المعلومات الفيزيائية
حتى الآن، جرى تحليل المعلومات من وجهة نظر رياضية ودلالية، إلا أنه مثلما يعرف جيدًا كل من عانى من حرارة الكمبيوتر المحمول، تعتبر المعلومات ظاهرة فيزيائية أيضًا حيث تستهلك عملية تخزين ومعالجة البيانات الطاقة؛ ولهذا السبب بدأت مراكز البيانات في إثارة مشكلات بيئية خطيرة (انظر الخاتمة). في الفصل الثالث، جرى تطبيق مفهوم الإنتروبي في نظرية المعلومات والديناميكا الحرارية. من هنا، آن أوان النظر إلى ما تثيره الفيزياء (باعتبارها إحدى النظريات حول الظواهر) والميتافيزيقا (باعتبارها إحدى النظريات التي تدور حول ما يكمن وراء تلك الظواهر) حول طبيعة المعلومات. لا يعتبر المنظوران غير متوافقين وربما كانا متكاملين.
(١) شيطان ماكسويل
تدرس الديناميكا الحرارية تحويل الطاقة من نوع (حركية، أو ميكانيكية، أو كيميائية، أو كهربية) إلى نوع آخر، والاتجاه الذي تتدفق فيه الطاقة، ومدى توافر الطاقة للقيام بمهام معينة. تعتبر الديناميكا الحرارية إذن المجال العلمي الذي أسهم أكثر من غيره في الثورة الصناعية، حيث إنها وفرت الأساس لعمل المحركات بفعالية، مثل المحركات البخارية ومحركات الاحتراق الداخلي، والأخيرة مهدت بدورها إلى توفير وسائل الانتقال الميكانيكية إضافة إلى التصنيع الآلي للبضائع. وباعتبارها علم عمليات الطاقة، تمتعت الديناميكا الحرارية بعلاقة مزدوجة مع آليات المعلومات. من جانب، تبدو العمليات المعلوماتية فيزيائية على نحو حتمي؛ ومن ثَمَّ تستند إلى عمليات تحوُّل الطاقة وهو ما يجعلها تخضع لقوانين الديناميكا الحرارية. على الجانب الآخر، ربما يعتمد تصميم، وتحسين، والإدارة الفعالة لعمليات الديناميكا الحرارية بكثافة على الطرق الذكية في التعامل مع عمليات المعلومات. خذ مثالنا كنموذج، تتطلب أي عملية تبادل للمعلومات يجريها جون مع العالم (وميض الضوء الأحمر، مكالمته الهاتفية، محادثته مع جاره، إلخ) عمليات تحويل طاقة في النظم ذات الصلة (جسده، السيارة، إلخ)، وهي تخضع في نهاية المطاف إلى قوانين الديناميكا الحرارية. في الوقت نفسه، كان يمكن توفير الكثير من الطاقة إذا كانت عملية الديناميكا الحرارية — وهي التي أدت إلى فراغ البطارية — تم منعها عن طريق إشارة مسموعة، تحذر جون من أن المصابيح كانت لا تزال مضاءة عندما غادر السيارة. في كثير من الأحيان تكون الديناميكا الحرارية والمعلومات حليفتين تتشاركان هدفًا واحدًا؛ ألا وهو استخدام مواردهما، وطاقتهما، ومعلوماتهما على النحو الأكثر فعالية.
قد تبدو درجة كفاءة المعلومات المحتملة غير محدودة؛ إذ كلما أجدنا إدارة المعلومات بصورة أفضل (مثلًا: استخلاص أو معالجة المزيد من المعلومات بنفس القدر من الطاقة أو أقل)، استطعنا إدارة الطاقة بصورة أفضل (استخلاص المزيد، تدوير المزيد، استخدام أقل أو أفضل)، وهو ما يمكن استخدامه بعد ذلك لتحسين عمليات المعلومات، وهكذا. هل هناك حدود لهذه الدائرة المفرغة؟ في الفصل الثالث، ذكرت أن النظرية الرياضية للاتصال تضع حدًّا لمدى تحسين تدفُّق المعلومات ماديًّا، إلا أنه لسوء الحظ، تضع الديناميكا الحرارية قيدين آخرين على المدى الذي يمكن من خلاله تحسين العمليات الفيزيائية معلوماتيًّا.
يتعلق القانون الأول للديناميكا الحرارية بحفظ الطاقة. ينص القانون على أن التغيُّر في الطاقة الداخلية لنظام حراري مغلَق يساوي مجموع كمية الطاقة الحرارية التي يتلقاها النظام والجهد المبذول في النظام. بعبارة أخرى: يؤكد القانون الأول في الديناميكا الحرارية على أن إجمالي كم الطاقة في أي نظام منعزل يظل ثابتًا؛ حيث إن الطاقة قابلة للتحويل ولكنها لا تفنى ولا تُستحدث من عدم. وبناءً عليه، مهما كانت درجة ذكاء وفعالية تعاملنا مع المعلومات، لا يمكن بأي حال من الأحوال ابتداع ماكينة حركة دائمة؛ بمعنى أنه لا يمكن اختراع آلية متى بدأت تستمر في الحركة إلى ما لا نهاية، دون الحاجة إلى المزيد من الطاقة. سيحتاج أكثر النظم المصمَّمة فعاليةً وكفاءةً بعضَ الطاقة. يتمثل التحدي «الأخضر» في استخدام المعلومات بصورة أكثر ذكاءً من أجل تقليص هذه الطاقة الزائدة المطلوبة إلى أقل مستوى ممكن، مع الحفاظ على مخرجات النظام أو زيادتها.
بينما قد يقبل أحد المتشككين القيد السابق، إلا أنه سيعترض على أن ماكينة الحركة الدائمة مستحيلة؛ نظرًا لأننا تصوَّرنا استخدام المعلومات فقط في بنائها من الخارج في إطار تصميم عبقري. يجب أن نأخذ في الاعتبار إمكانية وضع جهاز معلوماتٍ ما داخل الماكينة، بغرض تنظيمها من الداخل. وقد نجحت تكنولوجيات المعلومات والاتصال في توفير مثل هذا الجهاز بالفعل؛ إذ تنتشر التطبيقات «الذكية» في كل مكان الآن ولا تتطلب أي قفزات خيالية علمية. تتمثل الإجابة على هذا الاعتراض في شِقَّيْنِ:
أولًا: يجعل القانون الثاني من الديناميكا الحرارية وجود مثل هذه الماكينات دائمة الحركة مستحيلة من الناحية «الفيزيائية». مررنا بالفعل بمفهوم الإنتروبي في إطار «الاختلاط». في الديناميكا الحرارية، يكافئ هذا مقياس عدم توافر طاقة للنظام لتنفيذ المهام، بالنظر إلى أن الطاقة المتوافرة لتنفيذ المهام تتطلب بعض اللامساواة (بعبارة أخرى: عدم الاختلاط) في الحالات. وفق القانون الثاني، ينحو إجمالي الإنتروبي لأي نظام ديناميكي حراري منعزل إلى الزيادة بمرور الوقت، حتى يصل إلى قيمة قصوى. لا تستطيع الحرارة من تلقاء نفسها التدفُّق من جسم أبرد إلى آخر أكثر سخونة؛ إذ إنها ستكون حينئذٍ عملية معكوسة تشبه ملاحظة كوب من الماء الدافئ بداخله بعض الثلج فيتجمد تلقائيًّا، بدلًا من ملاحظة ذوبان الثلج ببطء: معجزة.
الشق الثاني أكثر صعوبة؛ وذلك نظرًا لأن القانون الثاني ينص على أن الإنتروبي «ينحو» إلى الزيادة، لذا قد يتساءل المرء عمَّا إذا كان من المستحيل «منطقيًّا» (بعبارة أخرى، تعارض في المصطلحات، مثل تعبير: عازبان متزوجان يعيشان في سعادة) ملاحظة تجمد جزيئات المياه، باستخدام المثال السابق. بعبارة أخرى، لن تسقط عملة عادلة طوال الوقت على جانب واحد وهذه حقيقة، على أنها احتمالية لا تستبعدها قوانين المنطق وحده، وهي ليست تعارضًا. من هنا، هل يمكن للمرء تصوُّر آلية ممكنة منطقيًّا يمكن من خلالها هزيمة الإنتروبي على الأقل نظريًّا، إن لم يكن من الناحية العملية؟ هنا يأتي دور شيطان ماكسويل.
سرعان ما أُدرِكَ أن شيطان ماكسويل ما هو إلا جهاز معلومات، يراقب ويحسب مسارات الجزيئات. فإذا كان الأمر ممكنًا نظريًّا، سنكون بذلك قد تمكنَّا من تحديد طريقة ممكنة منطقيًّا لاستخدام المعلومات للتغلُّب على الإنتروبي الفيزيائي، من خلال توليد عمل من النظام باستهلاك طاقة أقل من تلك التي يتطلبها القانون الثاني (تذكَّرْ أن متوسط السرعة الجزيئية يماثل درجة الحرارة، والتي ستنخفض في الجزء أ وتزيد في الجزء ب، وهو ما يجعل توليد بعض العمل ممكنًا). لكن القانون الثاني للديناميكا الحرارية يبدو لا خلاف عليه، فأين الخدعة هنا؟ في النسخة الأصلية لدى ماكسويل يحتاج الشيطان إلى إعمال الباب السري، وهو ما يتطلب بعض الطاقة، إلا أنه يمكن التعامل مع هذا الجانب من التجربة العقلية عن طريق تصميمه بصورة مختلفة قليلًا (باستخدام أبواب زلَّاقة، أجهزة ميكانيكية، زنبرك، وغيره). مثلما أدرك عالِمَا الفيزياء العظيمان: ليو زيلارد (١٨٩٨–١٩٦٤) وليون بريلوان (١٨٨٩–١٩٦٩)، تتمثل الخدعة الحقيقية في عمليات المعلومات التي يقوم بها الشيطان. تتطلب أي عملية جمع للمعلومات — مثل مراقبة موضع الجزيئات وسرعتها — طاقةً. تخيل — على سبيل المثال — الشيطان يستخدم شعاع ضوء من أجل «رؤية» مكان الجزيئات. ستكون الفوتونات التي تقفز من الجزيئات لتشير إلى وضع الجزيئات قد أنتجت من أحد مصادر الطاقة، وحتى لو كان من شأن إدخال المزيد من التعديلات في تصميم النظام أن يستطيع التغلُّب على هذا القيد تحديدًا، فهناك قيد أخير؛ فبمجرد جمع المعلومات يجب أن يُجري الشيطان عملية معالجة للمعلومات، مثل تحديد وقت فتح الباب السري على وجه الدقة حتى يعمل بكفاءة؛ ومن ثَمَّ يقلل الإنتروبي في النظام. إلا أن عملية الحساب تستخدم الذاكرة — إذ يحتاج الشيطان إلى تخزين المعلومات أولًا حتى يتمكن من معالجتها لاحقًا — مهما كانت درجة الكفاءة. بناءً عليه، بينما يواصل الشيطان عمله، سيقل الإنتروبي، بينما ستزيد مساحة ذاكرته المستخدمة. وفي النهاية استطاع عالما كمبيوتر أخيرًا صرف الشيطان. أولًا: دفع رولف دبليو لاندور (١٩٢٧–١٩٩٩) بأن أي عملية معالجة غير قابلة لإجرائها عكسيًّا بصورة منطقية تتسبب في إطلاق كمية معينة من الحرارة، ومن ثَمَّ توليد زيادة مقابلة في الإنتروبي في البيئة. ثم أثبت تشارلز إتش بينيت (المولود عام ١٩٤٣) أن معظم العمليات الحسابية يمكن إجراؤها عكسيًّا، بحيث يمكن استعادة تكاليف الطاقة مع عدم زيادة الإنتروبي، في مقابل وجود عملية حسابية واحدة لا يمكن عكسها بالضرورة؛ ألا وهي عملية محو الذاكرة (انظر الفصل الثاني). من هنا، سيحتاج الشيطان إلى طاقة من أجل محو ذاكرته، وهي الطاقة التي تسدد فاتورة الإنتروبي للنظام بطريقة غير شرعية، إذا جاز استخدام هذا التعبير.
خلاصة الأمر هنا أن المعلومات ظاهرة فيزيائية خاضعة لقوانين الديناميكا الحرارية، أو هكذا بدا الأمر حتى وقت متأخر؛ إذ إن لقصتنا نهاية مفتوحة. إن مبدأ لاندور ليس قانونًا، وقد خضع لتحديات في السنوات الأخيرة؛ نظرًا لافتراضه المسبق للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، بدلًا من دعمه. بالإضافة إلى ذلك، قد يُدفَع بأن من الممكن منطقيًّا عدم حاجة الشيطان إلى محو الذاكرة (على الرغم من عدم إمكانية تحقيق ذلك فيزيائيًّا، ولهذا السبب تعتبر تجربة الشيطان تجربة عقلية وليس نموذجًا تخطيطيًّا). وإذا لم يجرِ محو أي معلومات، ربما يمكن تحقيق جميع العمليات الحسابية الأخرى نظريًّا بطرق قابلة لإجرائها عكسيًّا من ناحية الديناميكا الحرارية، وهو ما لا يتطلب أي إطلاق للحرارة، ومن ثَمَّ أي زيادة في الإنرتوبي. سينتهي بنا المطاف إلى التعادُل المتمثل في إثبات أن النظام لا يعمل مجانًا مع عدم تسديد الشيطان فاتورة الطاقة. وبما أن الشيطان سينتفخ بكميات متزايدة من البيانات المسجلة، سيمثل الشيطان مساحة متزايدة من الذاكرات.
ربما يكون لدى الشخص المتشكك اعتراض أخير، يستطيع شيطان ماكسويل رؤية الجزيئات المفردة ومعالجتها. فإذا كان الكمبيوتر المتوافر كمبيوتر كميًّا، ألا يقدِّم ذلك حلًّا لكمية الموارد المعلوماتية اللازمة لدحض القانون الثاني للديناميكا الحرارية؟ الإجابة القصيرة هي لا، أما الإجابة الطويلة فتتطلب إفراد قسم إضافي.
(٢) المعلومات الكمية
يتم تشفير البيانات الثنائية وتخزينها ومعالجتها من خلال السماح لكل وحدة بيانات بأن تكون في حالة واحدة محددة تمامًا وواضحة في المرة الواحدة. كانت العملات في الفصل الثالث تمثِّل نموذجًا نيوتونيًّا كلاسيكيًّا، تكون فيه وحدة البيانات التقليدية إما ٠ أو ١، إما تعمل أو لا تعمل، إما صورة أو كتابة، وهكذا دواليك، ولا تمثل سوى قيمة وحيدة. في المقابل، تمتلك الحالات الكمية للجزيئات الذرية طبيعة خاصة، حيث يمكن استخدام الجزيئات الذرية في تخزين البيانات في صورة محددة لكنها حالة من التراكب الكمي غير المحدد من حالتين في الوقت نفسه. مجازيًّا، ربما يرغب القارئ في الرجوع إلى هذه الصور المجازية، وهي الصور التي دفع بها إلى الشهرة ماوريتس كورنيليس إيشر، والتي تحتوي على تفسيرين صحيحين بالتساوي، وإن كانا غير متوافقين في الوقت نفسه. على سبيل المثال، يستطيع أي شخص أن يرى بصورة تبادلية — لا آنية — وجه امرأة عجوز أو جانب وجه امرأة شابة. تُعرف نتيجة تراكب الحالات هذه باسم وحدة البت الكمي (أو الكيوبت). تمثل وحدة الكيوبت حالة الصفر وحالة الواحد «آنيًّا»، على الرغم من إمكانية حدوث ذلك بدرجات متفاوتة. تعتبر وحدة البت الكمي وحدة معلومات متغيرة، وهي بمجرد ما يتم ملاحظة أو قياس حالتها تتراجع بصورة غير قابلة للتغيير إلى الحالة ٠ أو ١. تعتبر هذه الحالة الفيزيائية من تراكب الحالات حالة عادية في الطبيعة ولكنها تعتبر حالة منافية لمنطقنا بقوة؛ إذ إن من الصعوبة بمكان فهم كيف قد تكوَّن الكيوبت في حالتين متعارضتين في ذات الوقت.
ستمثِّل أجهزة الكمبيوتر الكمية — إذا جرى تنفيذها فيزيائيًّا — نوعين من نظم المعلومات، بدلًا من أجهزة الكمبيوتر المتوافرة حاليًّا، بناءً على فيزياء نيوتن البسيطة. وستجبرنا هذه القدرة الحسابية الهائلة على إعادة التفكير في طبيعة وحدود التعقيد الحسابي. لن تكتفي أجهزة الكمبيوتر الكَمِّيَّة بتقديم تطبيقات في علم التشفير؛ بناءً على أخذ التحديات المتقادمة في الاعتبار بل توفِّر أيضًا سبلًا جديدة لتوليد أنظمة تشفير آمنة تمامًا، وبصورة أكثر عمومية، تحويل العمليات الحسابية الإحصائية ذات درجة التعقيد الفائقة إلى عمليات روتينية بسيطة.
لسوء الحظ، على الرغم من تحقيق بعض النجاحات في النظم البسيطة للغاية، قد يتضح أن صعوبات بناء كمبيوتر كَمِّيٍّ حقيقي يحل محل جهاز الكمبيوتر المحمول لهي صعوبات لا يمكن تخطيها. ففي بعض الأحيان يصعب للغاية تطويع بعض العمليات الفيزيائية للمعلومات لتلائم احتياجاتنا، فيما تعتبر الكيوبت أشياء هشة للغاية. وبالنسبة إلى المتشكك، ستظل أي نسخة كمية من شيطان ماكسويل تتقيد بالقيود التي نوقشت في القسم السابق. بالإضافة إلى ذلك، تتساوى الحدود الحاسوبية للكمبيوتر الكمي مع الكمبيوتر التقليدي. يستطيع الكمبيوتر الكمي حساب الدوالِّ التكرارية التي يمكن حسابها نظريًّا عن طريق الكمبيوتر التقليدي (الحوسبة الفعالة). يعتبر الكمبيوتر الكمي أكثر فعالية بكثير من الكمبيوتر التقليدي، من ناحية أنه يستطيع تنفيذ مهامَّ أكثر في زمن أقل بكثير، إلا أن ذلك يعتبر فرقًا كميًّا، لا فرقًا نوعيًّا، وهو فرق يتعلَّق بالموارد الفيزيائية المستخدمة للتعامل مع المعلومات. تعتمد عملية الحوسبة التقليدية على أن موارد المساحات (الموقع، الذاكرة، استقرار الحالات الفيزيائية، إلخ) لا تشكِّل مشكلة كبرى، فيما يعتبر الوقت كذلك. تتعامل الحوسبة الكمية مع تحديات الحوسبة التقليدية المتعلقة بالوقت (تستغرق بعض عمليات معالجة المعلومات وقتًا طويلًا للغاية) من خلال عملية انتقال. تعتبر العلاقة بين وقت الحوسبة (عدد الخطوات) والمساحة (حجم الذاكرة) عكسية. يصبح الوقت أقل إشكالية من المساحة عن طريق تحويل ظواهر التراكب الكمية التي تعتبر ظواهر قصيرة المدى ولا يمكن التحكم فيها على المستوى المتناهي الصغر، إلى ظواهر كمية طويلة المدى وقابلة للتحكم فيها على المستوى الكلي لتفعيل تنفيذ العمليات الحسابية. ستصبح أجهزة الكمبيوتر الكمية سلعة فقط إذا أمكن تحقيق عملية الانتقال هذه. يستطيع علماء الفيزياء إذن استخدام المعلومات الكمية باعتبارها وسيلة قوية لنمذجة وبحث فرضيات ميكانيكا الكم والظواهر الأخرى التي تُعَدُّ صعبةً للغاية حوسبيًّا بالنسبة إلى التكنولوجيا الحالية. في حقيقة الأمر — وفق بعض الباحثين — قد يكتشف هؤلاء أن الواقع نفسه يتألف من المعلومات (وحدة البيانات)، وهذا موضوع قسمنا الأخير.
(٣) الواقع من وحدة البيانات
في الفصل الثاني، رأينا أن البيانات الطليقة وصفت باعتبارها «كسورًا في المتَّصِل» أو غياب في انتظام نسيج الواقع. على الرغم من عدم إمكانية وجود معلومات بلا بيانات، قد لا تتطلب البيانات تمثيلًا ماديًّا لها. وفي كثير من الأحيان يُفسَّر مبدأ «لا معلومات بدون تمثيل بيانات» بشكل مادي، باعتباره مبدأً يؤيد استحالة وجود المعلومات غير المادية، من خلال معادلة «التمثيل = التجسيد المادي». يعتبر هذا افتراضًا حتميًّا في فيزياء نظم المعلومات، حيث يجب الأخذ في الاعتبار بالضرورة الخواص والحدود المادية لنواقل وعمليات البيانات. إلا أن هذا المبدأ في حد ذاته لا يحدد ما إذا كان تحقُّق الحالات الرقمية أو الحالات التناظرية يتطلب بالضرورة تمثيلًا «ماديًّا» للبيانات محل البحث. قَبِل فلاسفة كثيرون المبدأ، مدافعين عن إمكانية أن يكون العالم غير مادي في نهاية المطاف، أو يعتمد على مصدر غير مادي. في حقيقة الأمر، يمكن إعادة بناء النقاش التقليدي حول الطبيعة الجوهرية للواقع في إطار التفسيرات الممكنة لهذا المبدأ.
يفسِّر كل هذا السببَ وراء اتِّساق فيزياء المعلومات مع شعارين، وهما شعاران يتمتعان بالشعبية بين العلماء، فضلًا عن كونهما يؤيدان الطبيعة المادية الأولية للمعلومات. رفع الشعار الأول نوربرت وينر (١٨٩٤–١٩٦٤)، أبو السيبرانية: «المعلومات هي المعلومات، ليست مادة ولا طاقة. لا يستطيع أي مذهب مادي لا يقر بهذه الحقيقة الاستمرارَ في الوقت الحالي.» رفع الشعار الآخر جون أرتشيبولد ويلر (١٩١١–٢٠٠٨) — وهو عالم فيزياء بارز صك تعبير: «الواقع من وحدة البيانات» للإشارة إلى أن الطبيعة النهائية للواقع المادي معلوماتية، آتيةٌ من «وحدة البيانات» أو البت. في كلتا الحالتين، ينتهي المطاف بالفيزياء إلى التأكيد على توصيف الطبيعة المبني على المعلومات. يتألف الكون بصورة أساسية من بيانات تُفهم باعتبارها ديدومينا — أنماط أو مجالات الاختلافات — بدلًا من مادة أو طاقة، بينما الأشياء المادية هي التجسيد الثانوي المعقد لها.
بالإضافة إلى ذلك، إذا كان العالم كمبيوتر، سيشير هذا ضمنًا إلى القابلية الكاملة لتوقُّع تطوراته وإلى إحياء شيطان آخر؛ شيطان لابلاس.
أشار بيير سيمون لابلاس (١٧٤٩–١٨٢٧) — أحد مؤسسي علم الفلك والإحصاء الرياضي — إلى أن في حال وجود كائن افتراضي (يُعرف باسم شيطان لابلاس) يمتلك جميع المعلومات اللازمة حول موضع وزخم كل ذرة في الكون على وجه الدقة، لأمكن له استخدام قوانين نيوتن في حساب تاريخ الكون بأسره. بينما كان هذا الشكل المتطرف من الحتمية لا يزال منتشرًا في القرن التاسع عشر، جرى تقويض هذه الحتمية خلال القرن العشرين من خلال الطبيعة الاحتمالية للظواهر الكَمِّية. انتقل العلم من الاعتماد على الضرورة والقوانين إلى الاعتماد على الاحتمالية والقيود. حاليًّا تتمثل الرؤية الأكثر قبولًا في الفيزياء في أن الجزيئات تتصرف على نحو غير حتمي وتتبع مبدأ عدم اليقين. وفق أفضل ما توصلنا إليه من معرفة — بعبارة أخرى: على الأقل وفق تفسير كوبنهاجن لميكانيكا الكم، وهو الأوسع قبولًا بين علماء الفيزياء — ليست الحتمية الحوسبية خيارًا، ولا وجود لشيطان لابلاس، والأمر عينه ينطبق على الفيزياء الرقمية.
بينما قد لا تزال عملية إعادة التفسير الرقمية للفيزياء المعاصرة ممكنة نظريًّا، يبدو أن أي ميتافيزيقا تعتمد على أسس معلوماتية-نظرية تقدِّم منهجًا أكثر وعدًا. بعد وينر وويلر، ربما يمكن للمرء أن يفسر الواقع باعتباره يتألف من معلومات، بمعنى كيانات هيكلية مستقلة عن العقل، تعمل على دمج البيانات المتناثرة، والتي تُفهم باعتبارها نقاطًا مادية علائقية لغياب الانتظام. يسمح هذا الواقع أو يدعو إلى توفر مفاهيم محددة ويقاوم أو يعرقل مفاهيم أخرى، وهو ما يعتمد على التفاعلات مع نظم المعلومات التي تقطنها وطبيعة هذه النظم، على سبيل المثال «الكائنات المعلوماتية» مثلنا. إذا حاز أي منهج معلوماتي يتناول طبيعة الواقع على الرضا، ماذا يستطيع مثل هذا المنهج أن يخبرنا عن طبيعة الحياة؟ وكيف تتعامل الكائنات البيولوجية مع أنماط البيانات؟ هذا هو موضوع الفصل التالي.