العجلانيات العرفية: ديدان مدهشة
قد تكون هناك شكوك في أن عديدًا من الحيوانات الأخرى لعب دورًا مهمًّا في تاريخ العالم يناهز الدَّوْر الذي لعبتْه هذه الكائنات المتدنية التنظيم.
الحلقيات: جرَّافات حيَّة وماصَّات دماء
فقط قبل عام من وفاته، نشر تشارلز داروين كتابه الأخير، قوبل هذا العمل بحماس، على الأقل في البداية، وبِيع بمعدَّل أسرع من «أصل الأنواع». وقد اشتمل كتاب «تكوُّن الفطر النباتي من خلال أنشطة الديدان» — الذي لم يكن متوقَّعًا له مثل هذا الرَّواج — على رؤًى ثاقبة مصدرها الأبحاث العلمية التي أجراها داروين ومرت بفترات نشاط وتوقف على مدى ٤٠ عامًا. كان داروين حريصًا — وقد أصبح وقتَها جَدًّا ويَشعر بتقدُّم عمره — على أن ينشر النتائج التي توصل إليها بالنسبة لديدان الأرض، وذلك قبل أن يَلحَق بها، كما قال. وكانت أهم نتائج الكتاب هي أن ديدان الأرض يجب ألَّا يُنظَر لها في تقزُّز بوصفها محض نفايات قبيحة على البساط الفيكتوري الرائع الجمال، ولكنها في الواقع كانت محاريث حية ضرورية لصحة التربة. وقد أوضح داروين أن ديدان الأرض تسحب مواد عضوية مثل أوراق الشجر تحت الأرض، وأن أنفاقها تعمل على تهوية التربة، وتوفر ممرات لصرف المياه، وأنها تعمل على خلط مكونات التربة بما يَحول دون انضغاط طبقاتها، مما يحفز على نمو النبات. ولديدان الأرض تأثيرات حتى على الجيولوجيا، وذلك من خلال خلخلة الصخور والأحجار، وعلى علم الآثار القديمة من خلال دفن البقايا الأثرية.
تَتْبع ديدان الأرض شعبة الحلقيات، ويلعب بناء أجسامها دورًا محوريًّا في جعل هذه الحيوانات تمتلك هذا التأثير. والحلقيات ذات أجسام لينة وعضلية وممتدة، يقع الفم فيها عند إحدى النهايتين، ويقع الشرج عند النهاية الأخرى، ولها سلسلة من الحيزات، أو السيلومات، المملوءة بسائل، وذلك على امتداد الجسم؛ مما يوفر لها قدْرًا من الجسوء من خلال ضغط الماء بالداخل، جنبًا إلى جنب مع مرونة فائقة. وتساعد كل هذه الخصائص على الانضغاط من خلال الحيزات في التربة، وعلى تكوين أنفاق، أو حتى على نقل التربة بتمريرها عبر المِعى. على أن الخاصية الأهم للحلقيات من هذه الناحية هي بلا شك تقسيم الجسم إلى سلسلة من الوحدات أو الحلقات. هذه خاصية جليَّة من النظرة الأولى، وهي التي أعطت الحلقيات اسمها الشائع وهو «الديدان المُفلَّقة». ويسمح تجزؤ جسم ديدان الأرض إلى فلقات — لكلٍّ منها عضلاته وسيلومه وتحكمه العصبي — بتقليص بعض أجزاء الجسم بما يجعلها طويلة ونحيلة، بينما في الوقت نفسه تنضغط أجزاء أخرى على طول امتدادها لتصبح قصيرة وسميكة. تمكن الأجزاء النحيلة الدودة من المرور خلال الشقوق، بينما الأجزاء السميكة تستغل في تثبيت الدودة في موقعها، ومن خلال تمرير موجات انقباضية من الأمام إلى الخلف يندفع الجسم إلى الأمام خلال التربة.
هناك أكثر من ١٥ ألف نوع من الديدان الحلقية، يعيش معظمها في البحار والمياه العذبة، لا على اليابسة. وخلال تنوعها التطوري لعب تجزؤ جسم الحلقيات دورًا أساسيًّا؛ فعلى سبيل المثال، تقوم ديدان النفايات المفترسة البحرية بتقليص بعض فلقات الجانب الأيسر، وفلقات أخرى على جانبها الأيمن بما يؤدِّي إلى الْتِواء الجسم في موجات حركية من جانب لآخر. وتدفع هذه الحركات السريعة — ولكنها متناسقة — بالحيوان إلى الأمام بسرعة مما يمكِّنه من صيد فريسته والإمساك بها. وهناك ديدان حلقية سلبية بشكل كبير؛ حيث تعيش ساكنة في الشقوق والممرات، وتقوم بترشيح جسيمات من مياه البحر. ولكن حتى هذه الديدان تقوم بتوظيف تفلُّق أجسامها بقدْر متعاظم؛ ذلك أن موجات الانقباض المتناسقة توظَّف في إخراج المياه من الشقوق والممرات وإدخال مياه منعشة غنية بالأكسجين.
هناك مجموعة معروفة جيدًا من الديدان الحلقية لها كل سمات هذا النوع، ولكنها فقدت التفلُّق؛ وذلك لسبب منطقي، هذه المجموعة هي الهيرودينات، والمعروفة أكثر باسم العلقيات. بعض العلقيات مفترسات؛ إذ تقوم بافتراس لا فقاريات صغيرة بحرية، والبعض الآخَر — كما يَعرِف كل مكتشف للمناطق الاستوائية أو هاوٍ للسينما — يغتذي عن طريق التعلُّق بلحم الحيوانات الأكبر وامتصاص دمائها. تمسك هذه العلقيات المتطفلة بالجلد مستخدمةً ممصًّا قويًّا، وتقوم بحقن مادة قوية مضادة للتجلط لمنع تجلُّط الدم، كما تقوم بنهش اللحم مستخدمة ثلاثة فكوك تُشبِه الأمواس. وبما أن مصادر الغذاء مثل الأحصنة والغزلان والأسماك وأرجل البشر ليست شائعة الورود إليها، فإن العلقيات مهيَّأة لأن تستحوذ على وجبات ضخمة عندما تلوح لها فرصة، وهذا التحور يؤثر على التفلُّق. لقد نشأت العلقيات من حلقيات مائية لا تختلف عن ديدان الأرض، ولكنها فقدت الجدران (أو الحواجز) التي تفصل العُقَل من الداخل. وهذا يسمح للجسم بالامتداد عندما يتجرع العلقُ الدمَ؛ حيث يبسط جسمه فيما يشبه البالون. الجانب السلبي لهذا التحور هو أن العلقيات لا تستطيع أن تُنشئ موجات انقباضية متناسقة مثل تلك التي تستخدمها ديدان الأرض أو ديدان النفايات، ومعظم الأنواع تلجأ إلى حركات انقلابية أقل كفاءة.
هناك مجموعات ثلاث أخرى تم وضعها ضمن الحلقيات، كان كلٌّ منها شعبة مستقلة حتى تم معرفة وضعها التطوري المحتمل عن طريق التحليل الجزيئي. هذه المجموعات هي: شوكيات الذيل والمثيعبيات (أو ديدان الفستق) والملتحيات، التي تعيش في أعماق البحار. المجموعتان الأوليان ليستا مفلَّقتين، ويُعتَقَد أنهما فقَدَتَا هذه الصفة خلال التطور، بالطريقة نفسها التي حدثت للعلقيات، ولكن إلى مدًى أبعد. لطالما ظُن أن مجموعة الملتحيات غير مفلَّقة، وذلك حتى عام ١٩٦٤ عندما وُجد أن بعض العينات التي التُقطت من قاع البحر لها ذيل صغير مفلَّق. تبيَّن فجأة — وعلى نحو أصاب الجميع بالحرج — أن كل الأوصاف السابقة كانت معتَمِدة على عينات غير كاملة. إن معظم الملتحيات تعيش في جحور وهي رفيعة للغاية، وهي ذات أجسام ممدودة يصل طولها إلى سنتيمترات قليلة، ولكن بعضها الآخر عملاق، وتكوِّن أنابيبَ منتصبة ملتصقة بالصخور في أعماق المحيط.
اكتُشفت أول ديدان أنبوبية كبيرة عام ١٩٦٩ بواسطة بحرية الولايات المتحدة أثناء تشغيل غواصة أعماق أمام شاطئ باجا في كاليفورنيا. ورغم أن هذه الحيوانات، وتُدعَى «لامليبراشيا بارهامي»، بلغ طولها ما بين ٦٠ و٧٠ سنتيمترًا، وقزَّمت كل الملتحيات المعروفة من قبل، فإنه لم تمر سنوات قليلة إلا ووجدنا بعض العمالقة الحقيقيين.
في أواخر سبعينيات القرن العشرين حدث أكثر الاكتشافات شهرة، وذلك عندما بدأ الجيولوجيون — باستخدام غواصة أعماق المحيطات «ألفين» — استكشافَ مساحة ذات نشاط بركاني تحت الماء قرب جزر جالاباجوس. اكتُشفت هناك مداخن ضخمة من صخور بركانية تُطلِق مياهًا ساخنة غنية بمواد كيميائية سامة مثل كبريتيد الهيدروجين. وعلى نحو مدهش، عُثر على كائنات حية وفيرة حتى في هذه البيئة المتطرفة، وقد شمل ذلك غابات من ديدان أنبوبية عملاقة يصل طولها إلى ١٫٥ متر. هذه الديدان تُسمَّى «ريفتيا باتشيبتيلا»، وهي مُزَيَّنة بإكليل من لوامس بلون الدم شكَّلتْ مشهدًا باهرًا من خلال نوافذ غواصة الأعماق. تشترك كل من الأنواع لامليبراشيا وريفتيا وبقية الحلقيات في حقيقة مثيرة للاهتمام، وهي أن هناك شيئًا أساسيًّا قد فُقد؛ ألَا وهو المِعى. فليس لهذه الديدان فم ولا شرج، وليس لها سبيل أن تأكل أي شيء. إن مفتاح الحياة للديدان الأنبوبية التي تعيش في أعماق البحار يقع داخل أجسامها؛ فهنا يوجد عضو فريد يُعرف باسم تروفوسوم يكتظ بملايين من البكتيريا الحية، كلها من طراز يستخدم المادة السامة عادة كبريتيد الهيدروجين كمصدر للطاقة لبناء كيماويات غذائية. وفي الأعماق المظلمة للمحيطات، تصنع هذه البكتيريا الغذاء بآلية «البناء الكيميائي»، وهو تفاعل مناظر للبناء الضوئي الذي تستخدمه النباتات، ولكنها تستخدم الطاقة الآتية من الروابط الكيميائية بدلًا من الطاقة الآتية من الشمس. إن الديدان الأنبوبية التي تعيش في أعماق المحيطات عبارة عن مزارعين، وما دامت مزرعتها البكتيرية توجد داخل الجسم، فهي لا تحتاج لأن تَأكل.
الديدان المفلطحة والديدان الخرطومية: المفلطحة والبطيئة
ليست كل الديدان تتبع شعبة الديدان الحلقية. فالديدان المفلطحة والوشائع والديدان الشريطية توضع معًا في شعبة أخرى هي الديدان المفلطحة، وهي على العكس تمامًا من الحلقيات ليس بها أي أثر داخل جسمها لتجويف مملوء بسائل (سيلوم). الديدان المفلطحة حيوانات مصمتة إلى حد ما لا تلْتَوِي أو تلتفُّ كما تَفعَل الديدان الحلقية؛ ذلك أن كُتَلها العضلية لا تتجزَّأ إلى عُقَل منفردة، ولأن عدم وجود هيكل سائل يعني أنه ليس هناك شيء جاسئ تنحني عليه العضلات. وعوضًا عن ذلك، فإن الديدان المفلطحة تتحرك بتفعيل تموجات صغيرة من الانقباضات العضلية على امتداد حوافها، أو — في الأنواع الأصغر — باستخدام أهداب تبرز من خلايا سطحية. إن عدم احتوائها على جهاز دوري أو خياشيم متخصصة يعني أن هذه الحيوانات تعتمد على الانتشار البسيط عبر سطح الجسم للحصول على الأكسجين لخلاياها، وهذا بدوره يفرض على معظم أعضاء المجموعة أن تتسم بالحجم الصغير والشكل المفلطح. ويمكن بسهولة مشاهدة الديدان المفلطحة تتقلَّب فوق صخور صغيرة في الجداول والأنهار؛ حيث تزحف بأجسامها البيضاوية — البالِغ طولها مليمترات إلى سنتيمترات قليلة — في بطء وثَبات ملتَهِمة الطحالب والفتات.
ولكن ليست كل الديدان المفلطحة تعيش هذه الحياة غير المؤذية؛ ذلك أن العديد منها سبَّب الأذى للإنسان، ربما أهمها الوشيعة المسماة «البلهارسيا المنسونية»، وهي العامل المسبِّب للبلهارسيا، التي تصيب في الوقت الحاضر أكثر من ٢٠٠ مليون شخص. تختلف أعراض العدوى، ولكن في الحالات الشديدة يمكن للبلهارسيا أن تسبِّب تَلَفًا للأعضاء الداخلية، وحتى يمكنها أن تسبِّب الموت. ومثل العديد من الوشائع يحتاج طفيلي البلهارسيا عائلين مختلفين كي يكمل دورة حياته. فبَعدَ نمائها في قواقع المياه العذبة، تنطلق يَرَقات البلهارسيا إلى النهر حيث تبحث عن عائل ثانٍ لتخترق جلده، وعادة يكون هذا العائل الثاني إنسانًا.
الديدان الخرطومية، أو الشريطية، هي شعبة ثانية من الديدان غير المُفلَّقة، وهي توجد عادة على السطح السفلي لصخور شاطئ البحر. تعيش هذه الديدان حياتها في ممرات ضيقة، وتزحف عبر مساحات غير مأهولة، بازلة قدرًا ضئيلًا من الطاقة. تفتقر هذه الديدان أيضًا لوجود تجاويف كبيرة مملوءة بسائل تمكنها من تغيير شكلها ومد أجسامها لتتخذ أشكالًا ملتوية تشبه قطعًا خيطية من العلكة. ورغم نمط حياتها الكسول فإن الكثير من الديدان الشريطية مفترسات شَرِهة تقتنص وتلتهم لا فقاريات أخرى مستخدمة خرطومًا طويلًا مسلحًا إما بمادة صمغية لاصقة وإما بأشواك سامة. إن معظم الديدان الشريطية يبلغ طولها سنتيمترات قليلة فقط، إلَّا أن هناك نوعًا واحدًا بريطانيًّا — دودة رباط الحذاء — يُقال عنها إنها أطول حيوان على كوكب الأرض. هناك عينات بالتأكيد يصل طولها إلى ٣٠ مترًا، وهي بهذا تُقارب في الطول الحوت الأزرق، بل هناك مزاعم بوجود ديدان من هذا النوع يزيد طولها عن ٥٠ مترًا. لكن حتى في هذه الديدان العملاقة لا يزيد عرض جسم الدودة عن ملِّيمترات قليلة على الإطلاق.
الرخويات: من السبيدج إلى القوقع
إن شرف لقب «أكبر» حيوان لا فقاري يُعطَى عادة إلى حيوان من شعبة أخرى: شعبة الرخويات. إن السبيدج العملاق «أركيتيوتيس» حيوان ضخم، ورغم أنه قد لا يبلغ إطلاقًا طول دودة رباط الحذاء — فطوله يصل إلى ١٣ مترًا «فقط» — فإنه بالتأكيد الفائز على أساس الحجم الكلي. ومثل سائر أنواع السبيدج الأخرى، لهذا النوع جسم قصير مكتنز نسبيًّا، وثمانية أذرع تحمل ممصات، ولامستان أخريان بهما ممصات مسنَّنة عند طرفيهما. يعيش هذا الحيوان في أعماق المحيط، ورغم ذلك فقد نجح عالِم الحيوان تسونيمي كوبوديرا مؤخرًا في تصوير سبيدج عملاق حي وإعداد فيلم له، ذلك أن معظم معلوماتنا في هذا الشأن ما زال مصدرها عينات قذفتْها الأمواج على الشاطئ أو عينات وقعتْ بالمصادفة في شباك الصيد. وجنبًا إلى جنب مع الخرافات القديمة عن «الكراكن» العملاق، هناك على الأقل تقرير جدير بالتصديق عن سبيدج عملاق هاجَم سفينة، وهو مسجَّل في يوميات مركبة البحرية النرويجية «برونزويك» في ثلاثينيات القرن العشرين. أيضًا صدم القارب الثلاثي الفرنسي «جيرونيمو» سبيدجًا عملاقًا، وذلك خلال تنافسه من أجل الحصول على كأس جول فيرن عام ٢٠٠٣، وقد وصف أحد أعضاء طاقم السفينة لوامسه بأنها «سميكة مثل ذراعي». من المرجح أن تتعلق قصص هجوم السبيدج على السباحين بحيوان مختلف هو السبيدج هومبولت، وهو سبيدج مكتنز يصل طوله إلى مترين. تقوم هذه الحيوانات الجسورة المفترسة بالصيد في أفواج كبيرة؛ حيث تهاجم الأسماك وفرائس عائمة أخرى بسرعة وشراسة، ولا عجب إذا ما ارتدى بعض الغواصين دروعًا عند التعامل مع قطيع من السبيدج هومبولت. وجنبًا إلى جنب مع الأخطبوط والحبار، فإن السبادج من الرأسقدميات، وهي إحدى المجموعات الرئيسة للرخويات. ليس الحجم هو سبب شهرتها الوحيد، والأخطبوط على الأخص يتسم بالقدْر الأكبر من التطور المعرفي من بين اللافقاريات. إنه يتسم بدماغ كبير ومعقَّد، ورؤية حادة، وهو قادر على حل الألغاز مثل المتاهات المخصصة لاختبار الذاكرة المكانية.
وعلى عكس معظم الرأسقدميات، فإن لمعظم الرخويات صَدَفة واضحة. والصَّدفة تُفرَز بواسطة طبقة متخصصة من خلايا — البرنس — وهي تتكون من ألواح من كربونات الكالسيوم. والوظيفة الرئيسة للصَّدفة هي حماية الحيوان من المفترسين. وفي الرخويات البطنقدمية مثل القواقع، يحمل الحيوان على ظهره الصَّدفة الوحيدة، حيث يستقر العديد من أعضائه الداخلية داخلها. ورغم فائدتها الواضحة، فإن بعض مجموعات البطنقدميات فقدتِ الصَّدفة بالكامل خلال التطور، والعديد منها لجأ إلى وسائل بديلة للحماية. فالبزاقات الأرضية — التي يكرهها أصحاب الحدائق — تفرز مادة غروية رديئة الطعم تنفِّر بعض المفترسين، ولكن ليس كلهم. إن غياب الصَّدفة هو ميزة إيجابية بشكل ما؛ ذلك أن البزاقات — على عكس القواقع — يُمكنها أن تَزدَهِر في بيئات ينخفض فيها الكالسيوم.
على مدى آلاف السنين ظلت الرخويات مصدرًا مهمًّا من مصادر الغذاء للإنسان. وفي العديد من شواطئ العالم توجد أكوام أو هضاب من أصداف قديمة مهملة تمتد لمئات من الأمتار. وبالإضافة إلى استخدامها كغذاء، فإن كلًّا من بلينيوس الأكبر وأرسطو كَتَبَا عن صبغات نافعة يمكن الحصول عليها من الرخويات، خاصة الأرجوان الملكي المستخدم في صبغ أردية نبلاء الإغريق والرومان، وهذا الصبغ المتألق استُخرج من بطنقدم بحري اسمه «موريكس برانداريس» عن طريق تسخين مستخلص جسمه بعد خلطه بملح. إن بعض أنواع الرخويات تؤثر على الإنسان بأساليب أكثر إيذاء مثل قوقع المياه العذبة الذي أشرنا إليه من قبل كعائل وسيط لطفيلي البلهارسيا. لقد تسبَّب حيوان رخوي واحد في تغيير مسار التاريخ الأوروبي؛ ففي عام ١٥٨٨ أبحر الأسطول الإسباني إلى إنجلترا بنيَّة خلْع الملكة إليزابيث الأولى. هُزم الإسبان، ولكن ذلك لا يُنسَب فضله إلى السير فرانسيس دريك؛ فقبل الإبحار للمعركة رسا الأسطول الإسباني في ميناء لشبونة لعدة شهور، وهناك أُصيبتِ الجدر الخشبية للسفن بالحيوان الثنائي المصراع الثاقب الخشب «توريدو نافاليس»، وهذا الحيوان الرخوي السيئ السمعة — المعروف باسم «دودة السفن» — له جسم ممتد، وقد اختُزلت صدفتاه إلى لوحين صغيرين عند طرفيه استُخدما في عمل ممرات داخل مصدر الغذاء، وهو الخشب. وبذا أصبحت أخشاب قِطَع الأسطول مُثقَّبة كالغربال، مما أدَّى إلى إضعافه بشكل قاتل قبل بدء المعركة. كما أن عادات دود السفن هي السبب في حفظ عدد محدود من المراكب التاريخية حتى الآن، ومن الاستثناءات النادرة لهذا سفينة سويدية شراعية حربية ضخمة تُدعَى فازا ظلت باقية على حالتها الجميلة حتى الآن. غرقت فازا في رحلتها الأولى في بحر البلطيق في عام ١٦٢٨، ولم يكن البحر ذا ملوحة كافية ليعيش فيه دود السفن الثنائي المصراع الثاقب الخشب.