النجاح الأبدي … أحقًّا أبدي؟
اختبار الإبداع استعدادًا للتغيير النهائي
قبل بضعة أشهر فقط من اندلاع الأحداث الثورية في مصر، تَجَوَّلَتْ عائلتُنا في ميدان التحرير في القاهرة، سائحين هانئي البال. جَذَبْنَا الانتباه وتلقينا الاهتمام المعتاد بشعرنا الأشقر وما يقابله من توقعات بالحصول على العملة الأجنبية منا بسهولة، وكثيرًا ما ألحَّ علينا البائعون لشراء ساعات مقلَّدَة وتحف مُزَيَّفة، ولكن لم يحدث شيء خارج عن نطاق المألوف في تجربة سفر تقليدية، وعمومًا كنا نشعر بالأمان. بعد ذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى اجتاحت الشرق الأوسط موجة عارمة من الإصلاح. فشاعت صور ميدان التحرير تحت الحصار في جميع أنحاء العالم، وما كان مؤخرًا سوقًا مفتوحة آمنة تحول إلى ساحة قتال مسدودة بالمتاريس. وبعد فترة وجيزة من الابتهاج، تسلَّل نفس الظلام الذي سكن البلاد قبل الثورة مرة أخرى إليها مع صعود قوى جديدة.
قبل أن تستعد لمهاجمة قتلة الإبداع في بيئة العمل أو البيئة المعيشية، وقبل أن تتجمَّع حول زملاء عمل أو مواطنين ساخطين مثلك، ضع في الاعتبار أن هؤلاء القتلة المحتملين ليسوا إلا مشتبهًا بهم (وكلٌّ منهم يعيش داخل كل واحد منا بدرجات متفاوتة). ومن التحقيق في مسرح الجريمة، نعلم أن القضية التي نحقق فيها حقيقية، لكن العوامل التي تتضمنها القضية يمكن أن تكون معقدة بشكل لا يصدق. ولذا يجب على كافة الأفراد تقييم موقفهم الشخصي تقييمًا جادًّا لتحديد قتلة الإبداع دون ملاحقة المعارضين وإلقاء اللوم على عوامل خارجية.
(١) هل يمكن العفو عن القتلة … وهل رجال الإنقاذ أبرياء؟
بقدر ما وصفنا أنماط قتلة الإبداع المشتَبَه بهم وصفًا واضحًا وأبرزناهم سفَّاحين أشرارًا، فإننا نعترف بأننا استخدمنا رخصة إبداعية لإيضاح وجهة نظرنا. إن الأشخاص أو الأنظمة «الأخيار» بطبيعتهم يمكن أن تكون لديهم القدرة على القيام بأشياء مدمرة. وبالمثل، فإن الأشخاص أو الأنظمة «الأشرار» — فيما يبدو — يمتلكون القدرة أيضًا على فعل أشياء بناءة. وهذا الغموض هو في صميم الإبداع. فإذا كنت الآن قادرًا على تَقَبُّلِ هذا المستوى من الغموض، إذن أحسنت؛ فقد تَعَلَّمْتَ بذلك درسًا أساسيًّا. لا يمكنك اختزال قتلة الإبداع إلى أوغاد بسطاء، كما أن هؤلاء القتلة لن تُذكر أسماؤهم على الصفحات الأولى للجرائد وبجوارها كلمة «مطلوبون للعدالة» ونص المكافأة المستحَقَّة مقابل الحصول على أي معلومات عن أماكن تواجدهم أو أي بيانات تؤدي إلى اعتقالهم.
-
التحكم: إنك لا تشاهد قائد فريق الاستجابة للطوارئ في خِضَمِّ حالة الطوارئ يسأل عما إذا كان الفريق يرغب في قضاء بعض الوقت في العصف الذهني. فهناك أوقات لا بد فيها من اتخاذ إجراءات بسرعة وبخبرة، وهذه هي الأوقات التي يُتَطَلَّبُ فيها التحكم.
-
الخوف: هذا هو أحد أكثر الاستجابات التكيفية لدينا، فالخوف يُبْقِينَا على قيد الحياة. فقط تصبح هذه الاستجابة الفسيولوجية ضارة عندما يتمُّ تطبيقها (أو التلاعب بها) بصورة خاطئة.
-
الضغط: يمكن أن يكون إيجابيًّا عندما يُعاش باعتباره «إجهادًا مفيدًا». ولقد تبيَّن أنه يمكِّن الناس من تحقيق النجاح رغم التحديات ويمكِّنهم كذلك من التركيز، خاصةً في الأحداث قصيرة الأمد.
-
العزلة: كُلٌّ منا لديه أداة ترشيح انتقائي تُمَكِّنُنَا من فرز المعلومات الواردة حتى نتمكَّن من التركيز على ما هو ذو قيمة. إذا كان لنا أن نستوعب كل جزء من المعلومات التي نُقَابِلُهَا، فقد نصاب بالجنون! ولذلك فإن العزلة يمكن أن تكون مزية هامة.
-
اللامُبالاة: إنَّ الأشخاص الذين يرغبون في إيجاد طرق ليكونوا أكثر كفاءة قد يكونون قادرين على توجيه هذا الدافع بطريقة إيجابية. فالعمل لساعات طويلة لا يؤدي بالضرورة إلى المزيد من النجاح أو الإنتاجية. وقد رأينا بالفعل أن أفضل الأفكار الإبداعية تتوارد عندما يكون العقل في حالة استرخاء (مثل النوم أو الاسترخاء العميق). لذلك احرص على ألا تعتبر أن الحاجة إلى الراحة والاسترخاء من علامات اللامبالاة.
-
التشاؤم: يمكن أن يسخِّر الناس قوة الأفكار السلبية لزيادة ثقتهم بأنفسهم وإحراز تقدم كبير نحو تحقيق الأهداف الشخصية.4 وكما هو مُوَضَّحٌ سابقًا، يُوَضِّحُ التشاؤم الدفاعي القيمة التكيُّفية للتفكير من خلال سيناريوهات أسوأ الحالات والتحرر من القلق لتحفيز وتنفيذ إجراءات فعَّالة.
وكما هو الحال مع العديد من الأشياء في الحياة، لا بدَّ من وجود مستوى توازن، فضلًا عن الحاجة لرؤية الأشياء ببصيرة حتى تعرف أين توجد نقطة التوازن؛ لأن التأرجح بين أقصى حدين من المُرَجَّح أن يأتي بنتائج عكسية. وأحيانًا تكون سمات «القاتل» هي الصفات اليومية التي يمكن استخدامها إما سلبًا وإما إيجابًا. ولكن تَذَكَّرْ أن أحد القرارات الرئيسية في هذا الكتاب هو أنه في الحالات الشديدة من الخوف والتشاؤم والضغط على المدى الطويل، سوف يُستهلَك النطاق الترددي للمخ وتُستنزف الطاقة اللازمة للتفكير الإبداعي.
(٢) طرفا الإبداع
ماذا عن الإبداع نفسه؟ ربما لا يكون الضحية البريئة التي صورناها؛ فربما يكون لديه تحديات شخصية خاصة به …
بينما كُنَّا نُفكر في هذا الفصل الأخير، احتاج كالن إلى المساعدة في إتمام واجب دراسي عن فنانين مشاهير، وقد أذهَلَنا الجانب السلبي للعبقرية الإبداعية؛ إذ اختار كالن للتركيز على لوحة لفان جوخ رسمها بنفسه بعد أن قطع أذنه بنفسه، وهذا انعكاس للذات ليس شديد الإيجابية لفرد مبدع ومُعَذَّب (وهناك، بالطبع، العديد من الأمثلة الأخرى على ذلك.) أظهر هذا الواجب الدراسي البسيط لنا — أكثر من غيره — المصاعب التي يمكن أن تصاحب العبقرية الإبداعية. ففي حين أننا قد نُعْجَبُ بما حققه المبدعون الاستثنائيون، فإنه من المهم أن ندرك أن العديد من العباقرة المبدعين هم في الواقع نفوس معذبة. وحساسيتهم الشعورية وشغفهم غالبًا ما يكونان مفرطين بدرجة تصيب حياتهم بالخلل الوظيفي العميق بل وتُشكلها عن طريق الصعاب المستمرة المتواصلة. وبالنسبة للبعض، في الواقع، يبدو أن هناك خيطًا رفيعًا يفصل بين العبقرية الإبداعية والجنون.
-
كان ألبرت أينشتاين يلتقط أعقاب السجائر من الشارع ليجمع التبغ لغليونه.
-
قضى هوارد هيوز أيامًا كاملة في منطقة خالية من الجراثيم بناها بنفسه في وسط جناحه بفندق بيفرلي هيلز.
-
اعتقد الموسيقار روبرت شومان أن بيتهوفن أخرج مؤلفاته الموسيقية.
-
أحب سلفادور دالي الاحتفاظ بحيوانات أليفة غريبة.
-
أظهر مايكل جاكسون هوسًا غير طبيعي بالجراحات التجميلية.
-
عُرف ستيف جوبز بهوسه ببعض الأشياء بطرق عدة، بما في ذلك النظام الغذائي.
هذا لا يعني بالطبع أن الإبداع يساوي الجنون، وأنت بالتأكيد ليس عليك أن تكون مجنونًا حتى تكون مبدعًا. تذكر أن ٣٠ بالمائة من بيننا يستوفون معايير الاضطرابات النفسية الشديدة في مرحلة ما في حياتهم؛ لذا هناك وقت يعبر فيه الكثير منا حدود ما هو «طبيعي». ولعل الإبداع يظهر أحيانًا بطرق غير اعتيادية، لكن الإبداع في حد ذاته ليس صفة إيجابية ولا سلبية. إنه ببساطة ما هو عليه. والفكرة هي أننا علينا استخدام الإبداع بطريقة بناءة، مع استغلال كل ما يمكننا أن نستغله من جانبي شخصيته التأملي والنشط بتوازن.
فكِّر في أهمية الانفتاح بحق على مشاعرنا وعواطفنا الدفينة. وتأمل كيف يمكننا التواصل مع المشاعر العميقة التي تجلب على حياتنا شغفًا ومعنًى، عَبْر التعامل مع عواطفنا الدفينة والاستجابة لها، ما يُمَكِّننا ربما من إشعال حس التواصل والهدف. وبالتأكيد هذا شكل من أشكال التحرر الجديرة بالسعي وراءها على الرغم من التحديات المحتملة.
(٣) اللعب بالنار والمزيد من الابتكارات الهدامة
من المشاهد الغريبة جدًّا التي نراها عند القيادة في المناطق النائية في أستراليا رؤية رجال الإطفاء مع قاذفات اللهب بدلًا من خراطيم المياه. لماذا يُضْرِم عمال الطوارئ هؤلاء النيران في الأدغال بدلًا من إطفاء الحرائق، كما تتوقع منهم أن يفعلوا؟ السبب هو أنهم يعرفون سرًّا تعلموه من أهل البلاد الأصليين في أستراليا، وهو أمر قد عرفه السكان الأصليون لآلاف السنين. تحتاج الأدغال الأسترالية للتجديد بانتظام. فالحريق المتعمد يساعد على حماية المناطق المأهولة بالسكان عبر الحد من تراكم الوقود بطريقة محكمة، وحرق الأدغال يشجع أيضًا على تجديدها على المدى الطويل. فبعد الحريق، تنبت الأشجار والشجيرات الأصلية نباتات وبراعم جديدة، وتنمو من جديد أكثر سمكًا وصلابة مما كانت عليه. لكن لا بدَّ من تقييم ممارسة الحرائق المتعمدة في سياق دورة الحياة الكاملة للأدغال. فدون هذا الحريق، لا يزدهر الموطن الطبيعي.
إنَّ جلب الإبداع إلى حياتك أو مؤسستك يشبه الإجراءات الوقائية التي يتخذها رجال الإطفاء الأستراليون. وحريق الغابات المتعمد ربما يُعَدُّ نوعًا من جرائم الحريق العمد (إذ يسبب الدمار ويخلِّف الخراب) أو عملية إنقاذ استباقية (إذ يؤدي الحريق المتعمَّد المحكم إلى الحماية على المدى الطويل وإلى حياة جديدة في نهاية الأمر). ويُعَدُّ الحريق المُتَعَمَّد تدبيرًا وقائيًّا، فدون الحرق العمد المُنفَّذ بحرص، ستلتهم النيران الشرسة البيئة بلا رحمة في نهاية الأمر.
دعنا نقلب الطاولة على الفرضية الرئيسية لهذا الكتاب في تمرين تأملي ممتع، ونفكر في سيناريو «مَن فعلها؟» عكسيًّا. دعونا نتخيل للحظة أن الإبداع هو القاتل المشتبه به وأنه المتهم بتهديد أو قتل القيم الأخرى التي قد تكون أساسية للبقاء، مثل الاستقرار أو الاستمرارية أو طول الأمد. وبعدها يمكننا أن نطرح الأسئلة مثل: «مَن قتل النظام الذي يوفر الاستقرار؟» أو «مَن الذي تحدى الوضع الراهن؟»
(٤) الابتكار أو الموت: العواقب التجارية والاجتماعية للتجديد
إذا لم تكن موجودًا لتشهد تحول نيويورك من عصر العربات التي تجرها الخيول إلى السيارات، أو إذا فاتك التحول إلى الطاقة الكهربية النظيفة نسبيًّا في المنازل بعد عصر حرق الوقود الأحفوري المستنزف — مثل الفحم الذي تسبَّب في تسميم رئات أجيال — ربما تكون لا تزال محظوظًا بالقدر الكافي لتكون شاهدًا على مرحلة تجديد جديدة للحضارة الإنسانية. فشهيتنا النهمة للحصول على أشياء أكثر «على نحو أسرع وأفضل، وبسعر أرخص» تتطلب منا المزيد والمزيد من التفكير الابتكاري.
لذا ما الشكل الذي ستتخذه إعادة ضبط الإبداع التالية؟ إنَّ المشكلة الكبرى الحالية حول الاحتباس الحراري تقدم فرصة كبيرة «لإعادة ضبط الإبداع»؛ إذ تبدو الآن تجسيدًا بارزًا لمبدأ «التصرف أو الموت»، خشية أن يصل بنا المطاف إلى خراب يَبَابٍ على شاكلة ما تَجَسَّدَ في فيلم «ماكس المجنون». وفي مجالات أخرى، نشهد الآن صعود مؤسسات صغرى وبارعة، يمكنها منافسة الشركات الأكبر والأكثر رسوخًا على عدد من الأصعدة. انظر كيف ينال الطفل المبدع الذي يملك جهاز كمبيوتر محمول — ويعمل في مرأبه — احترام المدير التنفيذي الذي كانت له اليد العليا من ذي قبل، بل ويُثِيرُ خوفه في الوقت نفسه.
إنَّ العديد من المؤسسات التي تعمل في مجال الترفيه — والتي تكافح من أجل البقاء إثر التغيرات التكنولوجية السريعة — تستخدم التفكير الإبداعي لتوليد حلول ذكية. على سبيل المثال، كثيرًا ما كانت تُقلَّد العلامات التجارية الناجحة للملابس قبل أن تصبح قرصنة الموسيقى والبرامج التليفزيونية مشكلة خطيرة. وفي أسواق بالي — ولعديدٍ من السنوات — كافحت شركات ملابس رياضة التزلج على الماء كي تنافس البضائع المقلدة الرخيصة التي كانت تُباع في كل زاوية في الشارع؛ إذ كانت كل سلعة مقلدة تباع بحفنة قليلة من الدولارات وتجذب السياح الراغبين في اقتناص صفقة سريعة بجزء ضئيل من تكلفتها الطبيعي أَيَّمَا انجذاب. نتيجة لذلك، تَوَصَّلَ صاحب إحدى أكبر العلامات التجارية لملابس التزلج على الماء إلى وسيلة بارعة للتعامل مع هذه المشكلة. فبعد أن توصل إلى هوية أكبر المذنبين في سوق الملابس المقلدة الرخيصة، عرض عليهم فرصة الحصول على ترخيص العلامة التجارية الأصلية وتمثيلها في بالي. وفي المقابل، تعهَّدوا بأن تظل العلامات التجارية المزيفة مشكلة قائمة. ففي حين أنه لم يكن لدى أصحاب العلامات التجارية الكبرى القدرة على السيطرة على ما كان يحدث في الأسواق المحلية وفي شوارع كوتا، تمتع السكان المحليون بهذه القدرة. وكان النجاح السريع لهذه الترتيبات مذهلًا.
وما نشهده اليوم ليس دورة طبيعية ومذهلة للنمو والوفاة فحسب، بل هو نموذج تجديد أصبحت فيه المخاطر أعلى مما كانت عليه في أي وقت مضى. وعلى التفكير الإبداعي أن يُطبق لحل مشكلات العالم، وليس لمجرد بيع المزيد من المنتجات وكسب المزيد من الأموال، وزيادة الدخل الفردي على نحو ضخم، ودعم دورة الرأسمالية المحدودة. وبقوة الأفراد، يستطيع القيام بذلك كلُّ مَن أدرك أنه قادر على صنع مستقبله بيديه. وفي ظل سهولة اندلاع ثورة الابتكار بلا قيود، سيتسع نطاقها وستصبح أكثر انتشارًا من أي شيء سبقها. كما ستكون اختبارًا لمدى استعدادنا للتعرف على الاحتياجات المحددة في هذه العملية التمكينية الجديدة والاستجابة لها بإبداع.
(٥) حتمية التغيير والتغلب على الصعاب المستقبلية بطريقة بناءة
التغيير حتمي؛ ودائمًا ما ستكون هناك صعاب جديدة علينا تَخَطِّيهَا، وسنحتاج دائمًا إلى الابتكار كي نتغلب على هذه الصعاب التي تواصل ظهورها بحجم متزايد. والابتكار ليس صالحًا ولا خبيثًا؛ فما هو إلا ابتكار. فإما سنشارك بإيجابية في العملية وإما لا؛ ولذا فالأمر متروك لنا لنقرر إن كنا سنمثل جزءًا إيجابيًّا من العملية أم سنصبح ضحاياه قَلِيلِي الحظ.
سيتحتَّم على المؤسسات أيضًا أن تُدْرِكَ أثر هذا الابتكار على مستقبلها. إن لم يخرج الإبداع من المؤسسة، فسوف ينبع من الناس، وإن لم تقدر المؤسسة على التغيير فستُصبح بائدة. أمَّا «الإبداع الهدام»، فسيظهر بمساعدة من المؤسسة أو موافقتها أو بدونهما. وسوف يبتكر العملاء بمساعدة أو من تلقاء أنفسهم. لقد بدأ الناس تنزيل البرامج التليفزيونية ليس لأنهم بالضرورة يستمتعون بتصرفهم بشكل غير قانوني، لكن ببساطة لأنهم لا يريدون أن يُملى عليهم ما يشاهدونه ووقت مشاهدته. ففي النهاية، إنَّ الصبي المراهق الذي ينزل — على نحو غير قانوني — آخر البرامج التليفزيونية من موقع ذا بايريت باي باستخدام برنامج يو تورنت، غالبًا ما سيفضِّل تحميله من موقع محطة إيه بي سي التليفزيونية بدون فيروسات وبجودة عالية الوضوح. وحتى إن اضطروا إلى تحمُّل الإعلانات التقليدية، فسيكون ذلك أفضل من اضطرارهم إلى تحمُّل شريط الإعلان عن المواقع الإباحية التي تصاحب صفحات يو تورنت، وكذلك أفضل مما إذا حدث ونقروا بالصدفة على زر «تحميل» الخاطئ!
لأن الابتكار ينشأ عن التوتر الهيكلي بين واقع الأمور والشكل الذي نتخيَّلها عليه، فإن الفجوة بين ما يستطيع الناس فعله اليوم وما يريدون أن يتمكَّنوا من فعله تقود التغيير إلى ما هو أبعد من توقعات أيِّ شخص. ولذا سوف يتحتم اتخاذ خطوات استباقية للتعامل مع تغير المناخ بدلًا من انتظار الطبيعة الأم لِتُجْرِيَ إعادة ضبط حتميَّة للبيئة. وبدلًا من صناعة المنتجات أو تقديم الخدمات للعملاء، سيتعيَّن على المؤسسات أن تتعلم إتاحة المجال للعميل لتحديد الابتكار وتحفيزه.
وفي مجال بيع الملابس بالتجزئة الذي يواجه صعوبات الآن، على تجار التجزئة المنافسة مع المتسوقين معدومي الضمير الذين يقيسون الملابس للتأكد من أنها مقاسهم ثم يتحقَّقُون من أفضل الأسعار على الإنترنت عبر هواتفهم الذكية. وتتعامل بعض المتاجر مع هذا الأمر بفرض رسوم لقياس المعروضات، بقيمة ٥٠ دولارًا لأحذية التزلج، و٣٠٠ دولار لفستان الزفاف! وبينما وجدت العديد من الشركات أنها تتكبَّد الكثير بسبب هذه الرسوم التي أتت كرد فعل، بدأت متاجر — مثل ماير — عملية «الحريق العمد» الاستباقية مستجيبةً إلى «الابتكارات الهدامة» عبر تأسيس متاجرهم الخاصة على شبكة الإنترنت بالخارج (في هونج كونج) لتثبيت أقدامهم في مدخل سوق الإنترنت المتنامية أسرع فأسرع.
وتقول سيبولد إنه بدلًا من افتراض أن المؤسسة بها «الخبراء» الذين هم أكثر ذكاءً من عملائها — وهو لم يعد الحال دومًا — ستنفتح المؤسسات الذكية على مساهمات العملاء أو الزبائن وستقدِّرها. وجرت التقاليد على أن تُشيَّد المؤسسة على أنها هي المختصة، وأن تُصمم المنتجات لِتَوَقُّعِ ما قد يرغبه العميل. وبعدها يعمل فريق التسويق على بيع هذا المنتج عبر خلق حاجة فعلية له. واليوم — رغم ذلك — أصبحت المنتجات أكثر ملاءمة للمستخدمين وأكثر صلة بهم، كما أنها تَبِيع نفسها إلى حد بعيد، من خلال البدء اعتمادًا على مساهمات العملاء. ويرى البعض أن هذه إحدى الاختلافات الجوهرية بين مايكروسوفت وأبل؛ فمايكروسوفت ركزت الابتكار حول منتجاتها، بينما ركزت أبل الابتكار حول عملائها.
على سبيل المثال، تخطَّت أبل الحدود الإلزامية المعتادة لمنحنى البُعدية عبر إتاحة المجال للجميع لتصميم تطبيقات جديدة لأجهزة آيفون أو الآي باد التي تُنْتِجُها. أَدَّى هذا إلى زيادة القوى العاملة لديها بأكثر من ١٠٠ ألف شخص بدون أَيٍّ من التكاليف أو الالتزامات المقترنة بها! ومثَّل تحولًا كاملًا من الطريقة التي كان يُفرَّق بها بين أبل ومايكروسوفت من قبل. فقد أسست مايكروسوفت أولًا نظامًا مفتوحًا جعل من الممكن استخدام منتجاتها مع أي جهاز، بينما بقيت أبل مقيدة، لكن الآن قلبت أبل الطاولة بهذه الفرصة من أجل الاستخدام المفتوح. وما قد يدل عليه هذا هو أن المؤسسات القادرة على توسيع نطاق استخدام منتجاتها تتحرر أكثر لتصبح أكثر إبداعًا، وهذه هي المؤسسات التي ستفوز في نهاية المطاف.
ربما حان الوقت الآن للبدء من جديد ولإتاحة المجال للإبداع لإيجاد طرق جديدة أفضل نحو النمو. ومثلما كانت هناك طرق قليلة للتغلب على الصعاب الحالية بأمان — مع ضمان أنك لن تسقط سقوطًا حرًّا فتنهار أو تنزلق بلا سيطرة على منحنيات العمل الحادة — قدمنا لك في هذا القسم بعض المناهج لتجتاز التغيرات التي سيأتي بها المستقبل. ومثل المتزلج الذي يَبْرَعُ في الخروج عن المسارات، يمكنك تمرين عقلك وممارسة مهاراتك الشخصية لتتعلم أن تستجيب بسرعة وبخبرة لأي عقبات خفية. ومثل أولئك الذين ينزلون من على الارتفاعات عن طريق سلسلة من المراحل التي يتمكَّنون من قطعها بعد التخطيط لها، يمكنك أن تخصص وقتًا لمواجهة التحديات المحددة، ببطء وبعناية، وخطوة بخطوة، مع إبقاء مداركك منفتحة لاحتمالات إبداعية جديدة، في الوقت الذي ستدخل فيه الابتكارات العملية إلى فريقك ومؤسستك.
(٦) كيف يمكن لسكان مقلب النفايات بالمكسيك أن ينقذوا الكوكب؟
وبقدر ما يبدو مقلب القمامة بمدينة مكسيكو سيتي مكانًا محبطًا للغاية، فإننا وجدناه مجتمعًا نابضًا بالحياة به أشخاص ذوو عزم وابتسامات ساحرة وروح إيجابية. كانت منازلهم مشيدة على طول شوارع نظيفة، قُطعت عبر أكوام القمامة وكانت تُكنس بعناية كل يوم لإعطاء بعض مظاهر النظام وسط الفوضى. أمَّا «الحدائق» الصغيرة (وكانت شتلات نباتية تعاني داخل علب صدئة قديمة، وبرطمانات صلصة زجاجية قديمة ملونة، وداخل إطارات)، فجسَّدت روح الأمل والمرح الإبداعيين للمجتمع. ورغم أن الأطفال كانوا يعملون بكد كلَّ يوم في جمع المواد القابلة للتدوير للمساهمة في دخل الأسرة، كان أيضًا لديهم الوقت للعب، والإبداع. فصنعوا طائراتهم الورقية من البلاستيك والعصي المهملة، وصنعوا ألعابهم المبتكرة من الدُّمَى التي نبذها الأطفال الأثرياء، فجمعوا الأجزاء والقطع الصغيرة التي وجدها الأطفال الآخرون عديمة الفائدة. فمن العدم — ربما لأنهم لم يملكوا شيئًا — تَحَلَّوْا بالاختراع والابتكار. وبدلًا من مشاهدة القصص الجاهزة على التليفزيون واللعب بالدُّمَى الجاهزة، بدءوا من الصفر، واستخدموا خيالهم لخلق ما لم يكن لديهم.
لقد أمعنا التفكُّر مليًّا في المفارقة التي انطوى عليها الموقف؛ فما كان هناك مكان أبعد ما يكون عن هذا المجتمع من منطقة نورذرن بيتشيز الرغدة في سيدني التي أتينا منها، والتي يشكو فيها الأطفال من الشعور بالملل وعدم وجود شيء ليفعلوه رغم إمكانية حصولهم على أي عدد من الأدوات الجاهزة والألعاب ووسائل التسلية. كان المجتمع المكسيكي أبعدَ ما يكون أيضًا عن فِرْدَوْسِنَا في بالي، حيث أدت القوى الخارجية القوية إلى موت الشاطئ البسيط وفقدان البراءة الإبداعية وزوال الروح الإبداعية في المجتمع القروي. لقد وجدنا خلاصة التفكير الإبداعي المبتكر في آخر الأماكن غير المتوقعة. وأدركنا في ذلك اليوم مدى أهمية اكتشاف العقلية — بل والتعلم منها — التي مَكَّنَتْ هؤلاء الذين لا يمتلكون أي وسائل من بناء شيء من العدم، والتَّحَلِّي بالأمل المستمر في مستقبل أفضل.
ليس على مدننا وحضاراتنا أن تموت، وعلينا ألا ندع الإبداع يقضي نَحْبَه. وفي أثناء سباقنا نحو المستقبل، علينا أن نُحَفِّزَ تبادل الأفكار بدءًا من الطبقات العليا عند مكتب الرئيس التنفيذي ونزولًا إلى مقلب القمامة ثم الصعود مرة أخرى. قد يبدو الوضع مجنونًا للغاية، لكن التطبيق الذكي للإبداع يضمن أنه سيواصل انبعاثه في المزيد من الأماكن الملهمة، في ظل وجود صلات أفضل من أجل النمو المتواصل الإيجابي.
كلما دُمر الإبداع ينبعث مرة أخرى في آخر الأماكن غير المتوقعة، حتى في حطام حضارتنا التي يتصاعد منها الدخان، مثل طائر العنقاء بَرَّاق اللون الخرافي الذي ينبعث من الرماد. فكلٌّ منا لديه القدرة على صناعة شيء رائع من الأشياء التي أُعطيت إلينا. فسواء الأطفال الذين صنعوا الطائرات الورقية ليطيروها فوق مقلب القمامة الذي هو بيتهم، أو معلم المدرسة الذي يُلْهِم تلاميذه لاستكشاف أفكار جديدة، أو موظفو المكاتب الذين يخلقون مصادر إبداعهم في مقارِّ عملهم غير الملهمة، أو القائد الذي بإمكانه أن يغير الشركة بأكملها، فكلٌّ منا لديه مهاراته الفريدة التي يظهرها وأشياء مُمَيَّزة ليقدمها.
عندما نبدأ العمل بهذه الطريقة، فإننا نُضعف قوة قتلة الإبداع ونبثُّ الحياة في العملية الإبداعية؛ مما يساعد على جعل العالم مكانًا أفضل. ونأمل أن تكون قد تلقيت الإلهام لتفتح آفاقك العقلية للبدء بهذه العملية وأن تجد وسيلةً لتقدم بها مساهمتك الإيجابية.