التحقيق في مسرح الجريمة
تحقيقات مسرح جريمة مقتل التفكير الإبداعي
(صوت قرمشة.)
«انظر يا أبي، سفينة شراعية!»
كان ابننا كالن البالغ من العمر خمس سنوات يجلس في المقعد الخلفي في السيارة، وقد أخذ أوَّلَ قضمة من قطعة بسكويت كبيرة مستديرة؛ وفتح عالَمًا من الاحتمالات.
•••
(صوت قرمشة.)
«انظر، إنها قمرٌ الآن!»
غمرت الإثارة كالن، لكنه لم يحصل على استجابة من والده في البداية. فكان عقل أندرو منغمسًا في عمل جادٍّ، ولم يكن يحتمل أيَّ إلهاء بألعاب طفولية. فكان منشغلًا بالتفكير في محاضرة سيتحدَّث فيها بصفة رئيسية عن الأبحاث الجديدة الرائدة حول الإبداع والابتكار، لكنه كان يواجه صعوبة في الإتيان بافتتاحية إبداعية للمحاضرة. ومع شعور أندرو أنه تحت ضغط ليخرج بشيء برَّاق يُلَائِم محاضرته لمساء ذلك اليوم، أدرك أنه كان عليه الحفاظ على تركيزه في مهمته التي كانت بين يديه.
«آسف يا كالن، لديَّ عملٌ لأُنجزه.»
•••
(صوت قرمشة.)
«لكن انظر أبي، عليك أن تنظر! لقد صارت جبلًا.»
«بُنَيَّ، ليس الآن! أنا أُحاول أن أُبدع.»
•••
(صوت قرمشة متلاحق.)
الصبي (غير مرتدع): «أبي، إنها الآن طائر.»
•••
غالبًا بسبب شعور أندرو بالذنب والمسئولية الأبوية، وربما أيضًا رغبةً منه في أن يجد سبيلًا لإنهاء المقاطعات، التَفَتَ لينظر إلى ابنه الذي كان يحمل قطعة بسكويت على شكل مثلَّث، وقد التهم معظَمَها إلا قضمتين، فهمهم سريعًا في إشارة إلى أنه رآها، ثم عاد ليركِّز في التحدي الجاد الذي كان بصدد التعامل معه.
وفجأة طرأت الفكرة على ذهنه. وفي لحظة من لحظات الاكتشاف المفاجئ أدرك أندرو أنه بينما كان مشغولًا بمحاولة استحضار حلول إبداعية، كان كالن يطبِّق التفكير الإبداعي بخبرة. وتبيَّن أنه في حين نتعامل مع هذه المهام بصرامة وانضباط أكاديميَّينِ، فإن التنمية الإبداعية تتمثَّل في قدرتنا على التخيُّل والحلم. وفي هذه اللحظة، أدرك أندرو أن الإبداع توجهٌ أكثر منه عملًا، وأن التنمية الإبداعية تَسِير عكس تيَّار المعارف التقليدية. ورأى أنه ليس علينا أن نُصبح أكثر «خبرة» في المجال ولا أن نحشد المزيد من الحقائق حول التفكير الإبداعي وحلِّ المشكلات، إنما علينا أن نعرف كيف ننفتح على أفكار واحتمالات جديدة، وكيف نستغل ونسخِّر الفضول الفطري الذي نُولَد به.
كانت تلك القصة هي ما افتتح به أندرو محاضرته مساء ذلك اليوم؛ اشترى علبة من البسكويت، وفي افتتاح المحاضرة طلب من ستة مصرفيين من بين الحضور الذين بلغ عددهم ثلاثمائة شخصٍ أن يصعدوا إلى المِنَصَّة، وطلب من كل واحد منهم أن يَقْضِم قَضْمَةً من البسكويت. ثم سأل المشارِكة الأولى عما تراه، فحكَّت المصرفية رأسها وفكَّرت بعمق ثم أجابت في النهاية بصراحة واقتناع متناهيينِ: «قطعة بسكويت تنقصها قضمة!» إنَّ قدرة كالن على رؤية سبعة أشكال شديدة الاختلاف عن بعضها بسهولة ودون أي جهد بعد سبع قضمات متتالية أدخلتنا فجأة في أكثر المراحل أهمية في رحلتنا لاستكشاف الإبداع والابتكار. (من الشائق أن نذكر هنا تمرينًا بسيطًا لقياس مستوى الإبداع، حيث يُطلب من المشاركين التفكير في عدد من الاستخدامات المختلفة لشيء معتاد؛ قالب طوب على سبيل المثال. وفي حين يعاني أغلب المتسابقين كي يأتوا بأكثر من خمس أفكار، يستطيع الإنسان المبدع أن يأتي بأكثر من ذلك بكثير.)
دفعتنا هذه التجربة الأولى إلى التساؤل عن سبب ابتعادنا عن الأسلوب البريء المَرِح للحياة مع تقدُّمنا في العمر، وعن سبب فقداننا للقدرة على التفكير بإبداع. ومع تزايد الحاجة إلى التفكير والتصرف بإبداع بسبب النمو الهائل في متطلَّبات الحياة الحديثة وضغوطاتها، أصبحت إعادة اكتشاف هذه القدرة أكثرَ أهميةً الآن من ذي قبل.
(١) هل التفكير الإبداعي بهذه الأهمية؟
لمَّا كان الإبداع روحًا حرة قد تتهرَّب من المدرسة أو العمل بسعادة وتقضي ساعات في أحلام اليقظة بالحقول الفسيحة، فإنه يمثِّل الطفل الكامن بداخلنا جميعًا الذي يتوق للحرية. وعندما يُقيَّد الإبداع بالروتين أو يُحصر بالتوقعات، فإنه يصارع من أجل البقاء. فهو يعتمد على الفرص الجديدة في طرح أفكار جديدة من شأنها أن تمدَّ العقل والروح بالأكسجين. ومتى خُنق أيٌّ منهما بأيِّ عدد من العوامل الخفية أو مُعْلنة القسوة، يُقتل الإبداع.
التفكير الإبداعي يمكِّن الناس من التعامل مع المشكلات والحلول بطرق أكثر ابتكارًا. وفيما يتعلَّق بالقدرة على دمج الأفكار الموجودة بالفعل في تركيبات جديدة، فإننا لا يمكننا — دون التفكير الإبداعي — أن نتعلَّم كيف نتأقلم من أجل أن نتمكَّن من التعامل مع المستقبل؛ فسنبقى دائمًا عالقين في الماضي ولن نتمكن من البقاء.
عادةً ترى المؤسسات هذا النذير لأول مرة عند هذه النقطة، فتبدأ في تقليل النفقات على الابتكار، مثلًا من خلال تقليص ميزانيات الأبحاث والتطوير، في الوقت الذي تشتدُّ فيه الحاجة إليه. وما يقتل المؤسسات في نهاية المطاف هو قلة البصيرة التي عادة ما تتسم بها المؤسسات في تلك المرحلة الحرجة من دورة حياتها. وتخنق الضروريات الشركات عندما تسمح لنفسها بأن تقع تحت سيطرة البيروقراطية والإدارة بدلًا من الإبداع والابتكار، وهو أمر لا مَفَرَّ منه وفقًا لويست.
ومن ثم، فإن الإبداع شديد الأهمية لبقاء الأفراد والمؤسسات. والأكثرُ أهميةً التفكيرُ الإبداعي الذي يعاوننا على إنقاذ العالم؛ لأنه يمكِّننا — نحن البشرَ — من الحلم وتخيل مستقبل أفضل ومن تنفيذ هذه الرؤيا. عندما حدَّد مارتن لوثر كينج رؤيته للمستقبل في خطبته الشهيرة «لديَّ حلمٌ …» فإنه جسَّد موهبة التفكير الإبداعي ومقدرتها على خلق الدافع للتغيير وعلى التحفيز لثورة حقيقية. ودوَّن هذه الشرارة الإبداعية، وهي شرارة لا بدَّ لها أن تشتعل إلى حد ما داخلنا جميعًا، فإن جذوة الحياة ذات المعنى، ووجودنا برمته سيكون بلا مضمون أو غرض حقيقي. فالتفكير الإبداعي ضروريٌّ لتطور الجنس البشري واستمرار الحياة لما هو أسمى من مجرد البقاء المادي. وإذا أعدنا النظر إلى الماضي، فسنجد أن العديد من الأفكار والمُثل العليا التي أصبحت سائدة الآن (مثل حركة الحفاظ على البيئة) بدأت بحلم إبداعي لعدد قليل من الأفراد الثوريين المنعزلين الذين كان يُنظر إليهم على أنهم متطرفون، لكن أصبح لهم اليوم كبيرُ الأثر على مستقبل الكوكب بأكمله.
(٢) هل الموت الإبداعي وشيك؟
إذن لماذا يحدث ذلك؟ من الواضح أن هناك نوعًا من التدخل، ولسوء الحظ تُشير كل الأدلة إلى الهيكل ذاته الذي عليه أن يشجِّع على الإبداع ويرعاه أكثر من غيره؛ وهو نظام التعليم. فقد رأينا — على سبيل المثال — أن حماس كالن نحو الاختراع والاكتشاف قبل أن يلتحق بالمدرسة كان ملهمًا. وفي الوقت نفسه، بدا أن أخته الكبرى زوي قد وقعت بالفعل ضحية لهذا النظام. فزوي كانت منحصرة بالكامل وفعليًّا داخل الهيكل الذي بدا كأنما يوجه نحو تحديد رؤية الأطفال في مجالات بعينها وتعطيل التفكير التباعدي. وحقيقةً، لقد بدأنا نتساءل عما إذا كان نظام التعليم يقتل التفكير الإبداعي فعليًّا بدلًا من إلهامه.
نحن لا نكبر لنصبح مبدعين، بل نكبر بسبب الإبداع؛ بل إننا نتعلم منه.
(٣) هل أنت مبدع؟
بعد زيارتنا المدرسية، استطلعنا آراء الآلاف من المشاركين في الحلقات الدراسية الدولية من الشركات التي عملنا معها. وعند سؤالهم عما إذا كانوا يظنُّون بأنهم كانوا أكثر إبداعًا في صغرهم عن كبرهم، ردَّ أكثر من ٨٠٪ منهم بالإيجاب. واعترف الكثير منهم بأنهم يجدون مشقة في التحلِّي بالإبداع في بيئات عملهم الحالية، وهذا الأمر ليس مفاجئًا عندما تنظر إلى تركيز الشركات على تحقيق أهداف عملية وعلى المحصلة النهائية. وأفاد غالبيتهم في استطلاعنا أنهم كانوا أكثر إبداعًا عند بدء عملهم بالمؤسسة. فيبدو أن كلًّا من أنظمة التعليم وأنظمة العمل عملت على كَبْت الإبداع بطريقة ما.
ما الذي يمكن أن تقوم به المؤسسات إذن لحلِّ هذه المشكلة؟ ستبدأ الشركات الذكية بتحمُّل بعض المسئولية تجاه التعليم التفاعلي وليس تجاه مهارات التدريب فحسب. وستُدرك أولًا أن التدريب لا يساوي دائمًا التعليم. فالتدريب يدور حول تنمية مجموعة مهارات محددة ونقل المعارف والحقائق على أمل أن يستفيد العاملون من هذه المعلومات عند الضرورة. أما التعليم، فيدور حول تنمية المهارات اللازمة للتعلم والبحث المستمرينِ؛ أي إنه في نهاية المطاف يُعنى بتعلم كيفية التفكير بإبداع. وربما علينا أن نتدارك أوجه القصور في كثير من الأنظمة الحالية التي تعتمد على «بنك المعرفة» كما يسميها المعلِّم والمنظِّر باولو فريري، وأن نفكر في طريقة لإدخال عمليات تعليمية فعلية في مؤسساتنا بدلًا منها.
من الخطأ أن نفترض أن المشاركين في برامج تدريب الشركات يرغبون في التعلم والاستماع إلى ما يقوله المدرب، فليس هناك من هو أشد مقاومةً للتعلم من المتهكِّمين البالغين. فسوء تجاربهم مع نظام التعليم غالبًا ما ينزع منهم الرغبة في المزيد، ومن ثَمَّ يكونون غير مستعدين لمواكبة التغيير. وهم يواجهون صعوبة في الإتيان بأفكار جديدة وفي التفكير بإبداع، وعندما ينتهي المطاف بهؤلاء في مناصب إدارية، فسيكون للخلاف الذي ينشأ بسبب رؤيتهم لطريقة سير الأمور ونظرتهم للآخرين آثار بعيدة المدى، وقد يؤدي إلى توقف نمو الشركة تدريجيًّا.
مفتاح الإبداع هو الحفاظ على التخيُّل الطفولي الحر وتغذيته بالمعرفة بدلًا من إحلال المعرفة محله.
ولإعادة بناء الإبداع خلال العمليات التعليمية الموجهة (وليس التدريب البسيط)، عليك أولًا أن تتعرَّف على القَتَلَة وتتعامل معهم لتتأكد من أنهم ليس لديهم أي تأثير سلبي على البيئة. وهذا هو ما نعتزم القيام به الآن.