ثورة المعلومات
(١) ظهور مجتمع المعلومات
يترتب على ذلك أن المرء قد يدفع بأن الإنسانية كانت تعيش في أنواع مختلفة من مجتمعات المعلومات على الأقل منذ العصر البرونزي، وهو العصر الذي جرى فيه اختراع الكتابة في بلاد ما بين النهرين وعدد من المناطق الأخرى حول العالم (الألفية الرابعة قبل الميلاد). لكن ليس هذا هو المعنى المقصود اعتيادًا بثورة المعلومات؛ فعلى الرغم من كثرة التفسيرات، إلا أن أكثرها إقناعًا هو أن عملية التقدُّم والرفاهية البشرية بدأت حديثًا جدًّا في الاعتماد بصورة تكاد تكون كاملة على الإدارة الناجحة والفعَّالة لدورة حياة المعلومات.
(٢) عصر الزيتابايت
لا تزال تكنولوجيات المعلومات والاتصال تُغيِّر العالم بعمقٍ وعلى نحو لا سبيل إلى الرجوع عنه لأكثر من نصف قرن من الزمان وحتى الآن، على نطاق هائل وبمعدل فائق السرعة؛ فهي من ناحيةٍ أدت إلى ظهور فرص حقيقية ووشيكة ذات فوائد عظمى على التعليم، والرفاهية، والازدهار، والتهذيب، فضلًا عن المميزات الاقتصادية والعلمية الكبرى؛ لذا لا غرو في أن وزارة التجارة الأمريكية ومؤسسة العلوم القومية جعلت من تكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا المعلومات، والعلوم الإدراكية، مجالاتِ بحث ذات أولوية على المستوى القومي. تجدر الإشارة إلى أن تكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية والعلوم الإدراكية لن تصبح ممكنة بدون تكنولوجيا المعلومات. وفي خطوة مشابهة، أقر رؤساء وحكومات الاتحاد الأوروبي بالأثر الهائل لتكنولوجيا المعلومات والاتصال عندما اتفقوا على جعل الاتحاد الأوروبي «الاقتصاد المعرفي الأكثر تنافسية وحيوية بحلول عام ٢٠١٠».
على الجانب الآخر، تنطوي تكنولوجيا المعلومات والاتصال على مخاطر كبيرة، كما يتولد عنها معضلات وأسئلة عميقة حول طبيعة الواقع ودرجة معرفتنا به، وحول تطور العلوم كثيفة المعلومات (العلم الإلكتروني)، وتنظيم مجتمع عادل (خذ مثلًا الفجوة الرقمية)، وحول مسئوليتنا والتزاماتنا تجاه الأجيال الحالية والقادمة، وحول فهمنا للعالم المتشابك، ونطاق تفاعلنا الممكن مع البيئة. نتيجة لذلك، تجاوزت تكنولوجيات المعلومات والاتصال فَهمنا لطبيعتها وتداعيتها المفهومية، كما أثارت مشكلات تزداد درجة تعقدها وأبعادها العالمية بسرعة؛ مشكلاتٍ تتطور وتصبح أكثر خطورة.
ربما تسهم مشابهة بسيطة في بيان الوضع الحالي. يشبه مجتمع المعلومات شجرةً تنمو أفرعها السامقة بصورة أكبر، وأسرع، وأكثر عشوائية من جذورها المفهومية، والأخلاقية، والثقافية. يعتبر غياب التوازن مسألة جلية، بل مسألة خبرة يومية في حياة الملايين من المواطنين. كمثال على ذلك، خذ مثلًا بسرقة الهوية، بعبارة أخرى: استخدام المعلومات لانتحال هوية شخص آخر بغرض السرقة أو تحقيق فوائد أخرى. وفقًا للجنة التجارة الفيدرالية، قُدرت عمليات الاحتيال التي تتضمن حالات سرقة الهوية في الولايات المتحدة بما يقترب من ٥٢٫٦ مليار دولار أمريكي من الخسائر في عام ٢٠٠٢ فقط، وهي العمليات التي تأثر بها حوالي ١٠ ملايين مواطن أمريكي. يتمثل خطر ذلك في أن تحقيق المزيد من النمو الصحي في القمة قد يعوقه وجود أساس هَشٍّ في القاعدة، كشجرة واهنة الجذور. وبناءً عليه، يواجه أي مجتمع معلومات متطورٍ اليوم المهمة العاجلة المتعلِّقة بتزويد نفسه بفلسفة المعلومات القابلة للتطبيق. بتطبيق المشابهة السابقة، بينما تنمو التكنولوجيا من أسفل إلى أعلى، حان الوقت للبدء في النزول إلى العمق؛ أي من أعلى إلى أسفل؛ لتوسيع وترسيخ استيعابنا لمفاهيم عصر معلوماتنا هذا، ولطبيعته، ولتداعياته الأقل وضوحًا، ولأثره على الرفاهية البشرية والبيئية؛ ومن ثَمَّ منح أنفسنا فرصة للتنبؤ بالصعوبات، وتحديد الفرص، وحل المشكلات.
أدى الانفجار المفاجئ لمجتمع المعلومات العالمي، بعد مرور ألفيات قليلة من عملية النضج الهادئة نسبيًّا، إلى بروز تحديات جديدة هائلة التأثير، وهي التحديات التي لم تكن متوقَّعة قبل عقود قليلة مضت. ومثلما وثَّقت المجموعة الأوروبية لأخلاقيات العلوم والتكنولوجيات الجديدة ومرصد اليونسكو حول مجتمع المعلومات، فقد جعلت تكنولوجيات المعلومات والاتصال من عمليات إنشاء، وإدارة، واستخدام المعلومات، والاتصال، والموارد الحسابية؛ أمورًا مهمة، ليس فقط فيما يتعلق بفَهمنا للعالم وبعمليات تفاعلنا معه، بل فيما يتعلق بتقييمنا الذاتي لأنفسنا وبهويتنا. بمعنى آخر: أدَّى علم الكمبيوتر وتكنولوجيات المعلومات والاتصال إلى «ثورة رابعة».
(٣) الثورة الرابعة
مع التبسيط الشديد، هناك وظيفتان أساسيتان يؤديهما العلم في تغيير فهمنا للأمور. ربما يُطلَق على إحدى هاتين الوظيفتين وظيفة «انفتاحية»؛ أي إنها وظيفة تتناول العالم الخارجي، فيما يطلق على الوظيفة الأخرى وظيفة «انغلاقية»؛ أي إنها تتناولنا نحن البشر. كان لثلاث ثورات علمية أثر كبير من الناحيتين الانفتاحية والانغلاقية. وبالإضافة إلى تغييرها فهمنا للعالم الخارجي غيَّرت هذه الثورات من مفهومنا عن أنفسنا. بعد ظهور نيكولاس كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣)، أزاح علم الكونيات الأرض — ومن ثَمَّ البشريةَ — من مركز الكون، واستبدل بها الشمس مركزًا له. برهن تشارلز داروين (١٨٠٩–١٨٨٢) على أن جميع أشكال الكائنات الحية تطورت مع مرور الوقت انطلاقًا من أسلاف مشترَكين من خلال عملية الانتخاب الطبيعي، وهو ما نحَّى البشر جانبًا من مركز المملكة البيولوجية. وبعد ظهور سيجموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩)، نُقِرُّ الآن بأن العقل يمتلك لاوعيًا ويخضع لآلية القمع الدفاعية. من هنا، فإننا لسنا ساكنين تمامًا، نقبع في مركز الكون (ثورة كوبرنيكوس)، ولسنا منفصلين ومتنوعين على نحو غير طبيعي عن بقية المملكة الحيوانية (ثورة داروين)، كما أننا بعيدون كل البعد عن كوننا نمتلك عقولًا مستقلة تعي وجودها تمامًا كما افترض رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠) مثلًا، (ثورة فرويد).
ربما يتشكك المرء ببساطة في قيمة هذه الصورة الكلاسيكية؛ ففي النهاية كان فرويد أول من قدَّم تفسيرًا لهذه الثورات الثلاث كجزء من عملية واحدة لتقييم الطبيعة الإنسانية، وكان المنظور الذي اعتمده في ذلك يتسم بالذاتية الشديدة. ولكن عند إحلال العلوم الإدراكية أو علم الأعصاب محل نظرية فرويد، سيظل الإطار العام مفيدًا في تفسير شعورنا بأن ثمة شيئًا مهمًّا وعميقًا للغاية حدث مؤخرًا لعملية فهم البشرية لذاتها؛ حيث إنه منذ خمسينيات القرن العشرين، أحدثت علوم الكمبيوتر وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات تأثيرًا انفتاحيًّا وانغلاقيًّا في آنٍ واحد، وهو ما لم يغيِّر من تفاعلاتنا مع العالم فحسب، بل ومن فهم ذواتنا أيضًا. فمن أوجُه عِدَّة، لسنا كائنات منفصلة تمامًا عن الكائنات الأخرى، بل نحن «كائنات معلوماتية» متصلة ببعضها نشارك الكائنات البيولوجية والمنتجات المهندسة بيئةً عالمية تتألَّف في نهاية المطاف من المعلومات، أو ما يُسَمَّى بالحيز المعلوماتي. هذه هي البيئة المعلوماتية التي تؤلِّفها جميع العمليات، والخدمات، والكيانات، ومن ثَمَّ تشمل جميع الكائنات المعلوماتية فضلًا عن خصائصها، وتفاعلاتها، وعلاقاتها المتبادلة. وإذا أردنا اتخاذ عالِم يمثِّل الثورة الرابعة فهو بلا شك آلان تورنج (١٩١٢–١٩٥٤).
لا يجب الخلط بين الكائنات المعلوماتية ورؤية الخيال العلمي للكائنات البشرية المميكنة؛ إذ لا يبدو التنقُّل بسماعات بلوتوث لاسلكية مزروعة في أجسادنا فكرةً ذكيةً، وسبب ذلك أنه أمر يتناقض مع الرسالة الاجتماعية التي يهدِف إلى إيصالها؛ ألا وهي أن البقاء تحت الطلب دومًا يُعتبر صورة من صور العبودية؛ ومن ثَمَّ فإن من كان شديد الانشغال وكان شخصًا مهمًّا فعليه الاستعانة بمساعد شخصي. ولن يرحب الناس بفكرة أن بداخلهم أجزاء إلكترونية، بل سيحاولون تفادي أن يكونوا مجرد نوع من الكائنات المؤتمتة. بالمثل، لا تعتبر فكرة الكائنات المعلوماتية خطوة في اتجاه نوعٍ من البشرية المعدلة وراثيًّا، مسئولٍ عن حمضه النووي المعلوماتي ومن ثَمَّ عن تجلياته المستقبلية. قد يتحقق ذلك في المستقبل، إلا أن الطريق لا يزال طويلًا للغاية؛ سواء على الصعيد التقني (القابلية للتنفيذ على نحو آمن) أو على الصعيد الأخلاقي (القبول الأخلاقي)، حتى يمكن مناقشة تنفيذ ذلك على نحو جِدِّيٍّ في هذه المرحلة. في المقابل، تُسلِّط الثورة الرابعة الضوءَ على الطبيعة المعلوماتية الجوهرية في الكائنات البشرية، وهو ما يختلف عن مجرد القول بأن الأفراد صاروا يمتلكون «ظل بيانات» أو «أنا» أخرى رقمية؛ سيد «هايد» جديد تمثله حسابات الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي، والمدونات، والمواقع الإلكترونية. تدفعنا هذه الحقائق الجليَّة إلى الظن الخاطئ بأن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات ما هي إلا تكنولوجيات داعمة فقط. لعل محلَّ السؤال في هذا المقام يتمثل في نوع من التغيير يتسم بالهدوء، والإثارة الأقل، كما يتسم بالأهمية والعمق في فهمنا لما يمكن أن يعنيه أن يكون المرء كيانًا يُستخدم في تحقيق المآرب وماهية البيئة التي تعيش فيها هذه الكائنات الجديدة. لا يحدث هذا التغيير من خلال نوع من التحوُّلات الهائلة في أجسادنا، أو من خلال بعض التكهُّنات الخيالية العلمية حول طبيعة الإنسان ما بعد البشرية، بل — بصورة أكثر جدية وواقعية — من خلال تحول جذري لفهمنا للواقع ولأنفسنا، ومن السبل المفيدة في الاعتماد على التمييز بين الأجهزة «الداعمة» والأجهزة «ذات القيمة المضافة».
بالرجوع إلى التمييز الذي أشرنا إليه، بينما تُعتبر واجهة ماكينة تنظيف الصحون لوحة تَلِجُ الماكينة من خلالها إلى عالم المستخدم، تمثل الواجهة الرقمية بوابة يستطيع المستخدم أن يكون حاضرًا من خلالها في العالم الافتراضي. يؤكد هذا الفرق البسيط والجوهري في ذات الوقت على المجازات المكانية العديدة المتمثلة في «الواقع الافتراضي»، و«الاتصال بالإنترنت»، و«الإبحار عبر الشبكة»، و«بوابة»، … إلى آخره. يترتب على ذلك أننا نشهد هجرة تاريخية غير مسبوقة للبشرية من موطِنها الطبيعي الاعتيادي إلى الحَيِّز المعلوماتي، وهو الأمر الذي يرجع في الأساس إلى أن العالم الأخير يبتلع العالم الأول في كنفه. بناءً عليه، سيصبح البشر كائنات معلوماتية ضمن كائنات أخرى معلوماتية (ربما تكون اصطناعية) وكيانات تعمل في بيئة أكثر ألفة للكائنات المعلوماتية. وبمجرد حلول السكان الأصليين الرقميين مثل أطفالنا محلَّنا، ستصبح عملية الهجرة الإلكترونية عملية أكثر اكتمالًا، وستشعر الأجيال المستقبلية بالمزيد من الحرمان، والإقصاء، والعجز — أو حتى العَوَز — متى انفصلت عن عالم المعلومات، مثل السمك خارج الماء.
ما نمر به إذن هو «ثورة رابعة»، عبر عملية الإزاحة وإعادة التقييم لطبيعتنا الجوهرية ودورنا في الكون. لا نزال نعدِّل من منظورنا اليومي حول الطبيعة النهائية للواقع — بعبارة أخرى: وجودنا الميتافيزيقي — من منظور مادي تلعب الأشياء والعمليات المادية دورًا مهمًّا فيه، إلى منظور معلوماتي، ويعني هذا التحول أن الأشياء والعمليات تتخلى عن طبيعتها المادية؛ بمعنى أنها تنحو إلى اعتبارها لا تحتاج إلى الدعم (خُذ مثلًا بملف الموسيقى). تتحول الأشياء والعمليات إلى نماذج نمطية، بمعنى أن مثالًا واحدًا من شيء ما (نسختي من ملف موسيقي) يساوي في جودته النموذج الأصلي (ملفك الذي تعتبر نسختي مثالًا له). بالإضافة إلى ذلك، يُفترض في هذه الأشياء والعمليات قابليتها تعريفًا للاستنساخ؛ بمعنى أن نستختي ونموذجك الأصلي يصبحان متبادَلَيْن. ويعني التركيز الأقل على الطبيعة المادية للأشياء والعمليات أن حق الاستخدام يُنظر إليه باعتباره مساويًا في أهميته لحق الملكية. أخيرًا، لم يعُد معيار الوجود — أي ما يعني أن شيئًا ما موجود — يشير في حقيقة الأمر إلى أن هذا الشيء لا يتغير (كان اليونانيون القدماء يظنون أن الأشياء التي لا تتغير فقط هي الأشياء التي يمكن القول إنها موجودة بصورة كاملة)، أو أن هذا الشيء يخضع إلى الإدراك (شددت الفلسفة الحديثة على وجوب إدراك الشيء عمليًّا من خلال الحواس الخمس حتى يعتبر هذا الشيء موجودًا)، بل صار هذا المعيار يتمثَّل في قابلية هذا الشيء للتفاعل، حتى وإن كان شيئًا غير ملموس. حتى يصبح الشيء موجودًا يجب أن يكون هذا الشيء قابلًا للتفاعل، حتى وإن كان هذا التفاعل غير مباشر. تدبر الأمثلة التالية:
تخلق تكنولوجيات المعلومات والاتصالات بيئةً معلوماتية جديدة تقضي فيها الأجيال القادمة معظم أوقاتها، حيث يقضي البريطانيون — على سبيل المثال — في المتوسط وقتًا على الإنترنت أطول ممَّا يقضون في مشاهدة التلفاز، بينما يقضي الأشخاص البالغون الأمريكيون ما يساوي خمسة أشهر تقريبًا سنويًّا داخل عالم المعلومات. يكبر هذا العدد من مستخدمي الإنترنت بسرعة؛ فوفق جمعية البرمجيات الترفيهية — على سبيل المثال — في عام ٢٠٠٨ كان متوسط عمر اللاعب ٣٥ عامًا وكان يلعب الألعاب لمدة ١٣ عامًا، ويبلغ متوسط عمر أكثر مشتري الألعاب ٤٠ عامًا، كما لعب ٢٦٪ من الأمريكيين فوق عمر ٥٠ عامًا ألعاب الفيديو، وهي زيادة كبيرة مقارنة بنسبة قدرها ٩٪ فقط في عام ١٩٩٩.
(٤) الحياة في الحيز المعلوماتي
رغم وجود بعض الاستثناءات المهمة (مثل الأواني والأدوات المعدنية في الحضارات القديمة، والمنحوتات، ثم الكتب بعد جوتنبرج)، مثَّلت الثورة الصناعية علامة فارقة حقًّا في الانتقال من عالم الأشياء الفريدة إلى عالم نماذج الأشياء، أشياء يمكن إنتاجها جميعًا بصورة مطابقة تمامًا لبعضها؛ ومن ثَمَّ لا يمكن التمييز بينها، وهو ما يترتب عليه قابلية الاستغناء عنها نظرًا لقابلية إحلالها دون وقوع أي خسائر في نطاق التفاعلات التي تسمح بها. عندما كان أسلافنا يشترون حصانًا، كانوا يشترون «هذا» الحصان أو «ذاك» الحصان، لا «نموذج الحصان». حاليًّا، نجد أنه من البديهي أن تكون مركبتان متطابقتين تمامًا، كما نجد أننا نستطيع شراء نموذج منها بدلًا من شراء «التجسيد» الفردي للمركبة. فنحن في حقيقة الأمر نتحرك سريعًا في اتجاه تسليع الأشياء، وهي العملية التي تعتبر الإصلاح مرادفًا للإحلال، حتى لو كان ذلك في حال بنايات بأكملها. وكنوع من التعويض، أدَّى ذلك إلى وضع أولوية لعملية «التمييز» المعلوماتي ولعملية «استعادة التفرُّد»؛ فالشخص الذي يضع لاصقة على شباك سيارته — وهي السيارة التي تتطابق تمامًا مع آلاف السيارات الأخرى — يحارب في معركة للتأكيد على فرديته. وقد فاقمت ثورة المعلومات من هذه العملية؛ فبمجرد أن نتحول من عملية التسوق عبر واجهات المحالِّ إلى عملية تسوق عبر نظام تشغيل الويندوز، ولا نعود نسير في الطريق بل نتصفح الشبكة، يبدأ شعورنا بالهوية الشخصية في التآكُل أيضًا. وبدلًا من أن يجري النظر إلى الأفراد باعتبارهم كيانات فريدة وغير قابلة للإحلال، نصبح كيانات مجهولة يجري إنتاجها على نطاق واسع، كائنات تصادف مليارات الكائنات المعلوماتية الأخرى على الإنترنت؛ لذا نجري عملية تمييز واستعادة لأنفسنا في عالم المعلومات من خلال استخدام المدونات والفيسبوك، والصفحات الرئيسية للمواقع، والفيديو على موقع يوتيوب، وألبومات صور موقع فليكر. يبدو من المنطقي بمكانٍ أن يصبح موقع «سكند لايف» بمثابة جنة بالنسبة للمهتمين بالموضة من مختلف الأطياف؛ إذ لا يوفر الموقع فقط منصة جديدة ومرنة للمصممين والفنانين المبدعين، بل يوفِّر أيضًا سياقًا ملائمًا يشعر فيه المستخدمون (الكيانات الافتراضية) بالحاجة الملِحَّة إلى الحصول على علامات ظاهرة للهوية الذاتية والأذواق الشخصية. بالمثل، لا يوجد تناقض بين مجتمع يهتم بشدة بحقوق الخصوصية وبين نجاح خدمات مثل فيسبوك؛ فنحن نستخدم ونكشف عن معلومات تتعلق بنا حتى نصبح أكثر تفردًا في عالم الكائنات المعلوماتية المجهولة، ونرغب في الحفاظ على درجة عالية من الخصوصية المعلوماتية، كما لو كان ذلك السبيل الوحيد لادِّخار رأس مال ثمين يمكننا استثماره علنًا بعد ذلك بغرض بناء ذواتنا كأفراد يميزهم الآخرون.
ما العمليات التي أشرت إليها توًّا سوى جزء من تحول ميتافيزيقي أعمق بكثير كان السبب فيه ثورة المعلومات. خلال العقد الماضي، اعتدنا النظر إلى حيواتنا على الإنترنت باعتبارها مزيجًا من عملية تكيُّف تطورية للكائنات البشرية مع بيئة رقمية، وأحد أشكال الاستعمار الجديد ما بعد الحداثي لهذا العالم عن طريقنا. إلا أن حقيقة الأمر هي أن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تغيِّر في عالمنا قدر ما تخلق واقعًا جديدًا. لا يزال الحد الفاصل بين هنا («التناظري»، «المعتمد على الكربون»، «غير المتصل بالشبكة») وهناك («الرقمي»، «المعتمد على السليكون»، «المتصل بالشبكة») يزداد ضبابية، وهي مسألة تأتي في صالح هنا وهناك بالقدر نفسه. فما هو رقمي يتسرب إلى ما هو تناظري ويندمج معه. تُعرف هذه الظاهرة الحديثة باصطلاحات على غرار «الحوسبة المنتشرة»، و«الذكاء المحيطي»، و«إنترنت الأشياء»، و«الأشياء المدعومة بالشبكة».
حاليًّا، لا تزال الأجيال الأكبر سنًّا تعتبر عالم المعلومات عالمًا يسجل المستخدم دخوله وخروجه منه، فرؤيتنا للعالم (ميتافيزيقيتنا) لا تزال حداثية أو نيوتونية. لا يزال عالمنا يتألف من السيارات، والبنايات، والأثاث، والملابس «الجامدة» التي تتسم بعدم تفاعلها، وعدم استجابتها، وعدم قابليتها للاتصال، والتعلم، والحفظ. لكن في مجتمعات المعلومات المتقدمة سيصبح ما لا نزال نعرفه كعالم غير متصل بالإنترنت مقدَّرًا له أن يصبح بيئة أكثر تفاعلًا وأكثر استجابة من العمليات المعلوماتية اللاسلكية، الشاملة، الموزَّعة، عمليات معلوماتية (تحوِّل أي شيء إلى أي شيء)، وعمليات معلوماتية تعمل (في أي مكان لأي وقت) على نحو آني. سيدعونا هذا العالم في البداية بلطف إلى فهمه باعتباره شيئًا (حيًّا اصطناعيًّا). بينما على النقيض ستجعل عملية إضفاء الحياة على العالم نظرتَنا أقرب إلى نظرة الثقافات ما قبل التكنولوجية؛ التي كانت تفسِّر جميع سمات الطبيعة باعتبارها مسكونة بقوى طبيعية.
يؤدي هذا إلى إعادة تصوُّر لميتافيزيقاتنا في إطار معلوماتي؛ إذ سيكون من الطبيعي بمكان اعتبار العالم جزءًا من الحيز المعلوماتي، ليس بمنظور الواقع المرير الذي جرى التعبير عنه وفق سيناريو فيلم «ماتريكس»، حيث لا يزال «الواقع الحقيقي» في صلابة معدن الماكينات التي تقطن هذا العالم، بل بالمعنى التطوري الهجين الذي تمثله بيئة مدينة نيوبورت، المدينة الخيالية، فيما بعدَ العالم السيبراني في فيلم «جوست إن ذا شل». لن يصبح الحيز المعلوماتي بيئة افتراضية يدعمها عالم «مادي» حقيقي خلفها، بل سيصير العالم نفسه الذي سيجري تفسيره وفهمه معلوماتيًّا كجزء من الحيز المعلوماتي. في نهاية هذا التحول، سيكون الحيز المعلوماتي قد تحرَّك من كونه طريقة للإشارة إلى عالم المعلومات إلى كونه مرادفًا للواقع. وذلك النوع من الميتافيزيقا المعلوماتية سيكون تبنيه سهلًا بصورة متزايدة.
نتيجة هذه التحولات في بيئتنا العادية، سنعيش في عالم معلومات سيصبح أكثر تزامنًا (عامل الوقت)، وغير متقيِّد بحدود (عامل الفضاء)، ومترابطًا (عامل التفاعلات). أحدثت الثورات السابقة (خاصةً الثورتين الزراعية والصناعية) تحوُّلات واضحة للعيان في بنانا الاجتماعية وبيئاتنا المعمارية، وذلك غالبًا في ظل غياب نظرة مستقبلية. لا تقل ثورة المعلومات في تأثيراتها عن الثورات الأخرى، وسنواجه متاعب جمَّة إذا لم نأخذ على محمل الجد أننا ننشئ البيئة الجديدة التي ستعيش فيها الأجيال القادمة. بنهاية هذا الكتاب، سنرى أننا ربما يجب أن نعمل على توفير بيئة للحيز المعلوماتي، وذلك إذا أردنا أن نتجنب المشكلات المتوقعة. لسوء الحظ، ستستغرق المسألة بعض الوقت، فضلًا عن تهيِئة نوع جديد تمامًا من الثقافة والحساسية لإدراك أن الحيِّز المعلوماتي ما هو إلا فضاء مشاع يجب الحفاظ عليه لمصلحة الجميع. إلا أنه يبدو أن ثَمَّةَ شيئًا ما لا يمكن إنكاره؛ ألا وهو أن الفجوة الرقمية ستصير هوة؛ هوة تولِّد أشكالًا جديدة من التمييز بين أولئك الذين يقطنون الحيز المعلوماتي وأولئك الذين لن يتمكنوا من ذلك، بين المطَّلعين وغير المطَّلعين، بين من يتمتعون بالثراء المعلوماتي وبين من يفتقرون إليه. ستعيد هذه الهوة تشكيل خريطة المجتمع العالمي، وهو ما سيؤدي إلى توليد أو توسيع الانقسامات الجيلية، والجغرافية، والاقتصادية الاجتماعية، والثقافية. لكن لن يكون من الممكن اختزال هذه الهوة إلى المسافة بين الدول الصناعية والدول النامية؛ إذ إن هذه الهوة ستمتد عبر المجتمعات. إننا نعمل حاليًّا على تمهيد التربة من أجل أزِقة المستقبل الرقمية.