مَن قتل الإبداع وما الأسلحة المستخدَمة؟
تحديد نمط شخصية القاتل: قتلة الإبداع السبعة الفتَّاكون
«طبيعي على نحو مخيف» لكنه قادر على إظهار «قسوة غير عادية»؛ كانت تلك هي الكلمات التي استخدمها الطبيب الشرعي توماس بوند في ثمانينيات القرن التاسع عشر لوصف النمط المرجح لأكثر السفاحين بشاعة في التاريخ. كان «جاك السفاح» مشتبَهًا به في جرائم قتل مروِّعة لخمس مومسات من لندن، قُطعت حلوقهن وشُوهت أجسادهن قبل نزع أحشائهن جزئيًّا. لم تُكتشف هوية القاتل الحقيقية قطُّ؛ فربما لَقِيَ حتفه بعد فترة قصيرة من موجة القتل التي انخرط بها أو ربما يكون قد حُكم عليه بالسجن بسبب جريمة أخرى.
يمكن أيضًا أن يكون السفاحون الصامتون الذين يستهدفون الإبداع «طبيعيين على نحو مخيف» وعادةً ما يصعب رصدهم بسهولة. ولعل وقت جمع الأدلة واستخدام أحدث أدوات التنميط قد حان حتى نُلقي القبض على الجناة ونَعزلهم ونجرِّدهم من أسلحتهم ونكشف مآويهم. ويعد استخدام «التنميط الجنائي» خُطوةً أولى في التحقيق في جريمة قتل الإبداع للتعرف على القتلة المحتملين المشتَبَه بهم. وتمدُّ هذه العملية المحققين بلمحة عامة عن الأنماط النفسية للشخصيات التي يحتمل تورطها في تلك الجرائم، ومن ثم عن دوافعهم. كذلك يمكن أن يساعد التنميط في تحليل طبيعة الجناية وطريقة ارتكاب الجريمة.
بعد خبرة تزيد عن خمسة وعشرين عامًا من العمل في كل من نظام التعليم وقطاع الأعمال، كشفت تحقيقاتنا حول قتلة الإبداع النقاب عن بضعة أنماط بالغة الوضوح. وسنعرفك الآن على هذه السمات، والشخصيات التي تجسِّدها، ونمنحك الفرصة للنظر فيما إذا كان أولئك القتلة يندسُّون غير مرصودين داخل المجتمع عامة أم يختبئون غير ملحوظين في محل عملك أو في مجال خبرتك العملية. والمشتَبَه بهم الحاليون يمكن التعرف عليهم بسهولة باستخدام هذه الأنواع من الأنماط العامة. فهي تضم طائفة من الشخصيات المريضة التي تجسِّد جميعها صفات مدمرة تعيش داخل الأفراد والأنظمة في المجتمع على جميع مستوياته. وقد يكون من الشائق أن تفكر فيما إن كان هؤلاء المشتَبَه بهم ممن يتسكَّعون في حيِّك السَّكَني.
-
المرحلة الأولى: القمع.
-
المرحلة الثانية: التقييد.
-
المرحلة الثالثة: التدهور.
-
المرحلة الرابعة: التدمير.
موت التفكير الإبداعي: مراحل الانتكاس | |||
---|---|---|---|
عملية القتل | سلاح القتل | المشتَبَه بهم | |
المرحلة الأولى | القمع | ||
استخدام التحكم والخوف لتقييد التفكير المنفتح | |||
التحكم (طاقم التحكم) | الإرغام الساحق | البيروقراطية، التنمر، القيادة، القمع | |
الخوف (عائلة الخوف) | الإرهاب المطبق | الخوف من الفشل، الخوف من المجازفة، الخوف من المجهول | |
المرحلة الثانية | التقييد | ||
استخدام الضغط والعزل لتقييد الأفكار | |||
الضغط (جماعة الضغط) | الإجهاد الخانق | الإجهاد المفرط، تعدُّد المهام، التوقعات غير الواقعية | |
العزل (زمرة العزل) | الانحياز الصارم | مصادر المعلومات المتحيزة، التجانس، الافتقار إلى التنوع | |
المرحلة الثالثة | التدهور | ||
تثبيط النمو بسبب اللامبالاة | |||
اللامبالاة (عشيرة اللامبالاة) | الخمول الفتاك | الافتقار إلى التحفيز، الافتقار إلى المبادرة، الافتقار إلى الدافع | |
المرحلة الرابعة | التدمير | ||
ضِيق الأفق والتشاؤم المدمران | |||
ضيق الأفق (عصابة ضيق الأفق) | التعصب العنيد | الحنكة المقيَّدة، التحيز، التفكير الجماعي | |
التشاؤم (فوج التشاؤم) | السلبية الخبيثة | السلبية، اليأس، الافتقار إلى الثقة |
ولتقليص دائرة المشتَبَه بهم، سنركز على مجموعات الأنماط التي كشفنا عنها في أبحاثنا وتجاربنا. فبعد أن أجرينا ورش عمل حول الإبداع شملت أكثر من ٢٠ ألف شخص حول العالم — بَيْنَ المديرين التنفيذيين ومديري الشركات إلى أطفال رياض الأطفال، وبين الأغنياء والمتعلمين إلى الفقراء والمحرومين — تمكنَّا من التوصل إلى استنتاجات عامة معينة من اكتشافاتنا. فعلى سبيل المثال، غالبية الناس يُقِرُّون بفائدة التفكير الإبداعي، لكن مع دعمهم له من حيث المبدأ؛ ليست لديهم أدنى فكرة عن طريقة احتضار الإبداع في حياتهم الشخصية. في بداية جلساتنا حول إحياء الإبداع، غالبًا ما نواجه وابلًا من الاحتجاجات القائلة إنه «لن يجدي نفعًا بالنسبة لي أو لمؤسستي» فضلًا عن سلسلة من أسباب ذلك. لكننا وجدنا أن قلة من الناس، أو الكتب المصنفة حول الموضوع، قد توقفت لتفحص في أي قدر من التفصيل سبب أن يكون الأمر على تلك الشاكلة، والطريقة التي مات بها الإبداع حقًّا.
وقد تُصدم بمجرد اكتشاف مدى قرب هجمات أولئك القتلة منك …
(١) المرحلة الأولى: القمع – استخدام التحكم والخوف لتقييد التفكير المنفتح
تتضمن المرحلة الأولى من عملية القتل نمطين أساسيين للقتلة: «طاقم التحكم» الذين يسحقون الفكر المستقل والإرادة الفردية، و«عائلة الخوف»؛ وهم قتلة هادئون في استطاعتهم تقويض الثقة وقهر الفرد.
(١-١) نمط القتل الأول: طاقم التحكم
عادةً ما تكون الحاجة للسلطة هي ما يحرك نمط «التحكم»، ويُعرف طاقمه أيضًا باسم القامعين المتنمِّرين. فالأفراد والأنظمة الذين يتَّسِمون بهذا النمط يَميلون إلى الهيمنة على الآخرين وقمعهم. فهم يُمْلُون على الآخرين نتائج معينة ويوجهونهم نحوها بدلًا من تمكين الاستكشاف والنمو الشخصيين والتشجيع عليهما. ويشعر ضحايا نمط التحكم غالبًا بأنهم مُقَيَّدون أو عالقون في مأزق لا فكاك منه. فالقاتل المتحكم يميل إلى القتل من خلال قمع القدرة على التفكير بحريةٍ واستقلالية، وعادة ما تُسحق إرادة الضحايا. ويمكن أن يعاني هؤلاء القتلة من اضطرابات في الشخصية تَميل إلى أن تكون معادية للمجتمع أو حتى ساديَّة. أما سلاحهم المفضل فهو الإرغام الساحق.
التعذيب المؤسسي: أغلال القرون الوسطى وأنظمة التطفُّل
في العصور الوسطى، كان السجناء المدانون يُقيدون أحيانًا إلى أداة عقاب تسمى الفَلَقة؛ وهي ألواح خشبية متصلة بمفصَّلات توصد في مكانها ويُدخل فيها عنق السجين ويداه للتعذيب. ولمَّا كان الإخزاء والسخرية العلنيان جزءًا أساسيًّا من العقاب، فقد كان ذلك العقاب يقع في مكان عام حيث يُشجع المارة على قذف الضحية قاصرة اليد بالطين والأطعمة العفنة أو حتى بالغائط. وقد يُترك السجين في العراء لأيام؛ فيتعرض لظروف طقس قاسية، ومن ثم شاع أن يلقى هؤلاء المقيدون لأيام متتالية حتفهم بسبب انخفاض درجة حرارة أجسامهم أو الإنهاك من ارتفاع درجة حرارة الجو. وكان الهدف من ذلك سحق روح المرء من خلال إنهاك البدن والإذلال.
ومثل الفَلَقة والأغلال التي صُمِّمت لتقييد الحركة الجسدية، هناك العديد من الأنظمة المؤسساتية التي صُممت — عن عمد أو عن غير عمد — لتثبِّط النمو والتطور العقليين والعاطفيين، فتحطم إرادة الإبداع. وعندما تنشأ أنظمة تقيِّد حرية الفكر، لا يملك الإبداع فرصة للازدهار. ويمكن لذلك أن يحدث على الصعيد المحلي أو الصعيد العالمي عن طريق الديكتاتورية القمعية، اجتماعيًّا ومؤسسيًّا وفرديًّا.
إنَّ أولئك الذين ينطبق عليهم نمط التحكم هم — بلغة فجَّة — سفاحون. فغالبًا ما يكون سلوك الشخصيات في هذا النمط واضحًا، غير أننا غالبًا ما نكون من الخوف بدرجة تمنعنا من مواجهتهم، تاركين إياهم «يفلتون بجريمة القتل». ونحن نعلم أين يتسكَّع هؤلاء السفاحون — إنهم يحيطون بنا من كل حدب — لكننا نخشى الاعتراف بوجودهم. وتمامًا كما تواصل الزوجات المعنَّفات العيش مع أزواجهن المتعسفين بسبب تعلقهن العاطفي بهم، فإننا نُصرُّ على السماح للأنظمة الداعمة للتحكم بالسيطرة على حياتنا لأنها باتت مألوفة لنا. وما دام يتم التساهل مع تلك الأنظمة المُتحكمة، فإنها ستستمر في سحق الإبداع.
عملنا ذات مرة مع مجموعة إدارية في مجال تكنولوجيا المعلومات كانت قد عانت مع هذا القاتل الذي ترسخ في المؤسسة. وقرب انتهاء إحدى ورش عمل التفكير الإبداعي التي نظَّمناها، كان فريق القيادة الرئيسي المكون من ثلاثين فردًا قد تمكَّن من التوصل إلى مئات الأفكار الشائقة؛ ليتطور العديد من هذه الأفكار إلى خطط عمل محددة وعملية. ومع انتصاف الظهيرة، كان الحماس والدافع يملآنِهم حرصًا على العودة إلى أقسامهم محمَّلين بتلك الأفكار الجديدة الرائعة وبتلك الطاقة المتجددة التي يولدها التفكير الإبداعي. بعد ذلك، ظهر المدير العام. كانت هذه الجلسة قد نظمت بناءً على طلب هذا المدير العام، ورغم أنه كان حريصًا نظريًّا على أن يتعلم أعضاء فريقه التفكير الإبداعي، فعلى الصعيد العملي، وعقب رؤيته لنتائج الورشة، اتَّجَهَ دون عمد إلى إخماده. فبعدما رحَّب المدير العام بالمجموعة في بداية اليوم، عاد إلى مكتبه ليستكمل ما سمَّاه «عمله الحقيقي» في إشارة واضحة منه إلى أنه غير منخرط في العملية ولا يهتم بها. وعندما دُعي إلى العودة إلى المحاضرة ليستمع إلى الأفكار الإبداعية لتحسين الأداء التي كان فريقه قد توصل إليها، جلس عاقدًا ذراعيه وساقيه بملامح جدية وأبقى على سلوكه غير المتجاوب الذي كاد يتسم بالسلبية طوال الجلسة، وأظهرت لغة جسده بوضوح أنه لم يكن متقبلًا الأفكار الجديدة أو لم يكن على استعداد للاستمرار في مناقشتها.
لعلَّ المدير العام أدرك أن العديد من الأفكار الجديدة لم تكن قابلة للتنفيذ الفوري، وأن بعضها قد يكون مكلفًا وقد يستغرق تنفيذها الكثير من الوقت. لكنه أغفل غرض عملية توليد الأفكار والبحث عن سبل إبداعية لتحسين عملية تنفيذ الأعمال. كان بإمكانه أن يشجِّع على إنتاج المزيد من الأفكار بدلًا من وَأْدِها، وكان يمكن أن يستخدم هذه الأفكار كنقطة انطلاقة لاستكشاف المزيد. بعد ذلك في الجلسة، اجتهد المدير العام في منع تدفُّق الأفكار الإبداعية بتوجيه نقاش المتابعة نحو نتائج محددة من اختياره بدلًا من أن يفتح المجال إلى حرية التعبير. وكانت النتيجة على المدى الطويل هي عدم تغيير أي شيء في النظام؛ فكان هناك العديد من الموظفين غير الراضين — الذين استقال عدد منهم ومضى بحياته — بينما خسرت الشركة فرصة لمعالجة قضايا أساسية.
ومن خلال استخدام النفوذ والسلطة وإنشاء أنظمة وإبقائها بهدف تكبيل التفكير الحر والأفكار الجديدة، يقتل التحكُّمُ الإبداع ببراعة. هناك حكمة تقول بأنه ليس هناك ما هو أكثر طرافة من النكات التي يلقيها أصحاب النفوذ. فالقوة والسلطة اللتان يمارسهما الأشخاص المتحكِّمون والأنظمة المتحكمة تُخْمِد الفكر المستقلَّ، ويكون هذا شديد التدمير على المدى الطويل. إن الحاجة إلى «السيطرة» قد تنبُع من شعور الفرد بعدم الأمان وبالنقص، فتصبح محاولة لتعويض هذا الخلل في الشخصية، إذن فإن فهم الدوافع التي تشكل هذا النمط قد يُسهِم في إزالة قوتها التدميرية.
-
الأنظمة القمعية.
-
الأنظمة الخانقة (البيروقراطية).
-
الرؤساء المتنمِّرون.
(أ) المشتَبَه به الأول: الأنظمة القمعية
ومثله مثل المافيا، يبذل طاقم التحكم في المؤسسات جهده لنيل السيطرة السياسية والحفاظ عليها حتى ينفِّذ برنامجه الخاص. وهذا النوع من التحكم يسحق الإبداع من خلال الإكراه الذي يَغرِس جذور الخوف.
(ب) المشتَبَه به الثاني: البيروقراطية
يمكن وصف البيروقراطية على أنها القريبة المهذبة للمافيا التي ترعرعت في كنف النظام ولا تعرف سواه. إنها لا تتعمد إيذاء الآخرين، لكنها تعمل في إطار عالم متحكم من أنظمة وعمليات خانقة. ومثلها مثل مرضى الوسواس القهري تعاني من «الالتزام الصارم بالقواعد والأعراف الأخلاقية والتنظيم المبالغ فيه» بما في ذلك الانشغال المفرط بالتفاصيل والحقائق الدقيقة. كما تميل إلى اتباع اللوائح بلا هوادة، وإعداد القوائم والجداول الزمنية بلا توقف. فالبيروقراطية لا تعي قدر سيطرتها على العلاقات الشخصية على حساب المرونة وتفتُّح الذهن والكفاءة. وهي تظهر بوضوح في كل مكان في المؤسسات الكبيرة والقوية.
البيروقراطية مثل ذلك الرجل في العمل الذي لا يحبه أحد لكنَّ الجميع يعلم بوجوده. وهذا لا يعني أنها عدوانية أو شريرة، إنما هي حقًّا مملَّة ومتصلِّبة. وعندما ينظر المرء إلى عملها في نهاية الأمر، يرى أنها دسَّت أنفها في كل شيء لكنها لم تنتج أي شيء ذي قيمة على الإطلاق. وتقتل البيروقراطية الإبداع في صمت أحيانًا، فلا يدرك المرء أن الوقت الذي خصصه ليبتكر فيه قد ضاع في ملء الاستمارات. وأحيانًا تكون أكثر وضوحًا؛ حيث إن قواعد الصحة والسلامة المهنية لن تسمح لك بالاستمتاع بيوم عمل دون قيادة السيارة لأنها لن تسمح لك بإيقاف دراجتك في المكتب كي لا تتسبب في إصابة أحد.
وكشف الدكتور جيسون في تقرير الطب الشرعي أن الهياكل الصلبة لا تستوعب الابتكار أو تعدد الزوايا (وهي ببساطة تعني تنوع الأمور أو تعدد أبعادها)، فلا تجد المقترحات الابتكارية مكانًا محددًا تتجه إليه ولهذا لا تجد من يقترحها من الأساس. أما الهياكل السلسة على الجانب الآخر، فتسمح بتعدد الأبعاد وتوفر فرصًا للالتقاء والتعاون. وفي نفس الوقت، قد تؤدي الحرية المفرطة إلى عدم النظام؛ لذلك من المهم أن نعثر على مركز الاتزان الدقيق والمثالي بين المرونة والقوة.
تصبح الأنظمة قمعية عبر القيادة الاستبدادية، كما أنها تتصلب إذا لم تتجدد وتُحَدَّثْ كل حين. وللأسف دائمًا ما يضع هدف الربح ضغوطًا خارجية على المؤسسة وعلى الأفراد، لكن هذا المطلب عليه أن يكون متوازنًا بعناية مع الحاجة إلى حرية الفكر كي تبدع.
(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: القيادة المتنمرة
-
اضطراب الشخصية التمثيلية: يشمل الشخصيات ذات الجاذبية السطحية، والمنافقة، والأنانية، والمتلاعبة.
-
اضطراب الشخصية النرجسية: يشمل الشخصيات المهووسة بالعظمة، والشخصيات التي ينصبُّ اهتمامها بنفسها دون مراعاة للآخرين، والشخصيات التي تستغلُّ الآخرين، والشخصيات ذات الحس العالي بالفردية.
-
اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية: يشمل الشخصيات التي تسعى للكمال، والشخصيات التي تُفْرِط في التفاني في العمل، والشخصيات الصلبة، وذات الميول التعنُّتية والديكتاتورية.
في الوقت الذي يمثل فيه التحرش الجنسي والازدراء العنصري مرشَّحَين واضحين لقائمة المطلوبين للعدالة، تمكَّن التنمر حتى الآن من أن يُفلِت من الانتباه، ربما لأن له شخصية مخادعة تتخطَّى الحدود عندما لا يكون هناك شخص مهم يتابع. فبمقدوره أن يكون مثل القنَّاص الذي ينقضُّ على ضحاياه عندما لا يكون هناك شخص آخر بالجوار. ويزداد المدير المتنمر قوةً سرًّا، حيثما يكون الأفراد أكثر خوفًا من أن يجهروا بالقول. ومع أن عديدين يشتكون من هذا القاتل، تجرَّأ بضعة أشخاص فقط على مناقشة المشكلات في حضوره.
-
قسرية.
-
رجعية.
-
ذمَّامة.
-
الخوف.
-
القلق.
-
الغضب.
-
حماية الذات.
-
قلة الحيلة.
-
ينجذب السيكوباتيون إلى مناصب السلطة داخل الشركات.
-
يُصمَّم النظام المؤسسي بطريقة تحوِّل الأشخاص العاديين إلى سيكوباتيين أو على الأقل يحفِّز ويطوِّر أسوأ الخصال فيهم.
-
يُؤسَّس النظام على هذا النحو فيسمح بترقية من يطأ رأس زميله (مجازًا ليس حرفيًّا، كما نأمل).
إننا نُؤْمن أن الإجابات الثلاث سليمة، لكن الجرم الأساسي هو الإجابة الثالثة؛ فإذا كنت على استعداد أن تتصرَّف بقسوة وخداع، وتتقن إظهار عكس ذلك، فستتمكن من المضي قدمًا في ثقافات الشركات، وهذا الأمر في غاية الخطورة ومن الصعب جدًّا تغييره.
عند وفاة زعيم المافيا أو تقاعده من منصبه القيادي، غالبًا ما تذهب معه سمعة عشيرته أو «عائلته». فتحظى العشيرة بفرصة أكبر للبقاء إذا كان هناك قادة أقوياء محتملون داخل الصفوف. لكن طاقم التحكم لن يحظى بهذه القبضة المحكمة دون تحالف وثيق مع جماعة أخرى في العائلة من المقربين؛ وهي عائلة الخوف التي تتمكَّن من تولِّي زمام الأمور بسهولة في الوقت الذي يُفقد فيه التحكم …
تقرير المحقق
هل قابلت نمط القمع هذا في حيِّك أو في محلِّ عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:
• الأنظمة المؤسَّسِيَّة الخانقة. | |
• الاهتمام بالتفاصيل البيروقراطية بدلًا من النتائج المبنية على القيمة. | |
• القيادة التعسفية بدلًا من الديمقراطية. | |
• نزعة نحو الهيمنة. | |
• الحرية المقيَّدة. |
أثره على الضحايا:
• انعدام الثقة. | |
• انحدار تقدير الذات. | |
• الاستكانة، أو الميل إلى الاستسلام أو التنازل بسهولة. |
(١-٢) نمط القتل الثاني: عائلة الخوف
المشتَبَه بهم الذين ينطبق عليهم هذا النمط قد يبدون بمظهر أليف، لكنهم في واقع الأمر قَتَلَة صامتون وفتَّاكون. وغالبًا ما تنشأ عائلة الخوف وتترعرع في كنف المتحكمين، كما تبقى قريبة إلى جوارهم أغلبَ الوقت، وما يحرِّك عائلة الخوف في المقام الأول هو الحاجة للأمان. وغالبًا ما تتمكَّن عائلة الخوف من ضحاياها باستخدام الذعر حينما يشعر الضحايا بالضغط الشديد فيغرقون تحت وطأة القلق المُفْرِط. ويشعر الضحايا عادة بالذُّعْر لدرجة تمنعهم من المجازفة بالخروج والمبادرة بإنقاذ أنفسهم. ولافتقادهم القدرة على مقاومة القلق، فهم يغرقون فيه بسهولة. ويمكن أن تتضمَّن اضطرابات الشخصية ذات الصلة: الوسواس القهري، والشخصية التجنُّبية، والشخصية الانهزامية، والقلق العام، والرهاب. والسلاح المفضل لعائلة الخوف هو «الإرهاب المُطْبِق».
فرانكلين روزفلت والعراب
الرجل الذي تكلَّم بهذه الكلمات — وهو فرانكلين روزفلت — عرف كيف يمكن للخوف أن يُصيب بالإعاقة. أصيب روزفلت بشلل الأطفال وهو في التاسعة والثلاثين من عمره وفَقَدَ القدرة على استخدام ساقيه، وواصل روزفلت محاولة تحقيق طموحه السياسي بإرادة حديدية. وقد ذكرت زوجته، إلينور: «أعلم أنه انتابه خوف حقيقي في بداية مرضه، لكنه تعلَّم أن يتغلَّب عليه. وبعدها لم أسمعه قط يقول إنه يخاف أي شيء.»
وأثناء ولاية روزفلت كرئيس، كان مسئولًا عن قيادة الولايات المتحدة في مرحلة من أكثر المراحل صعوبة في تاريخها، وهي الفترة التي شهدت الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية. وفي خطاب تنصيبه الأول عام ١٩٣٣، دعا شعبه لمواجهة أكبر مخاوفه. فواجه روزفلت الكوارث الاقتصادية الضخمة والتوقعات السيئة التي تلت، ووحَّد أمته بخطاب ملهم تضمَّن العبارة الخالدة السالفة الذكر، وكلمات تنمُّ عن التحدي ترددت أصداؤها عبر الأجيال. وقد اتخذ روزفلت نهجًا تكتيكيًّا ثابتًا وقت الحرب وطبَّق سياسة خارجية واضحة بصفته زعيم حرب عام ١٩٤١. وبعد انتهاء الحرب، لم يتخلَّ روزفلت عن أَمَلِه القوي بقدرة الأمم المتحدة على الحفاظ على السلام بالتعاون مع حلفاء الحرب السابقين. وإنجازاته تذكِّرنا بأنه «ليس هناك شيء لنخشاه سوى الخوف نفسه.»
-
الخوف من الفشل.
-
الخوف من المجازفة.
-
الخوف من المجهول.
(أ) المشتَبَه به الأول: الخوف من الفشل
إنه الطاغية الغاشم الذي يخيف أكثر الناس بسالة، وهذا المجرم المعروف يترعرع على الخوف من تجربة الأفكار الجديدة والخوف من احتمالية الفشل. ويقول دكتور جيسون إن الأفراد المبدعين عليهم أن يتَّسِموا بالمرونة، إذا واجههم الرفض، والاكتفاء الذاتي وتقوية الذات. والسِّيَر الذاتية لكبار الفنانين وكبار العلماء تبدأ تقريبًا دائمًا بفترة طويلة من عدم الاعتراف بهم. وهذا عامل مهمٌّ يستبعد كثيرًا من الناس من أن يكونوا مبدعين إنتاجيًّا. فالتغلب على الشعور بعدم الأمان حيال الإبداع هو لأصحاب القلوب الجريئة.
النجاح مصدر دعم عظيم، لكنه تجربة تعلُّم رديئة. فأنا أفضِّل اقتحام رأس الرياضي الذي فشل وعاد مرة ثانية عن ذلك الذي تُوِّج بالنجاح.
-
إذا انحرفت سفينة عن مسارها فهي لا «تفشل» ببساطة؛ إذ يدرك الربان أنه بحاجة إلى تصحيحٍ لإعادة السفينة إلى مسارها. إذن فلغة المؤسسة حول «الفشل» أمر في غاية الأهمية للإبداع.
-
مصرف إيج، ومقره في المملكة المتحدة، خاطَرَ بالفشل حينما حاول أن يكون مُفْرِطَ الابتكار. تأسَّس مصرف إيج عام ١٩٩٦ — وكان تابعًا فيما سبق لمصرف برودنشال بانكينج العام المحدود — كأول مصرف في العالم يعتمد على الإنترنت بنسبة مائة في المائة. ويتخصص مصرف إيج في الادخار وبطاقات الائتمان والقروض لكنه أيضًا يقدِّم الرهن العقاري وبرامج التأمين، وكانت تدار حساباته عبر الإنترنت أو عبر مركز الاتصال فقط. وفي عام ٢٠٠٧، باع برودنشال مصرف إيج لمجموعة سيتي جروب مقابل ٥٧٥ مليون جنيه استرليني.39
قد يكون الفشل في الواقع محمودًا في شركة مثل ثري إم. فهناك وقعت قصة ربما تكون مشكوكًا في صحتها؛ إذ عندما ارتكب موظف خطأً فادحًا كلَّف الشركة مليون دولار، سُئل رئيسه إذا كان سيطرده، فأجاب: «أطرده؟ لقد اكتسبنا للتوِّ تجربة تعلُّم قيمتها مليون دولار!» لن يكون جميع المديرين متسامحين هكذا؛ إلا أن المؤسسات التي تأخذ الإبداع على محمل الجد قد تكون كذلك، في حالة إذا كانت النوايا والمناهج إيجابية.
ولاستيعاب أهمية تقبُّل الفشل، انظر إلى مُنْتَجَيْنِ من منتجات شركة أبل نسيناهما منذ فترة طويلة، وكذلك الدور الذي لعباه في تاريخ الابتكار. فلم تتمكَّن شركة أبل من الاحتفاء بالنجاح المبهر لجهاز الكمبيوتر الشخصي ماكنتوش إلا بعد الفشل الذريع لجهاز أبل، ليزا، الذي سبق ماكنتوش. وعلى الأرجح يتساءل الكثير منكم ما هذا الليزا؛ إنه المُنْتَج الذي تلاشى في غياهب النسيان، إذ كان باهظ الثمن وبطيئًا؛ مما أعطى شركة أبل درسًا لن تنساه. كما كان لأبل فشل منسيٌّ آخر في المساعد الرقمي الشخصي نيوتن، وهو أول منصات الأجهزة اللوحية، لكن هذا الفشل أعقبه جهاز آي باد. إذن هل كانت التكلفة مجدية؟ بالطبع كانت كذلك!
وركزت حملة دعائية جديدة لشركة أبل على حقيقة أن الأشخاص المبدعين البواسل على استعداد للمجازفة بالفشل. فشعار أبل هو «الفشل بذكاء»؛ إذ وُلد الماكنتوش من حطام الليزا، وتلا الآي فون ذو الشعبية الكبيرة إخفاق الهاتف الموسيقي الأول لأبل الذي أُنتِج بالتعاون مع شركة موتورولا. وفي المرتين تعلمت أبل من أخطائها وكررت المحاولة. فتقوم أجهزتها الحديثة على التكنولوجيا التي طوَّرتها شركة نيكست، وهي شركة أسسها ستيف جوبز في ثمانينيات القرن العشرين وباءت بالفشل، فحازت ملكيتَها أبل بعد ذلك. والدرس الأشمل الذي نتعلَّمه من ذلك هو ألا نشجُب الفشل بل نتعلَّم منه.
(ب) المشتَبَه به الثاني: الخوف من المجازفة
وعلى أرض الواقع في الأعمال الاقتصادية، يخشى العديد من الناس خسارة وظائفهم، ومن ثَمَّ لا يجازفون إلا قليلًا. وفي بعض الأحيان يخشى الناس من تقديم أفكار إبداعية في المواقف الجماعية أو يخشون عرضها على آخرين في المؤسسة خوفًا من أن تُقابل بالرفض أو الازدراء. لكنَّ بناء الثقة الكافية للخروج والمجازفة هو الفيصل بين النجاح والفشل على المدى الطويل.
(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: الخوف من المجهول
في البداية، كانت وحوشنا ومخاوفنا تأتي في الليل، حين لم نكن نعلم ما يقبع في الظلام وراء أراضي بيتنا. وفي الوقت الذي كانت فيه الغابة لا تزال لغزًا، كانت مخاوفنا تقبع في أعماق الغابة، وما إن فهمنا الأرض حتى انتقلت إلى المحيطات، والآن بعد أن ركبنا البحار انتقلت وحوشنا ومخاوفنا منها إلى الفضاء الخارجي وما هو خارق للطبيعة.
منذ عام ١٩٤٠ بدأت صحة روزفلت في التدهور. وبحلول عام ١٩٤٤، عندما بلغ الثانية والستين من العمر، انتكست صحته انتكاسًا حادًّا، وكشفت التحاليل أن إجهادات جسده بسبب طريقة تعامله مع الشلل الذي أصيب به، وإجهاد العمل، وسنوات التدخين قد قضت عليه تمامًا. وفي عصر يوم ١٢ أبريل عام ١٩٤٥، قال روزفلت لكبير خدمه: «أشعر بألم مريع في مؤخرة رأسي.» قبل أن ينهار على كرسيه فاقدًا الوعي. ومات بعدها بفترة وجيزة بسبب سكتة دماغية؛ أي نزيف حادٍّ في المخ. فالرجل الذي لم يُظْهِرْ أيَّ خوف خلال فترة قيادته الطويلة، والذي تحمَّل بشجاعة بالغة الحملَ الإضافي لعجزه، هزمه الضغط أخيرًا، وهو القاتل التالي في قائمة المشتَبَه بهم.
لا تخف من اللصوص أو القتلة؛ فهم أخطار خارجية، أخطار تافهة. ينبغي أن نخشى من أنفسنا … المخاطر الكبيرة توجد بداخلنا، لماذا نقلق مما يهدد رءوسنا وجيوبنا؟
فلنفكِّر أولًا فيما يهدد أرواحنا.
تقرير المحقق
هل قابلت نمط الخوف هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:
• قمع الثقة في تجربة أشياء جديدة. | |
• عدم القدرة على المجازفات. |
أثره على الضحايا:
• الذعر: عدم القدرة على التفكير في الخيارات بوضوح وبإبداع. | |
• الشلل: عدم القدرة على اتخاذ أيِّ تصرف. | |
• النزعة إلى الهروب من التحديات. |
(٢) المرحلة الثانية: التقييد – استخدام الضغط والعزل لتقييد الأفكار
المرحلة الثانية من عملية القتل تقيِّد التفكير وتتضمَّن «جماعة الضغط»، وهم القتلة الذين يُدخِلون التوتر والإجهاد غير المبرَّرين إلى بيئة العمل، و«زمرة العزل»، وهم القتلة الذين يعزلون ضحيتهم ويحاصرونها.
(٢-١) نمط القتل الثالث: جماعة الضغط
أولئك الذين يجسدون هذا النمط يحركهم بناء التوقعات غير الواقعية والضغط على ضحاياهم إلى أقصى حد. ومع الوتيرة المتسارعة للحياة والزيادة الكبيرة في سرعة الاتصالات، يظهر نمط الضغط في كل مكان في المجتمع. ويقضي هذا القاتل الجذاب على ضحاياه عبر وضع قبضته الخانقة على أعناق التوقعات، سواء الواقعية أو المتخيَّلة. وأُولَى الإشارات الدالة على أن القاتل ينتمي لهذا النمط في العمل هي الشعور بالإجهاد، وهو ما كشف عنه نطاق واسع من الأعراض الجسدية والنفسية التي قد تَكُون قاتلة. إن قبضته المتينة على ضحاياه غالبًا ما تُصيبهم بالهلع وتشلُّ حركتهم، وتستنفد طاقتهم، وتسلب منهم الوقت لإنقاذ أنفسهم باستراتيجيات إبداعية، فيختنقون في نهاية المطاف. والاضطرابات الشخصية المرتبطة بهم هي: التمثيلية والشخصية الحدية والمُدمنة. وسلاحهم المفضل هو «الإجهاد الخانق».
انتحار نجم الروك والموت اختناقًا
مات مايكل هاتشينس — المغني الرئيسي الجذاب لفريق إن-إكسيس الذي لاقى نجاحًا عالميًّا — ميتة جديرة بأن تُذكر في الصحف الصفراء، تمامًا كما عاش حياة مثيرة. ففي عام ١٩٩٧، عُثِرَ على مغنِّي الروك الشهواني ذي السبعة والثلاثين عامًا معلَّقًا بمشنقة صنعها بيديه في فندق ريتز كارلتون في سيدني. وترددت الشائعات وقتها أنه كان يحاول منع دخول الأكسجين إلى دماغه عمدًا لغرض الاستثارة الجنسية؛ وهو سلوك يُعرَف طبيًّا باسم الاختناق الجنسي الذاتي. فعندما ينقبض الشريانان الرئيسيَّان على جانبي الرقبة (الشريانان السباتيان)، ينتج عن ذلك انخفاض في كمية الأكسجين التي تصل إلى المخ؛ مما يحفز حالة من الصفاء شبيهة بالهلوسة تسمى نقص التأكسج. ويُقال إن هذه «الهجمة» من الهلوسة — بالإضافة إلى نسبة الدوبامين المرتفعة التي ينتجها الإرجاز الجنسي — شديدة الإمتاع؛ ولذا تسبب إدمانها، ولا يختلف تأثيرها عن تأثير بعض المخدِّرات القوية.
إنَّ الموت خنقًا طريقة درامية للموت، كما تظهره الكثير من المسلسلات التليفزيونية والأفلام. فتلهث الضحية سعيًا وراء الهواء بينما ينحبس الدم عن المخ وترتفع معدلات ثاني أكسيد الكربون إلى معدلات سُمِّية. وبالمثل، عندما تؤدِّي الالتزامات والتوقعات إلى ضغط عارم، تنحبس طاقتنا الإبداعية، وتُعرقَل وظائف المخ الطبيعية. وهذا النوع من المجرمين لا يقتل إلا إذا كان قريبًا من الضحية، ولا يترك أيَّ آثار مرئية.
يشهد الناس الضغط اليوم بعدة طرق مختلفة. فوتيرة الحياة المتسارعة أدَّت إلى زيادة المتطلبات في العمل، وصار المتوقع من الأفراد هو قضاء ساعات عمل أطول مع زيادة التزاماتهم الشخصية. والنتيجة هي أننا جميعًا نَجْرِي بسرعة أكبر فقط لأجل البقاء في الرقعة نفسها، مكافحين من أجل الوفاء بهذه الالتزامات. فالمزيد من مواعيد تسليم الأعمال، والكميات الهائلة من سبل التواصل التي يجب التعامل معها خلال البريد الإلكتروني والفيسبوك والهاتف المحمول وتويتر، وقوائم المهام التي تزداد بنودًا ويتعيَّن النظر فيها، والتوقعات الخيالية للأبناء من الآباء، وتدخُّل الآباء في شئون أولادهم، كلها أنشطة لا مَفَرَّ من أدائها وهي أيضًا تعرِّف «سباق الفئران» الذي علينا جميعًا أن نتكيَّف ونتعامل معه.
الضغط هو ذلك القاتل الذي ما إن يُسمح له بالدخول حتى يبقى عبئًا دائمًا، مثله كمثل انغرازك في فيلم رعب لا يمكنك فيه الهربُ من إحساس مروِّع بوقوع كارثة. قد يبدو في البداية كصحبة طيبة، إذ يمكن أن يبدو قضاء الوقت في ظل وجود الضغط أمرًا ممتعًا يبعث على النشاط. ولكن لن تمضي فترة طويلة حتى يبدأ في فرض سيطرته وإحكام قبضته. وقد يبدو الضغط غير ضارٍّ لهذه الدرجة إذ يمتلك ذلك الحضور المألوف كما لو كان صديقًا قديمًا يطرق بابك بين الحين والآخر لتبادل الحديث. وأظهرت الأبحاث أننا كلما اعتدنا على أمر ما، بدأنا في رؤية ملامحه جذابةً، لكن في حالة الضغط يصير الأمر أكثر خطورة. وقبل أن تدرك الأمر، يكون الضغط قد استقرَّ في بيتك مثل الحماة غير المرغوب فيها، ويزداد هيمنةً فلا يُبْقِي مجالًا إلَّا للقليل في حياتك. وعندما يفرض الضغط سيطرته الكاملة، لا يكون هناك ببساطة أي متسع (أو وقت في اليوم) للإبداع. ربما تمنحك الإجازة ارتياحًا مؤقتًا، لكن يبقى الضغط في انتظارك، مُرحبًا بك في البيت في اللحظة التي تعود فيها إلى روتينك المعتاد.
تحت الضغط، تكون الاستجابة الغريزية للجسم هي إما «القتال أو الفرار أو التجمد في موضعك»، فمن الممكن أن يؤدي الإفراز الدائم للأدرينالين إلى مشكلات في التعامل مع الغضب والانفعال، أو ما يسمى بردِّ فعل القتال. والفرار يقدم حلًّا مؤقتًا ليس أكثر، وفي نهاية المطاف، سيلاحقك الضغط ويواجهك من حيث لا تتوقع؛ ولذا تحتاج معظم الضغوط إلى التعامل معها بدلًا من الفرار منها. ومن الواضح أنك إذا تجمدت في موضعك، فإنك ستكون في خطر كبير، وستقع ضحية للضغوط أسرع مما كنت تتوقَّع.
-
الإجهاد المفرط.
-
تعدد المهام وإدمان التكنولوجيا.
-
زيادة التوقعات.
(أ) المشتَبَه به الأول: الإجهاد المفرط
الإجهاد أشبه بشخصية بارزة في المجتمع تتميز بعبثها وجاذبيتها؛ فهو قاتل نشط جدًّا لكن كونه قاتلًا أمر لا يعرفه الجميع، فهو يعمل بكفاءة عبر نهج خفي وساحر. وغالبًا ما يتسكَّع حول الآخرين في جماعة الضغط، ويتواصل معهم حتى يقتلهم أينما واتته الفرصة لذلك. وأغلب الناس يستمتعون بقضاء الوقت معه لكنهم عندما يُدرِكون أنه يستنفد طاقتهم من أجل إمتاعه يكون بالفعل قد سلبهم حياتهم. ووجوده المستمر يحفز مجموعة كبيرة من الأعراض الجسدية والشعورية. وتبدأ هذه الأعراض بمشكلات تبدو ظاهريًّا تافهة مثل فقدان القدرة على النوم، والصداع واضطرابات المعدة وآلام المفاصل، ولكنها تؤدِّي في نهاية الأمر إلى أمراض سرطانية وسكتات دماغية وأمراض القلب فضلًا عن الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والاضطراب الثنائيِّ القطب والإدمان والعُصاب والذهان. يمكن للإجهاد أن يقتل بطرق مختلفة.
إذا كان لنا أن نشبه الإجهاد بمصطلحات الطب النفسي، فقد نساويه باضطراب الشخصية التمثيلية. فوفقًا لتعريف الجمعية الأمريكية للطب النفسي، يتَّسِم اضطراب الشخصية التمثيلية بنمط من «المبالغة في الانفعال والسعي لجذب الانتباه، بما في ذلك الحاجة الملحَّة للاستحسان والسلوك المغوي غير اللائق. فهؤلاء الأفراد الذين يعانون هذا الاضطراب يمتازون بالحيوية والمبالغة في ردود الفعل والنشاط والحماسة والعبث. أما السمات المتصلة بالشخصية فتشمل السلوك الأناني والانغماس في الذات والتَّوق المستمر لجذب التقدير، والسلوك المتلاعب المستمر لإشباع احتياجاتهم الفردية.» فالأشخاص المصابون بهذا الاضطراب غالبًا ما تكون لديهم مهارات اجتماعية بارعة ويمتلكون القدرة على التعامل اجتماعيًّا ومهنيًّا على مستويات عالية، لكنهم يَمِيلون إلى استخدام هذه المهارات للتلاعب بالآخرين وكي يصبحوا محطَّ الأنظار.
بات شائعًا الآن أن يبدأ الناس حديثهم بسؤالك عن مدى انشغالك، ويكون الرد الشائع والمقبول هو أن تشيح بعينيك ثم تشير إلى كم الإجهاد المُفْرِط الذي تَقَعُ تحته في الوقت الحالي (هذا هو الرد نفسه في كل مرة تُسأل فيها). وغالبًا ما يرتدي المديرون التنفيذيون الذين يتفاخرون بكونهم أسرى الإجهاد شارةَ الضغط كوسام شرف على صدورهم، فهم يشعرون أنهم في أفضل حال حين يعبرون عن انشغالهم الدائم ووقوعهم تحت الضغط.
إذن لماذا وكيف يقتل الإجهاد الإبداع؟ في الحقيقة تستطيع الضغوط الحديثة العصف بالمخ؛ مما يستنفد الطاقة والموارد المتاحة — لولاه — من أجل التفكير الإبداعي. يجب أن يُعالَج التفكير الإبداعي من خلال الفص الجبهي الانعكاسي الأكثر تعقيدًا في المخ، وعندما نكون تحت ضغط أو في حالة من القلق، وعندما نشعر بعدم الأمان أو عدم سماع الآخرين لصوتنا، توجه الموارد المُخِّيَّة إلى التعامل مع الاحتياجات الفورية لوظائف البقاء الأولية للجذع الأساسي في المخ. ووفقًا لعلماء الأعصاب فإن الإجهاد المستمر أو الزائد قد يدمِّر خلايا المخ وهيكله ووظائفه مما يُسفر عن أعراض جانبية مثل اعتلالات في الذاكرة والاكتئاب. كما يعمل الإجهاد على منع استبدال الخلايا في الحصين؛ وهي واحدة من المناطق القليلة في المخ التي تستطيع تكوين خلايا جديدة على مدار حياة الفرد. وكلتا الظاهرتين تؤثِّران على خلايا التواصل والذاكرة بالمخ.
إنَّ الإجهاد في العمل يمثِّل قاتلًا بارزًا في اليابان حتى إنهم اخترعوا كلمة لوصفه وهي «كاروشي» ومعناها الحرفي هو «الموت من فرط العمل»، وتشمل جميع القتلة في العمل الذين يأتون بغتةً مثل النوبات القلبية والجلطات. والكاروشي سبب معروف للموت في اليابان وقد ورد في تصنيف منفصل في إحصائيات الدولة. وفي اللعبة الشهيرة متعددة المنصات المسماة كاروشي أيضًا، يواجه اللاعبون الموت كلما انتقلوا من مستوًى إلى آخر!
على الرغم من جميع تلك المخاطر، يمكن أن يكون الإجهاد بنَّاءً إذا أُدِير بطريقة سليمة. فيمكن ﻟ «الإجهاد الحسن» أن يحفز الدافع والتنفيذ. ففي بعض الأحيان يعمل الناس بأقصى طاقاتهم حتى مواعيد التسليم؛ فبعض الكُتَّاب على سبيل المثال يضعون لأنفسهم أهدافًا محددة مثل إنتاج عدد محدد من الكلمات يوميًّا أو المحافظة على تركيزهم المنضبط لعدد ساعات محدد. وقد يحسِّن الطلاب التركيز حينما يُدركون أنهم يستعدون للاختبارات. لكنَّ هناك خيطًا رفيعًا بين الإجهاد البناء وهو ما يتحمله الجسم لفترات قصيرة من الوقت فقط، والإجهاد الهدام وهو غالبًا حالة مطولة لا يستطيع الجسم أن يتعامل معها على المدى الطويل.
(ب) المشتَبَه به الثاني: تعدد المهام وإدمان التكنولوجيا
إنَّ مراقبة الآباء لطريقة دراسة المراهقين قد تجلب لهم التوتر هذه الأيام؛ إذ إننا قديمًا كنَّا نسعى للدراسة في مكان هادئ، إلا أن الأبناء الآن يتعرَّضون باستمرار لوابل من فرص التواصل المتعددة عبر الأجهزة الإلكترونية التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى والتي لا يمكنهم إطفاؤها بكل ما تحمل الكلمة من معنًى. فمثلًا حينما كانت زوي في عامها الأخير في المدرسة وتذاكر استعدادًا للامتحانات النهائية، غالبًا ما كانت تجلس أمام التلفاز وكتاب الدراسة في يدها والموسيقى في أذنيها وهاتفها الذكي يرن في جيبها لينبِّهها بأمر يخصُّ أصدقاءها في الوسائط الاجتماعية والذي لا بد من الرد عليه فورًا. بالنسبة لنا، هذا المستوى من المدخلات قد يُربِكنا، لكن يبدو أن الشباب اليوم يتطوَّرُون بسرعة للتعامل مع مصادر المعلومات المتعددة في نفس الوقت.
إنَّ التكنولوجيا الحديثة توفر علينا الوقت بلا شك، إلا أنها قد تسبِّب ضغوطًا إضافية؛ حيث إن أنشطة العمل والأنشطة الترفيهية تدور حول متطلبات التواصل التكنولوجي الغامرة. وبالطبع يمكننا إتقان تعدد المهام، إلا أننا كثيرًا ما نصير دون وعي عبيدًا لها في نهاية المطاف. ومع تزايد سرعة تكنولوجيا الاتصالات، تُتوقع زيادة سرعة الاستجابة مما يصرفنا عن فرص التفكير الإبداعي.
(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: ارتفاع سقف التوقعات
أصبح ضيق الوقت المزمن مُعضِلة كبيرة في المجتمعات السريعة الخُطى. فجميعنا يشتكي من عدم كفاية عدد ساعات اليوم الواحد. ولكن إذا كان اليوم أطول، فمن المحتمل أن نملأ الوقت المتاح بكافة الأنشطة «العاجلة» التي إما فُرضت علينا وإما أعددناها بأنفسنا.
ومن أكبر مصادر الضغط في الحياة العصرية الصراعُ بين الأدوار. فكلنا نلعب عددًا من الأدوار المختلفة في حياتنا، وكلما زادت التوقعات في كلٍّ من هذه الأدوار، ازداد حجم الضغط الإجمالي الذي نتعرَّض له. وتتنافس مختلف الأدوار الشخصية والمهنية للحصول على وقتنا واسترعاء انتباهنا. ففي البيت دائمًا ما نتصارع مع الأدوار والمسئوليات الأسرية والاجتماعية، بينما أننا في وظائفنا أيضًا نحتاج إلى أن نتنقل بين الأدوار الرسمية وغير الرسمية التي تنافس بعضها بعضًا. وتظهر أكبر مشكلاتنا عندما لا تتحدد أدوارنا في العمل بوضوح، فتكون التوقعات والحدود غير واضحة. وهذا قد يؤدي إلى ارتباك الأدوار والإحباط؛ مما ينتج عنه السخط الوظيفي وزيادة الضغط.
تقرير المحقق
هل قابلت نمط الضغط هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:
• العمل كرهًا لتحقيق توقعات غير واقعية. | |
• خلق إجهاد غير منطقي. |
أثره على الضحايا:
• الارتباك. | |
• الإحباط. | |
• صعوبة في إدارة الوقت وتحديد الأولويات. |
(٢-٢) نمط القتل الرابع: زمرة العزل
يُعرف من ينطبق عليهم هذا النمط أيضًا باسم القتلة العازلين، وهم يستخدمون مزيجًا فتاكًا من التفرقة والتجانس حتى يجبروا الضحية على الامتثال لتحيزاتهم. فهم يضعون ضحاياهم في حَجْرٍ، بعيدًا عن الأفكار والمعلومات المختلفة، ويمنعون عنهم الآراء المتنوعة ومن ثم الحصول على أي أدوات محتملة قد تُنقِذ حياتهم. فلا يمتلك الضحايا إلا خيارات محدودة دون درايتهم بذلك؛ إذ يتعرَّضون للتجريح والضرب حتى يخضعوا، ثم يموتون بسبب الإصابات المتراكمة التي تشمل الضربات الخفية الموجهة إلى قدرتهم على التفكير بشكل مختلف وباستقلالية. ولأن القتلة الذين ينطبق عليهم هذا النمط يشكِّلون زُمَرًا حتى داخل المجتمعات ذات الطبيعة المتنوعة ظاهريًّا، فإنهم يفلتون من جرائمهم في وضح النهار. وهذا النوع من القتلة يميل إلى النرجسية، وسلاحه المفضل هو «الانحياز الصارم».
الحبس الانفرادي وحب الذات الخبيث
وهذا الهوس بالنفس وبالمصالح التي تتعلَّق مباشرةً بالذات يحد الطاقات الإبداعية ويُعيق النموَّ الإبداعي. فالعزل قاتل خبيث، لا يشعر ضحاياه بأن خياراتهم محدودة، ولا أنهم قد تحوَّلوا إلى شخصيات متحيِّزة خلال العملية. ويتسم العزل أيضًا بالإغواء فيبدو جذَّابًا إلا أنه يُخفي أسراره الخبيثة.
عندما كانت ابنتنا زوي طفلة، عاشت وسافرت معنا إلى دول أخرى قبل أن ننتقل مرة أخرى للعيش في منطقة نورذرن بيتشيز، حينما كانت في أواخر سنوات مراهقتها. وعندما التحقت بمدرسة محلية في عمر الرابعة عشرة، علم الطلاب بأنها انتقلت لتوِّها من مدرسة في إندونيسيا. وتعجَّب أحدهم قائلًا: «لكنني كنت أظن أن أطفال إندونيسيا ذَوُو بشرة سمراء وشعر أسود!» (زوي بيضاء البشرة وشقراء!) وذعرت زوي حينما اكتشفت أن بعض زملائها في الدراسة ليست لديهم أدنى فكرة من هو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما، وقالوا إنهم لا يكترثون إذ إنهم يرون بأن تلك معلومات لم تكن ذات أهمية. وفي اختبارات الجغرافيا، يرتكب الطلاب أخطاءً فادحة مثل عدم التفريق بين الهند وأفريقيا على الخريطة وتسمية جامايكا واحدة من القارات السبع.
التغلب على العزل، إذن، سيتضمَّن استراتيجيات نمو حذرة تضمن تفتح الذهن والوصول إلى أفكار جديدة، لتمكين الابتكار المستمر، وأيضًا من أجل مواصلة مساءلة النظام وإعادة إنتاجه وإلا دمر الابتكار في نهاية المطاف.
-
مصادر المعلومات المتحيزة (مثل وسائل الإعلام).
-
ملازمة الأشخاص المتشابهين فكريًّا (التجانس).
-
الافتقار إلى التنوع.
(أ) المشتَبَه به الأول: مصادر المعلومات المتحيزة
والتحدي الأكبر الذي نواجهه الآن هو تحديد أين نضع أكثر الموارد قيمة، وهو انتباهنا؛ ومن ثم «عاطفتنا». فحينما تكون مصادر معلوماتنا محدودة من حيث المضمون لكنها كبيرة كمًّا، لا يمكن للعقل أن يتكيف معها ببساطة. والشيء الجيد في وسائل الإعلام هو أننا — إلى حدٍّ ما — يمكننا أن نطفئها أو أن نختار برامج إيجابية تفتح عقولنا أمام أفكار ومعلومات جديدة وتحفز التفكير الإبداعي. وما دمنا نتحكم في جودة ما نتعرض له وكمه، وما دمنا نتخذ نظرة تشككية إيجابية في الدوافع الكامنة وراء آراء وسائل الإعلام، يمكن للإعلام أن يفتح نافذة إيجابية على العالم وأن يكون حليفًا وليس قاتلًا.
(ب) المشتَبَه به الثاني: ملازمة الأشخاص المتشابهين فكريًّا
-
المدركات الحسية للفريق (الطريقة التي يشعر بها الفريق).
-
عمليات الفريق (طريقة تفكير الفريق).
-
إجراءات الفريق (الطريقة التي يتصرَّف بها الفريق).
عندما عينت شركة إتش بي بيتر كارولتشيك لكي يؤسس لمشروع برمجة جديد، قال إنَّ أول مبدأ سيطبِّقه هو اكتساب تصورات متعددة من خبرات مهنية متنوعة؛ أي تسخير قوة إبداع الفريق. وبمجرد حصول الأفراد على الفرصة لتطوير قدراتهم الإبداعية، على الفِرَق أن تكون مهيأة لعملية الابتكار الإبداعي، ثم تنفيذها في المؤسسة. وستظل دائمًا الأفكار والاحتمالات الإبداعية قيد التحسين على يد الفريق، بشرط أن تكون الهياكل والاستراتيجيات في مكانها السليم لدعم عمليات الفريق.
فحيثما وُجد اتصال ملائم بين الإبداع الفردي وعمليات الفريق، يسهل الانتقال من مفاهيم فردية بسيطة إلى حلول معقدة. وتستفيد العمليات الإبداعية بشكل هائل من المدخلات المتمثلة في نطاق التصورات والأفكار. يستطيع المرء أن يبني بوتقة للأفكار الإبداعية من مساهمات مختلف الأشخاص، ومن خلال دمج تصوراتهم المختلفة بكفاءة؛ إذ يستغل إبداع الفرق مواهب الأفراد الإبداعية ويدمجها لتقديم نتيجة مذهلة. ليس كل البشر مبدعين، من حيث قدرتهم على خلق شيء من لا شيء أو تصميم وتشكيل تصورات جديدة غير اعتيادية عن طريق الفن، لكن الجميع يستطيع المساهمة في العملية الإبداعية من خلال استخدام نقاط القوة لديهم. ويشكل الناس ائتلافًا عند اتحادهم لإيجاد حل لمشكلة ما، فيأتي كل عضو بأفكاره وطاقاته الخاصة الفريدة.
(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: الافتقار إلى التنوع
كلما طالت فترة عملك في الشركة، زاد خطر انفصالك عن الحياة الواقعية (فيما يخص الكيفية التي يفكر بها العملاء ويشعرون ويتصرفون) وزادت احتمالية تبنِّيك للتفكير الجماعي. فعندما يعتقد عدد كبير من الناس اعتقادًا جماعيًّا بأنهم خبراء، يضيق نطاق الاحتمالات وتتقلَّص القدرة الإبداعية على حل المشكلات. وفي مواقف العمل، هذا الأمر يمكن أن يعني أيضًا أن هناك ضغوطًا لأنْ نتوافق مع الآخرين، وأنه من الممكن أن يغير أحدهم رأيه، ليس موافقةً، بل لأنه يرى أن التوافق مع قرار المجموعة أسهل من مخالفتها. وتتبنى كثير من المؤسسات المختلفة ثقافة مشابهة من الاعتماد على القادة؛ مما يعيق حركة التنمية نهائيًّا.
قد يكون تبني التنوع أمرًا مخيفًا، بل ربما حتى يعتبر طريقًا محفوفًا بالمخاطر. وعلى النقيض من ذلك، فإن عدم قبول التنوع يؤدي إلى الانهيار. ويقضي جزء من نظرية جيفري ويست بأن المدن تحتاج لأن تتقبل التنوع بصورة أكبر من المعتاد، بل وتدعم حتى الأشخاص المجانين ولهذا السبب تستمر في النمو. وخلافًا للمؤسسات التي لا يمكنها أن تتقبل إلا من ينصاعون ويمتثلون للأوامر ويتسنى لها بكل سهولة تسريح من تعتبرهم مجانين؛ تتسبب المدن في إحداث التقبل. وقد صوَّر ويست ذلك بقوله: «إذا ذهبت إلى جنرال موتورز أو إلى الخطوط الجوية الأمريكية، فلن ترى أناسًا مجانين، فالمجانين يُفصلون من العمل.»
من الممكن أن ينتج عن الحرمان الحسي سواء المطول أو القسري — مثل ما يُرى في الحبس الانفرادي — شعور بالقلق الشديد والهلوسة والأفكار الشاذة والاكتئاب. إنه وسيلة فعالة للتعذيب، إلا أن الفترات القصيرة من الحرمان الحسي توصف بأنها شكل من أشكال التحرر من الضغط يبعث على الاسترخاء، كما أنها تُفضي إلى التأمل. وتُستخدم أحواض الطفو أو العزل في بعض الأحيان كوسيلة لتخفيف حدة التوتر وخفض ضغط الدم وزيادة تدفُّقه. فبعد مرحلة أولية من الشعور بالقلق والتململ والحكة الاضطرارية (ويُشار إلى هذا الشعور أيضًا في بعض الأحيان أثناء المراحل الأولى لعملية التأمل)، عادةً ما ينتقل الشخص داخل حوض الطفو بصورة نموذجية من الموجات المخية ألفا وبيتا إلى موجات ثيتا. ويحدث وقوع هذه الموجات في العادة بين فترات النوم والاستيقاظ، ويمكنها أن تحفز حالة من الحلم الإبداعي. ومن الممكن أيضًا استخدام أحواض العزل هذه لتوليد مشاهد تصويرية مركزة وخلق التفكير الإبداعي. ولهذا من المهم استغلال هذه الفرص بغرض الخلوة الشخصية بمعناها الإيجابي، مع ضمان ألا تعزل الإنسان أو تعود بنتائج عكسية عليه، وألا تصبح حالة عقلية دائمة.
تقرير المحقق
هل قابلت نمط العزل هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:
• الانعزال عن نطاق واسع من الآراء والأفكار. | |
• النزعة إلى تجاهل الآراء والأفكار المخالفة أو محاربتها. | |
• تشكيل الزُّمَر. |
أثره على الضحايا:
• ضيق الأفق. | |
• الميل إلى التحيز الضار والتعصب الأعمى أو التمييز في المعاملة. |
(٣) المرحلة الثالثة: التدهور – تثبيط النمو بسبب اللامبالاة
تشير المرحلة الثالثة من عملية القتل إلى تأثير «القمع» و«التقييد» على الفرد وتسلِّط الضوء على «عشيرة اللامبالاة»، وهم الأفراد المتبلِّدون الذين ينتهي بهم المطاف وهم يعذِّبون الآخرين للتعويض عن انفصالهم عن العالم وعدم اكتراثهم.
(٣-١) نمط القتل الخامس: عشيرة اللامبالاة
القتلة الذين ينطبق عليهم نمط «اللامبالاة» يفتقرون إلى الحافز والدافع. وغالبًا ما يقع هؤلاء الأشرار أنفسهم ضحايا للأنظمة التي أماتت إرادتهم لتحقق النجاح. فدون حافز أو دافع لإحراز التقدم وتحقيق الإنجازات، وبوجود الرغبة في رؤية الآخرين يعانون نفس الألم، غالبًا ما يُعيق هؤلاء القتلة الخطرون النمو بصورة ملحوظة. فيتخلصون من القامات ويقوِّضون جميع الجهود المبذولة في سبيل التنمية. وغالبًا ما يُلاحَظ هذا النمط في التهكم الجارح والسخرية اللاذعة؛ فيشعر هؤلاء القتلة بالازدراء نحو من يساعدون على إنقاذ الأرواح أو من يعززون التقدم، فيوغرون طعناتهم لتخترق قلوب ضحاياهم وأعضائهم الحيوية اللازمة لبقائهم. وتموت الضحية إما على الفور أو تنزف ببطء حتى تفارقها الروح إذ تفرغ منها إرادتها للحياة. وأنماط اللامبالاة تتَّسِم في الغالب بالفصام، وسلاحها المفضل هو «الخمول الفتاك».
إنتاج الذهب من البول
في عام ١٦٧٥، أقنع ألماني يسمى هينينج براند نفسه بإمكانية إنتاج الذهب من بول الإنسان بعد تقطيره. وكان هينينج في كل ليلة يجمع بوله في دلو حتى خزَّن خمسين دلوًا ممتلئة ببوله في قبوه على مدى أشهر. وبعد فترة من الزمن، بدأت المادة تتوهَّج وفور تعرضها للهواء الطلق اشتعلت فيها النيران، وقد عُرفت هذه المادة فيما بعد بالفوسفور. وفي النهاية، يُستخدم الفوسفور لأغراض متعددة ابتداءً من السماد والمواد المتفجرة وانتهاءً بمعجون الأسنان والمنظفات. ومنذ اكتشاف فوائد الفوسفور، جُمع وخُزن بول الجنود في دِلَاء (يُنتج كل ١١٠٠ لتر من البول حواليْ ٦٠ جرامًا من الفوسفور)، وبعدها تطورت عمليات إنتاج الفوسفور إلى أشكال أكثر كفاءة.
هل كان هينينج مبدعًا أم محظوظًا أم مجنونًا أم ذكيًّا أم واهمًا أم كل ما سبق؟ هل يتحتم علينا أن نأتي بفكرة جنونية مثل تحويل بولنا إلى ذهب حتى يتسنى لنا اختراع شيء جدير بالاهتمام؛ حتى نكون مبدعين؟ هذه القصة توضح لنا الدور الذي يلعبه الحظ والإصرار في خلق الإبداع. كما أنها تثير تساؤلًا: هل يولَد العباقرة المبدعون أم يُصنعون؟ والإجابة البسيطة هي أن التنمية الإبداعية تتطلَّب قدرًا صغيرًا من الاثنين معًا، فهي تتطلب شرارة إبداعية أو على الأقل رغبة في التعلم وممارسة الأساليب الإبداعية، لكنها أيضًا تتطلب عادةً الكثير من المثابرة العنيدة من أجل التوصل إلى نجاح إبداعي حقيقي.
اللامبالاة تقتل الإبداع عبر إخماد أي شرارة إبداعية أولية ربما كانت متوهجة، أو عبر تثبيط الإرادة نحو المثابرة إن واتت الفرصة شرارة الإبداع تلك أن تشتعل. فالابتكار الحقيقي يتطلب فترة طويلة من التفكير الإبداعي الُمكرس ولذا يمكن للقتلة اللامبالين قتله بسهولة. فهم ينفذون عملهم إما بقطف ضحاياهم في مجدهم وإما بتوجيه الطعنات إليهم بلا هوادة، فيستنفدون ما لديهم من التحفيز الإبداعي. أما من يقدر على التغلب على هذه العشيرة، فيستمر في إشعال إرادته وحماسه لمواصلة التحلِّي بالإبداع على الرغم من التحديات المتواصلة.
والقتلة الذين يطعنون ضحاياهم أو يجلدونهم عادة ما يخططون مسبقًا لفعلتهم بأسلوب محدد الأهداف، وهذا يميز من ينطبق عليهم نمط «اللامبالاة». فما يظهر من افتقار للدافع أو الاهتمام أو العاطفة قد يتحول إلى «طعنة من الخلف» أو «تصرف جارح للمشاعر» متعمد. وعشيرة اللامبالاة التي تتسم بالتهكم والسخرية، يمكنها إلحاق ضرر جسيم بالمؤسسة التي لا تدعم ثقافة شَغُوفًا بالالتزام.
-
مدى التزام الموظفين بشيء ما أو بعلاقة مع أفراد في المؤسسة.
-
مدى كدحهم في العمل.
-
مدة بقائهم في المكان نتيجة لهذا الالتزام.
ليس هناك علاقة مباشرة وُجدت بين مجموعات معينة داخل المؤسسة ومستويات المشاركة. فلا النوع، ولا مدة العمل بالشركة، ولا الوظيفة — على سبيل المثال — تتنبَّأ بمشاركة الموظفين فيما يبدو على الإطلاق. وفي الحقيقة، لم يتبين أيٌّ من أفضل خمسة وعشرين حافزًا لمشاركة الموظفين — تم تحديدها في الاستطلاع — من المحتمل أن يؤثر على مستويات مشاركة الموظفين. لكن يبدو أن ثقافة الشركة واستراتيجياتها وسياساتها لها تأثير قوي. فالاختلافات الجوهرية في مشاركة الموظفين في مختلف الشركات تعكس مدى أهمية هذا البعد. فإذا شعر الموظفون داخل المؤسسة بارتباطهم بخطة رئيسية إيجابية، يَظهر الالتزام فيما يبدو. فعدم امتلاك رؤية إيجابية وعدم القدرة على الارتباط بهذه الرؤية — أو ما هو أفضل من ذلك؛ أي تبني هذه الرؤية — يؤديان إلى السقوط في الهاوية.
إنَّ اللامبالاة تسبب جراحًا قاتلة في المؤسسة، فقد يتحوَّل النقص الواضح في الدافع والاهتمام والحماسة إلى ما هو أسوأ. فالمؤسسة التي تعاني من اللامبالاة ستعم بها ثقافة مدمرة تتصف بالخداع والتنمر، كما أن الجروح التي تسببت بها هذه الأسلحة لا تلتئم بسهولة. وكلما زاد عمق الجرح، نتج ضرر داخلي دائم لن تُصلحه أي جراحة. كما تصبح المؤسسة عرضة للعدوى التي تنتشر بسهولة.
ومنذ بداية الخليقة وحتى العصور الوسطى، ساد الظن أن الجروح الجسدية تشير إلى قلب دامٍ أو روح مجروحة. والجروح التي تسببها اللامبالاة تستهدف إيذاء الناس نفسيًّا، لكنها لسخرية القدر غالبًا ما تكشف النقاب عن الجروح النفسية العميقة للقتلة اللامبالين أنفسهم.
-
الافتقار إلى التحفيز.
-
الافتقار إلى المبادرة.
-
الافتقار إلى الدافع.
(أ) المشتَبَه به الأول: الافتقار إلى التحفيز
إذن، كيف لنا أن «نلاحق بثبات» الفرصَ لنخلق حظنا الخاص؟
(ب) المشتَبَه به الثاني: الافتقار إلى المبادرة
إذا كانت لديك الشرارة الإبداعية الأولية لاستكشاف فكرة جديدة، فإن الخطوة التالية التي تضمن أنك لا تنتظر ببساطة أن يكون النجاح حليفك من خلال «الحظ» هي أن تنتهز فرص النجاح بفاعلية. وهذا هو الملتقى التالي في الرحلة حيث يُحتمل أن تقتل فيه اللامبالاة الإبداع.
الحظ يواتي الذهن المستعد.
غالبًا ما يلعب الحظ دورًا في إشهار نجاحك وإكسابه الاعتراف والتقدير أو غير ذلك، إلا أن الأمر ليس كذلك بالضرورة في عملية التفكير الإبداعي نفسها. فحتى تأتي بفكرة إبداعية أو حل إبداعي بحق، فإنك تحتاج إلى «انطلاقة إبداعية» إيجابية؛ أي الانطلاق من لحظة الاكتشاف «وجدتها!» التي لا تواتي المرء إلا بالمثابرة المنضبطة خلال عمليات المحاولة والخطأ المتأنية. نعم، من الممكن أن يُلهِمنا أناس مبدعون وافرو الحظ، لكن علينا أن نَعِيَ أنه ليس لكافة المبدعين ضربات حظ. ويمكننا البدء في استخلاص العوامل التي يمكننا أن نستخدمها لتوفير الظروف المناسبة لانطلاقتنا الإبداعية الخاصة، فقط عن طريق إمعان النظر في «العمليات» التي تكمن وراء أعمال الناجحين المبدعين. وعلى الرغم من أنه لا أحد يستطيع أن يضمن النجاح عبر اتباع خطوات معينة، فإننا نعلم بالفعل أنك بالطبع لن تنجح إن لم تحاول. وكما يقول المثل «ستفوتك كل الفرص التي لم تنتهزها.» وهذا هو الفيصل الرئيسي بين من يمارس التفكير الإبداعي بنجاح ومن لا يفعل. وبمعنى آخر، إن الذين نجحوا في تحقيق الانطلاقات الإبداعية «المحظوظة» يتميَّزون دائمًا بإصرار عنيد يخلق فرصًا للنجاح.
(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: الافتقار إلى الدافع
النقطة الثالثة في العملية الإبداعية التي يمكن أن يتعرض فيها التفكير الإبداعي لهجوم شرس هي المرحلة التي يحين فيها دفع الأفكار قيد التطوير نحو تطبيقات محددة ومتابعتها حتى إتمامها.
لدينا صديق تتجسَّد فيه العقلية الإيجابية والعمل الجاد الضروري للانطلاقة الإبداعية؛ وهو محامٍ نشطٌ وناجحٌ اتَّجه للعمل مدربًا على المستوى الأوليمبي بعدما خاض صراعًا مضنيًا مع السرطان الفتَّاك. هذا الصديق هو جون هارفي الذي يعي جيدًا معنى المثابرة عند مواجهة التحديات. كان أندرو وجون يمارسان رياضة ركوب الأمواج معًا على مدى عدة سنوات قبل أن يدرك أندرو القدرات الحقيقية لهذا الرجل الهادئ. فبعد أن عرفنا ما واجهه جون وما وصل إليه، قرَّرْنا أن ندعوه للحوار مع بعض عملائنا من الشركات عن رحلته الشخصية. وأول مجموعة التقى بها جون كانت حزمة من سماسرة البورصة المتشكِّكين والمُنْهَكين، ذوي القصور في الانتباه. وقد كان التحدي أمامه هو إلهامهم وتحفيزهم حتى تنشأ لديهم عقليات متفائلة. وحتى يسترعي جون انتباههم، جلس على مقعد في مقدمة الغرفة وأوصل نفسه بجهاز لمراقبة ضربات القلب، وعُرض الرسم البياني لضربات القلب على شاشة. واندهشت المجموعة عندما تمكن جون في دقائق من رفع معدل ضربات قلبه من المعدل الطبيعي في حالة السكون؛ من حوالي ٧٠ ضربة في الدقيقة إلى أكثر من ١٦٠ ضربة في الدقيقة، وبعد دقائق قليلة خفضه إلى ما يقل عن ٥٠ ضربة في الدقيقة. والآن انتبه الجمهور، آملين أنهم لو أنصتوا بانتباه لعلهم يتعلمون السر وراء تحكم جون. وصاح بعضهم بعد ذلك إعجابًا قائلين: «يا للعجب! ليتني كنت مثلك.» وكان ذلك رد فعل تقليديًّا لقصص جون وعروضه المبهرة (ولا يزال لديه العديد من العروض المبهرة في جَعْبته)، ولكننا ما إنْ نسمع ردة الفعل هذه حتى نقول لأنفسنا «لو أنهم يعون ما مر به ليصل لتلك المرحلة.»
لم يكن لدى جون خيار آخر إلا محاولة هزيمة السرطان الذي هدد بالقضاء عليه، فأخضع جون عقله وجسده لأبحاث شديدة التنظيم لإيجاد طرق لمواجهة الأورام التي استوطنت جسده لمدة عشرين عامًا. وعلى مدى كل تلك السنوات، أدهش الأطباء والمتخصصين بمرونة عقله وقدرته على الاستمرار في الكفاح والبقاء. تعلَّم جون تخليق الكورتيزون الطبيعي في جسده والتحكم في مستويات حمض اللاكتيك أثناء ممارسته للرياضة. وتعلم أيضًا استهداف السرطان بعقله، وتقليص حجمه خلال تدريبات التصور الإبداعي فحسب. وخلال هذه الفترة، وصل جون للنهائيات في بطولات عالمية للتجديف في الأماكن المغلقة (أمام أبطال أوليمبيين سابقين)، كما أحرز العديد من الأرقام القياسية الأسترالية في رياضة التجديف. ومنذ ذلك الحين وهو يعمل مدربًا لأبطال العالم من الرياضيين والمشاهير وحتى رئيس الوزراء الفريد.
بنهاية هذه المحاضرة التحفيزية الأولى، أطلق سماسرة البورصة على جون لقب «المحظوظ»، وفي الحقيقة كان جون واحدًا من سعداء الحظ الذين تغلَّبوا على هذه المحن، ولكن روتينه اليومي شديدُ الانضباط والتركيز. ولا يدرك معظم من يعرفه مدى العمل الشاق الذي يؤديه ليُبْقِيَ السرطان بمنأًى عنه. فيخطِّط جون ليومه وأسبوعه وشهره بعناية بالغة، كما يخطِّط لأهداف على المدى القصير تؤدي إلى رؤًى بعيدة المدى. ويمارس تدريباته لما يقارب ثماني ساعات يوميًّا، كما «يدرِّب» عقله لستِّ ساعات إضافية في المتوسط. في مرحلة ما، اشتدت آلام سرطان العظام في كَتِف جون فلم يَقْدِرْ على التجديف على آلته، لذا بدلًا من ذلك، أمضى ساعات في تخيُّل عملية التجديف، واستجاب بدنه — بما فيه نبضه — كما لو كان يجدِّف فعلًا. ورغم عجزه عن التدريب على آلته، تابع جون مسيرته حتى حصل على لقب البطولة للعام التالي، وذلك بالتصور الإيجابي وحده. إذن فليس الحظ هو ما أبقى جون مركِّزًا على أهدافه وعلى قيد الحياة في نهاية الأمر، بل العمل الجاد ووضوح الرؤية.
ماذا عن بيل جيتس؟ هل مرَّ كذلك بفترة كان الحظ فيها حليفه؟ هل كان ببساطة في المكان المناسب في الوقت المناسب؟ لقد وُلد، بالتأكيد، في الوقت الذي بدأت فيه الفرص المناسبة له في الظهور. فتمكن على غير العادة من استخدام أجهزة كمبيوتر أكثر تطورًا من أجهزة الأجيال السابقة أو حتى تلك التي حلم بها معظم أقرانه. وقد تصادف أن كان لوالدته من العلاقات ما ساعده في قيادة شركته الوليدة نحو بداية موفقة على غير العادة. لكنه كان على استعداد أيضًا للتدريب لساعات طويلة لإتقان المهارات المطلوبة (وكان غالبًا ما يعمل أثناء الليل لأن أجهزة الكمبيوتر كانت متوافرة أكثر حينها). ولو تغيرت الظروف تغيرًا بسيطًا، ما كنا لنقرأ عن بيل جيتس الآن، لكن عن شخص آخر حقَّق ما حققه جيتس. وأيًّا كان ذلك الشخص، فإنه كان على الأرجح سيقضي مثل بيل جيتس آلاف الساعات من سنوات مراهقته في تعلُّم الأكواد وتطوير المهارات.
ومما لا شك فيه أن هينينج براند كان إنسانًا متفائلًا. لقد آمن أنه يستطيع صنع شيء استثنائي من «لا شيء»؛ أي إنتاج الثروة (الذهب) من الفضلات (بول الإنسان). وفي هذا الشأن كان مخطئًا أشدَّ الخطأ. ففي الغالب فاحت الروائح الكريهة في منزله (من الصعب تخيل ما هو أسوأ من الرائحة النتنة لبول الإنسان «المحفوظ» والتي تنبعث من القبو!). إلا أن دافعه لاتباع غرائزه وإصراره الشديد المتمركز فقط حول التمسك بالتجربة يعني أنه توصل مصادفةً إلى شيء غير متوقع تمامًا في النهاية، إلا أنه مفيد بشكل لا يصدق؛ ألا وهو الفوسفور. هل كان لشخص آخر أن يكتشف الفوسفور على مر الزمن؟ من المرجح جدًّا. لذا نكرر أن الاكتشاف في حد ذاته ليس الدرس الأساسي هنا، بل العملية هي الأمر المهم. ويمكننا أن نرى التَّفاني الخالص والالتزام الذي يتطلَّبه الأمر للوصول إلى أفكار وحلول إبداعية جديدة، ويمكننا أن نتعلم أيضًا أن مَنْ حاول نجح.
لذا بدلًا من السماح للعداء بأن يتراكم داخلنا ثم نوجِّه هذه العداوة للخارج، فإن أفضل طريقة للتغلب على اللامبالاة هي تحويل هذه الطاقة إلى إرادة نحو المثابرة. ومثل هينينج براند قد لا تجد الذهب، ولكنك ستندهش بما سيُنتجه الالتزام والدافع والإصرار العنيد. فتحويل الماء إلى نبيذ، والبول إلى فوسفور؛ أي التحول من العادي إلى الاستثنائي، لا يحتاج دائمًا إلى إيمان بالقوى الخارقة، أو ثقة تامة في أساليب الخداع البصري؛ إنما يتعلق الأمر بتحفيزك، وأخذك لزمام المبادرة لبدء رحلة البحث، وامتلاكك التركيز والإصرار والالتزام لتحقيق ما تريد.
تقرير المحقق
هل قابلت نمط اللامبالاة هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:
• نزعة للاستسلام بسهولة (الافتقار إلى المثابرة). | |
• السخرية والتهكم. | |
• التخلص من القامات. |
أثره على الضحايا:
• الانفصال عن الآخرين. | |
• الافتقار إلى الاهتمام بالنمو. |
(٤) المرحلة الرابعة: التدمير – ضيق الأفق الهدَّام والتشاؤم
المرحلة النهائية من مراحل عملية القتل الانتكاسية قد تؤدي كذلك إلى ضرر يتعذَّر تداركه. وتشمل هذه المرحلة «عصابة ضيق الأفق» الذين باتوا متعصِّبين ضد الآراء والأفكار الأخرى ومن ثَمَّ يستهدفون الضحايا البريئة بلا رحمة. وتشمل أيضًا المرحلة «فوج التشاؤم» الذين تخلوا عن آمالهم فبدءوا بتسميم الآخرين بسلبيتهم الخبيثة.
(٤-١) نمط القتل السادس: عصابة ضيق الأفق
باستخدام نهج عنيد وتعسفي غالبًا، يضمن القتلة الذين ينطبق عليهم نمط ضيق الأفق بقاء ضحاياهم الحمقى محبوسين داخل أنماط سلوكياتهم المألوفة والقياسية. والضحايا هم من يسببون هذا لأنفسهم بصورة غير متعمدة بسبب طرقهم المألوفة في التفكير والتصرف. ومن ينطبق عليه نمط عصابة ضيق الأفق — الذي هو وثيق الصلة بنمط العزل — يكُنْ لديه في العادة نطاق محدود من المدخلات بينما تُعرض عليه أفكار وأساليب تفكير مختلفة. ونتيجة لذلك، يميل هو وأقرانه إلى أن يكونوا من أصحاب العقليات الجامدة والمنهج الضيق الأفق، ويَفرضون هذا التصلب على ضحاياهم. فيقتنع ضحاياهم بالنظر في اتجاه واحد فقط، ولا يدركون أن قبضة ضيق الأفق تستحكم بشدةٍ وصرامة عليهم، كما أنهم لا يشعرون بأنهم يموتون ببطء. وعندما يكتشفون ذلك، يكون أوان الفرار قد فات. وتُظهِر عصابة ضيق الأفق عادةً علامات «اضطراب الشخصية التجنبية»، وسلاحهم المفضل هو «التعصُّب العنيد».
معارك الفورمولا وان وتضييق نطاق القنوات
غالبًا ما يكون ضيق الأفق غير ظاهر لذوي البصيرة المحدودة. فكلما قلَّ الوقت الذي تقضيه في النظر حولك، قلَّ إدراكك للخيارات المتاحة أمامك، وعلقت أفكارك وسلوكياتك في ثغرة واحدة من اختيارك. وقبل أن تدرك ما يحدث ذلك، سرعان ما تجد أن عينيك قد تحجَّرتا نصب اتجاه واحد فقط، ولن تقدر على رؤية الاحتمالات البديلة. فيحبس ضيق الأفق الإبداع ويحطمه عبر تقييد القدرات ووجهات النظر.
ولتوضيح كيف يمكن للعقل أن يُحاصَر بهذا الشكل، حاوِلْ أن تتخيل منضدةً عليها عدد من الكُرات الصغيرة الموضوعة عشوائيًّا. والآن تخيل أنك ملزم بترتيب هذه الكُرات في صفين منظمين. وبدلًا من الترتيب الفعلي لكل كرة خلف الأخرى، تخيل في ذهنك قناتين على المنضدة، ومن ثَمَّ عندما تلقي الكرات على المنضدة، فإنها تسقط تلقائيًّا في القناة الخاصة بها بسلاسة وتشكل صفين منظمين. عد إلى مخيلتك ثانية وتصور أن هذه القنوات قد تشكلت من أثر السقوط المستمر للكرات. وبهذه الطريقة، تصبح هذه القنوات بكفاءة نظامًا «ذاتي التنظيم». وقد يكون هذا الأمر ميزة لعملية التنظيم إلا أنه قد يتحول إلى عيب بالنسبة للتفكير الإبداعي البشري.
هناك العديد من الأنظمة الذاتية التنظيم التي تحدث بشكل طبيعي. فالجداول المائية، والأنهار، والأودية على سبيل المثال تتحول إلى أنظمة ذاتية التنظيم نتيجة للعوامل الجيولوجية وأنماط هطول الأمطار. والأمطار المستقبلية ستتوجه تلقائيًّا إلى هذه المناطق المنحوتة طبيعيًّا في الأراضي. ومن الغريب أن عقولنا أيضًا تؤسس هذه الأنظمة ذاتية التنظيم. فمع نمو عقولنا على مرِّ الوقت، تجنح إلى بناء «مناطق استجماع للمعلومات» مما يشجع عقولنا على دفع جميع الأفكار نحو قنوات أو طرق تفكير نظامية. ويُظهِر المسح المخي بالأشعة كيف يمكن أن تتطور بعض المسارات العصبية دون غيرها، حيث تشكل «طرقًا سريعة» لتمر بها المعلومات بسرعة وسهولة، أو «ممرات في الأدغال» تتفتَّح مع مرور الوقت وتصبح أسهل في سَلْكِها. وبصورة متزايدة، يتطلَّب الأمر بذل الكثير من الجهد لإجبار الأفكار المستقبلية على الخروج عن هذه الطرق السريعة البالية من كثرة الاستعمال، والتفكير بطرق جديدة. وتنقل شبكة الخلايا العصبية بالمخ الأفكار باستخدام النبضات الكهربية، وكلما زاد انطلاق هذه النبضات، زاد نمو هذه الممرات العصبية، ومن ثَمَّ فإنها غالبًا ما تصبح أكثر سمكًا وأثقل وزنًا من الوصلات العصبية التي لا تنطلق كثيرًا.
وأنماط الفكر البشري تميل إلى الدخول في هذه القنوات المعيارية، أو تحديد طرق التفكير، إذا لم تواجَه بتحديات بانتظام. ويسعى المخ لتنظيم أفكاره — وعادةً ما يكون ذلك استجابةً للمعلومات الواردة — في حالات مستقرة مؤقتًا تأتي بعضها وراء بعض لتشكِّل تسلسلًا. وعندما يتكرر التسلسل أو النمط، يتحوَّل إلى نمط للتفكير أو عقلية توجه الأفكار المستقبلية بطريقة أكثر سهولة في نفس المسار، ومن ثَمَّ يتحول إلى طريقة معيارية للنظر في الوضع أو المشكلة.
إنَّ المنهج السادس المتَّبَع للتنمية الإبداعية الفردية يؤكد على الحاجة إلى استكشاف جميع السبل والمسارات الممكنة، حتى لو بدت غير عقلانية في أول الأمر. على الأرجح، إن أكثر التعبيرات شيوعًا حول الإبداع هو «التفكير خارج الصندوق»، لكن ما الذي يعنيه ذلك حقًّا؟ في أحيان كثيرة، عند بحثنا عن حلول، نعْلَق في نهاية المطاف «داخل الصندوق»، وهو ما يعني أننا ندخل إلى المكان الذي نُخَزِّن فيه كل الأفكار التي تنسجم مع نظامنا الحالي عند ورودها، وبعدها نوصد الغطاء عليه لضمان عدم خروج أي شيء منه أو ورود أي جديد إليه. ومن المثير للدهشة أن هذه هي طريقة عمل «السحر». فمعظم ألعاب السحر تعتمد على قدرة الساحر على إبقاء تفكير الجمهور داخل الصندوق؛ أي الإبقاء على تفكيرهم في خطوط متوقعة وبأساليب متوقَّعَة. وحتى تتمكن من الابتكار حقًّا، عليك أن تتخطَّى حدود هذا النظام ذي التفكير المعياري حتى «تنطلق خارج الصندوق» وحتى تتبع مسارات مختلفة وجديدة. وعند اتصالك مرة أخرى بالقضايا التي بدت لنا سابقًا بلا حلول كثيرة، فستندهش من النتائج التي يمكنك أن تكتشفها بنفسك.
والهدف من كل ذلك هو وجود نظامٍ تُنشئ المعلومات الواردة خلاله سلسلةً من الأنشطة. وبمرور الوقت تتحول هذه السلسلة إلى مسارات أو أنماط مفضلة عن غيرها. وتعد هذه الأنماط مفيدة — فور إنشائها — لأنها تسمح لنا بإدراك الأمور بسلاسة، والتنبؤ بالخطوة التالية بسهولة. وبما أن الإدراك هو الأساس للعمل اليومي، وبما أن القدرة على التنبؤ هي أساس للذكاء، إذن فمن الواضح أن الأنماط آلية جوهرية للبقاء تمكِّننا من مواجهة تحديات الحياة. وبمجرد إنشاء الأنماط، يمكننا بعدها تحليل المواقف الجديدة وفهمها بسهولة بناءً على الخبرات السابقة.
لكنْ تبقى مشكلة نظام الأنماط البسيط هي الحاجة إلى عدد ضخم من الأنماط للتعامل مع كافة أنواع المواقف. فيجب أن يخضع أي موقف جديد — لا يؤدي مباشرة إلى نمط موجود — إلى التحليل وإعادة الهيكلة من جديد. لكنَّ المخ يعالج هذه المشكلة بطريقة بسيطة جدًّا. فمثلها مثل الأنهار، تمتلك الأنماط مناطق استجماع كبيرة؛ مما يعني أن أي نشاط داخل منطقة الاستجماع سيقود الطريق نحو النمط المُنشأ. وترى أجهزة الكمبيوتر أن هذا النوع من تمييز الأنماط صعب للغاية بسبب مرونته الشديدة، لكنَّ المخ لديه القدرة على التمييز فورًا وتلقائيًّا. وعلينا أن نفهم كيف يمكن أن تشتمل العملية في نهاية الأمر على نطاق واسع من المواقف، إن كنا نرى مناطق الاستجماع أشبه بالأقماع. فهذا يعني أننا متى نظرنا إلى العالم، فسنكون على استعداد لرؤيته وفقًا للأنماط القائمة لدينا، ولهذا يُعَدُّ حس الإدراك قويًّا جدًّا ومفيدًا جدًّا. لكن لهذا السبب أيضًا لا تؤدي عملية تحليل المعلومات على الأرجح إلى أفكار جديدة.
ذاكرتنا أيضًا تميل إلى ضيق الأفق، إذا نظرنا إلى الطريقة التي تعيد بها بناء الخبرات التي تشمل عناصر دقيقة وغير دقيقة. وكما هو الحال في حلقات التغذية الراجعة، نسمح لضيق الأفق بتولِّي زمام الأمور، ونعزِّز صورة من ذاكرتنا وخبراتنا تتفق مع أنماط الفكر الحالية.
-
الحنكة المقيَّدة.
-
التحيز.
-
التفكير الجماعي.
(أ) المشتَبَه به الأول: الحنكة المقيَّدة
اكتسبت قصة الطالب المنتمي لطائفة الزن البوذية شعبيتها من العديد من أفلام هوليوود؛ إذ يزور هذا الطالب معلِّمه ساعيًا وراء الحكمة، وكما جرت العادة، قدَّم المعلم الشاي للطالب، لكن عندما وصل مستوى الشاي حافة الكوب، استمر المعلم في صبه. فصاح الطالب المتحير: «لقد امتلأ كوب الشاي عن آخره ولن يتحمل المزيد.»
وخلال البحث في الطرق المختلفة لجمع المعلومات، وضعت هذه الشركة يدها على مشكلة لم تبدُ لأحد مسبقًا؛ مما أبرز رؤًى نافذة جديدة. وهناك أسباب عديدة لأرجحية أن يكون الأشخاص الأكثر ابتكارًا في أي مؤسسة هم عادةً أحدث الملتحقين بها. فيميل الشباب لامتلاك أكبر قدر من الطاقة والثقة. ولكونهم «غرباء» فإن لديهم قدرًا أقل من الاحترام للتقاليد والأنظمة المتبعة. كما أن افتقارهم إلى الخبرة يعد ميزة إيجابية لأنهم لا يتقيدون بتقاليد الشركة أو بأي أفكار مسبقة، بينما يظن الموظفون الأقدم أنهم على علم بأن كل ما يُطرح قد وُضع حيزَ التجريب قبل ذلك (وأيضًا قد فشل).
إنَّ المعلومات أصبحت شديدة التعقيد؛ فلا يمكن للخبير الواحد أن يعرف كل شيء. لذا على القادة الاستفادة من المعرفة الجمعية للفريق الذي يقودونه. وأظهرت الأبحاث أن الخبراء قد يتَّسِمون بنطاق معرفي «ضيق للغاية»؛ إذ يرفضون البدائل الإبداعية أو وجهات النظر الجديدة نحو القضايا.
في عقل المبتدئ العديد من الاحتمالات، لكن ليس في عقل الخبير سوى القليل.
(ب) المشتَبَه به الثاني: التحيز
تشتقُّ كلمة تحيُّز بالإنجليزية من كلمة لاتينية تعني الحكم المسبق. من ثم فإن التحيز هو الميل إلى إصدار أحكام مسبقة بدلًا من الانتظار والحكم على الموقف بناءً على جوانبه. لكن للأسف، نظرًا لأن العديد من المحفزات المعتادة التي تُنشط التحيُّز باتت متأصِّلة في أنماط تفكيرنا مع الوقت، فإنه من الصعب التخلص من قوتها ونفوذها. فهذا المطارد يرافقنا منذ صغرنا، لذلك لا نشعر بسهولة بأنه مجرم. فلقد وُلدنا وترعرعنا في ثقافة معينة، ومن ثَمَّ نقع ضحايا لقيوده التي تحد من قدرتنا على التفكير بإبداع وتقبل الأفكار الجديدة، حتى لو انصبَّ تفكيرنا على التفكير الإبداعي نفسه.
أثبت الدكتور جيسون في أبحاثه مؤخرًا أن هناك منطقة في أدمغتنا تسمى الفص الصدغي الأمامي ويبدو أنها مهمة للإبقاء على وجود الروابط التحيزية. ففي إحدى التجارب، عندما عُطِّل عمل هذه المنطقة فعليًّا عن طريق تحفيز المخ، وُجد أن احتمالية ربط «العرب» ﺑ «الإرهاب» كانت أقلَّ لدى المشاركين في الاختبار.
(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: التفكير الجماعي
كما أسلفنا في قسم «العزل»، العديد من القادة يعمدون إلى أن يحيطوا أنفسهم بأناس مشابهين لهم فكريًّا، ومن ثَمَّ يشكِّلون بيئات بها تنوع ضئيل في الأفكار. تواجه المجموعات ذات الأعضاء شديدي التشابه أو «واسعي المعرفة» صعوبة في مواصلة التعلم؛ لأن أيًّا من أعضاء الفريق لا يأتي بمعلومات جديدة على الطاولة؛ إلا قليلًا. وكلما طالت فترة عملك في المؤسسة، زاد خطر انفصالك عن «الحياة الواقعية» (فيما يخص كيف يفكر العملاء ويشعرون ويتصرفون) وزادت احتمالية تبنِّيك للتفكير الجماعي. فعندما يعتقد عدد كبير من الناس اعتقادًا جماعيًّا بأنهم خبراء، يَضِيق نطاق الاحتمالات الإبداعية وتتقلَّص القدرة الإبداعية على حل المشكلات. وتحت الضغوط من أجل التوافق مع الآخرين، من الممكن أن يغيِّر الأفراد آراءهم؛ ليس لقبولهم الأمر، بل لأن التوافق مع المجموعة أسهل من مخالفتها. وثقافة الاعتماد على القادة يُعِيق أيضًا حركة التنمية.
مَن يتبع الجماعة فلن يصل إلى ما هو أبعد من الجماعة، ومَن يسِرْ بمفرده فسيجد نفسه — على الأرجح — في أماكن لم يَطَأْهَا سواه.
في عالم سباق السيارات الفورمولا وان، تمسَّكت الفرق العريقة بما تعرفه وواصلت التطور بمحاذاة المسار نفسه الذي لما يفارقها قط؛ فصنعت سيارات أكبر، في حين صنَّعت سيارات الورش سيارات أخف وزنًا. ركزت الفرق العريقة على قوة الحصان، بينما ركزت سيارات الورش على قوة العقل. وبسبب اقتناع الفرق العريقة بأنها ستهزم الفرق الناشئة في نهاية الأمر، فقد وثقت في آراء الخبراء وفي منهجياتهم المجرَّبة والسليمة. لكن في النهاية، فاز الابتكار غير المحدود على الحنكة ضيقة الأفق.
تقرير المحقق
هل قابلت نمطَ ضِيق الأفق هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:
• تقييد التفكير. | |
• تقييد القدرة على النظر إلى ما وراء «المعتاد». | |
• الإبقاء على التفكير المحافظ. |
أثره على الضحايا:
• الاقتناع بأنهم على حق وأن الآخرين مخطئون. | |
• الميل للشك في المختلفين معهم أو نقدهم. |
(٤-٢) نمط القتل السابع: فوج التشاؤم
النوع الذي يندرج تحت هذا النمط، وهو قاتل خفي آخر، يرتكب جريمة التدمير ببراعة عبر حالة ذهنية سامة تسبِّب اعتلالًا بالأعصاب. وهذه العملية الموهِنة للعزيمة تنشر الأمراض الخبيثة وتلحق العجز بضحاياها. فيبدأ المصابون بهذا الداء بالتواصل مع الآخرين بطرق سلبية، وفي نهاية المطاف يهدمون محاولاتهم ومحاولات الآخرين للبقاء الإيجابي. ويقتل التشاؤم باستخدام خنق الأفكار والآراء الجديدة الإيجابية. ويتَّسِم المتشائمون على الأرجح بالشخصية الانهزامية والتلذذ بتعذيب الذات، والسلاح المفضل لأولئك المعذِّبين المنحرفين هو «السلبية الخبيثة».
الحرب الكيميائية والنظر من ثقب التشاؤم
طُرحت الأسلحة الكيميائية كوسيلة من وسائل الحرب على نطاق واسع لأول مرة في الحرب العالمية الأولى. إذ أطلق الألمان غاز الكلور — وهو منتج ثانويٌّ في صناعة الأصباغ — ضد الحلفاء في الجبهة الغربية في مطلع عام ١٩١٥. وتسبب الغاز الرمادي المائل للخضرة المنبعث في قتل الجنود اختناقًا عندما كان بتركيزات قوية للغاية. تحوَّل غاز الكلور إلى حمض الهيدروكلوريك عندما تحلل في الماء الموجود في رئتي الضحية، وهذا دمَّر أنسجة الرئتين. كما كان غاز الكلور أيضًا سلاحًا نفسيًّا قويًّا؛ فمتى رأت القوات سحابات الغاز الرمادي المائل للخضرة المميزة فزعوا ووقعت الرهبة في نفوسهم.
ورغم إدانة بريطانيا للتسلح بالغاز باعتباره انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، فسرعان ما أقرَّت بحتمية استخدام السلاح نفسه إن كانت تريد البقاء، ولكن عندما استخدمته لأول مرة في سبتمبر ١٩١٥ ارتدَّ أثره على جنودها بكل ما تعنيه الكلمة. فلأن هذا النوع من الأسلحة اعتمد اعتمادًا شديدًا على حالة الرياح المناسبة، فإن التغير غير المتوقع في حركة الرياح كان يعني عدم وصول الغاز إلى العدو، بل أسوأ من ذلك وهو إمكانية هبوبه مرة أخرى على صفوفهم. وهذا هو ما جرى في هذه الحادثة. وما ضاعف الكارثة كان إرسال مفاتيح تحويل خاطئة مع بعض العبوات، فأصيبت العبوات غير المفتوحة بالقذائف الألمانية مما أدى إلى انتشار المزيد من الغاز بين الصفوف البريطانية. وبالرغم من ارتداء الجنود القائمين بإطلاق الغاز أقنعةً للوقاية منها، فإنَّ الحرارة غَشَتْ فتحات النظر الصغيرة في الأقنعة، ففتح العديد من الجنود أقنعتهم ليتمكنوا من الرؤية واستنشاق الهواء النقي، فتمكَّن منهم الغاز.
الوفاة جراء الغاز عادةً ما تكون بطيئة ومؤلمة. والتشاؤم مثله مثل الغاز، يتسبب في البداية في حالة من السخط والتهيُّج، وفي النهاية يسبب ألمًا عاطفيًّا ونفسيًّا، ويعرِّض الإبداع إلى موت بطيء ومؤلم. وباستخدام سلاح السلبية الخبيث، يكون التشاؤم قاتلًا عصبيًّا ومَرَضيًّا يصد الناس عنه في النهاية. وكذلك قد يأتي بسهولة بنتائج عكسية على من يستخدمونه فيثير قلقهم ومن ثم يصبحون ضحاياه غير المقصودين. وسلبية التشاؤم هي سلاح خطير لا يمكن التغلب عليه بسهولة، إذ لا يسهل دائمًا التحكم في الظروف التي يوجه فيها هذا السلاح ضرباته. وعلى عكس بعض القتلة الأكثر دهاءً، تُعد دوافع التشاؤم وأثره واضحة للعِيان. ولا أحد يستمتع بالبقاء مع المتشائمين؛ فصحبتهم ليست لطيفة. ويمكنك دائمًا توقُّع تصرفاتهم، لكنهم يفرضون إرادتهم بلا كلل، ولذا يسهُل انجرافك إلى الكآبة السلبية التي يبثونها.
-
السلبية (مثل اللغة والعواطف السلبية).
-
اليأس.
-
الافتقار إلى الثقة.
(أ) المشتَبَه به الأول: السلبية
اللغة التشاؤمية قد تدمر الإبداع خلال تقييد التفكير. ومن خلال إعادة صياغة الكلام، من الممكن تغيير محور التركيز ليتفتح المجال للمزيد من الاحتمالات. خذ بعين الاعتبار بعض الأمثلة من خدمة العملاء. فبدلًا من قولك: «لا يمكننا فعل هذا.» يمكنك قول: «هذه قد تكون مشكلة، لكن يمكننا أن نقوم بهذا بدلًا من …» وبدلًا من قول: «لا يمكننا البدء قبل أن نأتي بالمعلومات التي نحتاج إليها منك.» يمكنك أن تقول: «الرجاء إعطاؤنا المعلومات التي نحتاج إليها منك كي نبدأ.»
-
التفكير ذو الحدين: رؤية الأحداث من منظورين نقيضين، بطريقة «إما كل شيء أو لا شيء» (على سبيل المثال تصور الأحداث إما رائعة أو مروعة، دون اعتراف بالمساحات الرمادية بينهما).
-
الشخصنة المفرطة: الاستنتاج تلقائيًّا أن سلوك الآخر أو مزاجه هو رد فعل مباشر لك (مثال: هي بحالة مزاجية سيئة، إذن لا بدَّ أنني فعلت أمرًا خاطئًا).
-
التعميم الزائد: النظر إلى حدث ما بأن له أثرًا أكبر في جوانب عدة في حياتك أكثر مما يحتمله حقيقةً.
-
العجز المكتسب هو رد الفعل بالاستسلام، وتجاهل الإيجابي منها.
-
الاستنتاج العاطفي: استنتاج أن ما تشعر به لا بد أن يكون الحقيقة (مثال: إن كنت تشعر بأنك غبي، فحتمًا أنت غبي).
-
التفكير المحدد.
-
تجنب الشخصنة والتعميم غير الضروريين.
-
الفلترة الإيجابية.
-
الاستنتاج المنطقي.
(ب) المشتَبَه به الثاني: اليأس
العجز المكتسب هو رد الفعل بالاستسلام، واستجابة بالانسحاب تنبع من الإيمان بأنه مهما كان ما تقوم به فإنه لن يُجدي. إن الطريقة التي عادةً ما تفسر بها لنفسك سبب وقوع الأحداث — أي أسلوبك الشخصي في التفسير — تحدد مدى العجز الذي وصلت إليه. فمن المهم عند الابتكار أن تثابر وأن تدفع الفشل لتأتي بحلول مبتكرة. وأهم من ذلك هو ما تفكر فيه حين تفشل. إن استخدام قوة التفكير غير السلبي — أي تغيير الأمور المدمرة التي تحدِّث نفسك بها عند مرورك بانتكاسة من تلك التي تناوبها الحياة بيننا جميعًا — هو المهارة الرئيسية للتفاؤل. فجملة «دائمًا ما أحاول لكنني أحيانًا أفشل.» أفضل كثيرًا من «دائمًا ما أفشل لكنني أحيانًا أحاول.»
وبحسب التعريف المعجمي، فإن الأمل يعني «التطلع للأمام برغبة وثقة حكيمة». وبدون أمل — كما يُستدل من المعنى — لن تكون هناك رغبة ولا ثقة؛ مما يعني صعوبة الأخذ بزمام المبادرة والمثابرة خلال عملية الإبداع.
الاحتمال هو جوهر التفكير الإدراكي والتفكير الإبداعي والتفكير التصميمي والتفكير الاستكشافي.
(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: الافتقار إلى الثقة
-
تدمر جذور التناغم بين الناس.
-
تؤدي إلى الانسحاب.
-
تؤثر على المنطق والقدرة على الحكم على الآخرين بإنصاف.
-
تنقل العدوى والإصابة بها.
فعند تعميم هذا النوع من الارتياب التشاؤمي، يُسمى وقتئذٍ ببُغض الجنس البشري؛ وهو بغض أو ازدراء أو كراهية الناس بشكل عام. ووفقًا لأفلاطون، ينبع بغض الجنس البشري من التوقعات المحبَطة باستمرار أو التفاؤل الساذج المبالغ فيه. وتارةً أخرى نؤكد، عندما تُغلِق الباب في وجه الناس وأمام الفرص، فأنت تغلقه في وجه مدخلات إيجابية محتملة للتفكير الإبداعي.
انصرفت الولايات المتحدة عن الحرب البيولوجية وعن أول استخدام للأسلحة الكيميائية في ٢٥ نوفمبر ١٩٦٩. والقرار الذي صدر آنذاك لا يزال ساريًا حتى اليوم. ومنذ ذلك الحين، يتم التخلص من الأسلحة الكيميائية بإغراق حمولات السفن من الأسلحة، ومؤخرًا يتم حرقها في المناطق الجبلية. وقد دُمر الآن معظم مخزون الأسلحة الكيميائية.
ربما يكون من الممكن الحد من طرق التفكير التشاؤمية واللغة التشاؤمية أو التخلص منها بنفس الطريقة. ولربما الأكثر أهمية هو أننا يمكننا تعلم «إغراق» أو «حرق» اللغة والأفعال التي تُديم المشكلة، أو من الأفضل العمل على «تحييد» هذه العقلية متى كان ممكنًا. وبعدها يمكن أن نضمن أن يتوفَّر للتفكير الإيجابي الظروف المواتية التي يحتاجها للبقاء على قيد الحياة.
تقرير المحقق
هل قابلت نمط التشاؤم هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:
• خلق عقلية سلبية مسممة. | |
• إخماد الأفكار والآراء الجديدة. | |
• غرس شعور باليأس. | |
• خلق الارتياب. |
أثره على الضحايا:
• العجز مكتسب. | |
• العزلة. | |
• غياب الإرادة. |