الفصل الخامس
ثنائيات التناظر: بناء جسم
ليس الإنسان إلَّا دودة.
إدوارد لينلي سامبورن، مجلة «بَنش» (١٨٨١)
الحياة مع نهاية أمامية
أنت ثنائي التناظر. هذا أيضًا هو حال الأسماك والطيور والديدان والحبار والصراصير،
والملايين من حيوانات أخرى. في الحقيقة، معظم الحيوانات ثنائيات التناظر. وكما يدل
الاسم، فإن هذا القسم الكبير من المملكة الحيوانية يشمل شُعبًا حيوانية ذات «تناظر
ثنائي»؛ وهذا يعني أن هذه الحيوانات لها خط واحد لتناظر صورة المرآة يمتد مباشرة عبر
مركز الجسم. يفصل خط التناظر هذا الجانب الأيسر عن الجانب الأيمن للجسم، وبالتبعية
سيتحتم وجود نهايتين أمامية وخلفية، وسطحين علوي وسفلي، وهي كلها غير متناظرة. في
البشر، يمكننا تحديد الجانب الأيسر والأيمن كما نشاء، لكن النهاية الأمامية لجسمك هي
في
الحقيقة رأسك، والنهاية الخلفية لجسمك هي الجزء من جسمك الذي تجلس عليه، وسطحك «الظهري»
هو ما يمتد عبره عمودك الفقري، بينما سطحك
«البطني» أو السفلي هو بطنك. تبدو هذه الاتجاهات منطقية عندما نتذكر أن البشر وقفوا
منتصبين حديثًا فقط، وفق المنظور التطوري.
إن التناظر الجانبي يختلف عن التناظر الدوراني الموجود في اللاسعات وهلاميات المشط،
ويختلف عن اللاتناظر الموجود في الصفيحيات والإسفنج. إن التناظر في تنظيم الجسم في
ثنائيات التناظر أعمق مما يبدو على السطح. فالحيوانات الثنائية التناظر لها كُتَل محددة
من العضلات التي يمكن استخدامها في التحرك النشط، وكلها تقريبًا لها أحبال عصبية
متمركزة بدماغ أمامي، بالإضافة إلى أعضاء حس متخصصة متمركزة في النهاية الأمامية.
ولمعظمها مِعًى أنبوبي الشكل أو ممتد، له فم وشرج منفصلان، وهو ما يسمح بمعالجة الغذاء
بكفاءة، والاستثناءات — التي يكون فيها للمِعى فتحة واحدة فقط — هي حالة مخالفة ثانوية.
ويدلل تطور الحيوانات الثنائية التناظر على ظهور حيوانات تتميز بحركة نشطة وقوية
وموجهة، قادرة على الحفر أو الزحف أو العوم، بينما تواجه بيئاتها معتمدة على حشد من
أعضاء الحس، تاركة نفاياتها خلفها. إن ثنائيات التناظر في الحقيقة تستكشف العالم
وتسخِّره في أبعاد ثلاثة.
إن التفرقة بين ثنائيات التناظر — أو ثلاثيات الطبقات كما تُعرَف أيضًا — والشُّعب
الحيوانية الأكثر «قاعدية» لوحظت منذ ما يزيد على قرن؛ ففي عام ١٨٧٧ قام عالِم علم
الحيوان الإنجليزي العظيم التأثير راي لانكستر بعمل مقارنة بين أجنة حيوانات ثنائية
التناظر وأجنة اللاسعات والإسفنجيات، وأشار إلى أن لثنائيات التناظر في نمائها المبكر
طبقةً إضافية من الخلايا مآلها أن تنمو إلى كتل عضلية محددة في الحيوان البالغ. إن
التشابهات المرصودة في الأجنة وفي تناظر الجسم هي بالتأكيد عناصر أساسية. وقرب نهاية
القرن العشرين ذهل المشتغلون بعلم الحيوان بوجود تناظر بعيد المدى وعميق وصل إلى الدنا.
ويمثل اكتشاف أن كل ثنائيات التناظر تستخدم مجموعة الجينات نفسها لبناء أجسامها واحدًا
من أعظم الإنجازات العلمية المبهرة في القرن العشرين، كما أنه غَيَّر علم الأحياء منذ
ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها. لقد كان اكتشافًا ذا تأثير مذهل، بيد أن فتيل تلك
الثورة كان يشتعل ببطء.
التشبه وجينات هوكس
نذكر وليام باتسون هذه الأيام بوصفه أحد مؤسسي علم الوراثة. وقد نشر باتسون عقب
إتمامه دراسته الجامعية الأولى، وقبل أن يُشتهر بفترة طويلة، سلسلة من الأبحاث العلمية
عن تشريح دودة البلوط، وهي حيوان لا فقاري بحري، لم يكن حينئذٍ معروفًا وضعه التطوري.
وقد استُقبل عمل باتسون ببعض الترحيب، إلا أنه لم يكن مقتنعًا، وقال إن ذلك لا يعطي سوى
فكرة بسيطة عن كيفية عمل التطور. وقد كتب في خطاب إلى والدته:
بعد خمس سنوات لن يفكر أحد في أي شيء يتعلق بهذا العمل، الذي سوف يُزدَرَى عن
حق. فليس له تأثير بحال من الأحوال على الأشياء التي نودُّ أن نعرفها. لقد ورد
إليَّ في لحظة حظ وتم بيعه في أوج السوق.
إن ما أراد باتسون أن يعرفه حقيقةً هو
كيفية نشأة التنوع داخل النوع. وقد كرَّس باتسون نفسه على مدى الأعوام الثمانية التالية
لكي يُفهرس «التنوعات» في الحيوانات والنباتات، وقد نشر في عام ١٨٩٤ رائعته «أسس دراسة
التنوع». وقد ناقش باتسون ضمن روائعه في هذا الكتاب طرزًا غير عادية من التنوع فيه نجد
حيوانًا استُبدل فيه تركيب ما بآخَر يوجد عادة في مكان آخَر من الجسم، ومثال ذلك نمو
قرن استشعار في الموضع الذي يجب أن تقع فيه العين. وهذه «التنوعات المتشابهة» بقيت
تُعتبر من العجائب حتى عام ١٩١٥ حين أوضح كالفن بريدجز أن هذا التغير في ذبابة الفاكهة
وُرِّث إلى نسل الذبابة. لقد كان التوريث هو المفتاح، وهذا أشار بالإصبع نحو الجينات.
إن المعنى المتضمن هو وجوب وجود جينات توجِّه أجزاء الجسم لكي تتنامَى بشكل سليم، وأنه
عندما يُصاب أحد هذه الجينات بخطأ — أي طفرة — فإن التعليمات يُساء قراءتها؛ ومن ثَم
تنمو منطقة بالجسم كأنها كانت منطقة أخرى. في هذه الطفرة الأولى تنمو الأجنحة، أو أجزاء
من أجنحة، في موضع يجب ألا تكون فيه. وقد قام بريدجز بتسمية الطفرة «ثنائية الصدر». إن
عجائب مثل ثنائية الصدر شديدة الوقع إلى حد أنها لا تلعب أي دور مباشر في التطور؛ حيث
إن الذباب الذي له هذه التغيرات التشريحية الكبيرة لن يبقى حيًّا في الطبيعة. ولكن
الطفرة تعطي مفتاحًا لمعرفة كيف تقوم الجينات ببناء الأجسام، وهذا بالتأكيد وثيق الصلة
بفهم كيف يعمل تطور الحيوان.
وقد تم تناول هذه النتيجة والتوسع فيها بقوة عظيمة وإصرار بواسطة عالِم وراثة آخَر
هو
إد لويس. وقد أوضح لويس في سلسلة من الأبحاث الرائعة — تشمل بحثه الأيقوني الذي حصل من
خلاله على جائزة نوبل في عام ١٩٧٨ — أن ثنائية الصدر ليست هي الطفرة الوحيدة؛ فهناك
العديد من الجينات التي يمكن أن تطفر وينتج عنها طفرات التشبه، حيث تؤثر كل طفرة على
جزء مختلف من جسم الذبابة، وكلها ترسم جزءًا واحدًا من أحد صبغيات ذبابة الفاكهة. وقد
اكتشف عالم وراثة آخر هو ثوم كوفمان الجينات التي تتحكم في نماء الرأس والنهاية
الأمامية للجسم، وبذلك تكوَّن تصور لمجموعة كاملة من «جينات التشبه»، يُبلِغ كل منها
خلايا الجنين أين موقعها. وتعمل جينات التشبه كشفرات بريدية تبلغ الخلايا أين هي على
مدى محور الرأس-الذيل للذبابة.
وقد اتضح عند تحليل دنا جينات التشبه أنها جميعًا تغيرت وأصبحت مماثلة بعضها لبعض
خاصة على مدى منطقة من ١٨٠ من الأزواج القاعدية. وهذه المنطقة، التي أصبحت معروفة باسم
«صندوق التشبه»، كانت دالة جزيئية لجينات التشبه، أو جينات (هوكس) Hox كما سُميت عقب ذلك. وجدت تتابعات صندوق التشبه أيضًا في دنا
بعض الجينات الأخرى لذبابة الفاكهة، ولكنها موجودة دائمًا في الجينات التي لها دور ما
في التحكم في النماء مثل الجين fushi tarazu الذي يلعب
دورًا في تكوين عُقَل جسم الذبابة، ولكن سرعان ما امتدت القصة إلى ما هو أبعد من ذباب
الفاكهة؛ ولم يكن أغلب علماء الأحياء مستعدِّين للتعامل مع تداعيات الأمر. في عام ١٩٨٤،
في بازل بسويسرا، تسبب عمل فريق من الباحثين النشطين — يضم كلًّا من بِل ماكجينيس ومايك
ليفاين وأتسوشي كوروا وإرنست هافن وريك جاربر وإدي دي روبرتس وأندرس كاراسكو وفالتر
جيرنج — في توسعة آفاق المعارف البيولوجية. وقد بحث ماكجينيس وزملاؤه إذا كانت تتابعات
صندوق التشبه يمكن تحديدها في دنا مستخلص من حيوانات أخرى، والخروج بنتائج لافتة للنظر.
لم تكن الحشرات الأخرى فقط لديها صناديق تشبه، ولكن التجارب الأولى أوضحت أنها ربما
تكون موجودة أيضًا في الديدان والقواقع، بل ومن الممكن أيضًا الفئران والبشر! وقد أسرع
كاراسكو وماكجينيس ودي روبرتس بفصل وتحديد تتابعات الدنا في جين صندوق التشبه لضفدع
وأثبتوا هذه النقطة: إن الفقاريات تمتلك بالفعل جينات صندوق التشبه.
تسببت هذه النتائج في زلزلة المجتمع العلمي؛ فقد سارعت المجلات الرفيعة بنشر النتائج
الجديدة، وكان كل بحث يُنشر يتلقَّفه القراء بنَهَم. هيمن موضوع صناديق التشبه على كل
مؤتمر أو منتدًى للبحوث. وأتذكر أنه عقب محاضرة علمية في لندن — أشار فيها زميل إلى
وجود جين جديد يختص بالتحكم في النماء — كان السؤال الأول الذي طُرح هو: «هل هذا الجين
يمتلك … هل لي أن أقول الكلمة السحرية؟» وأنا أعرف العديد من العلماء الذين توقفوا عن
القيام بأبحاث عكفوا عليها طوال عمرهم، وبدءوا من جديد في العمل على جينات صندوق
التشبه.
كان اكتشاف صندوق التشبه وأن جينات صندوق التشبه توجد في حيوانات مختلفة مثل الذباب
والضفادع محفِّزًا على بدء ثورة. فلم يكن هناك قبل عام ١٩٨٤ أي معرفة بكيفية تحكُّم
الجينات في النمط العام للجسم في معظم الأنواع. فهل جينات صندوق التشبه مهَّدت طريقًا
جديدًا للتعامل مع المشكلة؟ لقد دفع هذا السؤال جوناثان سلاك لتشبيه اكتشاف صندوق
التشبه باكتشاف حجر رشيد القديم، الذي عُثر عليه في مصر في عام ١٧٩٩، ومنحنا أول ترجمة
بين نصوص قديمة. بالطريقة نفسها، هل لدينا الآن طريقة لمقارنة نظام التحكم في النمو
الجنيني في أنواع متباعدة كثيرًا؟ لم يكن الجميع متفائلين، لكن سريعًا ما تبيَّن أن
لهذا التفاؤل أساسًا قويًّا. إن كثيرًا من جينات صندوق التشبه في فقاريات مثل الضفادع
والبشر هي في الواقع مناظرة لجينات التشبه، أو جينات
Hox، في ذبابة الفاكهة، وهي تلعب بالضرورة الأدوار
ذاتها. وكما في الذباب فإن جينات Hox الخاصة بنا تقوم
بدور شفرات بريدية، تخبر خلايا بشرية بموقعها عبر محور الرأس-الذيل.
كانت التداعيات بالغة بالنسبة لعلم الأحياء التطوري. فإذا كانت الفقاريات والحشرات
لها جينات Hox، يترتب على ذلك بالقطع أن يكون هذا هو
حال كل ثنائيات التناظر. فإذا كانت الفقاريات والحشرات تستخدم هذه الجينات لتحدد الموقع
على امتداد المحور الرئيس، فإن هذه الخاصية من المؤكد أنها تعود إلى الخلف حيث منشأ
الحيوانات ثنائية التناظر. ويمكننا ببساطة الوثوق بهذه العبارات لأن السلف المشترك
للذباب والبشر كان هو أيضًا السلف المشترك لجميع الانسلاخيات والعجلانيات العرفية
وثنائيات الفم. من الممكن أن تكون إحدى شعب ثنائيات التناظر قد تفرعت مبكرًا قليلًا،
وهي شعبة لا جوفيات الشكل، ولكن الدلائل الحديثة تقول بأنه حتى في هذه الحيوانات تلعب
جينات Hox دورًا مماثلًا. وعلى ذلك فإن هذه المجموعة
كلها للمملكة الحيوانية — الشعب الحيوانية التسع والعشرين التي لها نهايات أمامية
وخلفية واضحة، تلك الشعب التي تستكشف بنشاط عالمنا الثلاثي الأبعاد — تستخدم المجموعة
نفسها من الجينات لتنميط محور الرأس-الذيل الرئيس.
ظهري وبطني، يسار ويمين
ماذا عن المحورين الآخرين للجسم: الظهري-البطني، واليسار-اليمين؟ هنا أيضًا اكتُشفَت
جيناتٌ تؤكد أن الخلايا تعرف أين هي. بالإضافة إلى ذلك — كما شاهدنا مع جينات
Hox تمامًا — فقد وُجد أن حيوانات ثنائية التناظر
مختلفة تمامًا تستخدم الجينات نفسها بشكل أساسي، ولكن على نحو مثير للاهتمام. في جنين
الذبابة تُكوِّن خلايا الجانب البطني أو السفلي الحبل العصبي الرئيس، حيث يلعب الجين
sog دورًا رئيسيًّا. وتكون خلايا القمة أو الجانب
الظهري البشرة، وهذا المصير العكسي يتم التحكم فيه بواسطة الجين
dpp. تمتلك الفقاريات أيضًا الجينات
sog وdpp، ولكنها
تُعرف بأسماء مختلفة؛ فالجين sog في الفقاريات يُعرف
باسم chordin، ويتم التعبير عنه على الجانب الذي سيُصبح
ظهريًّا، حيث يقع حبلنا العصبي؛ أما الجين BMP4 — وهو
أحد جينات dpp في الفقاريات — فإنه يحدد السطح البطني.
ففيما يخص الاتجاه، الأمر معاكس تمامًا لما يحدث في الذباب. وبإجراء مقارنات واسعة بين
هذه الجينات تبيَّنَ أن معظم الحيوانات تشارك الذباب في اتجاهات الجسم، ولكن شُعبتنا
—
الحبليات — عكست الاتجاهات رأسًا على عقب. يُعرف قدر أقل عن تطور محور اليسار-اليمين،
ولكننا نعرف على الأقل أن جينين — هما nodal
وPitx — مشتركان في تحديد نمط هذا المحور في
حيوانات مختلفة تمامًا مثل القواقع والبشر.
إن التناظر ليس مقصورًا على اتجاه الجسم، ولكنه يتجه إلى الداخل. فعلى سبيل المثال،
العديد من الجينات التي تتحكم في تكوين القلب في الفقاريات موجود أيضًا في الحشرات؛ حيث
إنها تحكم أيضًا نماء أنبوبة عضلية نابضة. هناك شبكات من الجينات تحدد أين ستتكون
العين، ومعظم هذه الجينات تحدد أيضًا إذا ما كان الحيوان ذبابة أم دودة أم إنسانًا.
وعند وضع هذه النتائج المدهشة معًا يتضح أن سلف جميع الحيوانات ثنائية التناظر — الذي
انقرض منذ أمد — امتلك منظومة من الجينات لتمييز الجانب البطني عن الجانب الظهري،
ولتمييز اليسار عن اليمين، ولتعريف الخلايا أين هي على مدى محور الرأس-الذيل، ولتكوين
أعضاء جسم مختلفة وأعضاء حس. وقد تمت المحافظة على هذه الجينات وأدوارها على مدى مئات
الملايين من السنين، ولكن مع بعض التحورات، ومع انقلاب أحد أسلافنا رأسًا على عقب لسبب
ما. وقد ذهب عالِم الطبيعيات الفرنسي إيتيان جوفري سانت هيلار إلى هذا في وقت مبكر يعود
إلى عام ١٨٣٠، ولكنه اعتمد على مقارنات تشريحية تخيلية إلى حدٍّ ما، وعلى أساس مثالي
ملتبس. وقال جوفري: «من الناحية الفلسفية، هناك فقط حيوان واحد.» لم تُقبل وجهات نظره
أثناء حياته، ولكن — على الأقل — ما قاله بشأن ثنائيات التناظر قد يبدو صحيحًا.
يُشار أحيانًا إلى المجموعة القديمة من الجينات الموظفة لبناء الجسم باسم «منظومة
أدوات النماء»، تشفِّر بعض جينات هذه المنظومة من الجينات، مثل
Pitx وجينات Hox
لبروتينات ترتبط مع الدنا محوِّلة مجموعات من الجينات الأخرى ما بين النشاط والإخماد.
تشفِّر جينات أخرى لبروتينات مُفرَزَة تقوم بنقل الإشارات بين الخلايا، ومن أمثلة هذه
الجينات nodal وdpp، أو
تتدخل مع الإشارات مثل sog. هذه الأمثلة ما هي إلا قمة
جبل الجليد وحسب؛ ذلك أن منظومة أدوات النماء تشمل مئات الجينات التي تشفر لبروتينات
ترتبط بالدنا، وعشرات تنتج عوامل مُفرَزَة، وأخرى تشفِّر لمستقبلات ترتبط بها عوامل
مُفرزَة. توجد هذه الجينات كلها على امتداد شُعَب متنوعة من ثنائيات التناظر، إلَّا أنه
في بعض الأحيان تُفقد بعض الجينات فرديًّا على مدى تطور مجموعات حيوانية معينة. إن
أدوار هذه الجينات في الشُّعَب المختلفة غالبًا ما تكون متماثلة، كما في الأمثلة
السابقة، ولكن في مجموعات أخرى يتم تجنيد جينات منظومة أدوات النماء للقيام بأدوار
معينة في مجموعات تصنيفية متشعِّبة. وهذه هي الجينات القديمة المستخدَمة لبناء جسم
ثنائيات التناظر. ولكن متى نشأتْ تلك الجينات؟ وهل تطوُّر منظومة أدوات النماء يدلُّنا
على أي شيء يختص بالخطوات المبكرة لتطور الحيوان؟
إن الدراسة المتمعِّنة لتتابعات جينومات بعض الحيوانات اللاثنائية التناظر —
الإسفنجيات، والصفيحيات، واللاسعات، وهلاميات المشط — يكشف صورة ثرية. إن بعض الجينات
الأساسية توجد في جميع الحيوانات، ولكن العديد من الجينات غير موجود. إن اللاسعات —
التي قد تكون أقرب لا ثنائيات التناظر إلى ثنائيات التناظر — بها معظم جينات منظومة
أدوات النماء، رغم أن مجموعة Hox الخاصة بها أقل
تعقيدًا. تفتقد بقية الشُّعب جينات أكثر من منظومة أدوات النماء؛ فعلى سبيل المثال،
تفتقد الإسفنجيات جينات Hox تمامًا. وإذا ما خرجنا عن
نطاق الحيوانات إلى السوطيات المطوقة فإننا سنشهد فرقًا أكبر؛ حيث الكثير من جينات
منظومة أدوات النماء غائبة. والنتيجة واضحة؛ فالمجموعة الأساسية من الجينات الضرورية
لبناء أجسام الحيوانات نشأت قرب الوقت الذي نشأ فيه تعدد الخلايا، ولكن هذه المجموعة
من
الجينات تمددت وعَظُمت على مدى المراحل الأولى لتطور الحيوان. وقد ظهر الكثير من جينات
منظومة أدوات النماء مع فجر ظهور ثنائيات التناظر، وذلك منذ نصف مليار سنة مضت. واليوم
تُوظَّف هذه الجينات في تشكيل وتنميط عدد ضخم من أجسام الحيوانات في المجموعات الثلاث
الكبيرة لثنائيات التناظر: العجلانيات العرفية والانسلاخيات وثنائيات الفم.