الانسلاخيات: الحشرات والخيطيات
في تقريبٍ جيد، كل الأنواع حشرات.
الحشرات: سادة الأرض
لا يَعرف أحد كم نوعًا من الحشرات يوجد. تتراوح التقديرات بين ملايين قليلة إلى ما يزيد عن ٣٠ مليونًا. وقد تم وصف ٨٠٠ ألف نوع على الأقل وتسميتها بشكل منهجي، ولكن حتى هذا الرقم غير موثوق بدقته ما دام لم توضع به قائمة شاملة حتى الآن. وبالنسبة للأنواع التي وُصفت فإن توزيعها الجغرافي، ووضعها البيئي وسلوكياتها غير معروفة إلى حدٍّ بعيد. ولكنْ لماذا هذا العدد الكبير من أنواع الحشرات؟ هذا سؤال لا يمكن الإجابة عنه ببساطة، ولكن الأسباب يمكن أن تشمل بناء الجسم الذي يمكن بسهولة أن يتكيف لمواضع بيئية وأغذية نباتية متعددة، وذلك تماشيًا مع التنوع الكبير في أنواع النباتات، خاصة في المناطق الاستوائية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحشرات التي تعيش على اليابسة خرجت من البحار في وقت مبكر من تطور الحيوانات منذ نحو ٤٠٠ مليون سنة مضت، مما أعطى الوقت لتنوع هائل، جنبًا إلى جنب مع نباتات اليابسة الناشئة.
إن الحشرات هي أبرز حيوانات الأرض، وهي جزء من شعبة مفصليات الأرجل، وكما هي الحال في جميع مفصليات الأرجل، فإن للحشرات هيكلًا خارجيًّا جامدًا ينسلخ على فترات ليسمح بالنمو، بالإضافة إلى أن له سلسلة من الأطراف المتمفصلة التي تستخدم في الحركة والتغذية. ورغم أن أسلافها قد عاشت في البحر، فإن الحشرات طورت مجموعة من أوجه التكيف كي تستطيع الحياة في بيئة قاسية عرضة للتطرف الحراري، ومحدودة الإمداد بالمياه، ونعني بهذا بيئة اليابسة التي نَصِفُها بأنها بيئة معادية. يوفر الهيكل الخلوي دعمًا أساسيًّا للجسم، سواء في البحر أم على الأرض، ولكن في الحشرات لا يسمح هذا الهيكل، المسمَّى الكيوتيكل، بمرور الماء وذلك بإضافة شموع إلى الطبقة الخارجية، وهذا يَحول بشكل فعَّال دون حدوث الجفاف الناتج عن البخر عند السطح الخارجي للجسم. هذا يحل جزءًا من المشكلة، ولكنه ما زال يترك عمليتين عرضة لفقد الماء؛ فأولًا: تحتاج الحيوانات اكتساب الأكسجين والتخلص من ثاني أكسيد الكربون، وفيزياء الانتشار الغازي تُملي أن يحدث ذلك بأعلى كفاءة عبر سطح مبتلٍّ. ولتحقيق تجنب تعريض الأسطح الرطبة للبيئة الخارجية — وهو ما من شأنه أن يُلغي المزية الناتجة عن امتلاك هيكل خارجي لا يسمح بمرور الماء — تكوَّنت للحشرات سلسلة من «القصبات» أو الأنابيب المُحكمة المبطنة بالكيوتيكل تلتوي وتتفرع من عند ثقوب يمكن غلقها على السطح الخارجي للجسم مباشرة إلى الأنسجة الداخلية للحيوان. وهناك يغيب غطاء الكيوتيكل، ويحدث تبادل الغازات في الموقع المنشود تمامًا. ثانيًا: كل الحيوانات تحتاج إلى التخلص من الفضلات المحتوية على النتروجين، تلك الفضلات التي تنتج خلال أيض البروتينات، والتي يمكن أن تكون سامة للخلايا. ويتغلب العديد من الحيوانات، وفيها البشر، على ذلك بتخفيف الفضلات وإخراج بول سائل، ولكن ذلك يُفقِد الجسم الكثيرَ من المياه. تستخدم الحشرات بشكل أساسي مسارَ أيض مختلفًا وتُنتج حمض اليوريك، الذي يتبلر إلى مادة صلبة — وذلك على عكس الأمونيا أو اليوريا اللذين يذوبان — وعندئذٍ تُستخدم غدد عالية الكفاءة لتُعيد امتصاص المياه قبل أن يتم إخراجها. وحيث إن حمض اليوريك ليس سامًّا، فإن كثيرًا من الحشرات تختزن بعضًا منه في خلايا متخصصة، بينما يقوم البعض الآخر في الواقع باستخدامه. إن اللون الأبيض لفراشات «بيريس»، مثل الفراشة البيضاء الكبيرة، ينشأ عن طريق تخزين حمض اليوريك في حراشيف الأجنحة.
السيطرة على السموات: أجنحة وطيران
تنقسم الحشرات إلى نحو ٣٠ «رتبة» تشمل الجراد (أورثوبترا)، والرعاشات (أودونتا)، وذباب مايو (إفيميروبترا)، والعصويات (فاسميدا)، وذوات المقص (درمابترا)، والصراصير (دايكتيوبترا)، وبق اليابسة والماء (هيميبترا)، والبراغيث (سيونابترا). ولكن بدون شك، الرُّتَب «الأربع الكبرى» من الحشرات — التي تضم ما يزيد على ٨٠٪ من الأنواع الموصوفة — هي الخنافس (كليوبترا)، والفراشات والعثة (ليبيدوبترا)، والنحل والدبابير والنمل (هيمينوبترا)، والذباب (دبترا). إن كلًّا منها مختلف بوضوح، وكلٌّ منها كَيَّفَ أجنحته بطريقة مختلفة.
إن لحشرات الرتبة ليبيدوبترا زوجين من الأجنحة تامَّيِ التكوين. في بعض العثة، هناك أشواك أو نتوءات تربط الأجنحة الأمامية والخلفية معًا، ولكن في كثير من حشرات هذه الرتبة يمكن أن تتحرك الأجنحة ويُتحكَّم فيها كلٍّ على حِدَةٍ أثناء الطيران. يختلف شكل الجناح بشكل كبير، من نتوءات ريشية في عثة الريش، إلى أجنحة ممتدة تشبه النصل في فراشة ساعي البريد في أمريكا الجنوبية، والأجنحة العريضة المنزلقة للفراشات ذات الذيل الخطافي.
إن العثة والفراشات قد تبدو مرهفة وقصيرة العمر، ولكن بعض الأنواع قوية وطويلة العمر. إن «الفراشة الملكية» تتجمع على مدى الشتاء في جماعات كبيرة في وسط المكسيك قبل قيامها بهجرة جماعية عبر أمريكا الشمالية. ويطير كل فرد مئات الكيلومترات، وفي خلال أجيال قليلة فقط من الأجيال الوليدة تستطيع أن تصل بعيدًا حتى كندا، على بُعْد ٤ آلاف كيلومتر من موقع التجمع الشتوي. وتُشتَهَر فراشة «السيدة المزخرفة» بسلوكها أثناء الهجرة. ويندر أن نجد من علماء التاريخ الطبيعي الأوروبيين مَن يَنسَى عامَيْ ١٩٩٦ و٢٠٠٩ عندما طارت أسراب السيدة المزخرفة في اتجاه الشمال واكتسحت شمال أوروبا بدءًا من جبال أطلس الأفريقية، وتكاثرت أينما ذهبتْ، لتصل في النهاية شمالًا حتى اسكتلندا وفنلندا.
إذا أمكننا تصور ذكر خنفساء الجعران بكسوة درعه البرونزية اللامعة، وقرونه المعقدة الضخمة، وقد تضخم ليصبح في حجم حصان أو حتى كلب، فإنه عندئذٍ سيصبح أحد أكثر الحيوانات مهابة في العالم.
وفي الذباب الحقيقي — دبترا — تحور الجناحان الخلفيان في الأسلاف إلى «دبوسَيْ توازن» ضئيلَيِ الحجم يتخذ كلٌّ منهما شكل الهراوة. وهما يهتزَّان إلى أعلى وأسفل خلال الطيران، دون علاقة بخفقات الجناحين الأماميين، وهما يكوِّنان جزءًا من نظام حسي استرجاعي معقَّد. فإذا مال جسم الذبابة إلى أحد الجانبين، فإن دبوسَيِ التوازن منوط بهما أن يستمرَّا في خفقاتهما في المستوى الأصلي — على غرار الجيروسكوب — وعندئذٍ فإن أعضاء الحس عند قاعدة دبوس التوازن ستحدد التغير في الزاوية الواقعة بين دبوس التوازن ووضع الجسم. وعلى ذلك، فإن الذبابة تستقبل باستمرار معلومات عن موقعها بالضبط في الفضاء. وبهذا فإن الذباب الحقيقي هو أكثر الحشرات رشاقة، وهو قادر على أن يحوم، أو يندفع كالسهم، أو يعكس اتجاهه بسرعة مدهشة ودقة.
من بين عشرات الآلاف من أنواع رتبة دبترا هناك العديد من الأنواع التي لها تأثيرات كبيرة على حياة الإنسان. تشمل هذه الأنواع البعوض الذي ينقل طفيلي الملاريا أو يحمل الفيروسات المسبِّبة للحُمَّى الصفراء وحُمَّى الدنج، ويموت كل عام ما يزيد على مليون شخص بسبب الأمراض التي ينقلها البعوض. وهناك أنواع أخرى من الذباب لها منافع؛ فمنها، على سبيل المثال، ما يقوم بعمليات التلقيح في النباتات، كما أن النوع «دروسوفيلا ميلانوجستر» لعب دورًا هامًّا في الأبحاث الطبية. كان هذا النوع من ذباب الفاكهة هو الكائن النموذجي المفضل في أبحاث الوراثة على مدى أكثر من قرن من الزمان لكونه صغير الحجم، وسهل التكاثر بأعداد كبيرة. وقد وفرت الأبحاث التي أُجريت باستخدام هذا النوع من ذبابة الفاكهة رؤًى ثاقبة لوظائف الجينات وتفاعلاتها، وكان لذلك صلة وثيقة بالعديد من الأمراض البشرية، وفيها السرطان.
المزيد من مفصليات الأرجل: العناكب، ومئويات الأرجل، والقشريات
بالإضافة إلى الحشرات، هناك ثلاث طوائف أخرى تعيش حاليًّا وتتبع شعبة مفصليات الأرجل. لقد غزت طائفتان منها اليابسة، وهما الكلَّابيات وعديدات الأرجل. أما الطائفة الثالثة فهي القشريات، وهي مائية في الأغلب، لكن بعضها يعيش على اليابسة. تشمل الكلابيات العناكب والعقارب، ورغم أن معظمها يعيش على اليابسة، فإن أصولها كانت في البحر. إن تركيبها ومواءماتها للحياة على اليابسة مختلفان كثيرًا عمَّا هي الحال في الحشرات. ومن الواضح أن الكلابيات والحشرات قام كل منهما بغزو اليابسة بشكل مستقل.
بالتحول إلى عديدات الأرجل نجد أن مئوية الأرجل وألفية الأرجل هما أكثر المجموعات المعروفة لنا. لهذه الحيوانات رأس متخصص، يَلِيه سلسلة من عُقَل عديدة تحمل أرجلًا متمفصلة. في مئوية الأرجل تنفصل عُقَل الجسم بعضها عن بعض بواسطة حلقات مرنة من الكيوتيكل؛ مما يسمح لها بأن تلتوي وتلتف، وبأن تجري بسرعة. ومئويات الأرجل مفترسة، تقوم بمطاردة واصطياد فرائسها والهجوم عليها مستخدمة مخالب سامة شديدة التأثير، وهي كلَّابات عملاقة سامة تبرز من زوج الأرجل الأمامية. على النقيض، فإن ألفية الأرجل تأكل في الأغلب الخشب أو الأوراق المتحلِّلة، وهي حيوانات أبطأ كثيرًا، كما أنها ليس لها مخالب سامة، وفي كثير من أنواعها تتعشق فلقات الجسم بعضها مع بعض لتسمح لها بالاندفاع خلال التربة أو النباتات المتعفنة وكأنها آلة قديمة بطيئة لدكِّ الحصون. ليس حقيقيًّا أن مئوية الأرجل لها مائة رِجْل، أو أن لألفية الأرجل ألف رِجْل، ولكن عندما نتحدث عن الأعداد، هناك بعض الغرائب غير المفهومة تمامًا. فمن العجيب أن لمئوية الأرجل دائمًا عددًا غير متساوٍ من أزواج أرجل المشي (لا يتضمن المخالب السامة)، وهذا يعني أنه بينما يكون لمئوية الأرجل عدد قليل من الأرجل مثل ٣٠ (= ٢ × ١٥)، أو عدد كبير مثل ٣٨٢ (= ٢ × ١٩١)؛ فإنه لا يوجد نوع به تمامًا ١٠٠ رِجل. وحتى في الأنواع التي يختلف فيها عدد العُقَل، فإن الأفراد تختلف دائمًا بمضاعف زوجين. وتتسم ألفية الأرجل بِسمة أخرى عجيبة؛ فعندما يُنظَر إليها من أعلى، يبدو أن لها زوجين من الأرجل لكل عقلة؛ مما يؤدِّي إلى الاعتقاد بأنه خلال التطور اندمجت أزواج من العقل لتكون «فلقات مزدوجة».
إلَّا أن هذا النسق لا يُشاهَد من أسفل، وقد كشفتِ الدراسات الحديثة عن تعبير الجينات أن الحدود بين الفلقات عند الناحية العليا وعند الناحية السفلي تُحدَّد على نحو مستقل بعضها عن بعض. إن العُقَل في ألفية الأرجل ليست وحدات بسيطة متكررة.
إن لألفيات الأرجل — مثل الحشرات — قصبات هوائية لتوصيل الأكسجين لأنسجتها، ولها أطراف لا تتفرع. كما أن تركيب الرأس في مئويات الأرجل وألفيات الأرجل والحشرات متماثل إلى حدٍّ كبير. وعلى مدى أكثر من قرن من الزمان أقنعتْ هذه التشابهات متخصصي علم الأحياء بأن ألفية الأرجل والحشرات على درجة عالية من القرابة داخل مفصليات الأرجل. إلَّا أن الأدلة الجزيئية تشير إلى اتجاه مختلف، وتدل بشدة على أن الحشرات في الواقع أقرب إلى القشريات. وفي الحقيقة، يحتمل أن تكون الحشرات من ضمن القشريات. وما دامت القشريات هي في الأساس مجموعة مائية؛ فإن هذا يتضمن أن الحشرات وألفية الأرجل قامتا بغزو اليابسة كلٌّ على حِدَةٍ، وأن كل مجموعة ظهرتْ بها تكيفات مثل القصبات الهوائية والأرجل غير المتفرعة على نحو مستقل عن الأخرى للتكيف مع الحياة في بيئتها الجديدة. إن القشريات مجموعة متنوعة تشمل العديد من الحيوانات المألوفة مثل الكابوريا، وسرطانات البحر وبراغيث البحر، وكذلك بعض الأنواع الطفيلية مثل براغيث السمك. والعديد منها له أهمية بيئية عظيمة، مثل مجدافيات الأقدام الموجودة مع مليارات العوالق البحرية أو أفواج الكريل الممتدة التي تتغذى عليها الحيتان البالينية. ومن أشهر القشريات وأكثرها غرابة البرنقيل، الذي يبدأ حياته كيرقات حرة السباحة في البحر قبل أن يستقر فوق الصخور؛ حيث يَلصق رأسَه بها ويقضي بقية عمره يلوِّح بأرجله لاقتناص فتات الغذاء.
دببة الماء والديدان المخملية
هناك شعبتان من الحيوانات القريبة جدًّا من مفصليات الأرجل تُعَدَّان من أكثر الحيوانات تفضيلًا من جانب كل مشتغل بعلم الحيوان؛ وهما بطيئات المشية المجهرية والمخلبيات الساكنة الغابات. لكلا الطرازين من الحيوانات أطراف مسمارية الشكل وكيوتيكل ليِّن، وليس لهما أطراف متمفصلة جامدة وهيكل خارجي متصلب كالمفصليات الأخرى مثل الحشرات والعناكب. يصل طول بطيئات المشية — أو «دببة الماء» — إلى أقل من ملِّيمتر واحد، ويمكن أن توجد حية في المياه السطحية على أجسام الحزازيات الرطبة أو الأشن.
عند الفحص المجهري لبطيئات المشية فإنها تبدو بسبب أجسامها المكتنزة ومشيتها المتهادية وكأنها دببة مصغَّرة، ولكنها دببة بثمانية أرجل. وبالإضافة إلى جاذبيتها بصفة عامة، فإن بطيئات المشية تُشتهر بقدرتها الملحوظة على تحمُّل ظروف بيئية متطرفة؛ فإذا ما أصاب البيئة جفاف بطيء، فإن بطيئات المشية تُفرز غطاءً شمعيًّا وتسحب أرجلها بحيث تُشبه براميل دقيقة. وعندئذٍ تقلِّل إلى حدٍّ كبير استهلاكها من الأكسجين والماء حتى تدخل في حالة من الحياة المعلقة، وفي هذه الحالة، التي تُعرف باسم الاختفاء الأحيائي، تستطيع بطيئات المشية الحياة لعدة سنوات. ثَمة مزاعم بأن هذا قد يستمر لمدة قرن من الزمان، إلَّا أن هذه المدة الطويلة من البقاء ليست محتملة، وذلك حسب الدراسات الحديثة. ولبطيئات المشية أيضًا القدرة على التحمل بشكل واضح، ومن المعروف أنه بمجرد دخولها حالة الاختفاء الأحيائي فإنها تستطيع أن تتحمل درجة حرارة منخفضة تصل إلى −٢٠٠ درجة مئوية أو درجة حرارة مرتفعة تصل إلى ١٥٠ درجة مئوية. وتظل الحياة معلقة حتى تتحسن الظروف.
تعيش المخلبيات — أو «الديدان المخملية» — على اليابسة ويمكن أن توجد في البيئات الرطبة، مثل جذوع الأشجار المتعفنة والفضلات الورقية في الغابات الاستوائية لأمريكا الجنوبية، أو في الغابات الأكثر برودة في نيوزيلندا. وهي حيوانات لينة، لها ملمس كالفراء إلى حد ما، وتشبه اليسروع، ويبلغ طولها سنتيمترات قليلة، ولها نحو ٢٠ زوجًا من الأرجل القصيرة المكتنزة. ورغم حركتها البطيئة، فإن معظم الديدان المخملية هي في الواقع صيَّادة؛ إذ تغتذي على النمل الأبيض وحشرات أخرى. ولما كانت الحشرات الصغيرة تستطيع الحركة أسرع من الديدان المخملية، فهي لا تستطيع أن تطارد فرائسها وتمسك بها، وبدلًا من ذلك فإنها تضربها عن بُعد؛ فالديدان المخملية لها زوائد غير عادية على جانبَيِ الرأس — يُظن أنها نشأت من أرجل — تستخدم توليد تيارات من مادة غروية لزجة نحو الكائنات المستهدَفة. وهذه المادة الصمغية تُربِك الحشرة الفريسة التي يمكن حينئذٍ أن تُلتَهَم على مهل من جانب الدودة المخملية، وحتى لا تضيع الدودة أي طاقة ذات قيمة فإنه حتى المادة الصمغية ذات المحتوى البروتيني تُؤكَل أيضًا.
الديدان المنسلخة
إن الديدان الخيطية — أو الديدان المستديرة — هي أقل الكائنات التي يُرجَّح قرابتها لمفصليات الأرجل. فهي ليست معقَّلة، وليس لها هيكل خارجي، وليس لها أطراف. وكما يدل اسمها، فهي ببساطة ديدان طويلة ورفيعة ومرنة. على أنه منذ عام ١٩٩٧، تراكمت أدلة من تتابعات الدنا واحدًا بعد الآخر دلَّلت على أن الديدان الخيطية تقبع في المملكة الحيوانية بالقرب من مفصليات الأرجل، ودببة الماء، والديدان المخملية، بالإضافة إلى قليل من الحيوانات الغامضة مثل «تنانين الوحل» المجهرية صاحبة الاسم المدهِش. إن معظم متخصصي علم الحيوان مندهشون جدًّا من هذه النتيجة التي لم تُستنبَط من الدراسات التشريحية. ولكن في الحقيقة، كل هذه الحيوانات لها صفة أساسية واحدة مشتركة، وهي أنها تسلخ جلودها أثناء نموها. إن لمفصليات الأرجل هيكلًا خارجيًّا جامدًا، عليه أن يتساقط عدة مرات ليسمح للجسم الواقع أسفله بأن يكبر، وهي العملية التي تُعرف باسم الانسلاخ. إن لدببة الماء والديدان المخملية (وكذلك للحشرات غير اليافعة مثل اليساريع) كيوتيكلًا لينًا وأكثر مرونة، ولكن هذه أيضًا تنسلخ بسبب أن التركيب الجزيئي للكيوتيكل الخاص بها ليس مهيَّأً للتمدُّد. إن الديدان الخيطية لها كيوتيكل معقَّد مكوَّن من ألياف بروتينية مطوية بإحكام، وهي تلتف حول الجسم لتكون طبقات فوق طبقات من زنبرك مرن كثيف الحُزم، وهذه أيضًا يجب أن تسقط لتسمح بالنمو. وعندما أوضحت دلائل الدنا أن هذه الشُّعَب قريبة بعضها لبعض، كان لا بد من طرح اسم للمجموعة. وقد اقترح البيولوجيون أنَّا ماري أجينالدو وجيمس ليك وزملاؤهما — وهم البيولوجيون الذين اكتشفوا هذه العلاقة — اسمًا لهذه المجموعة هو «الانسلاخيات»، بمعنى الحيوانات المنسلِخة.
للديدان الخيطية تركيب داخلي غير عادي بشكل كبير؛ إن لها حيزًا داخل أجسامها مملوءًا بسائل، كما هي الحال في كثير من الديدان الأخرى، ولكن في حالة الديدان الخيطية يكون لهذا السائل ضغط عالٍ جدًّا، يبلغ حوالي عشر أضعاف ضغط هذا السائل في الديدان الأخرى. إن الضغط الداخلي يضغط على أنسجة جسم الدودة وعلى الكيوتيكل مما يجعل مقطعها العرضي دائريًّا، وهذا يفسِّر اسم «الديدان المستديرة» الشائع لها. وهناك خاصية أخرى للديدان الخيطية هي أن كل عضلات جسمها تمتدُّ في اتجاه محور الرأس-الذيل (طولي)، فليس لها عضلات تلتفُّ حول الجسم في دوائر. إن معظم الديدان الأخرى — بما فيها ديدان الأرض، وديدان النفايات، والديدان الشريطية — لها كلا الطرازين من العضلات التي تستطيع أن تنقبض على نحو معاكس بعضها لبعض؛ أي في اتجاهين متضادَّيْن، مما يسمح للحيوان بتغيير شكله، أو الزحف أو الحفر. كيف إذن يمكن للديدان الخيطية أن تلتوي وتتحرك ما دامت عضلاتها تستطيع فقط أن تنقبض في اتجاهات طولية؟ إن الإجابة تكمن في السائل ذي الضغط العالي الموجود في تجويف الجسم وفي الكيوتيكل الزنبركي، اللذين يضادَّان فعل العضلات، مما يمكِّن الدودة من دفْع جسمها في موجات سريعة. إن حركتها ليست متناسِقة بشكل جيد كما هي الحال في ديدان الأرض وديدان النفايات، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الترتيب غير المعتاد للعضلات، وأيضًا إلى أن الديدان المستديرة ليست مُعقَّلة، ولا يمكنها جعل أجزاء مختلفة من الجسم تتحرك في اتجاهات متضادة. بدلًا من ذلك فإن الديدان الخيطية تتحرك وفق أسلوب مدروس؛ ذلك أن حركتها ليست فعَّالة بشكل جيد في العموم، ولكنها مناسبة تمامًا لمأواها المفضَّل، وهو داخل الأشياء. إن العديد من أنواع ديدان الأرض يعيش في التربة أو النباتات المتعفنة؛ ويحتشد الكثير منها داخل الفاكهة المتعفنة، بل إن هناك كذلك ديدانًا خيطية آكِلة للخميرة تُدعَى «فرش الجعة». وهناك عديد من الديدان الخيطية الأخرى يعيش متطفلًا داخل النباتات أو الحيوانات الأخرى. حتى البشر ليسوا محصَّنين ضدَّها، وهناك بعض الحالات الطبية التي تُعزى إلى ديدان خيطية متطفلة تشمل العمى النهري، ومرض دودة الخنزير، وداء السهميات، ومرض الفيل.
إذا تم محو كل المادة في الكون فيما عدا الديدان الخيطية، فسيظل عالمنا يمكن التعرف عليه وسط هذه الظروف المعتمة، وإذا أمكننا — كأرواح غير مجسدة — أن نفتش فيه فسوف نجد أن جباله وهضابه وأوديته وأنهاره وبحيراته ومحيطاته ستمثل بطبقة رقيقة من الديدان الخيطية. سيكون من الممكن تبيُّن موقع المدن، لأنه سيوجد مقابل كل تكتل بشري تكتلٌ مُناظِر من ديدان خيطية معينة.
هناك مجموعة من الحيوانات قريبة جدًّا من الديدان الخيطية — حيث يوجد بينهما أوجه شبه عديدة — وهي تتسم بأنها طويلة ورفيعة إلى حد كبير، وتنتمي إلى شعبة خاصة تُعرف باسم الديدان الشعرية. ورغم أن عرضها نادرًا ما يزيد عن ملِّيمتر واحد، فإن طولها غالبًا ما يصل إلى ٥٠–١٠٠ سنتيمتر. وهي مثل الديدان الخيطية لها كيوتيكل جامد، ينسلخ أثناء نموها، كما أن لها عضلات طولية فقط. وعلى خلاف الديدان الخيطية، فإنها لا تأكل أي شيء، أو على الأقل الديدان اليافعة لا تفعل ذلك، وتَضمُر أمعاؤها لتصير مجرد أثر. أما الديدان الشعرية الشابَّة فإنها بالتأكيد تأكل، حيث تتغذى على الأنسجة الداخلية لجسم العائل الذي يتبع مفصليات الأرجل، والذي يمكن أن يكون جرادة أو صرصورًا أو روبيان مياه عذبة. وهناك ستنمو الدودة وتنسلخ ويزداد طولها حتى تصل إلى حجم كبير لا يتحمَّله الحيوان العائل، ووقتها إما تنفجر وإما تزحف إلى الخارج تاركة خلفها جثة العائل سيئ الحظ. يجب أن تعيش الديدان اليافعة في الماء، وعلى ذلك إن كان العائل يعيش على اليابسة مثل الصرصور، فإن الطفيلي يوجِّه بطريقة ما سلوك العائل حيث يحثُّه على التحرك نحو الماء، ويسبح فيه منتظرًا الموت المروع. أما الديدان الشعرية التي تتطفل على عوائل تعيش في الماء مثل روبيان المياه العذبة فإنها تُعطَى الاسم الشائع لهذه الحيوانات وهو «ديدان شعر الحصان». وقد حدث قبل أن تُعرف دورة الحياة الحقيقية لهذه الحيوانات أنْ لاحظ أهل الريف أحيانًا وجود ديدان طويلة ورفيعة تسبح في مياه تبدو نظيفة خاصة بشرب الأحصنة، رغم أن هذه الديدان لم تكن موجودة في اليوم السابق. ونشأت أسطورة تقول إن هذه الديدان كانت شعرًا من ذيول أحصنة، ولكن دبَّت فيها الحياة. ولكن الحقيقة أقل إعجازًا، وترتبط بشكل أكبر بالموت؛ فالديدان العملاقة كانت طفيليات انطلقت من روبيانات صغيرة تعيش متوارية عن الأنظار في الماء.