ثنائيات الفم ١: نجوم البحر ونافورات البحر والسُّهيمات
أودُّ أيضًا أن أُحيِّي شوكيات الجلد بوصفها مجموعة بارزة مصمَّمة خِصِّيصَى كي تُحيِّر المشتغلين بعلم الحيوان.
مفاتيح من أجِنَّة
وُصِفَتْ شوكيات الجلد بأنها أغرب الحيوانات على سطح الأرض؛ وذلك لسبب منطقي، والطوائف الخمسة التي تشملها شعبة شوكيات الجلد — وهي نجوم البحر وقنافذ البحر والنجوم الهشة، وخيار البحر، وزنابق البحر — لها صفات مشتركة بينها، ولكنها لا تتشارك هذه الصفات مع أي كائن آخَر تقريبًا. إن بناء أجسامها لا يشبه أي كائن آخر على الكوكب. ورغم ذلك فقد تبيَّن منذ زمن أنها تنتمي إلى الموضع نفسه في المملكة الحيوانية مثلك ومثلي: ثنائيات الفم. وأول مفتاح يوضح هذه العلاقة يوجد في الأجنة.
إن معظم الحيوانات تبدأ حياتها كخلية واحدة هي البويضة المخصبة، وهذه البويضة المخصبة تنقسم لتعطي خليتين، ثم أربع خلايا، ثم ثماني ثم ست عشرة، وهكذا. ورغم أن هذا يبدو أمرًا بسيطًا مباشرًا، يمكن ملاحظة أنماط مختلفة متعددة عندما نقارن حيوانات ثنائية التناظر مختلفة. اثنان من أشهر هذه الأنماط هما التفلُّج الحلزوني والتفلُّج الشعاعي. تبدو الاختلافات بينهما واضحة تمامًا إذا ما تم فحص الأجنة النامية من خلال ميكروسكوب. ففي التفلُّج الحلزوني، نجد أنه عند انقسام أربع خلايا لتعطي ثماني، فإن الخلايا الجديدة تستقر فوق الثلمات الواقعة بين الخلايا الأربع القديمة، وإذا حاولتَ أن ترصَّ أربع برتقالات فوق أربع برتقالات أخرى؛ فإن هذا بالضبط النمط الذي تستهدفه. ولكن في التفلُّج الشعاعي، تستقر الخلايا الجديدة تمامًا فوق قمة الخلايا الأربع القديمة، بطريقة تحتاج إلى مهارات توازن عالية إذا ما حاولتَ تنفيذها باستخدام البرتقال.
وسواء أكان التفلج حلزونيًّا أم شعاعيًّا، فإن الطراز نفسه يتكرر في كل انقسام خلوي تالٍ، حتى تتكون في النهاية كُرَة مجوَّفة من الخلايا. وبدءًا من نقطة أو فتحة على سطح الخلية، تتحرك عقب ذلك بعض الخلايا إلى الداخل، فيما يشبه دفع إصبع أو يد في بالون منفوخ. إن الثلمة التي تنثني عندها طبقة الخلايا إلى الداخل تُسمَّى ثقب الأُرَيمَة، والكُرَة الأصلية من الخلايا تُسمَّى الأُرَيمَة. ومع نمو الجنين أكثر وأكثر، تُكوِّن هذه الأنبوبة المثلومة المِعَى. وينشأ من خلال هذه العملية الفرق المهم الثاني بين الطرازين؛ ففي الحيوانات ذات التفلج الحلزوني قد يحدد ثقب الأُرَيمَة نهاية «الفم» للمعى، أو على نحو أكثر اعتيادًا يكون ثقب الأُرَيمَة على شكل شق وينغلق في الوسط ليترك نهايتين مفتوحتين؛ هما الفم والشرج. ولكن في الحيوانات ذات التفلج الشعاعي يحدد ثقب الأُرَيمَة النهاية الخلفية للجنين، حيث سيتكون الشرج. يظهر الفم بشكل منفصل عند النهاية الأخرى لجسم الجنين النامي، بينما يتمدد المِعَى الأولي في اتجاه الناحية البعيدة. ولهذا السبب طالما سُميت الحيوانات ذات التفلُّج الحلزوني «أوليات الفم»، وهو ما يشير إلى أن الفم ينشأ من الفتحة الأولى المتكونة بالجنين. تُعرف الحيوانات ذات التفلُّج الشعاعي، التي فيها يقع ثقب الأُرَيمَة في المؤخرة، باسم «ثنائيات الفم». ليست كل الحيوانات تقع في أيٍّ من هذين الطرازين المحكمين بالضرورة، خاصة إذا ما كانت أجنتها مزودة بكميات كبيرة من المُح تؤثر على طريقة انقسام الخلايا.
أوضح كارل جروبين في عام ١٩٠٨ الفروقات المميزة، ولكن بعد مرور قرن من الزمان بات من الضروري تناول هذه الفروقات بحذر. حسب التحاليل الجزيئية فإن شعبتَيْن فائقتَيْن كبيرتَيْن من ثنائيات التناظر — العجلانيات العرفية والانسلاخيات — تشملان جميع الحيوانات التي تتبع طراز أوليات الفم في النماء، ولكنها تشمل حيوانات عديدة أخرى. على سبيل المثال، فإن التفلُّج في انسلاخيات مثل الحشرات والديدان الخيطية ليس حلزونيًّا، وفي الحقيقة أيضًا ليس شعاعيًّا. ومع ذلك، ما زال المصطلح «أوليات الفم» يُستخدَم اليومَ كي يَعنِي العجلانيات العرفية بالإضافة إلى الانسلاخيات، مع العلم أنه فقط الاسم المتداول وليس قاعدة موحدة. وعلى نحو مُربِك بالمثل نجد أن التجمع التطوري الذي يُسمَّى الآن ثنائيات الفم، المُحدَّد حسب التحاليل الجزيئية أيضًا، يختلف قليلًا عن النظام الأصلي الذي وضعه جروبين. وتتضمن المجموعة حسب تعريفها الآن فقط بعض الحيوانات ذات التفلُّج الشعاعي والتكوُّن الثانوي للفم، وليس كلها. ربما يكون من الأفضل ألَّا نُلقي بالًا بالأسماء القديمة، فليست نظم التسمية منطقية دومًا. بدلًا من ذلك، لاحظ فقط أنه ليست كل الحيوانات المُدرجة ضمن مجموعة «أوليات الفم» تنمو بالطريقة نفسها لهذه المجموعة، بل في الواقع بعض الحيوانات الموضوعة ضمن أوليات الفم تنمو في الحقيقة على نمط ثنائيات الفم. وبالتبعية، ليست كل الحيوانات التي تنمو على نمط ثنائيات الفم تكون ثنائيات فم «حقيقية». في وقتنا الحالي، هناك فقط ثلاث شعب رئيسة لثنائيات الفم، بالإضافة إلى إمكانية ضم شعبة أو شعبتين «فرعيتين». والشعب الثلاث الرئيسة هي: شوكيات الجلد، ونصف الحبليات، والحبليات.
الحياة مع الرقم خمسة
اقطع تفاحة عند منتصفها، عندئذٍ سوف ترى نجمة ذات خمس نهايات مستدقة تحتوي على بذور. انظر عن كثب إلى وردة برية ولاحِظ بتلاتها الخمس. سواء نظرتَ إلى فاكهة أو زهور أو حتى أنماط لورقة نبات، ستجد أن الرقم خمسة شائع وملحوظ عبر المملكة النباتية، وأنه القاعدة لمعظم التنوعات والتكيفات. على النقيض، فإن الحيوانات لا تُلقِي بالًا بالرقم خمسة. قد يشير البعض إلى أننا نمتلك خمسة أصابع، ولكن ما دام لنا يدان فإن الرقم الحقيقي سيكون بالطبع عشرة (أو عشرين إذا قمنا بِعَدِّ جميع الأصابع). إن الرقم خمسة لا يَظهَر بوضوح في الحيوانات التي تتسم بالتناظر، ولها جانب أيمن وجانب أيسر، كما يُشاهَد في معظم المملكة الحيوانية. إن أعدادًا مثل اثنين وأربعة وثمانية تُشاهَد في كل موضع، وليس العدد خمسة. وحتى الحيوانات القاعدية مثل قناديل البحر في شعبة اللاسعات — رغم أنها ليس لها اتجاه واضح لتناظر اليمين-اليسار — فإن لها تناظرًا رباعيًّا وليس خماسيًّا.
بيدَ أن شوكيات الجلد تختلف؛ إذ إن تطور الشعبة كلها سيطر عليه الرقم خمسة. هذا النمط يُشاهَد بسهولة في نجوم البحر والنجوم الهشة، وهي لا فقاريات شائعة على شواطئ البحار وفي مناطق المد والجزر، ولها خمسة أذرع تخرج من منطقة مركزية أو قرص. في نجوم البحر تتصل الأذرع بالقرص المركزي بقوة. وعندما يتحرك الحيوان فإنه يبدو وكأنه ينزلق على قاع البحر، وهو عمل بارع يتم باستخدام آلاف من الأقدام الأنبوبية الصغيرة الحجم التي تبرز من سطحه السفلي. إن حركة الأقدام الأنبوبية مدفوعة بسلسلة من قنوات ممتدة داخل الجسم مملوءة بسائل، وهي لا توجد إلَّا في شوكيات الجلد، وتُعرف باسم الجهاز الوعائي المائي. ورغم أن النجوم الهشة تبدو ظاهريًّا مماثلة لنجوم البحر، فإن النجوم الهشة مختلفة في أن أذرعها الخمس أرفع وأكثر مرونة، وتستخدم في مساعدة الحركة لدى الحيوان عن طريق الإمساك والدفع. تختلف المجموعتان أيضًا من الناحية البيئية، خاصة من وجهة نظر الرخويات. إن النجوم الهشة تتغذى على الفتات والحطام، وتلتهم الأجزاء الصغيرة عن طريق فم صغير على السطح السفلي يقع في وسط القرص المركزي. على العكس من ذلك، معظم نجوم البحر مفترسات شرسة. إنها تتحرك ببطء، ولكن هذا لا يهم إذا كانت فريستك لا تتحرك على الإطلاق. إن معظم نجوم البحر تصطاد الرخويات الثنائية المصراع مثل أم الخلول والجندوفلي والبطلينوس، وهي حيوانات تعيش حياتها ساكنة داخل صدفتيها المرتبطتين معًا بإحكام. ورغم أن ثنائيات المصراع بصفة عامة محمية من المفترسين، فإن نجوم البحر هي أشد أعدائها. وعندما يقابل نجم بحر فريسةً مثل البطلينوس فإنه يلف أذرعه حولها ويمسك بها بشدة مستخدمًا أقدامه الأنبوبية الشبيهة بالممصات ويجذبها، وعند ظهور فرجة صغيرة بين الصدفتين يدفع نجم البحر — في إجراء يتضمن مُخاطرة — جزءًا من معدته إلى الخارج عبر فمه ويُدخِله في هذه الفرجة. تفرز المعدة إنزيمات تحلِّل البروتينات مما يُضعف عضلات البطلينوس ويؤدِّي إلى ابتعاد الصدفتين بقدْر أكبر إحداهما عن الأخرى، وفي النهاية، يصبح جسم البطلينوس عاريًا ويتم الْتِهامه. لا عجب إذن أن أنواع ثنائيات المصراع التي تستطيع العوم مثل الإسكالوب الملكة تحاول الهرب عند أقل استشعار بوجود نجم بحر.
إن القنافذ البحرية المسلَّحة بأشواك دفاعية وكذلك خيار البحر اللين المستطيل هي أيضًا من شوكيات الجلد. هنا يكون الرقم خمسة أقل وضوحًا للنظرة العَرَضيَّة، ولكنه بالتأكيد موجود، في كل حالة هناك خمسة نطاقات حول الجسم تحمل أقدامًا أنبوبية؛ وهذا دليل على أن هذه الحيوانات نشأت من أسلاف تشبه نجوم البحر انطوت فيها الأذرع فوق باقي الجسم. تشمل المجموعة الخامسة من الشعبة، الزنابق أو زنابق البحر، وهي حيوانات تتغذى بالترشيح لها فم على السطح العلوي محاط بتاج من أذرع خمسة مريَّشة. يقع هذا أحيانًا في أعلى ساق، خاصة في الأنواع التي تسكن أعماق البحر. وفي ضوء وجود أقدام أنبوبية وفم علوي، فإن الزنابق تُعتَبَر مقلوبة رأسًا على عقب مقارنة بنجوم البحر والنجوم الهشة.
إن الأصل التطوري للتناظر الخماسي لشوكيات الجلد مُثير للاهتمام. من الواضح أن التناظر الخماسي الشعاعي نشأ عن تناظر ثنائي (يسار-يمين) لثلاثة أسباب أساسية؛ أولًا: يرقات شوكيات الجلد ثنائية التناظر، تمامًا مثل يرقات العديد من الحيوانات البحرية الأخرى. فقط عندما تخرج من نطاق العوالق وتُجري التحول، يحدث ظهور للنمط الخماسي التناظر. ثانيًا: وُجد أن حفريات شوكيات الجلد بها جميع طرز التناظر، وفيها التناظر الجانبي؛ مما يُشير إلى أن النمط الخماسي التناظر فَرَض نفسَه متأخِّرًا إلى حدٍّ ما في رحلة تطورها. ثالثًا، والأهم: أن شعبة شوكيات الجلد — في الشجرة التطورية للحيوانات — مستقرة تمامًا ضمن ثنائيات التناظر؛ مما يدل على التطور من السلف المشترك نفسه، الذي تنحدر عنه جميع الحيوانات الثنائية التناظر التي تعيش هذه الأيام.
نصف الحبليات: ديدان نتنة
حدث منذ سنوات مضت أن احتجتُ أن أحصل على دودة بلوط، إن هذه الديدان غريبة إلى حد ما، فهي غير مُعقَّلة وتنتمي إلى شعبة نصف الحبليات القريبة من شوكيات الجلد في شجرة التطور. إن النماء المبكر لأجنَّتها مماثل تمامًا لذلك الخاص بشوكيات الجلد؛ حيث لها تفلُّج شعاعي، وتكوِّن فمًا «ثانويًّا»، كما أن يرقاتها — التي توجد أحيانًا في عينات العوالق — يختلط الأمر بشأنها فيُظَن أنها يرقات شوكيات جلد. لم أشهد قط دودة بلوط في العراء، وكنتُ في حاجة إلى عينة لمشروع بحث. ولكن وصلتْني — عند مراسلة مشتغلين بالأحياء البحرية — إجابة واحدة حيَّرتْني؛ فقد قال لي مُرسِلها إنه لم يَرَ دودة بلوط واحدة في بريطانيا، ولكنه متأكد جدًّا من أنها توجد على شاطئ معين؛ حيث إنه شم رائحة واحدة. بالطبع لم أكن لأصدِّق دليلًا مصدرُه مجرد شَذَا. واستمر الوضع هكذا حتى قمتُ بالحصول عليها بنفسي. إن معظم نصف الحبليات يصل طولها إلى سنتيمترات قليلة، وتعيش مختبئة في شقوق رملية أو طينية؛ حيث تقوم بترشيح فتات الغذاء من مياه البحر التي تعلوها. وهي تقوم بذلك مستخدمة جهازًا من فتحات حاجزة للفتات في حلوقها التي تُستخدم في الحصول على الطعام والأكسجين. في الحقيقة، العديد من ديدان البلوط له رائحة نافذة تُشبه اليود إلى حد ما، وهي ترجع إلى مادة كيميائية سامة — تُدعَى دايبروموفينول ٢٫٦ — توجد بتركيزات عالية في جلودها. إن وظيفة هذه المادة ليست واضحة تمامًا، ولكنها قد تمنع المفترِسات من محاولة افتراسها، أو قد تحد من النمو البكتيري في الشقوق، أو قد يكون للسببين معًا. بغض النظر عن وظيفتها التكيفية، فإن الرائحة تبقى على الملابس والأصابع، وإذا ما صادفتَها يومًا فإنها لا تُنسى.
إن ديدان البلوط ليست هي الوحيدة المنتسبة إلى شعبة نصف الحبليات. إن إخوتها في التطور مجموعة من الحيوانات تُسمَّى تيروبرانكس؛ وهي حيوانات صغيرة تسكن أنابيب، ولها تاج من اللوامس، وغالبًا لا يُعثَر عليها مصادفة، بل لا بد أن تبحث عنها في مواقعها. إن النوع البريطاني المعروف جيدًا «رابدوبلورا كومباكتا» يقِلُّ طوله عن ملِّيمتر واحد، وتوجد أنابيبه الدقيقة البيضاء بوفرة على السطح الداخلي للأصداف المهملة لأحد أنواع الرخويات، وهو كَوْكَل الكلب «جليسيميريس»، وحتى في هذه الحالة، فهو يوجد فقط في مواقع قليلة مختارة حول الشاطئ البريطاني. يمكن أن نجد أنواعًا أخرى في برمودا وفي المضايق الاسكندنافية، ولكن معلوماتنا البيولوجية عنها ما زالت محدودة. وهناك جنس محدد من التيروبرانكس هو «سيفالوديسكَس» تم اكتشافه على قاع البحر في مضيق ماجلان خلال البعثة الشهيرة للسفينة إتش إم إس تشالنجر في عام ١٨٧٦، وعندما تم التحقق من أن هذا الحيوان له فتحات بلعومية، أصبح واضحًا أن التيروبرانكس قريبة من ديدان البلوط، في شعبة نصف الحبليات. هناك جنس ثالث من التيروبرانكس يُدعَى «أتوباريا»، غير عادي من حيث كونه لا يعيش في أنبوب. لا يُعرَف عن بيولوجيا هذا الجنس إلا القليل؛ ذلك أن ما شوهد منه هو ٤٣ عينة فقط، جُمعت كلها في ١٩ أغسطس عام ١٩٣٥ بواسطة بعثة بحرية أرسلها القصر الإمبراطوري في اليابان.
قِرَب البحر: هل كان الإنسان قِربة من جلد؟
إذا جذبتَ حبل المرسى الذي يربط العوامات في أي ميناء بحري، فمن المحتمل أن تجده مغطًّى بمئات الكُتَل الجلدية الزجاجية الشكل، ألوانها في الأغلب صفراء أو بُنِّيَّة، يبلغ كل منها سنتيمترات قليلة في الطول. اجذب واحدة من هذه الكُتَل وافصلها عن مرساها المغمور بالمياه، وقد تدفع بنافورة مياه في عينيك. هذه الحيوانات — رغم أنها لا تبدو في شكل حيوانات — هي نافورات البحر، أو الأسيديات. ورغم مظهرها العجيب الشكل، فإن هذه الكتل ضمن أقربائنا من الناحية التطورية، وهي أعضاء في شعبتنا؛ الحبليات. من ناحية البناء الخارجي فإن نافورات البحر مكسوة بغطاء خارجي جامد أو إهاب له ملمس أقرب شبهًا بالنبات منه للحيوان. يرجع هذا إلى أن الإهاب يحوي — على نحو عجيب — السيلولوز، وهو مادة كيميائية توجد عادة في النباتات لا في الحيوانات. هناك أنبوبتان، أو سيفونان، عند قمة الجسم، وتندفع مياه البحر إلى داخل الحيوان من خلال أحدهما، ثم يُطرد الماء إلى خارج جسم الحيوان من خلال الآخر، وينشأ تيار الماء بفضل دفعات آلاف من الأهداب الدقيقة الموجودة داخل جسم الحيوان. ويجلب هذا التيار المستمر من الماء فتاتًا مجهريًّا من مواد غذائية وأكسجين ذائب، كما يزيل النفايات.
من المفترض أن تضم الشعبة مجموعة حيوانات ذات علاقة تطورية بعضها ببعض ولها بناء عام متماثل للجسم. وهنا نكرر كلمات فالنتين: «الشُّعَب أفرع من شجرة الحياة تعتمد على الشكل.» كيف إذن تكون نافورة بحر في الشعبة نفسها التي تضم الفقاريات، جنبًا إلى جنب معك ومعي، وكذلك مع الطيور والأسماك؟ عند النظر إلى نافورة بحر يافعة — وهي كتلة ساكنة مرشِّحة للغذاء ومغلَّفة بالسيلولوز — يتضح قلة ما يبرر وجود علاقة قربى تطورية. وفي الواقع كان علماء التاريخ الطبيعي الأوائل يجهلون تمامًا العلاقة. كان أرسطو يعتبر نافورات البحر رخويات مثل البطلينوس والقواقع، بيد أنه ذكر بالفعل أنها كانت غير عادية من حيث إن «صدفتها» — الإهاب في الواقع — كانت جلدية وليست صلبة، وتحيط بكل الحيوان. وفي أوائل القرن التاسع عشر قام لامارك بحذفها من الرخويات، ووضع لها اسمًا كمجموعة جديدة هي «القِرْبيات»، ولكنه لم يحدد علاقتها التصنيفية. تغير كل ذلك عام ١٨٦٦ عندما نشر العالِم الروسي النابِه ألكسندر كواليفسكي وصفًا دقيقًا للنمو الجنيني واليرقي لنافورة بحر، وفوق ذلك كشف الأهمية العميقة لما كان قد توصل إليه. إن أجنة نافورات البحر تنمو وصولًا إلى «أبو ذنيبة» مصغر — يبلغ عادة ملِّيمترًا واحدًا في الطول — يسبح في البحر ليوم واحد أو يومين قبل أن يستقر، ورأسه إلى أسفل، فوق صخرة أو أي أرضية. وهناك يحدث لها تحول درامي إلى نسخة مصغَّرة من الحيوان اليافع. ومن هذه اللحظة لا يبرح الحيوان موقعه، ويبقَى ثابتًا في مكانه الذي وُضع فيه، حيث يقوم بترشيح مياه البحر. وقد وجد كواليفسكي أنه في مرحلة «أبو ذنيبة» العائم، يكون هناك دماغ صغير في المقدمة، متصل بحبل عصبي يمتد على مدى الناحية الظهرية، وهذا يقع بدوره فوق قضيب جاسئ، هو الحبل الظهري. إن هذه كلها هي السمات المميزة للفقاريات مثل البشر والأسماك، أو على الأقل مميزة لأجنتها، إن العلاقة التطورية مع الفقاريات واضحة.
إن بعض المشاهدات التي قام بها إم كواليفسكي، وأكَّدها الأستاذ كوبفر، ستكون اكتشافًا ذا أهمية غير عادية … الاكتشاف هو أن يرقات الأسيديات على درجة قربى من الفقاريات من حيث طريقة نمائها، وفي موقع الجهاز العصبي، وفي وجود تركيب يناظر الحبل الظهري للحيوانات الفقارية، وهكذا يبدو أننا لو اعتمدنا على علم الأجنة، الذي ثبت دائمًا أنه المرشد الأسلم للتصنيف، فإننا نكون قد حصلنا أخيرًا على مفتاح للمصدر الذي نشأت منه الفقاريات.
كم عدد الأشياء العجيبة التي لا نرى سببًا لها!
وهذا أحد الأشياء التي تعوَّدتُ أن أفكِّر فيها، وهي أن معظم الرجال يُشبهون قطرة مشروب.
ولكن هنا يأتي داروين بخطته، ويظهر النسب الحقيقي للإنسان.
وهذا يفسر الأمر تمامًا؛ إذ إن الإنسان كان من قبل قِرْبةً من جِلْد!
وقد يكون نيفِس وجد في نفسه تبريرًا ليستمتع بمشروب (وأسهب بالفعل في ذلك في ثمانية أسطر تالية)، ولكنه لم يكن يعكس بدقة وجهة نظر داروين أو اكتشاف كواليفسكي. ليس هناك حاجة لأن نفترض أن السلف المشترك لنافورات البحر والفقاريات — السلف المشترك البعيد — كان له دورة حياة يحدث خلالها تحول في الشكل مثل نافورة البحر المعاصرة. في الواقع، هناك أقارب أحياء لنافورات البحر، تُعرف باسم اليرقيات، لا تقوم بالتحول، وتبقى ﮐ «أبو ذنيبة» طوال حياتها، تتغذى وتتكاثر.
السُّهيمات: غِرْبال الرمال
يمكن تقسيم شعبة الحبليات إلى ثلاث مجموعات تطورية، أو شُعَيْبات، فبالإضافة إلى القِرْبيات (مثل نافورات البحر واليرقيات) والفقاريات، هناك مجموعة فاتنة من الحبليات البحرية تُسمَّى الرأسحبليات، وعادة ما يُشار لها باسم السُّهيمات. هناك العديد من المعالِم المميزة الموجودة في جميع الحبليات؛ وهي وجود دماغ وحبل عصبي يمتد بطول الناحية الظهرية، وليس على الناحية البطنية، ووجود حبل ظهري، وكُتَل عضلية متكررة على كلٍّ من جانبَيِ الجسم، وشقوق أو فتحات بين الحلق والعالَم الخارجي. هذه الخصائص تَصِف التصميم النموذجي لجسم كائن من الحبليات. شاهدنا في نافورات البحر معظم هذه الخصائص الموجودة في يرقة «أبو ذنيبة»، فيما عدا الشقوق البلعومية؛ فنافورة البحر اليافعة هي التي بها هذه التراكيب المرشِّحة. إن كل خصائص الحبليات موجودة في الأسماك؛ حيث إن بها خياشيم تنشأ عند الشقوق البلعومية، ولكن الحبل الظهري أصبح محاطًا بالعظم، وذلك خلال النماء، إلى أنِ انضغط واختفَى. ونحن كبَشَر نمتلك معظم هذه الخصائص في بعض مراحل نمائنا، ولكن مرة ثانية فإن الحبل الظهري في الحقيقة يكون واضحًا فقط في الجنين، بينما فتحاتنا البلعومية تكون مجرد ثلمات في الجنين لا تشق أبدًا جدار البلعوم لتكوِّن فتحات. ولكن الحيوانات التي تَظهَر فيها كل خصائص الحبليات بوضوح كامل، حتى في الحيوان اليافع، هي السُّهيمات. وهي تعطي أوضح مثال لتصميم جسم الحبليات نطمح إلى أن نراه.
هناك نحو ٣٠ نوعًا من السُّهيمات في البيئات البحرية حول العالم، وهي توجد في الأغلب في البحار الاستوائية وتحت الاستوائية، ولكنها توجد أحيانًا في المياه الأكثر برودة. وهناك نوع يعيش قبالة ساحل أوروبا، ويوجد مدفونًا في الحصى عند مناطق من البحر المتوسط والقنال الإنجليزي بالقرب من شعاب إدستون الغادرة بفنارها الشهير. وهناك نوع آخر شائع يوجد في رمال المد والجزر حول شاطئ الخليج في فلوريدا، ونوع ثالث كان شائعًا جدًّا قرب مدينة شيامن الصينية، وهو يُستخدم هناك كطُعم لصيد الأسماك. إن كل الأنواع تشبه تقريبًا الأسماك في شكلها العام، وتبلغ سنتيمترات قليلة في الطول، وبها قِطَع عضلية متكررة على جانبَي حبل ظهري واضح يعمل كقضيب داعم. يعمل الحبل الظهري المرن على نحو مقابل لانقباض العضلات؛ مما يسمح للحيوان بالعوم بسرعة كبيرة جدًّا عند الحاجة، ومثال ذلك عندما يخرج من الرمال ليَضَع البويضات أو الحيوانات المنوية في مياه البحر. الشقوق البلعومية واضحة جدًّا وتستخدم لترشيح الطحالب من تيار مياه البحر التي تم سحْبُها عبر الفم. وعلى خلاف الأسماك الحقيقية — التي هي فقاريات — ليس بها عظام، وليس لها زعانف تبرز على جانبَيِ الجسم، كما أن رأسها أقل تعقيدًا بكثير. إن للسُّهيمات البناء الأساسي للحبليات، وذلك بغير العديد من التعقيدات التي تطورت في الفقاريات.
منذ قرن مضى، كانت السُّهيمات أحد أهم الموضوعات العامة للأبحاث في جميع مناحي علم الحيوان. ففي عام ١٩١١ كتب العالِم الألماني الكبير في مجال بيولوجيا التطور إرنست هيكل أنه «بَعْدَ الإنسان، تُعَدُّ السُّهيمات أهم الحيوانات وأكثر مدعاة للاهتمام.» أشعر بالرغبة في الاتفاق معه، لكن حتى بالنسبة لهيكل ومعاصريه، يطرح الأمر مشكلة محيِّرة؛ فمِن ناحية، ظن العديد من متخصصي علم الحيوان أن السُّهيمات لا بد أنها حيوان فقاري متنكس، ببساطة هي أسماك فقدتِ العديد من الصفات المتخصصة. ظن البعض الآخَر أن هذه الفرضية غير مرجَّحة على الإطلاق، وقد وصف عالِم التشريح المقارن البريطاني الكبير إدوين ستيفن جودرتش هذا الاقتراح بأنه سخيف. إن وجهة نظر جودرتش — المدعمة بدراسات دقيقة عن نماء وتشريح الحيوان — هي أن السُّهيمات احتفظت بالتنظيم الأكثر بدائية للحبليات، وأنها لا تختلف كثيرًا عن سلف الحبليات المنقرض منذ أمد بعيد. قُبِل هذا الرأي في النهاية، كما لقي حديثًا دعمًا قويًّا من دراسات تتابعات الجينوم. وعلى ذلك، فإن السُّهيمات تمثِّل حلقة وصل حاسمة بين اللافقاريات والفقاريات، وهي تُشبه في ذلك الوضع الذي مُنح ليرقة نافورة الماء. في حالة السُّهيمات، لدينا حيوان ما زال يعيش اليوم وله معظم صفات الفقاريات في صورة أثرية. إن له خصائصه الخاصة، ليس أقلها رأسه الغريب ذو العين الواحدة، وهو يماثل في ذلك السيكلوب في الأساطير الإغريقية. وقد حدثت هذه التغيرات الصغيرة على مدى نصف المليار سنة التي انقضت منذ أن انفصلت السُّهيمات والفقاريات عن سلفهما المشترك، وهو الإطار الزمني نفسه الذي شهد ظهور وتنوع الأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات؛ وعلى ذلك فإنه رغم أن السُّهيمات ليست سلفًا لأي حيوان يعيش الآن، فإنها تغيرت بقدر ضئيل عن سلف كل الفقاريات الذي انقرض منذ زمن بعيد.