نهضة فرنسا العلمية في القرن التاسع
عشر
إذا قسنا بين منتجات الفكر في القرن التاسع عشر والقرون التي
تقدَّمتْه، لا نلبث أن نجد أنفسنا مَسُوقين إلى القول بأن روح العلم هي
الروح التي تغلَّبتْ على الفكر في ذلك الزمان. وقد يَغلِب الظن على بعض
الباحثين بأن «العلم science» هو
المظهر الأوحد الذي تفرَّد بالفكر إذ ذاك. وعلى ذلك يُستطاع أن يُقال،
بشيءٍ من الحق، إن القرن التاسع عشر هو قرن العلم، كما يُقال بأن
الثامن عشر قرن الفلسفة، والسادس عشر قرن الإصلاح الديني، والخامس عشر
قرن النهضة العلمية. لذلك يكون من الطبيعي أن نبدأ درسنا تاريخ الفكر
في القرن التاسع عشر، ببحثٍ نتناول فيه معنى العلم كما يُفهَم في
العصور الحديثة.
ليس من الضروري أن أضعَ تعريفًا لما أعني من اصطلاح «العلم
science»؛ فإن مدارس العلم وجامعاته،
والامتحانات العمومية والإجازات والدَّرَجات العلمية، قد كوَّنت معنًى
عامًّا للعِلْم لم يكن معروفًا منذ مائة عام. على أن هذا المعنى قد
تحدَّد الآن وتحيَّز في العقول على صورةٍ ما. غير أنه من المفيد — لكي
نصل إلى غرضنا — أن نُبيِّن هنا أن معنى «العلم» في اللغة الفرنسوية
يختلف عما يُقصَد منه في اللغة الإنكليزية اختلافًا يسيرًا. في حين أن
كلمة
Wissenschaft التي تُترجَم بها
كلمة «علم» في اللغة الألمانية
١ تحتاج إلى إضافة بعض المعاني إليها؛ لتؤدِّي على الوجه
الأكمل ما يعنى من «العلم» في اللغة الفرنسوية، والإنكليزية على الأخص.
على أن هذه الفروق الاعتبارية تُحدِث فروقًا ذات بال في عالم الفكر.
ومُذ أخذَت الأفكار الأوروبية في القارة تتركَّز في العقل الإنكليزي،
بدأَت كلمة «علم
Science» تحُلُّ في
الاصطلاح محل «الفلسفة
الطبيعية
Philosophy Natural» أو اصطلاح «الفلسفة» عامة. هذان الاصطلاحان
اللذان كانا يُعبِّران في العقل الإنكليزي، من قبل ذلك، عن مجموعة
المعرفة الذائعة بين الناس.
والسبب الذي أحلَّ العلم محل الفلسفة وضروب الثقافة الأخرى في العصور
الحديثة؛ أن العقل الإنساني خلال المائة عام الفارطة
٢ قد نزع إلى المباحث العلمية الصرفة، وتَغلغَل في ثنيَّات
الطبيعة مستكشفًا من نواحيها الغامضة، وظاهراتها الخفية، وقواها
المجهولة، ما جعل للعلم هذه المنزلة العظيمة.
إن المختَرعات التي اختُرعَت خلال القرن السادس عشر والقرن السابع
عشر والقرن الثامن عشر، لم تُستَكشَف استنادًا على محصولٍ علمي خاص، بل
وقع عليها المخترعون اتفاقًا، أو كانت نتاجًا لتجاريبَ اقتضَتْها حاجات
العصر الذي استُكشفَت فيه. كان فيها من أثر ذلك أكثرُ مما كان فيها من
تعمُّق في الفكرة العلمية أو الفلسفية التي يُنتِجها الدرس
والتحصيل.
غير أن المباحث العلمية في الكيمياء والكهرباء قد زوَّدَتنا خلال
القرن الفارط بقوةٍ استطعنا بها أن نُحلِّل نسيج الطبيعة خيطًا خيطًا،
وأن نقف على أسرار وقدراتٍ عظيمة لم يكن ليدورَ في خلَد أحدٍ أن
الإنسان بالغٌ يومًا إلى الوقوف عليها. والاختراعات التي تقع عليها في
العصور الأولى لم تُستكشَف إلا حيث كان للحياة العملية وجود، أو حيث
أزهَرتِ الصناعة، وراجت المتاجر. بَيْد أنَّ الِاختراعات الخطيرة التي
وصل الإنسان إليها، بفضل الكيمياء والكهرباء وعلم الحرارة، قد عُرفَت
بين جدران المعامل الطبيعية. أما الاختراعات في الأزمان الأولى فكان
الباعث عليها والمؤدِّي إليها حاجات الحياة العلمية. في حين أن
الاختراعات الحديثة قد قَلبَت الآية؛ فإنها خلَقتْ من العدم حاجاتٍ
عمليةً جديدة، وأَوجدَت ضروبًا من العمل والصناعات والمتاجر؛ فإن العلم
والمعرفة خلال القرن التاسع عشر قد قادا خُطى الحياة العملية إلى مناحٍ
جديدة لم تكن معروفة من قبلُ. على أن صورةً مهوَّشة غير صحيحة من
الدرجة التي وصل إليها العلم في الأعصر الحديثة كانت قد تكوَّنتْ في
ذلك العقل الفيَّاض المُبتكِر؛ عقل «فرنسيس باكون Francis Bacon» غير أن «باكون» قد عجز، كما يَعجِز
كلُّ فردٍ مهما أُوتي من قوة الجسم والعقل، عن أن يُتِمَّ في عهده
انقلابًا علميًّا كبيرًا، كانت تنقصه فيه المثابرة على البحث والتنقيب،
وكانت تَحُول دونه نقصان المعدَّات والآلات العلمية التي استُكشفَت
حديثًا، وتصدُّه عنه ضرورة القضاء على الخيالات والأوهام، وألوان الخطأ
التي تجمَّعتْ في الفكر الإنساني منذ أبعد الأزمان.
إن كل ما وقف عليه «نيوتن Newton»،
وكبار رياضيِّي القارة الأوروبية في العلم، وكل ما وصل إليه جهد
«بايل Bayle» و«فولتير Voltaire» في المعارف الإنسانية عامة،
كان قد زُيِّن إلى «باكون» أن يُتمَّه دفعةً واحدة فيما كتب في فلسفة
الإنتاج والتقدُّم. غير أن كل ما حُبِّب إلى «باكون» الوصول إليه، وكل
ما أنفق في سبيله من جهود، لم يُثمِر إلا ثمرةً مُرَّة؛ ثمرةَ الإخفاق
فيما صبا إليه. غير أن أعقابه لم يُغمِطوه حق الابتكار، وظلُّوا حتى
اليوم، في كل ما يصلون إليه من المستكشَفات والمختَرَعات والبحوث
العلمية، يعتبرونه أول مُبشِّر بالحياة الجديدة التي تُمتَّع بها
الإنسانية.
لقد وَرِث العصر الحاضر، من طرق كثيرة، روح فلسفة «باكون»، إلا أنه
يكون من أكبر الخطأ أن ننسبَ كل ما برز خلال القرن التاسع عشر من
المنتجات العلمية، إلى ما أحدثَت روح تلك الفلسفة من تطوُّر في
الأفكار؛ فإن «باكون» لم يكن أحد أولئك الباحثين القابعين بين كتبهم
وأوراقهم، ولم يكن فيه من الصبر وحدَّة الذهن ما يضعه في عِداد
المفكِّرين ذوي الآراء الثابتة الأثَر، وكانت رغبته في أن يُثمِر درسه
ثمرةً قريبة المنال، سريعة النضج، قد ساقَتْه في طريقٍ جعل اهتمامه
بالعَرَض أكثر من اعتداده بالجوهر. ولقد كان في تجاريبه، وفي أسلوب
التفكير الذي اتبعه في كتاباته، معرَّضًا لنفس الأفكار التي كثيرًا ما
تعرض للثقافة الحديثة؛ فمن رغبة في اجتناء الثمرات قبل أن يُنضِجها
الزمان، إلى تعجُّل في الوصول إلى النتائج العملية، والمغامرة في
اقتحام طرق قلَّما تُقتحَم تِلقاءَ الوصول إلى الغايات، وبعد أن فاز
العلم بالعبور من مفاوز الغيبيات الخاوية، وتخلَّص من آثار المباحث
اللاهوتية الجوفاء، بجهود أولاء من العلماء الصابرين على مكاره البحث،
المصابرين على الوصول إلى الحقائق، داهَمَه خطر الذهاب فريسة لتعميماتٍ
كانت العجلة أكبر عامل في الوصول إليها، وابتغاء الحصول على غاياتٍ
عمليةٍ ما.
طالما آذنتنا الحاجات العملية بأن تُخضِع الفكر الهادئ العميق، الذي
كانت جراثيمه الطيبة قد أخذَت في التفريخ منتعشةً في جو الحرية
الحديثة، لمطاليبها الموقوتة، الوشيكة البقاء. ولئن كان النظر العلمي
قد اتسَع مداه، وعرف الفكر أين مبتدأ ذلك التيه المترامي تحت قدمَيه
وأين منتهاه، فإن الرغبة في الاستعماق بالنظر لأَبعدَ من ظواهر
الأشياء، كانت ضعيفةً منهوكة متداعية الأركان.
السبب في هذا كلِّه أن الروح التي بثَّها «باكون» في فلسفته، كانت
تحتاج إلى ما يُقوِّمها، ويَجْلوها بلباس العافية والفُتوَّة؛ فلقد ظل
الأمل في تطبيق العمليات رهنَ التأجيلِ زمانًا طويلًا، وظل المفكرون
وطلاب العلم على السواء، قانعين بأن يتردَّوا في ظلمات الوحدة
والانفصال عن العالم الخارجي، لكي يستطيعوا في انعزالهم وعُزلَتهم هذه
أن يُلْقوا بَذْرة المباحث الجديدة التي كانوا يعكُفون عليها، في أرضٍ
خلَصتْ من الطفيليات التي تعوق النبتَ وتقضي على الحياة.
كان «نيوتن» أول من وضع، وآخر من يضع، الأساس الذي يقيم عليه العلماء
صرح العلم ويشيدون، في جوٍّ بعيد عن فسادٍ ما كان فيه. وكانت الشهرة
التي نالها «نيوتن» أبطأ انتشارًا في البيئات العلمية من الشهرة التي
نالها «باكون»، ولكنها شهرةٌ قامت على أسسٍ أكثر ثباتًا، وأبعد غورًا
في الإدراك العام، فقاومَت بثباتها كلَّ العواصف التي تناوحَت من حولها
فلم تُزعزِعها، وكذلك سوف تقاوم كل عاصفٍ من تغيُّر الفكر في
المستقبل.
إن الأوليَّات التي قامت عليها الفكرة العلمية الحديثة، كانت إنكلترا
لها مهدًا؛ فلقد تنبَّأ لورد «باكون» بما سوف تُحدِث الفلسفة الجديدة
من انقلابٍ في عالم الفكر. أما «نيوتن» فقد وضَع بصبرٍ وأناةٍ القواعد
الأولية البسيطة، وأبان عن طريقِ تطبيقها بداءةَ ذي بدء؛ فإن المبادئ
Principia التي كتبَها «نيوتن»
لأَحَقُّ مما كتَب «باكون» في «النظام الحديث Novum Organum»؛ بأن تُوضَع في صفٍّ واحد مع ما كتب
«أرسطوطاليس» و«إقليدس»، كمثالٍ كامل لما يصل إليه العقل الإنساني في
البحث العلمي.
إن العالم لمدينٌ لطائفةٍ من فلاسفة فرنسا الذين برَّزوا في النصف
الأخير من القرن الثامن عشر بما ألقَوا في رُوعِنا واجب الاعتراف بعظمة
«نيوتن»، والوقوف على سرِّ عظمته، كما أنهم أبانوا لنا عن شيءٍ مما خفي
من مُقوِّمات فلسفة «باكون»؛ فإن فكرة «باكون» في نشر المعرفة والعلم،
وأساليب البحث بتعاون الجمعية المشتركة في المنافع؛ كان نصيبها من
التحقيق والظهور بين رجال الأكاديمية الفرنسوية القديمة، أعظم من
نصيبها بين أعضاء الجمعية الملوكية في لندن. وكانت رغبة «باكون» في أن
يوحِّد بين جميع فروع المعرفة في كتابٍ واحد يضمُّها بين دفَّتَيه، قد
استَغرقَت كل جهود «بايل»، كما استَنفدَت قوى الأنسيكلوبيذيين The Encyclopaedists من بعده.
كذلك تفرَّد «كليرو Clairault»
و«موبرتوي Maupertuis»
الفرنسويَّان، بمعالجة تلك المشكلات العديدة التي خلَّفها «نيوتن» في
كتابه «المبادئ». وكذلك لم يُعنَ «فولتير» بشيء من العلم عنايتَه بأن
يبُثَّ فكرةً عامة عن كونيات «نيوتن» الفلسفية في تضاعيف الأدب؛ حيث
اتخذها أداةً قوية واستعان بها كقوةٍ من العلم يبدِّد بها ظلمات الجهل
التي ناءت على العقول لعهده بكلاكلها، ويقتل بها الأوهام التي سادت
الأفكار في زمانه. غير أننا لم نقف على حقيقةِ ما تؤدِّي إليه فلسفة
«نيوتن» في تعليل النظام الكوني، إلا بعد أن كتب «لابلاس Laplce» كتابه المعروف «الميكانيكية السماوية Mécanique Céleste»، كما
أصبح كتابه «نظام
العالم Systeme de Monde» إنجيل المفكِّرين من ذوي العلم في القارة
الأوروبية جيلًا كاملًا.
قد نمثِّل لورد «باكون» برجلٍ أخذ يُجيل ببصره في أرضٍ بكر استُكشفَت
حديثًا، ليضع تصميماتٍ يمكن بها أن تُغِلَّ مواردها أكبر غلَّة، وأن
يستجمع ثرواتها المكتنَزة فيها للخلائف من بعده. غير أن ثروتَها كانت
على غورٍ بعيد من سطحها، فلم يصل إليها الذين استكشَفوها، وإن كانوا قد
عرفوا قيمتها. ولما عقَّب «نيوتن» على أولئك جمع أوليَّاتهم التي
عرفوها، واستعان بها على الغوص إلى تلك الأعماقِ القصيَّة حيث وصل إلى
الجوهر الكامن في جوف الطبيعة. لقد وصل «نيوتن» إلى ثروة الكنز ورسَم
طريق استغلاله للذين أتَوا من بعده. غير أن ذلك لم يكن سهلًا هيِّنًا؛
فإن جهودًا عظيمة كان من الواجب أن تشترك وتتعاون، وقدْرًا كبيرًا من
المشاقِّ والعقبات كان من اللازم أن يستقوي عليها الفكر، قبل أن يخرج
ما رسَم «نيوتن» في حيِّز النظر، إلى حيِّز الفعل، وقبل أن يستطيع
خلائفه إخراج الكنز الذي استُكشِف. على أن ذلك لم يتمَّ إلا في أواخر
القرن الثامن عشر، عندما أتمَّ «لابلاس» الجمع بين ما أخرج رياضيو
فرنسا وإنكلترا، وجهابذة أهل النظر والاختبار فيها، من حقائق العلم،
وأبرز بها صورة الكون منعكسة عن جماع الآراء والأفكار التي ذاعت حتى
ذلك العهد. ولقد تناصَرتْ ظروف وتجمَّعتْ أسباب، جعلت جو عاصمة فرنسا
أنسب بيئةٍ ينمو فيها ذلك العمل العظيم وينشأ؛ لذلك نرجع بالنظر
إلمامًا إلى تلك الحالات التي قامت خلال القرن الثامن عشر، وكان لها
أعظمُ الأثَر في إتمام ذلك العمل الكبير.
بينما كان «نيوتن» في عزلته وانقطاعه مكبًّا على إتمام أكبر عملٍ
أنتجه عقلٌ بمفرده في تاريخ المدنية الحديثة، امتدَّت عبقرية
«كولبير Colbert» وزير لويس
الرابع عشر، إلى النظر في حقيقة العلم، وإلى تقديرِ ما سوف يُصبِح
للعلم من شأنٍ في سياسة الدنيا؛ لذلك بذل جهدَه لكي يُقنِع مَلِكَه
بضرورة تكوين أكاديمية العلم، حتى تمَّ له ما أراد. وكان أوَّل أغراضها
أن يَقِف الأعضاء الذين ينتسبون إليها أنفسهم على البحث العلمي، وأنْ
يكون أساس العمل فيها التعاون المشترك في سبيل الإنتاج العلمي.
وبينما كانت الجمعية الملوكية في لندن خاوية الوفاض، بادية الإنفاض،
اللهم إلا من إجازة بتكوينها تكرَّمتْ بها الحكومة عليها، ولم يكن
لديها من موارد المال إلا ما كان يجود به أعضاؤها من الاكتتابات، وبما
كانت تهزُّ به الأَريَحية محبي العلم من الأغنياء، كانت الأكاديمية في
فرنسا مزوَّدة منذ سنة ١٦٧١م، بهِبَات الحكومة الفرنسوية لتبدأ أعمالها
العلمية، ولتمسح أنحاء الإمبراطورية وممتلكاتها الشاسعة، المترامية
الأطراف. وكانت تلك الجهود سببًا في أن يعرف العلماء مقدار طول اهتزاز
الرقَّاص، واختلاف الجاذبية كمًّا، باختلاف خطوط العرض على سطح الكرة
الأرضية. وإليها يُنسَب نجاح «هويغن Hyuygens» في معرفة السبب في اختلاف الجاذبية في بقاع
الأرض، كما أوصلت إلى قياس قوس الهاجرة على الوجه الأكمل من الضبط
والدقة في بلاد «بيرو peru»
و«لابلاند Lapland»، تلك المسألة
التي أخرج فيها «كليرو» كتابه الذائع الصيت.
كانت تلك المُشاهَدات العلمية سببًا أوحد في وضع ذلك الأساس القوي
المتين الذي به تحقَّقتْ نظريات «نيوتن» الرياضية. أما في إنكلترا، أما
في البلاد التي أنبتَت «نيوتن»، فقد كان التعاون العلمي الذي لا يمكن
أن يُوجد إلا في ظل الأكاديميات مفقودًا، معدوم الأثر. وما من مفكِّر،
منذ عصر «باكون»، قد ثَبَت عنده الاعتقاد بضرورة تلك الحالات التي لا
يمكن للعلم أن يقوم إلا في ظلها، بمثل ما ثبَت عند الفيلسوف الألماني
«ليبنتز Liebniz» معاصر «نيوتن»،
الذي أمضى سني حياته دائبًا على تأسيس الأكاديميات في برلين وسان
بطرسبورغ ودرسدن ولندن وفيِنَّا. وكان من قبل ذلك قد جذبه صيت الجمعيات
العلمية في باريس ولندن، ولو أنه كان أول من انتقَد على الجمعية
الملوكية في لندن، لدى أوَّل تكوينها، حاجتَها إلى الكفاية
والنشاط.
وفضلًا عن هذا، فإن فرنسا كانت بيئةً حسنة لنشوء فرعٍ آخر من فروع
العلم الرياضي، وكان التوسُّع فيه وتشعُّب أطرافه ذا أثَرٍ كبير في شَد
عضُد أولاء من المُكبِّين على دراسة «نيوتن» وآثاره الفلسفية والعلمية.
انحصر هذا العلم في إتقان تلك الأساليب الرياضية العديدة التي كانت
ذائعةً في فرنسا وإنكلترا، وجَمعِها على اختلاف صُورها المتباينة،
والخروج من مجمل ذلك بعلم العدد موضوعًا في قالبٍ بسيط التناوُل، جَمِّ
الفوائد، عمليِّ النتائج، سهل الاستخدام. وكان «نيوتن» قد اخترع طريقةً
قيمة كانت ذاتَ أثَرٍ كبير في تفصيل تلك المعضلات الرياضية التي عالجها
في مؤلَّفه العظيم، وسمَّاها «أسلوب التفاضل The Method of Fluxion»، غير أن
«نيوتن» لم يُذِع طريقته إلا بعد أن طبع «ليبنتز» اكتشافه الرياضي
المعروف. على أن طريقة «نيوتن» إن كانت لم تُذَع إلا بعد أن نشر
«ليبنتز» مُخترَعَه الرياضي بزمانٍ طويل، إلا أن تلك الطريقة قد
طبَّقَها أصدقاؤه وتابعوه أوسعَ تطبيق، فأصبحَت في الواقع قاعدةً
للأبحاث الرياضية في القارة الأوروبية من بعد ذلك. وليس لجماعةٍ علمية
من أثَر في إتمام علم الحساب العددي ووَضعِه على قرارٍ مكين، أكثرُ مما
كان لأعضاء الأكاديمية الفرنسوية من أهل باريس. في حين أن علم العدَد
قد صادف من جهود «لاجرانج Lagrange»
في القرن الثامنَ عشَر قدْرًا أصبح معه بحيث يمكن استخدامه في معالجة
كل المُعضِلات التي خلَّفها «نيوتن» في «المبادئ Principia»، وكلِّ ما أدَّت إليه من المشكلات العلمية
الصرفة.
يجرُّنا هذا البحث إلى عنصرٍ آخر من عناصر الفكرة العلمية، أثبت
نتائج، وأمضى أثرًا. انحصر هذا العنصر أيضًا في رياضيِّي القارة
الأوروبية، وعلى الأخص علماء الرياضة في فرنسا، ومن بينهم «ليبنتز»،
وهو إن كان ألمانيَّ الجنس، إلا أنه درس ونشأ في معاهد العلم
الفرنسوية. وينحصر هذا العنصر في تدعيم علم العدَد على أساسٍ مستقل،
ووَضعِ أسلوبٍ للبحث في العلاقات الكمية المجرَّدة، من غير استئناسٍ
بنظريات الهندسة أو قواعد العلوم الميكانيكية وطرق تطبيقها. كان هذا
نتاجًا للروح التحليلية الحديثة التي بثَّها علماء الجبر من الفرنسويين
في القرن السابع عشر، وهي الروح التي ذهبَت بالعلم إلى حيث ينظُر في
الهندسة والميكانيكا والفلك كمسائلَ تحليليةٍ لا غير، وتجعل حل
مشكلاتها راجعًا إلى علم العدَد المجرَّد البالغ حدَّ الكمال والضبط،
أكثر من رجوعها إلى دراسةِ تلك المشكلاتِ كلٍّ منها مستقلة
بذاتها.
على النقيض من روح التحليل، التي تنظُر في مشكلات العلم على اعتقاد
أنها ليست سوى جزءٍ فرديٍّ من مسألةٍ كليَّة، أكثر تعقيدًا وأبعد عن
متناول البحث الاختباري، تقع على الطريقة العتيقة التي عكَف عليها
القدماء، تلك التي لا تني، وما ونت، عن أن تضع نُصْب عينَيها الوسائل
الواقعية كغايةٍ علمية، سواءٌ أكان ما يُلقَى بين يدَيها من مسائل
العلم نظريةً هندسية أم محضَ تنسيق لقوًى من قُوَّات الطبيعة، وهي أشد
نزعةً إلى البحث في خصائص كل إشكالٍ علمي قائم بذاته، مما هي إلى دراسة
قواعد الكليات المجرَّدة التي لا تعتبر تلك الأشياء إلا وسيلةً من
وسائلها المؤدية إليها في البحث العلمي.
على أن طريقة القدماء لا تنظر في علم العدَد خاصة، والرياضيات عامة،
إلا كأداةٍ تنحصر قيمتها الوحيدة في اتخاذها وسيلةً للكشف عن مُغمَّضات
العلم الطبيعي. ويُطلَق على هذه الطريقة عادةً اصطلاحُ «الأسلوب التركيبي Synthetic Method»، وقد عاش
هذا الأسلوب وانتعش في جَوِّ إنكلترا العلمي على الأخص، ذلك الجوِّ
الذي نمَت فيه طريقة التفكير الاستقرائي، التي تعتمد في الغالب على
دراسة التفاصيل، وقد نمَّاها العقل الإنكليزي منذ عصر اللورد «باكون».
على أن اختلاف تلك الطرائق في معالجة موضوعاتٍ بعينها سوف يستغرق قسطًا
من عنايتي في سياق هذا البحث؛ فإن كبار رياضيي العصور المتأخرة قد
عرفوا لهاتَين الطريقتَين قيمتهما وخطورتهما، كما أنَّ تقدُّم العلم
ذلك التقدُّم الكبير يرجع إلى التناوُب في استعمال الطريقتَين ابتغاء
الوصول إلى حلِّ المشكلات العلمية. وكان «ليبنتز» أول من كُشف له عن
هذه الحقيقة؛ فقد كتب إلى «هويغن» وغيره من العلماء حاضًّا على عدم
الإقلاع عن الطريقة الهندسية النظرية في معالجة مسائل العلم، كما أنه
كان أوَّل من نبَّه على ضرورة الرجوع عن تضحية الطريقة القديمة قربانًا
على مذبح الأساليب الحديثة. وما من شكٍّ يدور بخلَدنا في أن النجاح
العظيم الذي صادف «لابلاس» في إخراج نظامه الكوني في إبرازه في حُلَّة
جديدة انتُزعَت خيوطها من مبادئ «نيوتن»، يعود إلى جهود أسلافه الذين
عمَدوا إلى إتمام الأساليب التحليلية، وصَبِّها في قالبٍ من الضبط
والدقة كان أكبر عونٍ له في إخراج عمله الكبير، وإلى مهارته الفائقة في
الرجوع بالمشكلات الكونية العظمى إلى ذلك الحيِّز الذي لم تكن لتُعتبَر
فيه أكثر من كونها مسائلَ تحليليةً صرفة.
ومهما يكن من أمر الأساليب التامة التي احتذاها العلم، أو الجمعيات
العلمية، أو هِبات الحكومات المالية في مواصلة البحوث العلمية
وتنميتها، فإن التجارب قد دلَّت على أن عطف الناس على العلم واهتمامهم
به، كان أقوى المنبِّهات وأعظم المؤثِّرات التي خطَت بالعلم تلك
الخطوات الواسعة. تَقنع بذلك إذا عرفتَ أن أخص المباحث الرياضية
المجرَّدة تحتاج إلى أن تكون ذات احتكاكٍ ما بحاجات الإنسان، قبل أن
تجذب إلى ناحيتها تلك المواهب التي تُكِب على معالجتها، أو تدخل في
عالم الفعل الموجب والانعكاس السالب، الذي تتضارب فيه الفكرات متنازعةً
على البقاء فيه حيةً فتية، ذلك الحيِّز الذي يُعتبَر الجو الصافي الذي
تنمو فيه الكفايات العقلية وتنشأ.
كانت فرنسا في هذا الحيِّز أيضًا تتصدَّر الأمم، خلال النصف الأخير
من القرن الثامن عشر؛ فليس من منتجات الأمم الأدبية في ذلك العهد ما
يُقاس بالأدب الفرنسوي؛ إذا نظرنا في الأدب من جهة ما يبث في تضاعيفه
من الفكرات العلمية التي تتشرَّبها روح العصر. كما أن باريس قد
تفرَّدتْ من بين مراكز العلم والأدب في أواخر القرن الثامن عشر بتلك
الأساليب التعليمية، التي لن يحق لغير فرنسا الافتخار بها؛ ففي
اتجاهَين؛ اتجاه استجماع العلم وتركيزه، واتجاه تدريسه وإذاعته، قادت
فرنسا خطى الأمم زمانًا طويلًا؛ لذلك نجد أن العناية بمطبوعات
الأكاديمية ومناقشاتها العلمية قد تضاعفَت عند الناس، كما أن
مُستكشَفات أعضائها ذوي العبقرية والنبوغ، قد أخذت تدبُّ إلى متون
التدريس والمحاضرات التي كان يُلقيها كبار الأساتذة بين جدران
الجامعات.
وعلى الرغم مما جنى العلم في ألمانيا خلال القرن التاسع عشر من
مؤلَّفات «إسكندر فون
همبولد A. Von Humboldt»، وفي إنكلترا من مؤلَّفات «داروين Darwin»، فإن تاريخ الآداب والثقافة في
إنكلترا وألمانيا معًا، خلال القرن الثامن عشر، يمكن أن يُوضَع كاملًا
من غير أن يُشار بكلمةٍ واحدة إلى نهضة العلم فيها؛ فإن هذا الحد من
الضُّئولة والاتِّضاع كان أثر «نيوتن» في إنكلترا، «وليبنتز» في
ألمانيا، على عظمتها، وكبير آثارها، ولكن مَن في مستطاعه أن ينزع من
تاريخ الآداب الفرنسوية الوضَّاحة اسم «فولتير» أو «دالمبير Dalembert» أو «بافون» أو
«كوندورسيه Condorcet»؟ فإن هؤلاء
ليسوا إلا حلقات وصلٍ تربط بين العلم والآداب العامة.
إن أعمق دراسة يعانيها باحث في تاريخ الآداب الإنكليزية أو الألمانية
خلال القرن الثامن عشر لن تجُرَّ خطاه إلى شيءٍ من مُعضِلات العلم التي
ثار غبارها في ذلك العهد، ولكن دراسة «فولتير» لا محالةَ مفضيةٌ بكَ
إلى غمَرات المشكلات العويصة التي خلَّفها «نيوتن» والتي ولَّدَتْها
فلسفة «ديكارت»، وإلى المناقشات التي قامت حول مسألة القياس التام
المضبوط للقوة. كذلك الحال مع «بافون» فإن تأثيره في تكوين جوٍّ علمي
يتذوَّق دراسة الطبيعة، وحمله الأفكار على النزوع إلى البحث في مسائل
التاريخ الطبيعي، لأشياءُ فيها من الأثَر والقيمة أضعافُ ما في خدماته
الفعلية للعلوم الطبيعية نفسها.
أما نشوء الروح العلمية وذيوع العلم ذاته، فقد كان لمدارس فرنسا
فيهما من الأثَر أضعافُ ما كان لكتابات «فولتير» و«بافون»؛ فإن أكثر
أعضاء الأكاديمية قد شبُّوا ونَشَئوا بين جدران تلك المدارس، وكثير
منهم عُلِّم فيها عددًا من السنين. كذلك أخذَت حكومات الثورة اللاتي
تعاقبن على حكم فرنسا تنظرن نظر الحكمة والتريُّث في حاجة الأمة من
العلوم وتنمية الكفايات العقلية حتى إنهنَّ لم يتوانَين، على الرغم من
قيام كثيرٍ من المشكلات الكبرى المتعلِّقة بالمصالح العامة وصيانة
الكيان القومي، عن أن ينصرفن إلى معالجة مسألة التعليم القومي وتعليم
طبقات الشعب كلها، والسعي إلى حلِّ مشكلات التعليم بما يطابق الغايات
القومية.
يقول مسيو «هيبو Hippean» الذي
أرَّخ في نهضة التعليم العام: «إن الجمعية الوطنية الفرنسوية كانت تظهر
من جهة بمظهر جمعية ليس لها من غرض سوى أن تُحطِّم، باسم النفع العام،
كلَّ شيء يحول دون قيام الحكومة الجمهورية، ولم تكن لترى من سبيل
للمحافظة على غرضها هذا سوى الالتجاء إلى كل صنوف العَسْف والاستبداد،
ثم تظهر من جهة أخرى بمظهر جمعية وقَفَت جهودها، بما يقتضيه العمل
الهادئ الطيب من الفضائل المدنية مُغيِّرةً بذلك آيتَها الأولى، على
العمل ودرس كل المسائل المتعلقة بمشاكل التعليم العام، غير وانية في
تنفيذ الخطَط المؤدِّية إلى النهضة بالعلم وذيوع المعارف. وللجمعية فوق
هذا فخرُ تكوين المعاهد، ولو أن بعض هذه المعاهد قد أكلَتها نار
الثورة، إلا أن من بين البقية الباقية جزءًا لفرنسا حقُّ الافتخار
والتيه به عجبًا؛ لأن هذه البقية تحمل ثَمراتِ العقل والفكرات
الفرنسوية.»
كانت العناية التي صرفَتها الجمعية الوطنية الثورية في فرنسا نحو
العلم، ذات أثَرٍ كبير في الأخذ بيد العلوم، حتى إن المناقشات التي
دارت بين جدرانها حول نشر المعارف، كانت تجنح دائمًا إلى تأييد الناحية
العلمية الصِّرفة من التعليم. أما في هذا الأمر، كما في غيره من الأمور
ذوات الشأن والخطر الكبير، فإن الجهود التشييدية الناجحة التي قامت بها
الحكومة الثورية، إنما ترجع برُمَّتها إلى أولاء من مفكِّري المصلحين
الذين شبُّوا في أحضان تعاليم «فولتير» والأنسيكلوبيذيين، في حين أن كل
ما ظهر في الثورة من نزعة إلى الهدم والتحطيم، كان آتيًا من ناحية
أولئك الذين انتموا إلى تعاليم «روسو
Rousseau»، وما من أحد من الذين قاموا بحركة الدفاع عن
التعليم كان أبلغ من «كوندورسيه» بيانًا وأفصح لسانًا في الإبانة عن
قيمة العلم ونشر المعرفة. قال في التقرير الذي كتبه في ضرورة الموافقة
على قرار بتنظيم حركة التعليم العام:
«إن كثيرًا من البواعث القيِّمة قد ولَّدتْ عند الناس شعورًا
بضرورة نشر العلوم الرياضية والطبيعية، وبَديًّا أولئك الذين
لا يُعنِتون أنفسهم بالتأمُّل الطويل العميق، ولا يستطيعون
الغوص إلى أعماق أي فرع من فروع المعرفة، نجد أن الدراسة
الأولية لهذه العلوم آمنُ طريق وأهدَى سبيل لتنمية كفاياتهم
العقلية، وتلقينهم كيف يفكِّرون على الوجه الأكمل، وكيف
يُحلِّلون فكراتهم، ومن أجل أن الفكرات التي يقوم عليها العلم
الطبيعي أكثر بساطة وأجلى بيانًا، وأقرب إلى الجد والحصر؛ لهذا
نجد أن لغة العلوم الطبيعة أقرب إلى الكمال، وأضبطُ معانيَ،
وأتمُّ سبكًا، وأفصحُ أسلوبًا. وهذه العلوم خير دواءٍ يذهب
بضروب الحزازات والأحقاد والحسد، وضيق العقل والنظر، دواء إن
لم تكن نتائجه أكثر تحقُّقًا من الدواء الذي تصفه الفلسفة،
فإنه على الأقل أكثر شيوعًا، وأبعد ذيوعًا. وإن الذين يتبعون
خُطى تلك العلوم، ويتتبَّعون آثارها؛ لَيتنَبئون عادةً بقرب
حدوث تلك الانقلابات الفكرية، ويحْدُسون عن مدى تأثيرها، عندما
يُلْفُون أن وسائلهم العلمية قد بلغَت من النجاح حدًّا،
وسيطَرتْ على نواحٍ من الطبيعة، لم يكن ليدورَ في خلَد أحد أن
الإنسان بالغٌ إليها، وإذ يجدون أن تقدُّم العلوم الطبيعية، لا
بد من أن يفضي إلى ثورةٍ انقلابية في عالم الفنون. ثم لا ننسى
أننا قد أذْعنَّا إلى تلك الميول القوية التي نبتَت في أفكار
الناس والتي تدُل الدلائل في أوروبا على الأقل أن المشاعر قد
اتجهت نحوها إلى درجةٍ كبيرة.»
ثم قال:
«إن للآداب حدودًا، في حين أن علوم المشاهدة والاختبار
والاستنتاج الرياضي لا حدود لها. على أن في النزول على درجةٍ
معيَّنة من درجات الرقيِّ العقلي؛ لخطرًا يصبح معه الذوق
الأدبي والاشتغال بالأدب أداةً قوية تُنتِج إما خُيلاء تثير
الاحتقار، وإما غَيرةً دنيئة تُوجَّه ضد تلك الكفايات العليا،
التي لا يصل المشتغلون بالأدب إليها، وهم على حالهم تلك. هذا
في حين أننا في الاشتغال بالعلوم الطبيعية لا نقاتل إزاء آراءٍ
نبتَت في عقول أَناسيَّ مثلنا، بل على العكس من ذلك، نقاتل
إزاء الطبيعة ابتغاء الوقوف على أسرارها. على أننا طالما
انتصرنا في قتالنا إزاءها، في حين أن كل نصر يهيِّئ لنا معركةً
أخرى.»
ويقول «لاكانال
Lakanal» في التقرير
الذي رفعَه عن مدرسة السنترال في ١٦ ديسمبر سنة ١٧٩٤م:
«إنه لمن أكبر الأشياء قيمةً وخطرًا أن تُحقِّق الأمة أمنية
نشر العلوم الرياضية والطبيعية، وأن تغرس بذورها وتتعهَّدها
لتمتَد أصولها؛ لأنها أول ما يعوِّد الأذهان على الدقة والضبط.
وإذا فَقَدْناها فقدنا مرشدَنا الأمين في علم الفلك والأسفار
البحرية، وأصبحَت الهندسة العامة والهندسة البحرية بلا قواعد
ولا ضوابط، وأمست العلوم التي نحتاج إليها في تكوين
مِدفَعيَّتنا وتحصين بلادنا، مفقودة الأثَر.»
وبعد قليلٍ من الزمان أخذ ضغط الحوادث الخارجية، وحاجات الحرب
والدفاع عن المملكة، يشغل المكانة الأولى من عقول المفكرين، فأدَّى ذلك
إلى تكوين مدرسةٍ مركزية تغرس مبادئ العلوم والفنون — «وهي التي لا
يمكن بغيرها أن يقوم الدفاع الوطني عن الجمهورية برًّا وبحرًا.» — كما
يقول «لاكانال». على أنه لم يُحقِّق من تلك الآمال الإنسانية العليا
التي جالت في رءوس القائمين بحركة العلم والتعليم في أول عهد الثورة
مثل «ميرابو Mirabeau» و«تلليران Talleyrand» و«كوندورسيه» إلا قَدْرًا
ضئيلًا، وقليلٌ ما كانت العناية بالتعليم الأوَّلي؛ فالعلم، والعلم
وحده، هو الذي يحق له أن يفخر في ذلك العصر بأنه نال قسطًا من عناية
الذين قاموا بالدفاع عنه بتأسيس تينكَ المدرستَين اللتَين لا تزالان
أمينتَين إلى اليوم على الغرض الأصلي الذي من أجله أُسِّستا، ولهما حق
الفخر بأن أخرجتا رجالًا عظامًا تقترن بهما أسماؤهم. ذلك أساسٌ من
المجد الخالد لا يمكن أن تفخر به غيرهما من معاهد العلم في أوروبا.
تانكَ المدرستان هما مدرسة «النورمال العليا Ecole Normale Supérieure»
ومدرسة «السنترال» المعرفة باسم Ecole
Polytéchnique. ولقد قال الذين قاموا بتأسيس هذا
المعهد: إنه بالرغم عما سيكون فيه من العناية بتلقين مختلف الوسائل
وطرق التطبيق العملي، فإن دراسة الرياضيات والعلوم الطبيعية سوف تكونُ
الأساسَ الأوحدَ الذي تقوم عليه الدراسة بين جدرانه.
وعلى الرغم من أن مدرسة النورمال لم تُعمِّر بادئ الأمر إلا أربعةَ
أشهرٍ فقط، فإنا نجد أنفسنا مدينين لها خلال ذلك العهد القصير، بوضع
أساس فرعٍ جديد من فروع العلم، هو علم «الهندسة الوصفي
Descriptive Geometry» الذي
وضَعه العلَّامة «مونج
Monge»
٣ ذلك العلم الذي ذاع في عالم المعرفة من مذكِّرات أُخِذَت
بالاختزال عن محاضراته التي كان يُلقيها بين جدران ذلك المعهد.
وتُعتبَر هذه المذكِّرات البداياتِ الأوليةَ لذلك العلم الحديث منذ أن
نمَّاه «بونسيليه
Poncelet»
و«اشتينر
Steiner» وغيرهما، وعُرف
باسم علم «الهندسة
التشييدي
Projective Geometry».
بعد علم الرياضيات بما فيه من طرق التحليل، وبما له من العلاقات
التطبيقية العديدة بعلم الفوسيقة والفنون، لا نجد من علمٍ كان له حظُّ
الوجود والبقاء بين جدران معاهد العلم العليا في باريس في أواخر القرن
الثامن عشر، سوى علم الكيمياء على صورته الحديثة. وقد اصطُلِح، ببعض
الحق، على نعت ذلك العلم بأنه «علمٌ فرنسوي»، لا لأن هذا العلم لم يكن
مدينًا في ذلك العهد لغير الفرنسويين من العلماء بطائفةٍ من مستكشفاته
الخطيرة لا غير، بل لأن الروح العلمية الحديثة التي نَزعَت إلى وضع
الضوابط القياسية الصحيحة، لم تقبض على زمام علم الكيمياء إلى درجةٍ
كبيرة في كثيرٍ من الاختبارات التي تناولَت مسائله إلا بجهد
«لافوازييه Lavoisier» وأُولاء من
أتباعه، الذين كان لهم الخطر الأكبر في تنظيم ذلك العلم، وصَبِّه في
قالبه الحديث، ووضْعِ قواعده الاختبارية الثابتة.
ولقد بيَّن كثيرٌ من الكتَّاب جليًّا أن فكرات «لافوازييه» ونظرياته
لم تتشبَّع بها العقول بدرجةٍ كافية، ولم يعرف لها الناسُ قيمتَها
الحقيقية، إلا من طريق تلك الآصرة التي ربطَت بين العلوم الرياضية وبين
المعرفة الاختبارية، التي كان أمثال «لابلاس» و«ميوسنييه Meusnier» و«مونج» من كبار أساطينها
ومُدعِّمي أسسها. ذلك، في حين أن كثيرين من العظماء الذين اشتغَلوا
بالكيمياء، ووقَفوا أنفسهم عليها، مثل «برتوليه Berthollet» و«غويتون Guyton»، ظلُّوا بعيدين عن هذا الميدان زمانًا
طويلًا. ولقد نالت الكيمياء في أول برنامجٍ وُضِع في «مدرسة السنترال»
حظًّا لا يقل عن حظِّ الرياضيات وفروعها، كما أن عنوان كتاب مسيو
«برتوليه» المسمى «الإحصاء
الكيماوي Statique Chemique»، لَيدلُّ واضح الدلالة على الروح الرياضية
التي بُثَّت في تضاعيفه، والتي نظر في ذلك العلم من ناحيتها.
في ذلك الحين نَبَت فرعان من فروع العلوم الرياضية، إن لم نكن
محقِّين في القول بأنهما استُكشفا، فلا أقل من أن نقول بحق: إنهما
وُضِعا على قرارٍ مكين. ولقد مكَّن هذان الفرعان للعلوم الرياضية من أن
يمتدَّ مدى تطبيقها، وبهما وصلَت الأبحاث العلمية إلى مجموعاتٍ من
الحقائق الغامضة، وجعلتاها رهن التحقيق العلمي الاختباري، كما وضعَتاها
في متناول التفكير الصحيح. ولا يصح لغير فرنسا أن تفخر بأن لها أدنى
نصيبٍ في تكوين هذَين الفرعَين؛ فهما من مُبدَعات العقل الفرنسوي
صِرْفًا وبلا شريك. وهذان الفرعان هما علم «نواميس التبلور Crystallography»، ونظرية
التغليب أو «التغليبات
الرياضية Theory of Probabilities».
كان علم «نواميس التبلور» من مستكشَفات العلامة «آبي هوي Abbé Hauy»، أما نظرية التغليب فقد
كانت بعد وصف الميكانيكية السماوية، أعظم ما جادت به قريحة النابغة
«لابلاس»، وكانت، كما كانت كونياته، من الأوليَّات التي خلَّدتِ اسمه
في تاريخ العلوم.
إن نظرية «آبي هوي» قد عرَّفَتنا كيف تتكوَّن البلوراتُ بداءة ذي بدء
من دقائقَ ذوات صُورٍ هندسية محدودة منتظمة، من مكعَّبات وأشكالٍ هرمية
وغير ذلك؛ ولهذا كانت أكبر عضد ﻟ «المينارولوجيين Mineralogists» — أي المشتغلين بالمعادن — وكانوا
من قبلِ ذلك يخبِطون خَبْطَ عَشْواء، يتلمَّسون أسلوبًا يبُث روح
الرتابة والنظام في صور الطبيعة الصمَّاء التي يعكُفون على العمل فيها،
مثل تلك الأساليب التي وضعها «لينيوس Linneaus» و«جوسيو Jussieu» وطُبِّقت على عالَمَي الحيوان والنبات. وكانت
«المينارولوجيا Mineralogy» — علم
التعدين — من قَبلِ «هوي» ذات علاقة إما بعلم «الجيولوجيا» — طبقات
الأرض — وعلى الأخص بعد مدرسة «فرنر Werner» المشهورة، وإما بعلم الكيمياء بعد أن خطا ذلك
العلم أوسع خطواته الحديثة، وعلى الأخص بعد جهود «برجمان Bergmann».
لقد وضَع «هوي» علم «المينارولوجيا» على أساسٍ مستقل بأن أَكبَّ على
دراسة صور تَبلوُر المعادن وتنسيقها. وكان أول من نقل هذا العلم — علم
التعدين لا علم نواميس التبلور — من أسويج وألمانيا، وثبَّته في مدارس
فرنسا، فأصبح هذا العلم حلقةَ وصلٍ بين العلوم الرياضية التي لا تُعنَى
إلا بالقياس والعدَد، وبين العلوم الوصفية الصِّرفة.
يقول «كوفييه» فيما كتَب «هوي»:
«إن علم المينارولوجيا، إن كان أقل فروع العلم الطبيعي
تعقيدًا وأكثرها بساطة، فهو مع ذلك أقلُّ العلوم خضوعًا
للتقسيم والتبويب العقلي؛ فإن أول الناظرين في حقيقة هذا
العلم، قد صَرفوا على المعادن أسماءً كان للغموض والإبهام فيها
أكبر نصيب، حيث اعتمَدوا في ذلك على ظواهرها الخارجية،
وفوائدها العملية لا غير. ولم يخضع البحث في المعادن لذلك
الأسلوب الذي كان السبب الأول في إحياء علمَي الجيولوجيا
والنبات، إلا في أواسط القرن الثامن عشر. وكان المؤمَّل بين
المشتغلين بالمعادن أن يقسِّموها إلى أجناس وأنواع، كما هي
الحال في الكائنات العضوية، وقد نَسُوا أن المبدأ الذي وضع
فكرة الأنواع في الحيوان والنبات، مفقود برُمَّته فيما يختص
بالمعادن؛ أي مبدأ «التوالُد». وإن «مبدأ
الفردية Principle of Individuality» كما يُفهم في العالم العضوي — أي
توحيد الفعل الناتج عن أعضاءٍ مختلفة تتعاون جماعها في حفظ
حياة وحدةٍ حيويةٍ بعينها — لا يمكن أن يُطبَّق على
«المينارولوجيا».
على أن استكشاف «آبي هوي» لعلم نواميس التبلوُر قد جعل علم
«المينارولوجيا» كما يقول «كوفييه» في منزلةٍ من الدقة والضبط تُضارِع
منزلة علم الفلك. وفي الحقيقة يمكننا أن نقول: إن «هوي» كان لِسلفَيه
«فرنر» و«روميه ده إلس Romé de Ilsle»
ما كان «نيوتن» ﻟ «كبلر» و«كوبرنيكوس» من قبلُ.
•••
نخرج من حيِّز العلم ذي الضوابط المحدودة، العلم الذي يتناول
العلاقات العددية البسيطة برتابة ودقَّة، والذي يظهر لنا كأنه يتناول
بالبحث كلَّ صور الحركات التي تُنتِج تفاعلاتِ الطبيعة الكُثْر، سواء
أكانت واسعة المجال أم ضيِّقته، نخرج من حيِّز العلوم الميكانيكية
والفلكية إلى طريقَين يُسلمان بنا إلى تلك العوالم المترامية الأطراف،
لا لِنقَع فيها على قَدْرٍ من الرتابة والنظام، وقسطٍ من البساطة
والسذاجة، بل لنُصادِف صورًا من التنوُّع والتضعيف والتشابُك لا نهاية
لها. ذلك ما يظهر أنه حد النظام، وأنه القاعدة، في عالم الحياة.
إن المقارنة بين كتاب «المبادئ» الذي كتبه «نيوتن»، وكتاب «نظام
العالم» الذي كتبه «لابلاس» من ناحية، وبين تلك المجلَّدات الضخمة
الكبيرة المشعَّبة الأطراف التي أخرجَتْها عبقرية «لينيوس» و«بافون»
و«جوسيو» و«كوفييه» و«لاسيبيد Lacépéde» من ناحيةٍ أخرى، كانت تظهر في أواخر القرن
التاسع عشر، باعثةً على العجب، مثيرةً للحَيْرة. ورغم هذا فإن هذه
المجلَّدات الضخام، وما أُنفِق في سبيلها من جهد ونَصَب، لم تتناول
بالتقسيم الوضعي أو الوصف إلا جزءًا صغيرًا من عالم الحياة. ولقد
أَبَنْتُ من قبلُ كيف أن الأساليب الفرنسوية الحديثة، وعلى الأخص
الأساليب التي اتُّبعَت في علم الكيمياء، وعلم نواميس التبلوُر، قد
تغلَّبتْ على كثيرٍ من العقبات التي كانت تُصادِف الباحثين في حيِّزٍ
بكرٍ من البحث لم تطَأْه قبلهم قدم، وكيف أخضعَت كثيرًا من الظاهرات
لحكم البحث العلمي التام، وكيف تغَلغلَت الأساليب الرياضية إلى جوف
التاريخ الطبيعي، وأنه لذلك التاريخ، لا التاريخ الطبيعي، بل التاريخ
الإنساني، الذي يغلب فيه البُعد عن دقة النواميس الطبيعية، هو الذي
يمثِّل الطرف المقابل من أطراف عالم الحياة في هذه الدنيا. على أنه مما
يثير فينا شيئًا من العَجَب أن العلم الرياضي، كما أنه ضَرَب بقدمه
الثابتة في ثنايا التاريخ الطبيعي، مقتحمًا تلك الحواجز التي كانت
تَحولُ بينه وبين ذلك الميدان الفسيح المجهول، كذلك اخترع أسلوبًا
مكَّن له من الضرب في حيِّزٍ جديد، ضربًا أثبتَ أثرًا وأعمَّ نتائج؛
حيِّز الظاهرات الخاصة بالحياة الإنسانية والجماعات.
كان هذا علم «الإحصاء Statistic»
بما يتبعه من مبدأ «المتوسِّطات Averages» ونظرية «التغليبات الرياضية». وكان ذلك
العقل الفياض الكبير، الذي مكَّن له أن يُخرج من مبادئ «نيوتن» نظامًا
يطبِّقه على الكون، وأن يقتحم حدود تلك المشكلات الرياضية التي صادفَته
في وضع نظامه ذاك، هو بذاته الذي أمدَّ العالم بأوَّل مقالةٍ كاملة في
ذلك العلم الذي يدرُس بدقة ونظام، مع غض النظر عن مجال الظاهرات
الاختبارية الصرفة التي ترجع إلى الحكم العقلي، حياةَ الإنسان وتاريخه،
ويتناول بالبحث كل الأسباب الغائية والعلَل المؤثِّرة، والنظام القدسي،
وحرية الإرادة، والأخطاء الإنسانية، والرذائل والفضائل، وحياة الأفراد
الداخلية.
وكانت قد اقتُرحَت أولًا، ومن ثم نفِّذتْ، فكرة النظر في الإنسان
والحوادث الإنسانية، لا على اعتبار أنها أشياءُ يملك زِمامَها عالمٌ
داخلي مكوَّن من فكر وإرادةٍ حرة، بل كوحدات، لا حياة فيها، أكثر
رتابةً وتنسيقًا من كل ما في الطبيعة. وبعد أن اقتُحمَت تلك الحواجز
التي كانت تَحولُ بين البحث العلمي وميدان النشاط الإنساني، على ما فيه
من وجوه التشابُك والاختلاط والفائدة معًا، قامت فكرة البحث في أي ضربٍ
من ضروب المعرفة يمكن أن ينتج من بحثٍ رياضي صرف، تُؤخذ فيه الإنسانية
على أنها مجرد وحداتٍ ورموز.
كانت هذه الفكرة، التي أدَّت إلى ما نرى من النتائج الباهرة الكبيرة،
وزوَّدَتنا بكل صنوف المعرفة التي لا يمكن بغيرها أن يقوم لنا حكمٌ في
مستقبل الجماعات الإنسانية، وتنسيق خطاها التي تخطوها نحو التقدُّم
والارتقاء، من مبتكرات «لابلاس». وما قامت هذه الفكرة الكبيرة إلا في
عهد انقلاب، وفي أمة دلَّت كل الظواهر التاريخية على أنها لم تَعْبأ
يومًا برأيٍ ما في النظام وأثَر الأساليب ذوات الرتابة والدقة في تسيير
خطى النوع الإنساني، ولم تأنس إلا بتحطيم كل سلطة وكل تقليد، وألقت
بحظِّها بين متناوحِ رياح الثورات المتطرفة، التي كثيرًا ما انتابت
الجماعات المدنية!
إن من أعجب العجَب في التاريخ الحديث، أن تقرأ انتقاد «نابليون
الأول» على مؤلِّف «الميكانيكية السماوية» وواضع نظرية التغليبات
الرياضية؛ فإن «لابلاس» كغيره من كبار رجال العلم، كان قد اشترك في
الأخذ بضلعٍ من المتاعب الإدارية؛ مطاوعة لأمر الإمبراطور. غير أن حكم
الإمبراطور على مواهبه الإدارية، كان يُشعِر بأن «لابلاس» كان ضعيف
الإرادة، فاتر التأثير على من هُم دونه، غير ذي قدرةٍ على أن يُدركَ
النتائج الإدارية العملية، غارقًا بالاستمرار في أدقِّ التفاصيل
التافهة التي لا قيمة لها في إدارة الحكومات.
على أنه لا يمكن أن يُداخل أحدًا شكٌّ، بعد أن مضى على ذلك قرنٌ
ونَيِّف من الزمان، في أن تفاصيل «لابلاس» التافهة، لها الآن في
المشاكل الإدارية والحكومية نصيبٌ لا تُقاس به آراء نابليون وفكراته؛
ذلك لأن «لابلاس» على الضد من كبار مفكِّري العلماء الذين عاصروه، كان
يجعل لآرائه ومبادئه العلمية قيمةً كبيرة في تطبيقها على المسائل
العامة؛ فإن «ديكارت» مثلًا قد احتاج إلى «فونتينل Fontenelle» و«نيوتن» و«فولتير»؛
لينزلوا بمبادئه العلمية إلى ذلك الحيِّز الذي يجعلُها في مُتناوَل
طلَّاب العلم، على الضد من «لابلاس» فإنه كان بمفرده، هؤلاء
جميعًا.
يقول السير «جون هرشل»:
لم يظهر من المؤلَّفات التي زاد انتشارها وذيوعها بين الناس
على انتشار مقالتَي «لابلاس» الفلسفيتَين في التغليبات
الرياضية، ونظام العالم، إلا القليل. ولن تكون مغالاة إذا نحن
قلنا بأنه إذا عدمَت كل الآثار الأدبية والعلمية من أوروبا،
وبَقيَت هاتان المقالتان وحدهما، لكفَتا لكي تنقلا للخلائف من
بعد «لابلاس» صورةً مكبَّرة عن تلك العظمة العقلية التي بلغَها
الإنسان في ذلك العصر، والتي استطاعت أن تُنتِجهما، وإنها
لعظمةٌ تفوق كل ما تقدَّم من نوعها في العصور القديمة. وقبل أن
تُذاع مقالة التغليبات الرياضية، لم يعرف إلا القليل من الناس،
شيئًا عن تلك المبادئ التي تُوحي بها تلك النظرية الحسابية
الفذَّة، ولم يُعنِت الباحثون أنفسهم في تفهُّم نتائجها، على
اعتقاد أنها ليست سوى مسائل تثير الإعجاب، وأن التأمُّل منها
ليس بذي خطر على وجهٍ عام. ذلك إذا استثنينا المشتغلين بالعلوم
الرياضية، وبعض الذين كانوا يشغلون أنفسهم بمسائل التأمين وما
يماثلها من المشاكل التجارية. ومن بعد ذلك بقليل انقلبَت آية
الاستهانة بتلك النظرية إلى رغبةٍ قوية في تعرُّف شيء من ذلك
الأسلوب التفكيري الذي يعطيك مجرَّد التأمل منه فكرةً
تُزوِّدُكَ بما تستطيع به أن تناقش بدقة وضبط، مسائل لم يكن
ليدورَ في خلَد أحدٍ من الناس أنها سوف تخضع يومًا لقانون
العدَد والحساب، وهي فوق ذلك ذات آصرةٍ كبيرةٍ بأخصِّ ما
تتطلَّب الحياة الإنسانية من الحاجات. وبدأ الناس يسمعون
بقليلٍ من العجَب، وكثيرٍ من الإعجاب، لا يشوبه شيءٌ من الأمل
الغامض في الوصول إلى الفوائد الغائية، أن العلم لم يتناول
الكلام في المواليد والوفَيات ونسبة الزواج لا غير، بل تعدَّى
ذلك إلى البحث في أحكام المحاكم ونتائج الانتخابات العامة،
وتأثير العقاب في الصد عن الجرائم، والمقارنة بين قيمة
العقاقير والأدوية المستعملة في الطب وطرق معالجة الأمراض،
وترجيح الحدود التي يغلُب أن يتطرَّق إلى مداها الخطأ في
النتائج العددية في كل فروع البحث الطبيعي، ومعرفة الأسباب في
العالم الطبيعي والأدبي والاجتماعي، حتى قيمة البراهين العقلية
من الثبات والأحكام المنطقية من القوة، جماع هذه الأشياء، قد
خضعَت لعين العلم تجوبُ أنحاءَها وتتناولها بالتحليل الدقيق،
الذي إن عجز عن الوصول إلى الحقائق الإثباتية اليقينية، فلا
أقل من أن يُظهِر ما في تضاعيفها من الأخطاء والفساد.»
إن كلتا الطريقتَين اللتين اتُّبِعَتا في الكشف عن مغمَّضات الطبيعة
والتاريخ؛ الطريقة الميكانيكية التي تناولَت نواميس الحركة والكميَّات
غير الحية في الطبيعة، والطريقة الإحصائية التي تناولَت الخصائص
الحسابية لدى تطبيقها على العديد الأوفر من الوحدات الاجتماعية، قد
تركتا من اعتبارهما تلك الظاهرة الخفية العميقة إن لم يكن الضبط
والنظام من خصائصها الطبيعية، فإنها على التحقيق محور الحركة الدائمة
واللذة العلمية في عالم الخلق؛ مسألة بقاء «الشخصية الفردية»، سبب
الحياة وعاملها الأقوى، فإن النظرة التي نظر من ناحيتها «لابلاس» في
الأشياء الإنسانية لم تكن سوى طريقةٍ أراد بها أن ينظر في مقدرة العلم
والتفكير العقلي على المُضِي في مناقشة حاجات الإنسان والوقوف عليها من
غير اعتبارٍ لمبدأ بقاء الشخصية الفردية واستقلالها عن المجموع. على أن
الطريقة كانت مثمرة، والأسلوب منتجًا. وإنا إن كان لا يحق لنا أن نقول:
إن العقل قد بلغ بهما المدى الأقصى. فلا أقل من أن نعتقد أنه يُسلم بنا
إلى نتائجَ كُبرى في المستقبل، ما كنا لنحلُم بمثلها. وفي الغالب أن
الرغبة في الاحتفاظ بهذا الأسلوب العلمي نقيًّا غير مشوبٍ بشيء من
شوائب الشك واللاأدرية هي التي حملَت «لابلاس» على أن يُجيب «نابليون»
إذ سأله، كيف أن اسم الله لم يُذكر مرةً واحدة في مؤلَّفه الكبير
«الميكانيكية السماوية» قائلًا: «بأنه ليس في حاجة لفرض مثل ذلك من الفروض.»
٤
غير أن العِلم الفرنسوي لم يترك ذلك الميدان الفسيح، ميدان الحياة
الفردية، من غير أن يبذرَ فيه بذره. كان ذلك رهنًا على مجهودات
«جورج كوفييه Georges Cuvier»
معاصر «لابلاس»، والرمز الثاني للعِلم الفرنسوي من بعده. وكان «لينيوس»
قد بدأ العمل في التاريخ الطبيعي بأن وضع طريقةً للتقسيم الوضعي
Classification ولغةً اصطلاحية؛ أي
أسلوبًا للتسمية تناوَل العالم الحي. أما «بافون» فقد حوَّط ذلك العلم
بما وُهِب من قوة الوصف، وسلاسة التعبير، وقوَّة السبك، بمبدعات الشعر
والخيال. ومن قبل هؤلاء «جوسيو Jussieu»، فإنه نقل علم النبات
Botany من بلاد «أسويج» إلى فرنسا،
وأخرج في حديقة «التريانون» مثالًا ماديًّا لما يعني النباتيون من
ترتيب ضروب النبات. وكذلك الاشتغال بذلك العلم فإنه تلقى من خدمات
«روسو Rousseau» قَدْرًا غير
ضئيل.
أما فلاحة البساتين ودراسة الحياة النباتية فقد أصبحَت أُلهيةَ ملوك
فرنسا يقتلون بها وقتهم، كما أصبحَت سلوى الذين استبدَّت بهم الحكومة،
أو الذين نالهم من القدَر إجحاف، انتكَث معه قتل حياتهم الخاصة.
لمَّا أن ساءَلَ «كوفييه» نفسه في السبب الذي حال دون بقية فروع
التاريخ الطبيعي أن تبلُغ مبلغ علم النبات، أفاض في الجواب بكلماتٍ لا
تبعثُها إلا العبقرية، ولا يُخرِجها إلا التعمُّق في الدرس والإكباب
عليه قال:
«إن دراسة الحيوانات تُصادِف عقباتٍ لا يتغلَّب عليها إلا
الصبر الجميل والمثابرة الحقة. والواجب على كلِّ مَن أوقف نفسه
على بحثها أن يضعها تحت التجاريب القاتلة وأنواع العذاب، حتى
يُدرِك شيئًا من قُواها الطبيعية؛ ذلك لأن أسرارها وخصائصها،
والأسباب التي تعود إليها حركتُها ونشاطُها، لن تخضع لغير
مِشرَط التشريح. ولن يستطيع باحثٌ أن يقف على شيء من سِر ذلك
إلا إذا عاش بين الرمم والهياكل العظمية. كذلك نجد أن قاعدة
الحياة بينها، هي بذاتها القاعدة العامة في العالم البشري،
مهما قال كُتَّاب الأدب، ومهما أشادوا بخيالاتهم، فإن عالم
الحيوان ليس أقل سعادة ولا أكثر شقاءً من عالم الإنسان؛
فاستبداد الأقوياء وعنَتهم، واستكانة الضعفاء وتحقيرهم،
والإسفاف في الطماعية، وقِصَر فترات اللذة المسبوقة بأعظم
الجهود، والموت آتٍ من طريق الآلام الطويلة المبرِّحة؛ ذلك هو
الناموس الشامل في عالم الحيوان، وعالم الإنسان. أما في عالم
النبات فالوجود غير محوطٍ بشيء من الألم، والمناظر المؤلمة
المُيئِّسة لن تتراءى لناظرها فيه. وليس فيه من شيء يُذكِّرنا
بما نكون قد نسينا من بواعث الشهوة والانفعال، أو بما نخاف
عليه أو نُعنَى به، أو بما صادفنا من سوء الحظ ونكد الطالع؛
فالحب في عالم النبات بلا غَيرة، والجمال بلا طمعٍ في الحُطام،
والقوة بلا استبدادٍ يشوبها، والموت بلا تباريحَ من الألم.
وعلى الجملة فليس في عالم النبات ما يشابه عالم
البشرية.»
إلى صميم الحياة الفردية المنظومة، حياة الحيوان وخلق الإنسان،
تغَلغَل «كوفييه» ومضى في بحوثٍ قيمةٍ ثابتة أقام أُسُسَها على علم
«التشريح
المقارن Comparative anatomy»، وأبان في الوقت ذاته عن لبِّ ما هو مُكِبٌّ
عليه من الدرس، وكشف عن المبدأ الرئيسي، أو المحور الذي يجب أن تدور
عنده كل الأبحاث، وعليه يجب أن تقوم طرق التقسيم الوضعي. تلك ظاهرة
الحياة الفردية. وما هي عند «كوفييه» إلا ذلك الذريرُ الذي لا يفتأ
مستمدًّا من قُوى العالم غير العضوي ومن مبادئه وعناصره، ولا يني
قاذفًا بها خارج حيِّزه، ابتغاءَ الوصول، لا إلى الاحتفاظ بوحدة المادة
خلال تلك التغايُرات المتعاقبة، بل بوحدة الصورة.
يقول «كوفييه»:
«ليست هي المادة التي تتميز من طريقها شخصية الأنواع
وحقيقتها في عالَمَي الحيوان والنبات، بل الصورة. وليس في عالم
الوجود العضوي كله إنسانان أو شجرتا بلُّوط، أو شجرتا ورد،
تتكون عناصرهما المكوِّنة لهيكلهما بنسبةٍ واحدة. في حين أن
هذه العناصر تتَنقَّل في أطوارٍ من التغايُر لا نهاية لها،
فتأخذ في الدور في سلسلةٍ مسبوكة من الحركة داخل ذلك الهيكل
المحدود الذي نُسمِّيه الصورة، ولن يقَر لها فيه قرار؛ فلن
يُوجَد في جسم أحدنا اليوم ذرةٌ واحدة من تلك الذرات التي كانت
تكوِّن جثمانه منذ سنين، وما من شيء باقٍ في ذلك العالم سوى
الصورة. وهي دون غيرها التي تستطيع الاحتفاظ بذاتيتها من طريق
التكاثُر والتضاعُف. وهي إذ تنتقل من طريق ذلك المبدأ الخفي
الغامض الذي ندعوه «التوالُد» في سلسلةٍ موصولة غير متناهية من
الأفراد، تجتذب إليها دواليكَ عددًا غير محدود من الدقائق
المادية المختلفة الطبائع، ثم تنبذُها، فكلُّها مسوق في طريق
التحوُّل، مقضيٌّ عليه بذلك السفَر الطويل.»
أجهد كوفييه نفسه في أن يحتفظ دائمًا بالفكرة في وحدة الصورة وكلية
النظام الحي، فساقه ذلك؛ إذ هو مُكبٌّ على التأمُّل من حالات العالم
العضوي، إلى وضع تلك الطريقة التي تعتمد في تقسيم العضويات الوضعي على
الأعضاء التي تدُل أكثر من غيرها على خصائص الشُّعَب المختلفة التي
قسَّم بها عالم الحيوان؛ أي على الجهاز العصبي. على أنه لا حاجة لنا
بأن نتعقَّب خُطاه في هذا الموطن إلى تفاصيل تاريخه الطبيعي، وتشريحه
المقارن، وحَفريَّاته التي كان هو أول من أقام قواعدها كعلمٍ ثابت،
فإنَّا نُحسن، إتمامًا لغرضنا الذي نرمي إليه هنا، أن ندرُس كيف كانت
نظرته في العلم الطبيعي على وجهٍ عام، وكيف حدَّد واجبه نحو ذلك
العلم.
•••
كما أن أول خطوةٍ تخطوها الجماعات نحو المدنية هي تكوين لغةٍ ذات
قواعدَ محدَّدة، كذلك نجد أن أول خطوة تُسلمِ إلى تكوين علمٍ من العلوم
أو نمائه، هي تلك الخطوة التي خطاها «لينيوس»، وقد أقبل على عمله
العظيم المشعَّب الأطراف بثبات وصبر وشجاعةٍ فائقة، بأن أكبَّ على
العالم العضوي يضع لوحداته أسماءً اصطلاحية، يخترع له طريقة
للتسمية.
يقول «كوفييه»:
«غير أنكَ إن أردتَ أن تُسمِّي جيدًا، انبغَى لك أن تعرف
جيدًا؛ فتلك الكائنات وأعضاؤها المختلفة التي يجب أن تحيط بها
علمًا، تُعَد بالملايين. ولا يكفي أن تعرفها متفرقة؛ لأنها
خاضعة جِماعها لنظام وصلاتٍ متبادلة يجب عليكَ أن تقف على
كُنهها وسرها جميعًا؛ لأنه خضوعًا لذلك النظام، تتكوَّن
الوظيفة التي يقوم بها كلٌّ من الأعضاء، وخضوعًا له يختفي كلٌّ
منها في زمانٍ موقوت، ثم يعود إلى الظهور بحكم ذلك، في حين أن
كلًّا منها يظل حافظًا لنسبة بعينها، مُزوَّدًا بالقوات
والكفايات الضرورية التي يحتفظ من طريقها بتلك النسبة،
وبالهيكل الكلي الخاص بذلك الذريرِ الخالد. ولا يكفي في ذلك أن
نعتقد بأن كل كائنٍ منها هو بذاته هيكلٌ عضوي، وأن سماءها التي
تجمعها واحدةٌ غير متغيرة ولا مختلفة النواحي، بل ينبغي أن
نعرف بأنها على أضعاف ذلك من التشابُك والاختلاط؛ فما يجب على
المشرح أن يفعل بحيوان بعينه — وهو العالم الأصغر مقيسًا
بالعالم العضوي الأكبر —
Microcosm هو كذلك واجبٌ
عليه إزاء الكل العضوي
Maccrocosm إزاء الحيوان
الأعظم، إزاء تلك المجموعة الهائلة التي تتكوَّن من عضوياتٍ
متفرقة.»
كانت تلك الفكرة الثابتة فيما للبحوث المستفيضة من قيمة وخطر، تلك
البحوث المتغلغلة إلى صميم الأشياء، المقرونة بدقَّة المشاهدة،
المشفوعة باعتقادٍ كامل في وحدةٍ تامة تجمع بين نواحي الوجود كله على
تبايُن ضروبه واختلاف نواحيه، ومعرفة القيمة الحقيقية لكل فروع العلم
الإنساني، هي التي رفعَت «كوفييه» إلى تلك المنزلة الفذَّة، إلى قمة
العلم في عصره، بين بني جلدته، وزوَّدَته بتاج الفَخار بأن جعلَته أول
عامل على نشر الروح العلمية الحديثة؛ فإن مؤلَّفات «نيوتن» و«لابلاس»
قد تتضمَّن قواعدَ أطول بقاءً وأكبرَ قيمةً مما تتضمَّن مؤلَّفات
«كوفييه». قد يكون في مؤلَّفات الأوَّلين مُهيِّئاتٌ ثابتة تُساعِد
العلم على العمل، وقد يكونان أوَّل مستكشفَيْنِ لقليلٍ من خيوط ذلك
النسيج الكامل الذي يكوِّن ميكانيكية الطبيعة. أما في ذلك الحيِّز الذي
يحتفظ فيه بالنظر في عالم الحيوان، لا في ميكانيكية الوجود، ابتغاء
الوصول إلى أكبر سرٍّ من أسرار الطبيعة، والوقوف على قيمة كل جزءٍ من
أجزائها الحية، وكل جهد من جهود الإنسانية، فالقرن التاسع عشر لا يذكر
اسمًا أعظم من اسم «كوفييه». ولن يفوقه في ذلك «فون همبولد» على ما كان
عليه من سَعَة النظر العلمي، وعلى ما خُصَّ به من سُموِّ المدارك
الفائقة. كذلك كانت الفوائد التي جنَتها أكاديمية العلوم خلال ذلك
العهد الذي ظل فيه «كوفييه» ناموسًا لها، بلا نظير في تاريخها، في حين
أن الأكاديمية كانت أمثل بيئةٍ تظهر فيها كفاياته الخارقة للعادة. وفي
مستطاعنا أن نقول بحق: إن العلم من طريق «كوفييه» أصبح على شعورٍ كامل
بصحة أساليبه التامة وفوائدها، وقيمة الذاتية، وأخطائه الماضية،
وانتصاراته الحاضرة، والمدى الذي يمكن أن ينتهي إليه، والحدود التي لا
يستطيع أن يجتازها.
تعلَّم «كوفييه» في ألمانيا، وفي نفس المعهد الذي خرَّج «شيللر Schiller» و«دانيكار Dannecker»، وزُوِّد منذ حداثته
بالأساليب العلمية الحديثة، وتشبَّع بتلك الروح العامة التي ذاعت في
طرق التعليم والتربية بين الأمم التي تتكلَّم اللغة الجرمانية في
القارة الأوروبية، تلك الطرق التي أُسِّستْ على دراسة ما أَنبَت
القدماء من آثار، وعلى الرياضيات، ومعرفةٍ عامة باللغات والآداب، مما
جعله قادرًا على تعرُّف الخصائص العقلية لكل أمة من الأمم، حتى أصبح
فيما بعدُ أكبر مُروِّج لتلك الطريقة الخاصة التي تُعنَى بنشر الثقافة
العالية، وكانت قد راجت منذ زمان «كولبير» في فرنسا، وأَعني بها
«الطريقة الأكاديمية». أما «أكاديمية العلوم The Academy of Sciences»،
فكانت الأساس الذي قامت عليه تلك الطريقة الحديثة، وهي على ما انتابها
من الكوارث، وما تَناوَح حولها من رياح الثورة، ظلَّت ثابتةً ممثِّلة
للمظهر الأعلى من مظاهر المعاهد الفرنسوية. ونذكُر مع هذا المعهد
معاهدَ أخرى تأثَّرتْ بالروح التي بثَّها «كوفييه» في العلم، منها
المدارس الكبرى التي عُنيَت بفروع العلم الطبيعي، والمعاهد التي عُنيَت
بجمع الآثار الطبيعية، ومدارس الطب التي تأسَّستْ في باريس.
بُثَّت في أكاديمية العلوم روحُ الحرية الصحيحة؛ فإن زعماءها قد
وضَعوا قواعدَ تعمل على حماية العلم والبحوث العلمية بما يقتضي لذلك من
السخاء والكرم، وسَعَوا لجذب الكفايات غير الفرنسوية إلى الأكاديمية،
ومدُّوا يد المساعدة إلى المباحث الأجنبية بذات اليد التي مُدَّت إلى
المباحث الفرنسوية، وظلُّوا عاملين على الاحتفاظ بروح البحث العلمي،
وبالأساليب التي تُنتَحى في التعبير عنها، نقيةً بعيدة عن الأغراض
المسفَّة المنافية لروح الحرية والعدل. كذلك رحَّبتِ الأكاديمية
بمعاونة كل العقول الفذَّة على اختلاف بيئاتها لتُقيمَ هيكل العلم على
دعائمَ ثابتةٍ قوية، وخصَّصتْ أمكنةً للقيام بأدقِّ البحوث، كما أنها
لم تُهمِل في إعداد ذلك الميدان الفسيح الذي تنمو فيه وتنتعش، تلك
الفكراتُ العظمى التي تحكُم في أكبر حيِّز من أحياز الفكر.
تنظُر في ذلك فتجد «كوفييه» واقفًا بهامة الجبَّار القوي الأصلاب على
ما يترامى تحت قدمَيه من بناء الأسلوب الأكاديمي، الذي هو أكبر ممثِّل
للروح التي ذاعت فيه؛ فمن طريق عددٍ كبير من التقاريظ التي قرَّظ بها
فئةً صالحة من علماء القارة الأوروبية النابهين لدى انتقالهم إلى
العالم الباقي، وكميةٍ غير قليلة من التقارير لخَّص فيها الجهود وصور
النماء وضروب الارتقاء التي وقعَت في عصره، والصور العلمية التي
تناوبَت التأثير على العقول في عهده، قد زوَّد كلَّ من تجشَّم مئونة
البحث التاريخي بمُهيِّئاتٍ يستطيع بها أن يبلُغ إلى تلك الأعماق التي
يُدرِك منها الصبغة الحقيقية التي اصطبغَت بها الفكرة العلمية في فرنسا
في أواخر القرن الثامن عشر. ذلك في حين أن جهده لم يقتصر على ذلك، بل
زوَّدَنا بما نستطيع به أن نقارن بين آثار عصره والآثار التي خلَّفتْها
العصور التي تقدَّمتْه من صور الفكر كالفلسفة والمعتقدات الذاتية،
وهيَّأ لنا ذلك السبيل، بل أمدَّنا بالأسباب التي تُمكِّننا من أن
نُجيب جوابًا شافيًا إذا ما تساءلنا: «إلى أي حدٍّ تتفق المُثُل
العلمية التي ذاعت في نهاية القرن التاسع عشر، وإلى أي حدٍّ تختلف، عن
المُثُل التي ذاعت في بداءته؟»
أما نزعتُه إلى اتباع مُثُل «نيوتن» دون المُثُل التي اتبعها «باكون»
و«ليبنتز» في العلوم الرياضية والفوسيقية، فقد رسمَت ذلك الطريق الذي
تمشي فيه في القرن التاسع عشر، ابتغاء الكشف عن آثاره بصورةٍ أكثَر دقة
وبيانًا. وكذلك الحال في العلوم الطبيعية؛ فإن ما أُنفِق من جهد في
سبيل البيان عن سر ذلك النظام الطبيعي الشامل ومشاكله الكبرى،
ومناقشاته مع «جفروي
سانتيلير G. de Sainte Hilre» جِماع ذلك يُحدِّد نقطة الانفصال بين
الآراء التي ذاعت في أوائل القرن التاسع عشر، والآراء التي ذاعت في
نهايته. ولقد أدرك قبل أن يُدرك أيُّ عقلٍ من العقول التي تُناظره
قوَّةً وقيمة، حقيقةَ تلك الأشياء التي سوف يصل إليها العلم في القرن
التاسع عشر، وكيف أن العلم إذا عدم أسلوب الجمع والحصر، الذي لن
يتحقَّق إلا بإنشاء المقرَّرات، واتِّباع طرق الإحصاء، والحصول على
الصور المختلفة التي تُمثِّل الكائنات، مشفوعًا «في» ذلك بطرقٍ للتقسيم
ومذاهبَ تُمحِّص الحق من الباطل، عدمَت المعرفة الإنسانية قوَّتها
الارتقائية التشييدية، وتردَّت في الفوضى والعَماء.
ولقد خُصَّ «كوفييه» بكفاية من القياس التاريخي مكَّنتْه من أن يدرك
سر العلاقة الكائنة بين العلم وبين التاريخ السياسي والأدب والفنون،
وما اختَص منها بناحية الجمال الطبيعي، وما اختَص منها بناحية الصناعة
الإنتاجية. كذلك أجاب «كوفييه» على سؤالٍ نَجِد نحن في الإجابة عليه
قيمةً لا تساويها في عالم الفكر قيمة، تساءل: «كيف أمكن للعلم أن يخطو
تلك الخُطى أثناء الثورة الفرنسوية بويلاتها ومصائبها؟ وكيف حفظ نفسه
من التبدُّد والإسفاف خلال عصر الاستبداد الرجعي الذي شَهِدَته فرنسا
أثناء حكم الإمبراطورية الأولى؟» وقبل أن أُحاوِل الإجابة على هذه
المسألة مستمدًّا من نور العلم الحديث والوقائع التاريخية التي
شَهِدتْها أوروبا، أذكُر بضعة أسطُر كتبها «كوفييه» وهي على إيجازها
تُنير سبيل الإجابة على هذه الأشياء. قال في أحد تقاريظه التاريخية
(مجلد ثالث، ص٤٥٦، سنة ١٨٢٤م) ما يلي:
«إن الحوادث التي زعْزعَت أركان الدنيا الأربعة، والتي
أنضبَت منابع العلم الطبيعي وذهبَت بثروتها، وأرجعَت البحث فيه
إلى ما لهذا العلم من قيمة، وردَّت النظر فيه إلى ما استُكشف
من قبلِ وقوع الحوادث، فكان ذلك الأمر أخصب إنتاجًا وأكبرَ
ثمرةً من كل المبتكَرات التي كان من الممكن أن تُبتَكر في
فروعه المتفرِّقة؛ ففي خلال تلك الهدنة العلمية رجعَت العقول
إلى تمحيص الأساليب العلمية الذائعة والذهاب بها إلى أبعد غَور
من أغوارٍ الطبيعة؛ فإن ماهية الأشياء الطبيعية قد تناوَلَها
الدرس والبحث، وشُرِّحتِ المعادن، ورُدَّت إلى عناصرها
الميكانيكية.
كذلك زاد العلم بالتحليل الكيماوي وقوفًا على سر العناصر،
وتناول الأرضَ مِعولُ الجيولوجيا يستدِرُّ أسرارها كما
يستدِرُّ مِشْرطُ المشرِّح أسرار التراكيب الحية، فعُرفَت
أغوارها وطبيعة تلك الطبقات التي تكوِّن قشرتها السطحية. وعلى
الرغم من انبِتاتِ العلاقات العلمية بين فرنسا وبقية الممالك
الأوروبية، فإن باطن الأرض قد تناوَلَه العلم وخضع لسلطان
المباحث الطبيعية، وعُرفَت حقيقة الكائنات التي يتضمَّن بطن
الأرض بقاياها وكنوزها العلمية، وكشَف البحث في دَرَج ذلك عن
صورة من صور التاريخ الطبيعي لم تكن معروفة من قبلُ، صورةٍ
متغايرة في ماهيتها، في حين أنها خاضعةٌ لذات النواميس التي
وصل العقل إلى الكشف عنها، فكانت بذلك شهادةً مادية تؤيد ما
لتلك النواميس من أثَرٍ في الطبيعة، على ما فهِمَتها
العقول.
على أن النباتيين لم يستجمعوا في ذلك العهد من صُور النبات
قَدْرًا كبيرًا، غير أنهم وعدسةُ المِجهَر بين أيديهم وتحت
أعينهم، استطاعوا أن يَسْبُروا غَوْر الحياة النباتية، فعَرفوا
تراكيب الثمار والحبوب والعلاقات الطبيعية التي تربط بين أجزاء
الزهرة الواحدة، والحقائق التي تؤدِّي إليها تلك العلاقات في
سبيل الوصول إلى طريقةٍ قيمة في تقسيمها الوضعي، وتركيبها
الطبيعي. كذلك وقعَت الأبصار على أدقِّ صُورِ الأنسجة العضوية،
كما تعاوَن الطب والكيمياء ووحِّدَت جهودهما للكشف عن أدق
التفاصيل في تأثير العناصر الخارجية على العضويات الحية. ولم
يقفِ الأمر عند هذا، بل إن مجموعة الأعضاء المختلفة، أو كما
ندعوه الرتب المختلفة، أو الأجناس المتباينة، لم تكن العناية
بدَرْسها أقلَّ من العناية بالإكباب على النظريات العامة. وما
وقع النظر على حيوان، مهما ضؤل حجمه ونزلَت مكانته، إلا
وتناولَه التشريح بحيث كشَف عن حقيقة أجزائه وتراكيبه بمثل ما
كشَف عن التراكيب البشرية. وخضَعتِ النظم العضوية المختلفة
كلٌّ منها لناحية من البحث.
وعَرفَ العلم أنَّ بحث المخ يكشف عن مقدار القوَّة العاقلة،
وأن الأسنان عنوان القوة والنشاط في الجهاز الهضمي، كما بُحثَت
التراكيب العظمية، وهي التي تكوِّن مجموع الهيكل وتُساعِد
الأنظمة الأخرى على البقاء وتحكُم في طبيعة صور الحيوان. كل
هذه الأشياء قد تُوبع البحث فيها إلى أبعَد تفاصيلها عن
التناول، وفي أحطِّ الأنواع قيمة، وفي أدق جهاتها؛ لذلك رأينا
بعد أن وصل الفكر إلى هذا الحد من الدرس، أن الألسنة قد سكتَت،
وأن الأقلام قد كفَّت عن الكلام في الأساليب الصناعية السطحية،
وطرق الوصف في التعبير عن حقائق الأشياء، وألفَينا أن التاريخ
الطبيعي كما عُرِف في الأزمان الأولى، قد تعطَّل عن التحكُّم
في العقول. وليس معنى هذا أن التاريخ الطبيعي كما عُرِف قديمًا
قد امَّحى أثَره جملة، بل معناه أن ذلك العلم قد وُلِد نشأةً
ثانية، فأصبح مزوَّدًا بطرق وأساليبَ جديدةٍ للبحث، أشعَّت
حقائقها في نواحي الدنيا الأربع، بعد أن عمَّها
السلام.»
في قطعةٍ أُخرى تَكلَّم «كوفييه» عن إعادة فتح الأكاديميات والمدارس
في عهد الحكومة الثورية، فقال:
«لم يكن الأمر محصورًا في مسألة الاستكشافات الفردية، بل في
المعاهد التي من طريق تحقيقها لأمنية الاحتفاظ بهيكل العلم
سالمًا؛ أمكن أن تُضاعِف خُطى التقدُّم والارتقاء. ولم تصبح
الحاجة في مساسٍ إلى رجلٍ يُكِب على اختباراته العلمية، بحيث
يكون ملمًّا كل الإلمام بموضوعه وأدواته العلمية، بل إلى رجل
يُشمِّر عن ساعده ليُقاتِل إزاء ضروب الصعاب والعقبات، ولكي
ينفع إخوانه في الإنسانية، على الرغم منهم، بكل طريقٍ
مستطاع.»
ثم قال:
«لقد عطَّلتِ الجمعية الوطنية
٥ كل الأكاديميات والجامعات والمدارس، ولم يشْجُع
أحد على المطالبة بإعادة تأسيسها، ولكن سرعان ما ظهَرتْ نتائج
تهديمها في أَخص الحاجات الوطنية؛ إذ أصبحَت الجيوش بلا أطباءَ
ولا جرَّاحين، وهؤلاء لا يمكن الحصول عليهم من غير مدارس، ولكن
مَن يعتقد أنه مرَّ شَطرٌ من الزمان كان لازمًا ليتكوَّن
قَدْرٌ من الشجاعة في القلوب يحمل الناس على تسمية هذه المدارس
ﺑ «مدارس الطب»؟ فإن اسم «دكتور» و«جرَّاح» كانا نعتَين
يُضادَّان معنى المساواة كما فُهمَت في الثورة؛ لأنه من الظاهر
أنْ ليس لأحد من سلطة على آخر تُضارِع سلطة الطبيب على المريض؛
لذلك استُعمِل الاصطلاح القديم فسُمِّيَت «مدارس الصحة». ولم
يُقِم الذي أعادها إلى الحياة وزنًا للامتحانات ولا للدبلومات
التي ينالها طلبتُها، ولكن على الرغم من ذلك فإن نظرة تأمُّل
نُلقيها على النظامات التي خَضعَت لها تلك المدارس، تفسِّر لنا
الأغراض التي رمى إليها مُعِيدها «فوركروي
Fourcroy»؛ فإن المدارس الثلاث التي عادت في
ذلك العهد إلى التدريس، قد وُهِبَت مساعداتٍ جمة وزُوِّدَت
بقَدْرٍ من المال كبير، لم يُعهَد له نظير، ولم يقُمْ حول
مِثله من فكرة في فرنسا، فكان ذلك ولا يزال إلى اليوم أَخصَّ
ما تمتاز به جامعة الطب.»
وإنكَ لتقع فيما كتب «كوفييه» على كثيرٍ من أمثال ذلك؛ حيث يصف تأثير
الحروب والثورات والحصرِ القاريِّ، وفَصْل فرنسا عن بقية أوروبا، في
إعادة تأسيس المستشفيات وإدخال فروع الطب في الأكاديمية، وفي خلق
صناعاتٍ جديدة، وزيادة الثروة المستخرجة من المناجم، والمعادن التي
اختُصَّت بها فرنسا، وفي قيمة المستعمرات والسياحات من الوجهة العلمية،
إلى غير ذلك من المسائل ذوات الشأن والخطَر.
أما وقد عمَدتُ إلى التاريخ في الفكر، والبحث في نشوء الروح العلمية
الحديثة على هذه الصورة التي مضيتُ عاكفًا عليها حتى الآن، فإني لا أجد
مندوحة من الكلام في بضعة آثار تتركها أقوال «كوفييه» ثابتةً في
رُوعِنا.
•••
لقد أبنتُ من قبلُ كيف أن فرنسا قد جاهدَت أكثر من غيرها في سبيل
تعميم العلم، وكيف أن آدابها الوضَّاحة التي أَنبَتها العقل الفرنسوي
خلال القرن الثامن عشر؛ قد تركَت أكبر أثَرٍ في قيام الفكرات العلمية
الحديثة؛ فليس من أمةٍ أخرى في أوروبا قد أخرجَت أمثال «فونتينل» أو
«بافون» أو «فولتير» في ذلك العهد. وهذه الخاصية يجب أن تُؤخذ في
التاريخ كأكبر مُنبِّهٍ عملي سبَّب نماءَ الروح العلمية. على أنها
خاصية استمدَّت جُلَّ قُواها، إن لم تكن كلها، من تلك المنزلة التي
خُصَّت بها أكاديمية العلوم القديمة. ذلك في حين يجب علينا أن نُنبِّه
على أن تعميم العلم في ذلك الزمان لم يكن مصبوغًا بالصِّبغة التي
نعهدُها في عصرنا هذا؛ فإن ذلك النوع من الأدب الذي ينشُر في هذا العصر
المُستكشَفات والفكرات العلمية في أرجاء العالم، وذلك العديد الذي لا
يُحصَى من المجلات والجرائد اليومية والنشرات، وتلك المقالات القصيرة،
وكُتب المبادئ المختصرة، والمتون الأولية، كل هذه لم يكن لها من وجودٍ
في ذلك العصر، ولم يكن العلم موضوعًا عامًّا للتعليم، بل كان مهنةً
لأقلَّيةٍ من الرجال ساعدَهم الحظ الدنيوي، أو أمدَّتهم قُواهم
العقلية، أو عاونَتهم صفات الصبر والاحتمال الشاقِّ على مكاره البحث
والتنقيب، على أن يُفسِحوا لأنفسهم طريقًا إلى الصالونات Salons التي كانت منتدى الطبقات
العليا في الجمعية الفرنسوية، أو إلى قاعات الأكاديمية.
إن أوَّل برنامجٍ عام دُرِّس في علم التاريخ الطبيعي بدأه
«فالمون ده
بومار Valmon de Bomare» في باريس سنة ١٧٦٠م، وكان العلم في ذلك العهد
بعيدًا عن مُتناوَل رجال العمل والفقراء، ولم يكن قد أصبح بعدُ عنصرًا
من عناصر التدريس، أو أداةً من أدوات الصناعة، بل كان زخرف العظماء،
ومفتاح السراي الملوكية. غير أنه لم يكن من مُهيِّئات النفع العاجل،
اللهم إلا في شُهرة الذين كانوا يُعنَون بالقيام عليه من الملوك، أو من
بعد الصيت الذي كان ينالُه بضعةٌ من ذوي المواهب السامية بما يُوفَّقون
إليه من المستكشَفات. ولم يُطبَّق العلم في ذلك العهد تطبيقًا عمليًّا
إلا على فن الأسفار البحرية، وفي بضعة مخترعاتٍ متعلِّقة بذلك
الفن.
على أن طريقة تعميم العلم من ناحية الأدب لها أخطارها؛ فليس مما يقوم
في الرءوس شيءٌ أقل خضوعًا وأشد عنادًا لصفة التعميم البسيط المرتَكِز
على رجرجة الأدب، وقلة عنايته بالتعميق إلى صميم الأشياء، من الفكرات
العلمية؛ ذلك لأن هذه الفكرات إن أفلتَت يومًا من تلك اليد التي
تُعالجها بما تستحق من الحذَر والدقة، لكي تنتج وتؤتي ثمرها الطيب،
فإنها لا تلد إلا الفوضى والشرور؛ لأن مُدْيَة العلم مُرْهَفة الغُراب.
والأشياء التي يمكن أن تتناوَلَها ليست بعيدةً عن الناس؛ لذلك كان
استخدام العلم والفكرات العلمية على الوجه الأكمل، لن يأتي إلا من طريق
المثابرة على المِران والدرس والمزاوَلة، ولا يجب أن يحكُم فيه من
الصفات البشرية إلا صفةٌ واحدة، هي صفة ضبطِ النفس وكبحِ جماح مشاعرها،
وتلك صفة لا تُنال بسهولة. ولا يغرُب عن أذهاننا كيف أن إدخال المبادئ
الأولية لعلم الميكانيكا في تضاعيف الأدب من طريق «فونتينل» و«دالمبير»
و«كوندورسيه»، والتي حُشيَت بها كتابات «فولتير» و«ديدرو» قد تضخَّمتْ
وانتفَخَت في بعض الرءوس، حتى أَخرجَت مذهبًا في «الفلسفة المادِّية»
يتجلَّى بأعظم مظاهره في كتاب «الإنسان الآلة L’homme Machine» وكتاب «نظام الطبيعة Systeme de la Nature» وغيرهما
من المؤلَّفات التي لا يمكن أن يُوافِق على ما بُثَّ فيها من الآراء
المتطرفة، مفكرٌ من كبار العلماء.
إن تلك التعميمات التي حكَمتْ فيها صفتان؛ صفة التعجُّل بها، وصفة
البيان وقوة السبك، لم تخدم قضية العلم الصحيح، ولم تُذِع بين الناس
الروحَ العلمية على حقيقتها؛ فإن أكبر خيرٍ أنتجه «فونتينل» و«فولتير»
و«ده بافون» قد سمَّمتْه أو قعدَتْ به نظرياتٌ غيرُ ناضجة، منهوكة
الأساس. أما الكلام فيما كان من آثار هؤلاء في قيام الثورة، فأمرٌ
خلافي جدَلي، جرَّ إلى كثيرٍ من المناقشات. على أن الحقيقة الملموسة هي
أن الثورة قد هَدمَت نفوذَهم وذهبَت بآثارهم المباشرة.
أما إذا نظرتَ في أثَر الثورة من ناحيةٍ أدبية صِرْفة؛ فإنك تجدُ
أنها أنتجَت شيئًا مغايرًا لكل هذا، أنتجَت تلك الصورة الحديثة التي
عُمِّم بها العلم الصرف من ناحيةٍ علمية، ووضعَت أساس العلم التعليمي،
وحدَّدتْ أهميته الإنتاجية، فلم يمسَّ العلمُ بعد الثورة تلك الإلهيةَ
العليا، ولا ذلك الزخرف الذي كان يعكُف عليه القليل من الناس، ولا
صناعةَ بعض الذين خُصُّوا بقسط من العبقرية والنبوغ، بل أصبح أساس
التعليم الوطني، وقاعدةً تُبنَى عليها عظمة الأمة، وتقوم بثروتها. كما
أن مذكرات الأكاديمية قد حُرِّرتْ من كل ضروب التعميمات الخطرة
الشاذَّة التي كان من الممكن أن تجعل لها مساسًا بالخلافات السياسية،
ومماحكات السياسيين. وحُدِّدت اللغة التي اختصَّت بها الأكاديمية حتى
أصبحَت لا تتناول إلا المصطلحات المضبوطة الدقيقة التي تُعبِّر عن
القياسات الطبيعية، أو وصف الحقائق، أو شرح النظريات التي يمكن أن تؤدي
إلى التحقيقات الرياضية، أو معالجة المعضِلات من طريق النظر
الرياضي.
وعلى الجملة يمكننا أن نقول: إن كل ما يمكن أن يُشمَّ منه رائحة
الخروج عن روح العلم، قد ابتُذل في الأكاديمية، ووُضِعَت قواعدُ راقية
يتحداها الكاتبون في انتقاء الموضوعات التي يريدون الكتابة فيها، وفي
انتقاء الصورة التي يصبُّونها في قالبها. ولا تزال هذه القواعد موضع
احترامنا وإعجابنا إلى اليوم. على أن الأمر لم يقف عند هذا؛ فإن تلك
الروح العلمية النقية التي بُذِلَت في سبيلها الجهود خالصةً لوجه
العلم، قد نشَّطتْ طريقة إلقاء المحاضرات في المدارس العليا التي كان
يقوم بإلقائها فئةٌ من عظماء الأمة، فكان من أثَرهم أن أصبحَت تلك
الطريقة عادةً اتَّبعَها نُبغاء طلاب العلم الذين ذهبوا بها مذهبًا
جعلها السبيل الأقوم لتلقين فروع العلم الأولية، أو تلقين طرق التطبيق
الفني والصناعي. وآثار هذَين العِلمَين معروفةٌ مشهورٌ أمرها؛ فإنا لا
نزال، ونحن في أواخر القرن التاسع عشر
٦، محُوطِين بجوِّها واقعين تحت سلطانها وتأثيرها؛ فإننا إذ
نعودُ الآن بين آونةٍ وأخرى لنستمدَّ من كبار العلماء أسانيدَ ونظرياتٍ
نستعين بها على حل المشكلات العلمية، يحسُن بنا أن نتذكَّر مع هذا
دائمًا أنه ما من شيءٍ رفع العلم إلى تلك المكانة التي أصبح فيها
قوَّةً من أكبر القُوَّات الاجتماعية، سوى تلك الحركة التي قامت بها
الحكومة الثورية في سنة ١٧٩٣م؛ فإن هذه الحركة على الرغم من أنها
أصعدَت «لافوازييه» و«بيلي
Bailly»
و«كوزان
Cousin» إلى المِقصَلة،
ودَفعَت «كوندورسيه» إلى الانتحار، ووَضعَت آخرين مثل «فيك دازير
Vicq-d’azyr» و«ديوني ده سيجور
Dionis de Séjour» بين براثن
موتٍ عاجل؛ فإنها قد لجأَت في كل حاجاتها الضرورية إلى جماعةٍ من
جهابذة العلماء، أولئك الذين اعترفَ زعماء الثورة أنْ لا حاجة لهم
بأمثالهم.
يقول مسيو «موري
Maury» مؤرخ
الأكاديمية ما يلي:
«إن كل شيء كان يحتاج إليه الدفاع عن المملكة كان معدومًا
كالبارود والمدافع والمِيرَة؛ فمخازن الأسلحة والذخائر كانت
خاوية، والفولاذ لم يكن ليَرِدَ من الخارج، وملح البارود لم
يكن ليَرِدَ إلينا من الهند، وليس لغير أولئك الرجال الذين
بذلوا جهودهم في سبيل العلم من فضلٍ في تزويد فرنسا بما كانت
تحتاج إليه؛ فإن «فوركروي» مستعينًا بالمباحث التي بدأها
«لافوازييه» قد لُقِّن تلك المبادئ التي أعانته على استخلاص
ملح البارود. أما «غويتون ده مورفو Guyton de Morveau» و«برتوليه» فقد استكشفا
طريقةً جديدة لصناعة البارود، ودرَسَا استخراج الحديد
والفولاذ، وشرح «مونج» فنَّ صبِّ المدافع من النحاس وتجويفها
لاستعمالها في الحروب البحرية، وصبِّ المدافع من الحديد
لاستخدامها في الأسطول. وفي السادس عشر من شهر أغسطس سنة
١٧٩٣م، رجعَت الجمعية الوطنية مرةً أخرى إلى الأكاديمية
تُسائلها عن أقومِ طريقٍ ممكن لإصلاح صفة العُملة التي تتعامل
بها الجمهورية.»
في خلال بضع سنوات أصبح العلم ضرورةً أولية من ضرورات الجماعة. وقد
أُخذ العلم في دستور الأكاديمية عند إعادة تأسيسها، على أنه أوَّلُ ما
يجب أن يُعنَى به من فروع المعرفة الإنسانية.
أما تأثير نابليون على العلم فأمرٌ يتسع فيه باب الخلاف والجدل، كما
يتسع في كلِّ ما يُنسَب إليه من الجدارة والنُّهى في كل فروع الإدارة
الحكومية؛ فإن التقارير التي وضَعَها «دلامبر Delambre» و«كوفييه» بأمر الإمبراطور في تقدُّم العلم
خلال العشرين عامًا التي عقبَت قيام الثورة، قد أصبَحَت من مقاطيع
الأدب الخالد في وصفِ ما وصل إليه العقل في ذلك العهد، وكمثالٍ يُحتَذى
في معالجة مثل هذه الموضوعات. غير أن هذه التقارير، إذ كُتبَت تحت
عينه، وربما كان بوحيه، فإنها لن تَسلَم من الغرض، وعلى الأَخص إذا
لاحظنا أنها كثيرًا ما تكلَّمتْ فيما أعان به العلم، وما حمى به
العلماء. على أنه لا خلاف في أنه عرف ما للعلم من قيمةٍ جرَّته إلى
استخدام فئةٍ صالحة من أهله في الحكومة. كذلك نجد أن المعاهد التي نالت
من الحظوة عند نابليون أكبر قسط، كمدرسة النورمال ومدرسة السنترال،
وتأسيس «الجامعة الكبرى»، لم يكن لها من وجود قبل بونابرت.
فإلى أي حدٍّ تذهب مقدرة نابليون على ابتكار الآراء والمشروعات
النافعة، وإلى أي حدٍّ أخذ عمن هم حوله أو عن الذين تقدَّموه على عرش
فرنسا؟ ذلك أمرٌ سوف يظل موضعًا للنظر والجدال. إنه رحَّب بالعلوم
الرياضية وأمدَّها بكل ما استطاع من الوسائل، ووضَع مكافآتٍ كبيرة
القيمة لكل الأبحاث الطبيعية، وما صُرِف منها إلى الكهربائية خاصة،
وكان ذلك لسببَين؛ الأول أنه أدرك ما لها من فائدةٍ للأغراض التي ترمي
إليها الحكومة ولحاجات الأمة، والثاني أنه عرف مقدار ما تُخلِّد لحكمه
من مجد، ولاسمه من عظمة. ولن يغرُبَ عن أفهامنا أنه تلقَّى قسطًا غير
قليل من العلوم الرياضية. والظن الغالب أن ذلك كان سببًا في أن يهتم
بتلك العلوم. ولقد حوَّط نابليون نفسه بفئةٍ صالحة من العلماء أمثال
«برتيلو» و«مونج» خلال غزواته في إيطاليا وألمانيا، وحملاته على مصر
والشرق. ولقد كان للبواعث السياسية الشخصية التي بثَّها في عصره تأثيرٌ
كبير في إظهار معائب «الفلسفة الحسية Sensualistic Philosophy» التي ذاعت إذ ذاك على أنها من
كماليَّات الحياة، على أن هذه الفلسفة، إن كانت قد نزلَت إلى المرتبة
الثانية من مراتب المذهب الفلسفية، إلا أنها لا تزال ممثلةً في أشخاص
أولئك من العظماء أمثال «كاباني Cabanis» و«دستوت ده تراسي Destutt de Tracy» و«دونو Daunou» و«جارا Garat» أولئك الذين عناهم نابليون، حينما كان يتكلَّم
بامتعاض عن «التصوريين Ideologues».
على أنني بعد إذ قرأتُ كل ما كتب المعجَبون الذين نزعوا إلى الإغراق
والمبالغة، والناقدون الذين حاولوا تحقير ما لنابليون من أثَر في الأخذ
بيد العلوم وإذاعة الروح العلمية الحديثة، فإني لا يسعني إلا أن أضع
نابليون في صف الأبطال وعظماء السياسيين الذين عاشوا في ذلك العصر. بيد
أنه العلَم الفرد، والرجل الأوحد الذي أدرك ما سوف يكون للعلم من أثَر
في المستقبل القريب من عهده. أما أثَر نابليون الحقيقي في كل ذلك
فينحصر في أنه غيَّر ظواهر الأشياء تغييرًا تامًّا، كما أنه طبَّقها
تطبيقًا لا نهاية لتنوُّع صوره. ولقد رأينا من قبلُ ما كان للحساب
الإحصائي وإدخاله في نظام الحكومة من أثَر في المدنية، وفي التغلغل إلى
صميم ظاهراتٍ من الطبيعة، كان يحول دون معرفة حقائقها وأسرارها إيغالها
في التشابُك والاختلاط.
إن عظماء الزعماء لا يجب عليهم أن يعرفوا «فلسفة الإحصاء
الاستقرائية»، وأن يقفوا على حقيقة المتوسِّطات الرياضية لا غير، بل
يجب أن يقفوا على سرٍّ آخر من عوالم الفكر له أكبر حكم في تصريف حالات
الاجتماع. وكذلك كان نابليون؛ فإنه كان يعلم حق العلم، أن البواعث
الدينية وفضائل الغيرية وإنكار الذات، كما قال لفونتانس
Fontanes، هي التي تُحدِّد حظ
الأمم والشعوب من الحياة.
على أن إخفاقه الأخير قد يمكن أن تُستكشَف أسبابه في أن نفس نابليون
لم تتسع لهذه الفضائل بدرجةٍ كافية. ومع هذا فإن نابليون لفي تلك
الزمرة القليلة العدَد التي يذكُرها التاريخ من كبار القوَّاد
والفاتحين. هو في زمرة الإسكندر المقدوني وقيصر وبطرس الأكبر، أولئك
الذين استطاعوا بمواهبهم أن يزُجُّوا بأسمائهم في سطور تاريخ العلم،
كما ثبَّتوه في تاريخ الحرب والفروسية؛ فإن قليلًا من عظمة «لابلاس»،
و«كوفييه» ترجع إليه. وليس من سببٍ غير هذا يُذكَر من أجله نابليون في
تاريخ الفكر؛ فإن الذين استخدَمهم جميعًا كانوا حكامًا، وكانوا
مشترعين، وإليهم يرجع ذلك الضوء الذي يلمع سناه في سماء القرن التاسع
عشر. كانوا أول من تعهَّد نَبْت الروح العلمية الحديثة، وحوَّطوه
بالعناية، وقاموا عليه حافظين بين جدران الأكاديمية، وبالأسلوب
الأكاديمي. والغالب أن ذلك الأسلوب نتاجُ الفكر الفرنسوي وحده وبلا
شريك. وإنه ليحسُن أن نُورِد هنا كلمة لكوفييه عرَّف فيها «الروح
العلمية»، قال في تقريره الذي رفعه في أواخر عام ١٨٠٨م، ما يلي:
«تلك هي المستكشفات الطبيعية الرئيسية التي استنار بها
عصرنا، والتي يُفتَح بها عصر نابليون؛ فأي أمل من الآمال يجيش
بصدرنا ولا تفتح له بابًا؟ وأي شيء في الدنيا لا تعرف اليوم
الروح العامة قَدْره وخطَره؟ تلك الروح التي أبرزَت تلك
المستكشَفات، وفتحَت مجالًا واسعًا لما سوف يُنتَظر في
المستقبل؛ فإن كل تلك النظريات الفرضية، على اختلاف درجاتها
وتراوُحها بين الشك واليقين، تلك التي هبَّت عواصفها على الفكر
في أوائل القرن الثامن عشر، قد اكتَسحَها العلماء إلى حيث
ذهبَت وفنِيَت. على أن تلك النظريات لن تُخلِّد لأصحابها شهرةً
ثابتة؛ فالتجاريب ذوات الرتابة والدقة، تلك التي تعمد إلى
الكيل والميزان، ولا تأنس بغير الحساب العددي والمقارنة في بحث
الموادِّ التي تقع تحت سلطانها، هي السبيل الوحيدة إلى التفكير
والاستكشاف. ذلك في حين أن العلوم الطبيعية،
٧ إن كانت تُفلِت من يد الحساب العددي، فإنها لتفخَر
بأنها خاضعة للروح الرياضية، وأسلوب التفكير الرياضي، وأنها
بما ابتَكرَت من المناهج القيِّمة لن تتعرض إلى الوقوع في
مخالب الرجعية؛ فإن كل نظرياتها يمكن أن يتناولَها التحقيق،
ويمكن أن تُصبِح أساسًا قويًّا ثابتًا لما سوف يُشيَّد عليها
في المستقبل.»
كذلك لن نستطيع أن ننظر فيما أشاد به «كوفييه» من ذِكر علماء فرنسا
خلال كُتبه ومقالاته وتقاريظه، نظرةَ مَن يعتقد أنه أدنى إلى التحزُّب
والغرض، منه إلى العدل والإنصاف؛ فإنه كان عالمًا حق العلم بما للأمم
الأخرى من فضل وعظمة؛ فهو أكثرُ المؤرِّخين ذكرًا وأمعَنُهم تعظيمًا
لأمثال «بريستلي Priestly»
و«كافنديش Cavendish»
و«بانكس Banks» و«رامفورد Ramford» و«بالاس Pallas» و«فرنر Werner» و«همبولد». على أننا رغم هذا لا يسعنا أن نشُك
لحظةً واحدة فيما قال «كوفييه» من أنه: «حتى في تلك الجهات العقلية
التي شاء القدَر ألا يكون لرجال فرنسا حظٌّ في استكشافاتها الرئيسية،
فإن طريقة تقبُّلهم لها والأسلوب الذي انتحَوْه في بحثِها ودَرْسها،
والطرق التي سلكوها في تنميتها واستخراج نتائجها، تضَعُهم في الصف
الثاني بعد مستكشفيها، وتُعطيهم الحق في مواضعَ كثيرة، بأن يشاطروهم
مجْدَ استكشافها وعظمةَ استخلاصها من أعماق الطبيعة.»
كانت فرنسا سكَن الروح العلمية خلال العقود الأولى من القرن التاسع
عشر؛ فإن هذه الروح إن كانت قد تمخَّضتْ عنها العقول في غير فرنسا، غير
أنها لم تُلاقِ من العناية بقَدْر ما لاقت فيها، حتى بلغت حدَّ الكمال
والنُّضْج. غير أن هذه الروح سرعان ما أخذَت تحوم في سماءٍ غير سماء
فرنسا، وترتاد أرضًا غير أرض فرنسا؛ فإننا لا نكاد نُلقي بنظرة على
تاريخ الشطر الأخير من القرن التاسع عشر، حتى نرى تلك الروح قد بثَّت
الحياة العلمية في إيطاليا وألمانيا وإنكلترا وشمال أوروبا الشرقي؛
فليس الآن من علم يصحُّ أن ينتسب إلى أمة من الأمم؛ فإن أمم أوروبا
كلهن قد تناصَرن في إعداد تلك المهيِّئات التي أمدَّتهن بقوة العلم
وتأثيره في الحياة المدنية، وكلهن عملن جادَّاتٍ في سبيل الغَوْر
بالروح العلمية إلى أعماق الوجود.
برقين في ٢٤ يناير سنة ١٩٢٥م