كلام عن الكلام
لو وضعت أي شيء في مركز اهتمامك فستبدأ في رؤيته في العديد من الأشياء الأخرى: صلات، تشابهات، تضادات، أعم، أضيق … لو أنك شغوف بالعمارة فستشاهد البنايات والشوارع والنباتات والحيوانات والبشر والطبيعة والكون كمعمار، وستكون قادرًا على التعلم منها والاستفادة منها كمصدر للإلهام. حالة الشغف هذه قد تكون من أهم ما يفصل بين المبدع في مجال ما والصانع الجيد. في الشعر الأمرُ مُشابه، هناك كُتَّاب يضعون الشعر في مركز اهتماماتهم، وهناك كتاب يضعونه على الهامش، التفريق بين الفريقين لا يتم عن طريق الكم.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة، جزء مهم من التركيبة، هو مقدار فهمك لِمَا أنت شغوف به، في حال المعمار، قد تكون فرصة المتخصص في الإحاطة بالحدود والمفاهيم الأساسية أبسط، حيث إن العمارة صارت علمًا بالإضافة إلى كونها فنًّا؛ مما يجعل الخلط فيما يخص هذه الأسس صعبًا، لمن كرَّسوا حياتهم لها بشكل احترافي. في حال الشعر الأمور قد تبدو مرتبكة إن قورنت بالعمارة. أتخيَّل مثلًا أحد الشعراء مهتمًّا جدًّا بالشعر وشغوفًا بتعريف نفسه كشاعر، ويفكر في الشعر كل الوقت، لكنه يرى الشعر فقط على أنه الوزن، فيلتقط دائمًا الفتات والموسيقى، وألعاب النغم، لكن قد لا تكون له نظرة شاعر.
ما هو الشعر؟ هذا أمر يطول الكلام فيه، ولكن الشاعر الحقيقي يرى الشعر في كل شيء، في كل التفاصيل الموجودة في الحياة.
دائمًا ما نَصِف الشاعر المميز بأنه صاحب رؤية مختلفة، ونتحدث عن الشعر على أنه رؤية للعالم، والأمر هنا ليس مجرد صيغ بلاغية. الفكرة باختصار أن الإنسان يعيش في عصر يتغير بشدة: الاختراعات وأساليب الحياة، والأفكار، والعلاقات الاجتماعية، ووسائل التنقل والاتصال، معرفتنا بالعالم تتغير كل يوم، والإنسان قد يظل مغيبًا عن بعض ما يجري فيه، لكنه جزء من هذا العالم، يتأثر به ويؤثر فيه بمقدارٍ ما. المشكلة أن الإنسان قد يستوعب هذه التغيرات عقليًّا، لكنه يظل متعلقًا بجوانب أخرى من ذاته برؤية العالم كما كان بالأمس أو منذ سنين؛ لأن العقل والمنطق غير كافيين. الإنسان قد يكون مقتنعًا على المستوى العقلي بحقوق الإنسان، أو بفيزياء الكوانتم، أو … أو … لكنه قد يظل على مستوًى ما لا يعيها، ربما كان للشعر والأدب دور هنا. فكرة صياغة العالم شعرًا، العالم كما هو اليوم.
لذلك من الأمور الفارقة بين شاعر وشاعر في أوقات كثيرة؛ مدى معاصرته للعالم الذي يوجد فيه، وإدراكه له ولمشاكله وإمكاناته.