رواية المزحة لميلان كونديرا
رواية: المزحة.
تأليف: ميلان كونديرا.
ترجمة: أنطون حمصي.
في لحظة ما خلال مناورات المراهق لودفيك من أجل التأثير في ماركيتا الفتاة التي تثير إعجابه، يشعر بالغيظ منها فيرسل لها ردًّا غرضه إثارة غضبها، والسخرية منها؛ فيقول: «التفاؤل هو أفيون الجنس البشري! الروح المعافاة تفوح بنتن الغباء. عاش تروتسكي! لودفيك.» العبارات التي كتبها دون حتى أن يؤمن بها تقلب حياته رأسًا على عقب حين يعرف بها زملاؤه في الحزب وفي اتحاد الطلاب، واعتُبِرت أنها عدائية للشيوعية. وفي سياق مزايدات، وخطاب عام إقصائي مشوش سيطر على العصر في التشيك في ذلك الوقت، تتعقد الأمور. يحاول لودفيك الدفاع بأن هذه العبارات مجرد مزحة كتبها بسرعة دون أن يفكر، لكن زملاءه لا يصدقونه ولا يتعاطفون مع التبرير، بل ويقول أحدهم له: «من المحتمل أنك لم تكن لتكتب هذا لو فكرت أكثر من ذلك. بهذه الطريقة كتبت دون قناع. بهذه الطريقة نعرف على الأقل من أنت. نعرف أن لك وجوهًا: واحدًا للحزب وثانيًا للآخرين.»
هذه الحادثة التي يسترجعها لودفيك الرجل ذو السبعة والثلاثين عامًا، صارت بالنسبة له نقطة تحوُّل أساسية في نظرته للدولة، والنظام. وصارت أيضًا اللحظةُ التي ارتفعت فيها أيادي مائة من زملائه وأصدقائه للتصويت ضده، إما مزايدةً أو خوفًا، لحظةً مرجعيةً لنظرة متشائمة، شاكَّة في الأشخاص، والعالم.
لكن هل الرواية عن لودفيك؟ لا أظن أن هذا القول سليم رغم أهمية لودفيك في أحداث الرواية. فمن جهة أولى تستخدم الرواية رواةً متنوعين، ومن خلال العيون المختلفة، يتم النظر إلى أحداث الحاضر والماضي من زوايا متنوعة. ومن جهة ثانية فعنوان الرواية (المزحة) رغم أنه يشير بشكل واضح للحادثة المذكورة آنفًا، إلا أن الرواية توضح مع الوقت أن هذه المزحة التي لم يتم قبولها أو فهمها، هي مجرد مزحة من سلسلةٍ من المزحات أو المهازل التي تتكشف لعيون الأبطال، في نظام يتفسخ، تحت تأثير زيفه. الرواية ليست عن شخص أيًّا كان، الرواية عن عصر.
كونديرا معماريٌّ بارع، فإذا كنت في حديثي عن رواية نرسيس وغولدموند لهرمان هسة قد أشرت لعناصر مثل: رحلة الأبطال للبحث عن الذات، والاهتمام بما في داخل عقول الأبطال أكثر من الاهتمام بالأحداث الخارجية، فإن الصفة الأنسب لعوالم كونديرا هي صفة البناء الكبير؛ يقسِّم كونديرا الرواية إلى سبعة أجزاء ويقسِّم الأجزاء إلى فصول، وأثناء الانتقال من فصل لآخر يحوِّل وجهات النظر، ويضع كل قطعة في مكانها المناسب ليخلق فسيفساء كبيرة تنكشف بنيتها مع تقدم الرواية. الأحداث في الرواية كثيرة ومتشابكة والسرد ينطلق من الحاضر للماضي ذهابًا وعودة، ويتسارع ويتباطأ ببراعة موسيقيٍّ موهوب.
كما قلت، هناك حدث مركزي لكنه ليس الحدث الوحيد، فحول هذه النقطة التي تُقدَّم كنقطة مركزية منذ البداية، كانت هناك نقاط أخرى أصغر أو لعلها بدت أصغر في البداية من حيث وقفنا كقراء، لكن هذه النقاط معًا شكَّلت زخرفة متشابكة متكاملة يمكنك أن تتحدث عن كل نقطة منها كمركز: طرد لودفيك من الحزب، مضاجعته لهيلين، حكايته مع لوسي، حكاية كوستا، حكاية جاروسلاف، المكان نفسه بطل، والتاريخ كذلك. طوال الرواية أنت منجذب كقارئ للسرد الممتع، وهو ما يدفعك للتساؤل — إن كنت كاتبًا أو قارئًا واعيًا — أسئلة تتركز حول بنية الرواية، تحاول في عقلك عمل هندسة عكسية لهذه البنية، بغرض استنتاج الطريقة التي فكَّر فيها الكاتب في بناء هذه الرواية، تحاول الانتقال من مقعد المتفرج السلبي، لمقعد المتعلم. ولعل ما كتبته هنا هو محاولة لفهم بنية الرواية من أجل التعلم.
في البداية كان لكل شخصية جزء منفصل تتحدث فيه بصوتها، وتلقي من زاويتها نظرة على الأحداث، لكن الجزء السابع (الأخير) ضمَّ أصواتًا متعددة تتغير من فصل لفصل: هي فصول قصيرة، سريعة، تتعاقب وجهات النظر فيها بسرعة كبيرة لتصنع سيمفونية متداخلة الآلات لتناسب جو المهرجان الذي كان يجري فيه الحدث.
عنصر آخر مهم في رأيي لفهم الرواية، هو السخرية، والسخرية فيها ليست مزحات يلقيها الراوي، وليست نقلًا كاريكاتوريًّا لأفكار الأشخاص وتصرفاتهم؛ فأفكار الأشخاص ومبرراتهم يتم نقلها بطريقة مقنعة، وعميقة، ومتماسكة. لكن الكاتب في المقابل واعٍ لكيفية خداع البشر لذواتهم، ولأن أبطاله هنا وفي كثير من رواياته مثقفون تكون كذباتهم أكثر مكرًا ومبنية ببراعة أكبر. يبنون عوالم كاملة أحيانًا، ينجحون من خلالها في خداع أنفسهم، بحيث يُظهِر لهم تعاليهم أنهم أحرار من الخدع. الأشخاص يحادثون أنفسهم وآخرين بشكل متماسك، لكن الروائي ينجح مع تعاقب الأحداث في إدخالك كقارئ إلى الأبعاد المختلفة للعالم الذي ينقله، وفي جعلك كقارئ واعٍ تشاهد من الخارج تهافت ما يقوله الأبطال لأنفسهم في أوقات كثيرة. دون أن يحتاج إلى التعليق أو التشويه الكاريكاتوري، فقط ينجح في إعطائك مصباحًا ترى من خلاله كيف أن الأمور تدعو للسخرية.
الكاتب لديه تلك القدرة على تحريك الأرض تحت أقدامك كقارئ، يغزل لك في البداية خيطَ تعاطف مع البطل ورؤيته حتى تتماهى معها وتصدقها خصوصًا أنها مغزولة بعمق، وفي عقل بطل مدرك لأبعاد مختلفة لوضعه، لكن ما إن تتعاطف مع هذه الرؤية لتراها هي المسار الخاص بالرواية والراوي، حتى تكتشف التحول في هذه الرؤية واكتشاف وهمها، بشكل درامي. المهرجان نفسه الذي يتم إجراؤه سنويًّا له دراميته الخاصة، يتم تصويره بعيون لودفيك المراهق باعتباره متألقًا وحميميًّا وصادقًا، ثم تتغير النظرة بتغير رؤية الأشخاص، وينحل هو نفسه أكثر ليتم وصفه في النهاية بشكل يبرز طبيعته كمجموعة من الطقوس الفارغة من معنًى ومن تناسق. إنها الأيديولوجيا الإقصائية التي تجعلنا من ناحية نرى الافتعال صدقًا، وهي من ناحية أخرى التي تهدم الكثير أثناء تقدمها في الزمن لتبقى في النهاية مجرد مجموعة من الأشكال الباردة.
كنا نتصور نحن الآخرين أننا سنصنع عالمًا جديدًا تمامًا، وأن الناس سيعودون للعيش في التقاليد القديمة، وأن الكوكبة نفسها ستنبع من أعماق حياتهم. كنا نريد تشجيع هذا الانبثاق، كنا نموت تعبًا لتنظم أعياد شعبية. لكن لا يمكن تنظيم النبع، فإما أن يندفع أو لا يكون نبعًا. أنت ترى أيها الجد أين نحن: أغنياتنا الصغيرة، كوكباتنا وكل شيء مجرد بقايا عصر: القطرات الأخيرة، قطرات صغيرة، الأخيرة تمامًا.