كِيسُ الدَّنَانِيرُ
(١) الْغَنِيُّ الْبَخِيلُ
اسْتَمِعُوا لِي — يا أَبْنائِيَ الْأَعِزَّاءَ، وَأَنا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَجَبًا مِنْ أَخْبَارِ «جُحا» وَطَرَائِفِهِ، وَأَنْتُمْ وَاجِدُونَ فِي هَذا الْحَدِيثِ مُتْعَةً طَيِّبَةً، وَحِكْمَةً نافِعَةً، مِنْ خِلالِ قِصَّةٍ مُسَلِّيَةٍ، أَرْوِيها لَكُمْ كَمَا سَمِعْتُهَا وَوَعَيْتُهَا:
كَانَ لِـ«جُحا» جارٌ غَنِيٌّ. كانَ — عَلَى فَرْطِ غِناهُ وَكَثْرَةِ مَالِهِ — شَدِيدَ الْبُخْلِ، لا يُحْسِنُ إِلَى فَقِيرٍ، وَلا يُسَاعِدُ مُحْتَاجًا.
كانَ — عَلَى ذَلِكَ — كَثِيرَ الْعُيُوبِ، جَمَّ النَّقَائِصِ. كانَ مِنْ أَكْبَرِ عُيُوبِهِ: شِدَّةُ فُضُولِهِ. طَالَمَا دَفَعَهُ الْفُضُولُ إِلَى التَّجَسُّسِ عَلَى جارِهِ «جُحا»، لِيَتَعَرَّفَ ما خَفِيَ مِنْ أَسْرارِهِ.
كانَ — فِي بَعْضِ الْأَحْيانِ — يَرْتَقِي سُلَّمًا، وَيُطِلُّ عَلَى «جُحا» مِنْ فَتْحَةٍ صَغِيرَةٍ — فِي أَعْلَى الْحَائِطِ — لِيَتَجَسَّسَ عَلَيْهِ، وَيَتَقَصَّى أَخْبَارَهُ.
كانَ لا يَسْتَحِي مِنْ فَعْلَتِهِ، وَلا يَكُفُّ عَنْ عادَتِهِ. كانَ مِثالًا سَيِّئًا لِلْجارِ الَّذِي لا يَرْعَى حَقَّ الْجِوارِ.
(٢) خُطَّةٌ بارِعَةٌ
لَمْ يَخْفَ عَلَى «جُحا» الذَّكِيِّ، ما يَصْنَعُهُ الْجارُ الْغَبِيُّ. لَكِنَّ «جُحا» تَظاهَرَ بِالْغَفْلَةِ..
لَمْ يُشْعِرْ جارَهُ أَنَّهُ عَارِفٌ بِنَقِيصَتِهِ الْبَغِيضَةِ الَّتِي تَجْلِبُ عَلَى صاحِبِها كَرَاهِيَةَ النَّاسِ واحْتِقَارَهُمْ، وَبُغْضَهُمْ وَنُفُورَهُمْ.
أَتَعْرِفُونَ لِماذا تَظاهَرَ «جُحا» بِالْغَفْلَةِ والْغَبَاءِ؟
كانَ يَعْتَزِمُ أَنْ يُعَاقِبَ جارَهُ عَلَى فُضُولِهِ، وَيُلَقِّنَهُ دَرْسًا قاسِيًا لا يَنْساهُ أَبَدًا.
كانَ يُعِدُّ خُطَّةً بارِعَةً لِمُعاقَبَتِهِ. أَرَادَ أَنْ يَتَحَيَّنَ فُرْصَةً مُناسِبَةً لِتَنْفِيذِ خُطَّتِهِ، بَعْدَ أَنْ ضَاقَ ذَرْعُهُ، وَنَفِدَ صَبْرُهُ مِنْ سَماجَتِهِ.
ظَلَّ «جُحا» يَبْسُطُ يَدَيْهِ — كُلَّ صَباحٍ — داعِيًا اللهَ أَنْ يَمْنَحَهُ أَلْفَ دِينَارٍ: أَلْفَ دِينارٍ كامِلَةً لا تَنْقُصُ دِينارًا وَلا تَزِيدُ. فَإِذا نَقَصَتْ أَوْ زادَتْ — وَلَوْ دِينارًا واحِدًا — فَلَنْ يَقْبَلَها أَبَدًا.
كانَ «جُحا» يُرَدِّدُ هذا الدُّعاءَ — كُلَّ صَباحٍ — بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ، كُلَّما رَأَى جارَهُ يُطِلُّ عَلَيْهِ.
(٣) نَجاحُ الْخُطَّةِ
بَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، انْخَدَعَ الْفُضُولِيُّ بِما سَمِعَ. لَمْ يَلْبَثْ أَنْ جازَتْ عَلَيْهِ حِيلَةُ «جُحا». حَسِبَهُ جادًّا فِيمَا يَقُولُ.
لَمْ يَخْطُرْ بِبالِ الْفُضُولِيِّ أَنَّ «جُحا» كانَ يُعِدُّ لَهُ فَخًّا لِيُوقِعَهُ فِيهِ. سُرْعانَ ما وَقَعَ فِي الْفَخِّ الَّذِي نَصَبَهُ «جُحا».
ذَا صَباحٍ، قالَ الْفُضُولِيُّ فِي نَفْسِهِ: «ماذا عَلَيَّ إِذا اخْتَبَرْتُ «جُحا»، لِأَتَعَرَّفَ: أَصَادِقٌ هُوَ فِي زَعْمِهِ، أَمْ هُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ؟»
•••
أَعَدَّ الْفُضُولِيُّ كِيسًا فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ إِلَّا وَاحِدًا.
تَحَيَّنَ غَفْلَةً مِنْ جارِهِ، ثُمَّ أَلْقَى بِالْكِيسِ مِنَ الْفَتْحَةِ الَّتِي تُطِلُّ عَلَى حُجْرَتِهِ.. ظَلَّ الْفُضُولِيُّ يَتَرَقَّبُ ما يَصْنَعُهُ «جُحا» بِكِيسِ الدَّنَانِيرِ…
كانَ «جُحا» يَتَأَهَّبُ لِلْخُرُوجِ..! كانَ لِسُقُوطِ الْكِيسِ عَلَى أَرْضِ الْحُجْرَةِ صَوْتٌ عالٍ، سَمِعَهُ «جُحا» قَبْلَ أَنْ يُفارِقَ بَيْتَهُ.
(٤) فَرْحَةُ النَّجَاحِ
أَسْرَعَ «جُحا» بِالْعَوْدَةِ إِلَى الْحُجْرَةِ. أَدْرَكَ «جُحا» ما صَنَعَهُ الْجارُ.
كانَ «جُحا» يَتَرَقَّبُ هَذِهِ النَّتِيجَةَ. فَرِحَ «جُحا» بِنَجَاحِ خُطَّتِهِ، حِينَ رَأَى كِيسَ الدَّنَانِيرِ مُلْقًى عَلَى أَرْضِ الْحُجْرَةِ.
لَمْ يَفُتِ الْفُضُولِيُّ أَنْ يُطِلَّ عَلَى «جُحا» مُتَلَصِّصًا مُتَجَسِّسًا. كانَ الْفُضُولِيُّ شَدِيدَ الشَّوْقِ إِلَى رُؤْيَةِ ما يَصْنَعُهُ «جُحا» بِكِيسِ دَنَانِيرِهِ.
أَتَعْرِفُونَ ماذا رَأَى الْفُضُولِيُّ؟
رَأَى «جُحا» يُسْرِعُ إِلَى كِيسِ الدَّنَانِيرِ. رَآهُ يَقْتَرِبُ مِنْهُ فَرْحانَ مُبْتَهِجًا.
كانَتْ فَرْحَةُ «جُحا» بِنَجاحِ تَدْبِيرِهِ، لا يَعْدِلُها إِلَّا حَسْرَةُ الْفُضُولِيِّ عَلَى خَيْبَةِ أَمَلِهِ وَسُوءِ تَقْدِيرِهِ، بَعْدَ أَنْ رَأَى لَهْفَةَ «جُحا» وَإِسْراعَهُ إِلَى الِاسْتِيلاءِ عَلَى دَنَانِيرِهِ.
كانَ «جُحا» يَعْلَمُ أَنَّ الْفُضُولِيِّ يُطِلُّ عَلَيْهِ مِنْ نافِذَةِ حُجْرَتِهِ، لِيَتَعَرَّفَ حَقِيقَةَ نِيَّتِهِ.
(٥) عَدَدُ الدَّنانِيرِ
دَهِشَ الْفُضُولِيُّ حِينَ رَأَى «جُحا» يَهَشُّ لِرُؤْيَةِ كِيسِ الدَّنَانِيرِ.
دَهِشَ الْفُضُولِيُّ حِينَ رَآهُ يَقْتَرِبُ مِنَ الْكِيسِ، ثُمَّ يَفْتَحُهُ لِيَتَعَرَّفَ مِقْدَارَ ما يَحْوِيهِ.
جَزِعَ حِينَ رَأَى عَيْنَيْ «جُحا» تَبْرَقانِ مِنَ الْفَرَحِ، وَهُوَ يُقَلِّبُ الدَّنانِيرَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ يَعُدُّهَا دِينارًا فَدِينارًا.
تَمَلَّكَهُ الْفَزَعُ حِينَ سَمِعَهُ يَحْمَدُ اللهَ عَلَى تَحْقِيقِ رَجَائِهِ، وَالِاسْتِجابَةِ إِلَى دُعَائِهِ.
كادَ يَصْعَقُ حِينَ سَمِعَهُ يَقُولُ بَعْدَ أَنِ انْتَهَى مِنْ عَدِّ الدَّنَانِيرِ: «تَبَارَكْتَ، يا رَبَّ السَّمَوَاتِ! ما أَعْظَمَ فَضْلَكَ، وَأَوْفَرَ نِعْمَتَكَ عَلَى عَبْدِكَ «جُحا» الشَّاكِرِ لِمَنَّتِكَ وَعَطَائِكَ، الْغارِقِ فِي فَضْلِكَ وَنَعْمائِكَ. حَمْدًا لَكَ، يا إِلَهِي! نَوَّلْتَنِي ما طَلَبْتُ، وَأَظْفَرْتَنِي بِمَا أَرَدْتُ. ما أَظُنُّ الدِّينارَ الْبَاقِيَ إِلَّا آتِيًا بَعْدَ قَلِيلٍ.»
قالَ الْفُضُولِيُّ فِي نَفْسِهِ: «واعَجَبَا مِمَّا أَرَى وَأَسْمَعُ! كَيْفَ يَقْبَلُ «جُحا» دَنانِيري، بَعْدَ أَنْ نَقَصْتُها دِينارًا؟»
(٦) نَدَمُ الْفُضُولِيُّ
اشْتَدَّ خَوْفُ الْفُضُولِيِّ السَّاذَجِ حِينَ رَأَى «جُحا» يُعِيدُ الدَّنَانِيرَ إِلَى الْكِيسِ، بَعْدَ أَنِ انْتَهَى مِنْ عَدِّها.
أَقْفَلَ «جُحا» صُنْدُوقَهُ بَعْدَ أَنْ أَوْدَعَ فِيهِ كِيسَ الدَّنَانِيرِ.
أَدْرَكَ الْفُضُولِيُّ أَنَّ «جُحا» لَمْ يَكُنْ صادِقًا فِيما زَعَمَهُ.
أَيْقَنَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْفَخِّ الَّذِي نَصَبَهُ «جُحا». أَيْقَنَ أَنَّ «جُحا» خَدَعَهُ وَضَلَّلَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى دَنَانِيرِهِ، بَعْدَ أَنْ ضَحِكَ مِنْهُ وَتَغَفَّلَهُ.
شَعَرَ بِالنَّدَمِ عَلَى تَسَرُّعِهِ فِي تَصْدِيقِ ما سَمِعَهُ مِنْ «جُحا»؛ وَلَكِنْ: مَاذَا يَنْفَعُ النَّدَمُ؟!
ارْتَبَكَ الْفُضُولِيُّ. تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ. لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ؟
أَمَّا «جُحا» فَكانَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ جَارِهِ الْفُضُولِيِّ. ابْتَهَجَ «جُحا» بِنَجَاحِ حِيلَتِهِ.
ضَحِكَ «جُحا» مِنْ سَذَاجَةِ الْفُضُولِيِّ وَغَفْلَتِهِ.
اطْمَأَنَّ «جُحا» بَعْدَ أَنْ أَوْدَعَ صُنْدُوقَهُ كِيسَ الدَّنانِير وَكُلِّلتْ خُطَّتُهُ بِالنَّجاحِ.
(٧) بَيْنَ الْفُضُولِيِّ وَ«جُحا»
خَشِيَ الْفُضُولِيُّ عَلَى مالِهِ مِنَ الضَّياعِ.
عَزَمَ عَلَى اسْتِرْدادِ دَنَانِيرِهِ.
أَسْرَعَ بِالذَّهَابِ إِلَى بَيْتِ «جُحا» لِيُعَاتِبَهُ عَلَى ما صَنَعَ.
طَرَقَ الْبابَ طَرَقاتٍ عَنِيفَةً. كانَ «جُحا» يَتَرَقَّبُ حُضُورَ الْفُضُولِيِّ. أَسْرَعَ «جُحا» إِلَى الْبابِ، فَفَتَحَهُ. هَشَّ إِلَى لِقَاءِ الْفُضُولِيِّ وَبَشَّ.
ابْتَدَرَهُ الْفُضُولِيُّ مُتَلَهِّفًا، راجِيًا مِنْهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِرَدِّ دَنانِيرِهِ إِلَيْهِ. تَظاهَرَ «جُحا» بِالْغَباءِ وَالْغَفْلَةِ.
سَأَلَ الْفُضُولِيَّ: ماذا يَعْنِي؟
أَجابَهُ الْفُضُولِيُّ: «كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أُدَاعِبَكَ وَأُمَازِحَكَ يا «جُحا»، حِينَ أَلْقَيْتُ إِلَيْكَ بِالدَّنَانِيرِ».
(٨) غَضَبُ الْفُضُولِيِّ
قالَ «جُحا»: «أَيُّ دُعابَةٍ — يا أَخِي — وَأَيُّ مُزَاحٍ! إِنَّهَا دُعَابَةٌ سَمِجَةٌ؟»
قالَ الْفُضُولِيُّ: «كُنْتُ واثِقًا مِنْ أَنَّكَ سَتَرُدُّ الدَّنانِيرَ إِلَيَّ.»
قالَ: «جُحا»: «أَلا تَكُفُّ عَنِ الْمُزاحِ؟»
قالَ الْفُضُولِيُّ: «كَلَّا، لَسْتُ أَمْزَحُ.»
قالَ «جُحا»: «ما أَعْجَبَ تَنَاقُضَكَ، يا أَخِي! أَلَمْ تَقُلْ لِي إِنَّكَ أَرَدْتَ الْمُزَاحَ؛ فَكَيْفَ تُنْكِرُ ما قُلْتَ؟»
قالَ الْفُضُولِيُّ: «أَرَدْتُ الْمُزاحَ حِينَ أَلْقَيْتُ إِلَيْكَ بِالدَّنانِيرِ، وَأَرَدْتُ الْجِدَّ حِينَ طَلَبْتُ أَنْ تَرُدَّها إِلَيَّ.»
قالَ «جُحا»: «أَيُّ دَنانِيرَ! ما أَحْسَبُكَ إِلَّا عابِثًا!»
يَئِسَ الْفُضُولِيُّ مِنْ إِقْناعِ «جُحا».
جَذَبَ «جُحا» مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ.
(٩) فَرْوَةُ الْفُضُولِيِّ
طالَ الْحِوارُ، وَعَلَا صِياحُ الْجَارِ.
قالَ «جُحا»، وَهُوَ يَتَظاهَرُ بِالْغَضَبِ: «شَدَّ مَا أَسَأْتَ إِلَى جَارِكَ! لا بُدَّ أَنْ تَضَعَ حَدًّا لِشِجَارِكَ.»
قالَ الْفُضُولِيُّ: «ما دُمْتَ تَأْبَى أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ما اغْتَصْبَتَ مِنَ الْمَالِ، فَلا بُدَّ مِنْ عَرْضِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَاضِي الْمَدِينَةِ.»
قالَ «جُحا»: «ما أَعْدَلَ ما رَأَيْتَ، وَما أَحْسَنَ ما قَضَيْتَ! الْحَقُّ مَعَكَ فِيما تَقُولُ. لَنْ يَفْصِلَ فِي مُنَازَعَتِنا غَيْرُ قاضِي الْمَدِينَةِ؛ فَهُوَ قَاضٍ عادِلٌ ذَكِيٌّ. وَلَكِنْ خَبِّرْنِي: كَيْفَ أَخْرُجُ مِنْ دارِي، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ الثِّيَابِ ما أَدْفَعُ بِهِ عَادِيَةَ الْبَرْدِ فِي هذا الشِّتاءِ الْقَارِسِ؟»
قالَ الْفُضُولِيُّ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ يا «جُحا»، فَما أَيْسَرَ ما طَلَبْتَ! سَأُحَقِّقُ لَكَ ما تُرِيدُ.»
غابَ الْفُضُولِيُّ قَلِيلًا.. ذَهَبَ إِلَى دارِهِ، ثُمَّ عادَ وَمَعَهُ فَرْوَةٌ ثَمِينَةٌ قَدَّمَها إِلَى «جُحا».
(١٠) دابَّةُ الْفُضُولِيِّ
قالَ الْفُضُولِيُّ: «الْآنَ بَطَلَتْ حُجَّتُكَ — يا «جُحا» — بَعْدَ أَنْ أَحْضَرْتُ لَكَ أَثْمَنَ ما عِنْدِي مِنَ الْفِراءِ.»
قالَ «جُحا»: «شَكَرَ اللهُ لَكَ، أَيُّهَا الْجارُ الْعَزِيزُ. الْآنَ أَمِنْتُ شَرَّ الْبَرْدِ.»
قالَ الْفُضُولِيُّ: «هَلُمَّ بِنا — يا «جُحا» — إِلَى الْقَاضِي.»
وَقَفَ «جُحا» صامِتًا لا يُجِيبُ.
قالَ الْفُضُولِيُّ: «ماذا تُرِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ أَلَمْ أُحَقِّقْ لَكَ ما طَلَبْتَ؟»
قالَ «جُحا»: «كَيْفَ تَقُولُ؟ أَنَسِيتَ أَنَّ بَيْتَ الْقاضِي بَعِيدٌ؟ كَيْفَ تُرِيدُنِي عَلَى أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِ مَاشِيًا؟ كَيْفَ أَقْطَعُ هَذِهِ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ سائِرًا عَلَى قَدَمَيَّ؟ أَلَا تَرْحَمُ شَيْخُوخَتِي وَضَعْفِي، أَيُّهَا الْمُتَعَنِّتُ الْقاسِي؟! هَلَّا أَحْضَرْتَ دَابَّةً فَتَحْمِلَنِي إِلَى دارِ الْقاضِي؟!»
قالَ الْفُضُولِيُّ: «ما أَيْسَرَ ما طَلَبْتَ. سَأُحَقِّقُ لَكَ ما تُرِيدُ!»
أَسْرَعَ الْفُضُولِيُّ إِلَى دارِهِ. غابَ قَلِيلًا، ثُمَّ عادَ وَمَعَهُ دابَّةٌ قَوِيَّةٌ، لِتَحْمِلَ «جُحا» إِلَى دارِ الْقاضِي.
(١١) خَواطِرُ الطَّرِيقِ
الْتَفَتَ الْفُضُولِيُّ إِلَى «جُحا» يَسْأَلُهُ: «هَلْ بَقِيَتْ لَكَ حاجَةٌ لَمْ أَقْضِها؟»
قالَ «جُحا»: «كَلَّا، يا عَزِيزِي. لَمْ تَبْقَ لِي حاجَةٌ. الْآنَ أَذْهَبُ مَعَكَ إِلَى دارِ الْقاضِي مَسْرُورًا راضِيًا.»
لَبِسَ «جُحا» الْفَرْوَةَ الثَّمِينَةَ الَّتِي قَدَّمَهَا لَهُ الْفُضُولِيُّ، وَاعْتَلَى ظَهْرَ دَابَّتِهِ.
ذَهَبَ «جُحا» فِي طَرِيقِهِ إِلَى دَارِ الْقاضِي راكِبًا، يَتْبَعُهُ جارُهُ الْفُضُولِيُّ ماشِيًا!
طالَ الطَّرِيقُ … جَهَدَ الْفُضُولِيَّ السَّيْرُ عَلَى قَدَمَيْهِ، عَلَى حِينِ لَمْ يَشْعُرْ «جُحا» بِأَقَلِّ عَناءٍ.
كانَ الْفُضُولِيُّ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: «ما كانَ أَغْنانِي عَنِ الزَّجِّ بِنَفْسِي فِي هذا الْمَأْزِقِ الْحَرِجِ الَّذِي جَرَّنِي إِلَيْهِ فُضُولِي، وَإِقْحامُ نَفْسِي فِيمَا لا يَعْنِينِي!»
كانَ «جُحا» يَقُولُ فِي نَفْسِهِ طَوالَ الطَّرِيقِ: «أَرْجُو أَنْ يَنْتَفِعَ الْفُضُولِيُّ بِهذا الدَّرْسِ الْقاسِي، فَلا يَعُودَ إِلَى فُضُولِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ.»
(١٢) أَمامَ الْقاضِي
وَقَفَ «جُحا» وَغَرِيمُهُ أَمامَ الْقاضِي يَحْتَكِمانِ.
سَأَلَهُما الْقاضِي: «فِيمَ تَخْتَصِمانِ؟»
ابْتَدَرَهُ «جُحا» قَائِلًا: «قِصَّتِي مَعَ هَذا الْجارِ الْعَزِيزِ مِنْ أَغْرَبِ ما سَمِعَ النَّاسُ مِنْ طَرَائِفِ الْقِصَصِ.
شِكايَتِي واضِحَةٌ، لا لَبْسَ فِيها وَلا غُمُوضَ.
شِكَايَتُهُ غامِضَةٌ مُلَفَّقَةٌ لا يَقْبَلُهَا مُنْصِفٌ، وَلا يَسْتَسِيغُهَا عاقِلٌ.
فِي صَباحِ هَذا الْيَوْمِ، باكَرَنِي هَذا الْجارُ الْعَزِيزُ بِخَبَرٍ عَجِيبٍ، كادَ يُشَكِّكُنِي فِي سَلامَةِ عَقْلِهِ.
أَيُصَدِّقُ سَيِّدِي الْقاضِي أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى دارِي لِيُطَالِبَنِي بِأَلْفٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ، يَزْعُمُ أَنَّنِي اغْتَصَبْتُهَا مِنْهُ فِي هَذا الصَّبَاحِ، عَلَى حِينِ لَمْ يُسْعِدْنِيَ الْحَظُّ بِلِقَائِهِ مُنْذُ أَيَّامٍ طَوِيلَةٍ!
لَسْتُ أَدْرِي ماذا يَعْنِي هَذا الْجارُ الْعَزِيزُ؟ كَيْفَ يَطْلُبُ مِنِّي مَالًا لَمْ يُقَدِّمْهُ إِلَيَّ؟
لا رَيْبَ أَنَّ فِي حِكْمَةِ سَيِّدِنا الْقاضِي وَسَدادِ رَأْيِهِ، ما يَرْدَعُ صاحِبي وَيَرُدُّهُ إِلَى صَوابِهِ!»
(١٣) غَضَبُ الْفُضُولِيِّ
غَضِبَ الْفُضُولِيُّ مِمَّا سَمِعَ. رَأَى الْقاضِي يُنْصِتُ إِلَى حَدِيثِ «جُحا» وَيُتَابِعُ دِفاعَهُ راضِيًا. رَأَى دَلائِلَ الِاقْتِنَاعِ بَادِيَةً عَلَى أَسَارِيرِ الْقاضِي.
لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ الْفُضُولِيِّ أَنْ تَبْلُغَ الْبَرَاعَةُ بِغَرِيمِهِ: «جُحا» هَذا الْمَبْلَغَ.
تَحَيَّرَ الْفُضُولِيُّ. لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَقُولُ؟ اشْتَدَّ صَخَبُ الْفُضُولِيِّ، وَعَلا صِياحُهُ.
انْدَفَعَ إِلَى «جُحا» يَجْذِبُهُ مِنْ فَرْوَتِهِ، قَائِلًا: «كَيْفَ تَغْتالُ مالِيَ ثُمَّ تُنْكِرُهُ؟ أَنَا رَأَيْتُكَ بِعَيْنَي رَأْسِي، وَأَنْتَ تُسْرِعُ إِلَى كِيسِ دَنَانِيرِي. أَنَا رَأَيْتُكَ وَأَنْتَ تَفْتَحُ الْكِيسَ. أَنَا رَأَيْتُكَ وَأَنْتَ تَعُدُّ ما يَحْوِيهِ دِينارًا فَدِينَارًا.
أَنَا سَمِعْتُ حَدِيثَكَ وَأَنْتَ تَعُدُّ مَا فِي الْكِيسِ مِنَ الدِّينارِ الْأَوَّلِ.. إِلَى الدِّينَارِ التَّاسِعِ وَالتِّسْعِينَ بَعْدَ التِّسْعِمِائَةِ. أَنا رَأَيْتُكَ بِعَيْنَيَّ، وَأَنْتَ تَضَعُ دَنانِيرِي فِي الصُّنْدُوقِ، كَما رَأَيْتُكَ وَأَنْتَ تُقْفِلُهُ بِالْمِفْتاحِ.»
(١٤) حَرَجُ الْفُضُولِيِّ
تَظاهَرَ «جُحا» بِالتَّعَجُّبِ مِمَّا يَسْمَعُ.
الْتَفَتَ إِلَى الْقاضِي قَائِلًا: «لَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآنِي وَسَمِعَ حَدِيثِي؟ أَتُرَى جارِيَ الْعَزِيزَ كانَ يَتَجَسَّسُ عَلَيَّ، وَيَخْتَلِسُ النَّظَرَ إِلَيَّ؟ إِذا صَحَّ هذا؛ فَما أَبْشَعَهُ جُرْمًا! لَيْتَ شِعْرِي: كَيْفَ يَتَجَسَّسُ الْجارُ عَلَى جارِهِ؟ وَبِأَيِّ حَقٍّ يُنْصِتُ إِلَى أَقْوَالِهِ؟»
قالَ الْقاضِي: «لا رَيْبَ أَنَّ التَّجَسُّسَ جَرِيمَةٌ بَشِعَةٌ، لا يَرْتَكِبُها إِلَّا مَهِينٌ حَقِيرٌ، لا كَرَامَةَ لَهُ وَلا ضَمِيرَ.»
قالَ «جُحا»: «خُلاصَةُ شَكْوايَ أَنَّنِي طَلَبْتُ مِنَ اللهِ مَالًا فَأَعْطانِي ما طَلَبْتُ. شَهِدَ جارِي ما أَظْفَرَنِي بِهِ اللهُ مِنْ مالٍ وافِرٍ.. فَحَسَدَنِي، وَزَيَّنَ لَهُ الشَّيْطانُ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ صاحِبُ الْمالِ، لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ. لَيْتَ شِعْرِي: كَيْفَ يَجْرُؤُ عَلَى مِثْلِ هَذا الزَّعْمِ؟ إِنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْبُخْلِ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا. لَوْ رَأَى فَقِيرًا يَكادُ يَمُوتُ جُوعًا، لَما أَعانَهُ بِكِسْرَةٍ مِنَ الْخُبْزِ.»
(١٥) بَرَاعَةُ «جُحا»
اِسْتَأْنَفَ «جُحا» دِفاعَهُ قائِلًا: «لَيْتَ شِعْرِي. كَيْفَ تَجُوزُ دَعْواهُ فِي ذِهْنِ عاقِلٍ؟»
قالَ الْفُضُولِيُّ: «كَيْفَ تَقْلِبُ الْحَقائِقَ، يا «جُحا»؟ كَيْفَ تُنْكِرُ حَقِّي فِيما أَخَذْتَهُ مِنَ الْمَالِ؟»
الْتَفَتَ «جُحا» إِلَى الْقاضِي قائِلًا: «ما أَظُنُّ صاحِبِي يَتَوَرَّعُ — بَعْدَ ما شَهِدْتُ مِنْ جُرْأَتِهِ — أَنْ يَقْذِفَنِي بِأَيِّ تُهْمَةٍ ظَالِمَةٍ! لَسْتُ أَدْرِي ماذا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ صاحِبُ هذِهِ الْفَرْوَةِ الثَّمِينَةِ!»
صَرَخَ الْفُضُولِيُّ قائِلًا: «أَتَبْلُغُ بِكَ الْجُرْأَةُ أَنْ تُنْكِرَ أَنَّ الْفَرْوَةَ مِلْكِي، وَأَنَّكَ اسْتَعَرْتهَا مِنِّي؟»
تَظاهَرَ «جُحا» بِالْغَضَبِ، وَقالَ: «لَعَلَّكَ جُنِنْتَ؟ فَماذا يَمْنَعُكَ مِنْ أَنْ تَزْعُمَ أَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي حَمَلَتْنِي إِلَى دارِ الْقاضِي مِلْكٌ لَكَ أَيْضًا؟»
صَرَخَ الْفُضُولِيُّ قائِلًا: «أَفِي ذلِكَ شَكٌّ؟ أَتَجْرُؤُ عَلَى إِنْكارِ هذا أَيْضًا؟»
(١٦) حُكْمُ الْقاضِي
غَضِبَ الْقاضِي مِمَّا سَمِعَ. أَيْقَنَ أَنَّ غَرِيمَ «جُحا» مَخْبُولٌ أَوْ كَذَّابٌ. لَمْ يُخَامِرْهُ شَكٌّ فِي صِدْقِ «جُحا» فِيمَا ادَّعاهُ، وَكَذِبِ الْفُضُولِيِّ فِيمَا لَفَّقَهُ وَرَوَاهُ.
الْتَفَتَ الْقاضِي إِلَى الْفُضُولِيِّ، قائلًا: «أَلا تَخْجَلُ مِمَّا تَقُولُ؟ كَيْفَ تَتَّهِمُ جارَكَ زُورًا وَبُهْتانًا؟ كَيْفَ تُبِيحُ لِنَفْسِكَ أَنْ تَتَجَسَّسَ عَلَى أَفْعالِهِ، وَتُرْهِفَ السَّمْعَ إِلَى مَا يُسِرُّهُ مِنْ أَقْوالِهِ؟ بِأَيِّ حَقٍّ يَتَنَصَّتُ الْجارُ عَلَى جارِهِ، وَيَتَقَصَّى مَا يُخْفِيهِ مِنْ أَسْرَارِهِ، ثُمَّ يَتَّهِمُهُ بِالْباطِلِ؟
كَيْفَ تَجْرُؤُ عَلَى اتِّهَامِ جارِكَ الْأَمِينِ بِسَرِقَةِ دَابَّتِكَ، وَمَالِكَ وَفَرْوَتِكَ؟ عُدْ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ. حَذارِ أَنْ تُقَصِّرَ فِي الاِعْتِذَارِ إِلَى جارِكَ الْكَرِيمِ، عَمَّا بَدَرَ مِنْكَ فِي حَقِّهِ مِنْ إِساءَةٍ جارِحَةٍ، وَتُهْمَةٍ فَاضِحَةٍ!»
تَلَقَّى جُحا حُكْمَ الْقاضِي رَاضِيًا شاكِرًا، كَمَا تَلَقَّاهُ الْفُضُولِيُّ ذاهِلًا حَائِرًا.
(١٧) دَرْسٌ نَافِعٌ
وَهَكَذا انْتَهَتْ قِصَّةُ «جُحا» مَعَ جارِهِ!..
أَرَأَيْتُمْ كَيْفَ احْتالَ «جُحا» عَلَى جارِهِ، حَتَّى أَوْقَعَهُ فِي الْفَخِّ، وَكَيْفَ اسْتَطَاعَ أَنْ يُقْنِعَ الْقاضِيَ بِحُجَّتِهِ، بِفَضْلِ بَرَاعَتِهِ وَذَكائِهِ وَمَهَارَتِهِ؟
لَوْ وَقَفَتِ الْقِصَّةُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ، لَكَانَتْ إِسَاءَةُ «جُحا» لا تَقِلُّ عَنْ إِساءَةِ صاحِبِهِ؛ فَإِنَّ الْإِساءَةَ لَا تُجْزَى بِالْإِساءَةِ، وَالْخَطَأُ لا يُجْزَى بِالْخَطَإِ.
كانَ «جُحا» أَكْرَمَ مِنْ أَنْ يَنْهَبَ مَالَ جارِهِ!
كانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يُلَقِّنَهُ دَرْسًا يَكُفُّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ، وَيَرْدَعُهُ عَنِ الْفُضُولِ.. فَلَمَّا بَلَغَ مُرادَهُ، أَعَادَ إِلَيْهِ ما أَخَذَهُ مِنْهُ.
أَصْبَحَ الْفُضُولِيُّ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — شَخْصًا آخَرَ: تَابَ عَنِ الْفُضُولِ وَالْبُخْلِ. أَصْبَحَ مِثَالًا لِلرَّجُلِ الْكَامِلِ الَّذِي لا يَشْغَلُ نَفْسَهُ بِمَا لا يَعْنِيهَا، وَلا يُقَصِّرُ فِي بَذْلِ الْمَعُونَةِ لِطَالِبِيهَا.
لَمْ يَنْسَ الْجارُ فَضْلَ «جُحا»، بَعْدَ أَن رَدَّ عَلَيْهِ ثَرْوَتَهُ؛ وَأَرْجَعَ إِلَيْهِ دابَّتَهُ، وَأَعادَ إِلَيْهِ فَرْوَتَهُ.