمفترسين، فإنها تكاثرت بسرعة، واستهلكت كميات كبيرة من يرقات الأسماك والقشريات. وقد حددت بعض التقديرات (محل الخلاف) الكتلة الكلية لهلاميات المشط الصغيرة الحجم في البحر الأسود بأكثر من نصف مليار طن. وقد تعرض محصول سمك الأنشوجة المحلي، الذي يعاني بالفعل من الصيد المكثَّف، للانخفاض بشكل أكبر. وبينما كان علماء البيئة يتجادلون بشأن ما سيفعلونه، وَرَدَ حل غير مخطط له في شكل تدخل عرضي. كان الوافد الجديد هلام مشطٍ ثانٍ، هو في هذه المرة من النوع الشَّرِه بيروي. لحسن الحظ لا يأكل النوع بيروي الأسماك أو القشريات، ولكنه بدلًا من ذلك مفترس متخصص في هلاميات المشط الأخرى، ولا شيء غير ذلك. ومع اقتيات الغازي بيروي الآن على النوع نميوبسيس، فإن المخزون السمكي بدأ يَتَعَافَى تدريجيًّا.
اللاسعات: لدغات وكائنات عملاقة
من الشُّعَب الأربع «اللاثنائية التناظر» تفتقد الإسفنجيات والصفيحيات لأي تناظر دقيق، بينما تمتلك هلاميات المشط تناظرًا شعاعيًّا ثنائيًّا، وهذا يعني أن أجسامها متناظرة بدوران ١٨٠ درجة. وتضم الشعبة الرابعة والكبرى من الشعب اللاثنائية التناظر — اللاسعات — بعض الحيوانات الشائعة جدًّا تشمل قناديل البحر وشقائق النعمان والمراجين. تفتقد أجسام هذه الحيوانات أيضًا وجود محاور الرأس إلى الذيل، والقمة إلى القاع، واليسار إلى اليمين، وفيما عدا استثناءات قليلة فإن لها تناظرًا شعاعيًّا أو دورانيًّا. إن الشكل الأساسي لجسم الحيوان اللاسع هو أن يكون فنجاني الشكل أو كأسي الشكل، مع وجود فتحة وحيدة كبيرة عند نهاية واحدة، وهي تعمل كفم وشرج معًا. تُحاط هذه الفتحة بلوامس، يُسلَّح كلٌّ منها بالآلاف من خلايا لادغة تُسمَّى الخلايا اللاسعة. وهذه الخلايا — التي تُطلِق رماحًا دقيقة أو خلايا لاسعة عليها مسحة من السم في غضون ٣ ملِّي ثوانٍ من لمسها — هي السلاح الرئيس للَّاسعات في الهجوم والدفاع.
تمتلك اللاسعات خلايا عصبية، وكما هي الحال في الممشطيات، فإن هذه الخلايا مرتبة في نظام أشبه بالشبكة حول الجسم بدلًا من أن تنتظم في دماغ واحد محدد وحبل عصبي مركزي كما في معظم الحيوانات الأخرى. وطبقتا الخلايا التي تكوِّن الجسم — الأديم الظاهر إلى الخارج والأديم الباطن إلى الداخل — تنفصل إحداهما عن الأخرى بطبقة تُسمَّى الطبقة الغرائية الوسطية. ورغم أن معظم الطبقة الغرائية الوسطية يتكوَّن من بروتينات وليس من طبقات من خلايا حية، ففي كثير من اللاسعات توجد خلايا متفرقة تتجول في الطبقة الغرائية الوسطية، وفي بعض الأنواع توجد خلايا عضلية تنتظم مكوِّنة أليافًا منقبضة. إلَّا أن الخلايا بداخل الطبقة الغرائية الوسطية لا تكوِّن أعضاءً مركبة؛ وعلى ذلك فإن اللاسعات توصف عادة بأن لها جسمًا يتكون فقط من طبقتين خلويتين أساسيتين.
تنقسم اللاسعات إلى أربع مجموعات. تشمل المجموعة الأولى — الزهريات الشعاعية — شقائق النعمان مثل شقائق سنيك لوك وبيدلِت ذات الألوان الزاهية والموجودة في البرك الصخرية. في هذه الحيوانات تتَّجه الفتحة الوحيدة للجسم إلى أعلى، بينما الطرف المقابل يلتصق التصاقًا ضعيفًا بالصخور. وبمجرد أن تغطِّيها مياه المدِّ، فإن شقائق النعمان تفتح إكليل اللوامس وتنتظر أن تنجرف أو تَسبَح بالقرب منها فرائس حيوانية صغيرة، تُلدَغ في الحال وتُؤكل. ورغم أنها بصفة عامة حيوانات غير متحركة، فإن شقائق النعمان ليست ثابتة دائمًا؛ ذلك أنه يمكنها الانفصال عن الأرضية والتحرك إلى موقع آخَر عن طريق الانجراف أو العوم برفق. يمكنها أيضًا الزحف ببطء باستخدام قَدَمها الوحيد اللاصق؛ وذلك أحيانًا للبحث عن موقع أكثر ملاءمة للحصول على الغذاء وأحيانًا لتشترك في معارك شرسة وبطيئة فيها يحاول حيوانان من شقائق النعمان أن يلدغ أحدهما الآخَر باستخدام زوائد ضخمة مزوَّدة بخلايا لاسعة.
المراجين هي أيضًا من الزهريات الشعاعية، وهي تتسم بخاصية نشأت بشكل متكرِّر في تطور الحيوانات، وهي بناء المستعمرات. يتكوَّن المرجان من الآلاف، أو حتى الملايين، من الحيوانات الصغيرة التي يُشبه كلٌّ منها شقيق نعمان صغير يبلغ عرضه عدة ميلِّمترات قليلة، ولكنها متصلة بعضها ببعض مكوِّنة كائنًا عملاقًا. إن المرجان الحي ينمو عن طريق تبرعم «حويِّنات» صغيرة بما يؤدِّي إلى أن يكون لكل أفراد المستعمرة البناء الجيني نفسه. إنها نَسْخ واحد كبير. في بعض الأنواع، تشبه المستعمرة مروحة؛ وفي أنواع أخرى تتفرع مثل قرون الغزال، وفي أنواع أخرى تنمو المستعمرة بشكل يُشبه أجزاء جسم مروِّعة مثل الأدمغة أو «أصابع رجال موتى». ولعل أكثرها إثارة للدهشة هي المراجين المُشيِّدة للحيود، التي تُفرز كربونات الكالسيوم حول الحوينات المتبرعمة لتكوِّن تراكيب طباشيرية تتخذها أنواع كثيرة من الحيوانات الأخرى مساكن لها.
أما المجموعة الثانية من اللاسعات — التي تبدو ظاهريًّا مثل شقائق النعمان — فهي الأبابيات. وهي تشمل بعض الأنواع البحرية الكبيرة والملونة، بالإضافة إلى الهيدرا ضئيلة الحجم الموجودة في البِرَك والأنهار. والهيدرا مسمَّاة على اسم وحش مائي متعدد الرءوس في الأساطير الإغريقية، وجسمها عبارة عن أنبوب صغير يبلغ طوله ملِّيمترات قليلة، ولها فمٌ عند طرفها العلوي محاط بلوامس لاسعة. وجميع أنواع الهيدرا تصطاد وتأكل اللافقاريات الدقيقة بالمياه العذبة، ولكن العديد من الأنواع يزيد على ذلك حيلة إضافية. فمثلًا «الهيدرا الخضراء» تقوم بأسْر طحلب وحيد الخلية، وهو ينمو بداخل خلايا مِعَى الهيدرا؛ مما يعطي الجسم كله مظهرًا أخضرَ براقًا ويمدُّ الهيدرا بالغذاء من خلال البناء الضوئي. وكما تعيش بعض الزهريات الشعاعية في مستعمرات متصلة بعضها ببعض، فإن بعض الأبابيات تقوم بذلك. إن الحيوان اللاسع الشهير «رجل الحرب البرتغالي» هو أبابي عملاق يشكل مستعمرات ويبني عوَّامة مملوءة بالغاز يوجد أسفلَها آلاف الحوينات المتصلة بعضها ببعض وتتدلَّى منها خيوط طولها ١٠ أمتار تهدد بالخطر؛ حيث إنها مُهلبة بخلايا لاسعة سامة.
عندما يكون لحيوان لاسع فم ذو موقع علوي، كما هي الحال في شقائق النعمان والمراجين والهيدرا فإنه يُسمَّى «بوليب». وعلى العكس عندما تكون فتحة الجسم على الجانب السفلي يطلق عليه اسم «ميدوسا»، وهو الطراز الذي يُشاهَد بشكل أمثل في الفنجانيات أو قنديل البحر. إن للعديد من اللاسعات دورات حياة تتبدَّل بين هذين الاتجاهين؛ فم علوي وفم سفلي. هناك أيضًا اختلافات أخرى غير مسألة الاتجاه، فقد أوضحتِ الأبحاث الحديثة باستخدام أنماط تعبير الجينات أن لوامس الميدوسا المتجهة إلى أسفل ليس لها في الواقع التركيب نفسه مثل لوامس البوليب المتجهة إلى أعلى. إن قنديل البحر — كما هي الحال في كل اللاسعات — حيوان مفترس. وتنجرف هذه الحيوانات الجيلاتينية جرسية الشكل أو تسبح برفق في المياه السطحية للبحر، مندفعة بواسطة انقباضات منتظمة لجدار جسمها. تعج المياه السطحية للمحيطات بالعوالق، مثل القشريات والأسماك غير الناضجة، التي توقعها قناديل البحر في شراكها بما لها من لوامس متدلية مسلحة بخلايا لاسعة سامة. وقد تعرَّض كثير من السبَّاحين للاحتكاك عرضًا بلوامس قنديل البحر، وعانَوْا من طفح جلدي مؤلِم. ظهرت أشكال متنوعة عديدة من البناء الأساسي لقنديل البحر، ويُرى أحد أكثر هذه التنويعات غرابة في الحيوانات من رتبة جذريات الفم. في قناديل البحر هذه، لا يوجد فم واحد في الاتجاه السفلي؛ ذلك أنه مغلق بواسطة نسيج مدمج، وبدلًا منه يوجد عدد كبير من فتحات صغيرة شبه فموية على ثمانية أذرع متفرعة، يتصل كلٌّ منها بالمِعى بواسطة جهاز معقد من القنوات. وكثير من جذريات الفم، مثل النوع ماستيجياس بابوا تكمل احتياجاتها الغذائية بأن تأوي في أنسجتها ملايين الطحالب التكافلية القادرة على إنتاج الطاقة بالبناء الضوئي. وهذا يُمكِّن هذا النوع من العيش بكثافة عالية لا تصدق. وفي «بحيرة قنديل البحر» على جزيرة المحيط الهادي إيل مولك في بالاو توجد تجمعات كثيفة من النوع ماستيجياس بابوا يمكن أن تصل أحيانًا إلى ألف حيوان، طول كلٍّ منها ٦ سنتيمترات، في المتر المكعب الواحد من مياه البحر.
تعتبر الحيوانات المكوِّنة للمجموعة الرابعة من اللاسعات — وهي المكعبيات — أكثر خطورة على البشر من قناديل البحر الحقيقية أو حتى من رجل الحرب البرتغالي. تُعرف هذه المجموعة باسم المكعبيات، بسبب شكلها، وهي الأكثر شيوعًا على شواطئ البحار الاستوائية. وعلى عكس قناديل البحر الحقيقية، فإن لكل قنديل مكعب ٢٤ عينًا منها ٦ لها عدسة وقزحية وشبكية قادرة على تكوين صورة للأشياء البعيدة. وبعض الأنواع مثل زنبار البحر يَتخوَّف منه عن حق السباحون بسبب سمِّه الشديد التأثير. إن لدغات هذا الكائن شديدة السمية، ويمكن أن تكون مُميتة حتى بالنسبة للإنسان. إن لدغات بعض أنواع مكعبيات أخرى أقل إيلامًا إذا ما تعرضنا لها، ولكنها قد تثير ردَّ فعل متأخِّرًا غير عادي يُعرف باسم «متلازمة إروكاندجي» نسبة إلى اسم السكان الأصليين لأستراليا من ساحل شمال كوينزلاند؛ حيث تشيع الهلاميات الصندوقية. إن السباحين الذين تلدغهم مكعبيات إروكاندجي يعانون بالتدريج من آلام ظهر مفرطة وتقلص عضلي ودُوار وارتفاع في ضغط الدم، فضلًا عن نطاق من التأثيرات النفسية تسبب «شعورًا بالهلاك الوشيك».