المعلومات البيولوجية
- (أ)
المعلومات «باعتبارها» واقعًا، مثلًا: الأنماط، بصمات الأصابع، الحلقات الشجرية.
- (ب)
المعلومات «من أجل» الواقع، مثلًا: الأوامر، الخوارزميات، الوصفات.
- (جـ)
المعلومات «حول» الواقع، مثلًا: المعلومات ذات القيمة المعرفية، مثل: جداول مواعيد القطارات، الخرائط، بنود الموسوعات.
ربما يحمل الشيء عينه أكثر من معنى من معاني المعلومات، وهو ما يعتمد على السياق. على سبيل المثال: ربما تكون قزحية العين لأحد الأشخاص مثالًا على المعلومات «باعتبارها» واقعًا (مثلًا: نمط الغشاء الرقيق في العين)، وهي معلومات توفِّر معلومات «من أجل» الواقع (مثلًا: وسيلة تحديد السمات البيولوجية لفتح أحد الأبواب عن طريق التحقُّق من هوية أحد الأشخاص)، أو «حول» الواقع (مثلًا: هوية الشخص). إلا أنه من الأهمية بمكان بيان أي معنى من المعلومات يجري استخدامه في كل حالة: (أ) «ماديًّا»، (ب) «إرشاديًّا»، أو (ﺟ) «دلاليًّا». لسوء الحظ، يستخدم تعبير المعلومات البيولوجية عادةً بصورة ملتبسة بالمعاني الثلاثة في الوقت نفسه.
- (أ)
«وصفي»: تعتبر المعلومات (الجينية) البيولوجية معلوماتٍ «حول» الحقائق (الجينية) البيولوجية.
- (ب)
«خبري»: المعلومات البيولوجية هي معلومات تعتبر «طبيعتها» بيولوجية (جينية) في حد ذاتها.
تدبَّر الأمثلة التالية: تعتبر المعلومات الطبية معلومات حول حقائق طبية (استخدام وصفي)، لا معلومات تحظى بخواصَّ علاجية. والمعلومات الرقمية ليست معلومات حول شيء رقمي بل معلومات تعتبر ذات طبيعة رقمية في حدِّ ذاتها (استخدام خبري). ربما تكون المعلومات العسكرية معلومات حول شيء عسكري (وصفي) وذات طبيعة عسكرية (خبري). عند الحديث عن المعلومات البيولوجية أو الجينية، يُعد المعنى الوصفي شائعًا وغير خلافي؛ ففي مجال المعلوماتية الحيوية، على سبيل المثال، قد تحتوي قاعدة بيانات على سجلات طبية وبيانات حول النسَب أو بيانات جينية حول جماعة بشرية بأكملها. لا يختلف أحد حول وجود هذا النوع من المعلومات البيولوجية أو الجينية، بينما يعتبر المعنى الخبري أكثر إثارة للجدل. هل تعتبر العمليات أو العناصر البيولوجية أو الجينية معلوماتيَّة في حد ذاتها؟ إذا كانت الظواهر البيولوجية أو الجينية تعتبر معلوماتية «خبريًّا»، هل تعتبر هذه مسألة نمذجة؟ بعبارة أخرى: هل يمكن النظر إليها باعتبارها معلوماتية؟ إذا كانت هذه الظواهر معلوماتية حقًّا، ما طبيعة هذه الأشياء المعلوماتية؟ وما نوع المفاهيم المعلوماتية اللازمة لفهم طبيعتها؟ يسهم القسم التالي في تقديم بعض الإجابات.
(١) المعلومات الجينية
علم الجينات هو أحد فروع علم الأحياء، وهو يدرس التراكيب والعمليات المُتضمَّنة في الوراثة واختلاف المادة الجينية والسمات القابلة للملاحظة (الأنماط الظاهرية) للكائنات الحية. استخدمت الإنسانية الوراثة والاختلافات الجينية منذ قديم الأزل، على سبيل المثال لتربية الحيوانات. إلا أن الأمر اختلف في القرن التاسع عشر حين أثبت جريجور مندل (١٨٢٢–١٨٨٤) مؤسس علم الجينات أن الأنماط الظاهرية يمكن تمريرها من جيل إلى التالي من خلال ما صار يُعرف لاحقًا باسم الجينات. في عام ١٩٤٤، في كتاب رائع يعتمد في قوامه على سلسلة من المحاضرات، عنوانه «ما الحياة؟» عرض إرفين شرودنجر (١٨٨٧–١٩٦١) — عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل — فكرةَ كيف يمكن تخزين المعلومات الجينية. وقد شبه شرودنجر المعلومات الجينية بأبجدية مورس. وفي عام ١٩٥٣، نشر جيمس واطسون (المولود عام ١٩٢٨) وفرانسيس كريك (١٩١٦–٢٠٠٤) نموذجهما الجزيئي لتركيب الحمض النووي؛ اللولب المزدوج الشهير، وأحد أيقونات العلم المعاصر. أقر كريك بصورة واضحة بفضل نموذج شرودنجر فيما قدمه من فكر. في عام ١٩٦٢ مُنح واطسون، وكريك، وموريس ولكنز (١٩١٦–٢٠٠٤) جائزة نوبل بالقسمة بينهم لعلم وظائف الأعضاء أو الطب «لاكتشافاتهم المتعلقة بالتركيب الجزيئي للأحماض النووية وأهمية ذلك في نقل المعلومات في المادة الحية.» صارت المعلومات أحد الأفكار التأسيسية في علم الجينات. لنرَ لماذا.
حتى يتسنى الحصول على بروتين من أحد الجينات، يجب أن تتوفر عمليتان شديدتا التعقيد وإن كانتا لا تزالان غير مفهومتين تمامًا حتى الآن، ألا وهما «النسخ» و«الترجمة». من خلال عملية النسخ، أو تركيب آر إن إيه، يجري نسخ معلومات تسلسل نوكليوتيدات الحمض النووي إلى معلومات تسلسل آر إن إيه. يُطلق على شريط آر إن إيه نوكليوتيد المُكمل آر إن إيه الرسول «إم آر إن إيه»؛ نظرًا لأنه ينقل الرسالة الجينية من الحمض النووي دي إن إيه إلى نظام الخلية التي تركِّب البروتين. من خلال عملية الترجمة، أو عملية التركيب الحيوية المبدئية للبروتين، يجري فك شفرة إم آر إن إيه (وهو ناتج عملية النسخ) لإنتاج البروتينات. يعمل تسلسل إم آر إن إيه باعتباره قالبًا لإنتاج سلسلة من الأحماض الأمينية التي يجري تجميعها في النهاية في صورة بروتين. بمجرد إنتاجها بصورة صحيحة، يبدأ البروتين في العمل وتتولد السمة الجينية المصاحبة له، قد يكون هناك خطأ عَرَضي في بعض الأحيان (تغير، تكرار، فجوة) في إعادة إنتاج تسلسل الحمض النووي للجين، وقد تؤثر هذه الطفرة الجينية العرَضية هذه على إنتاج البروتينات، وربما تكون غير ضارَّة (لا تأثير لها)، أو ضارة (ذات أثر سلبي)، أو مفيدة (ذات أثر إيجابي). وفي هذه الحالة الأخيرة، تتصدر عملية التحوُّر نسخًا جديدة من البروتينات التي تمنح ميزة استمرار للكائنات محل البحث. على المدى الطويل، تسمح تلك الطفرات الجينية العشوائية بتطور أشكال جديدة من الحياة.
على الرغم من هذا العرض العام، يتضح بالفعل أن الدور الذي تلعبه المفاهيم المعلوماتية في علم الجينات مهمٌّ للغاية. يتمثل السؤال إذن في ماهية المعلومات البيولوجية الممكنة (باستخدام المعنى الإخباري لكلمة بيولوجي)، بالنظر إلى أن هناك مفاهيمَ مختلفة متعددة للمعلومات.
رأينا في الفصل الثالث أن المعلومات وفق نظرية شانون تقدِّم الخلفية اللازمة لفهم الأنواع الأخرى من المعلومات. من هنا، إذا كانت المعلومات البيولوجية نوعًا من المعلومات حقًّا، فإن القول إن المعلومات البيولوجية يجب أن تلتزم بالقيود السببية والترابطات الفيزيائية التي حددتها النظرية الرياضية للاتصال، لن يفيد كثيرًا. ركن بعض الباحثين — مدركين الحاجة إلى تفسير أكثر شمولًا — إلى التفسير الدلالي للمعلومات البيولوجية. لكن يبدو ذلك من قبيل ردة الفعل المبالغ فيها. بالمعنى الدقيق الذي يمكن استخدامه عن المعلومات الدلالية، تعتبر المعلومات الجينية بالكاد مثالًا عليها؛ إذ تفتقد المعلومات الجينية إلى جميع السمات النموذجية للمعلومات الدلالية، بما في ذلك المغزى، والعمدية، والموضوعية، والصحة. يحتوي الحمض النووي على الشفرة الجينية، وهو ما يعني بدقة أن الحمض النووي يحتوي في صورة مادية على الجينات التي ترمز إلى عملية تطور الأنماط الظاهرية. ومن ثَمَّ يحتوي الحمض النووي على المعلومات الجينية، مثلما قد يحتوي القرص المُدمَج على بعض البرامج. ولكن الشفرة الجينية أو — لِنَقُل — الجينات هي المعلومات نفسها. لا «تُرسِل» الجينات المعلومات على نحو ما يرسل الراديو من إشارة. بل تعمل الجينات بنجاح بصورة أو بأخرى، ومثلها مثل وصفة كعكة، قد لا تضمن تمامًا النتيجة النهائية، بما أن البيئة تلعب دورًا محوريًّا. لا «تحتوي» الجينات على معلومات، مثلما تحتوي الأظرف أو رسائل البريد الإلكتروني، ولا «تصف» الجينات المعلومات، كالمخطط التمهيدي، وإنما تشبه الجينات العبارات الأدائية كثيرًا. لا تتضمن عبارة «أعد بأن آتي في الساعة الثامنة مساءً» على وعدٍ بل تؤدي شيئًا، ألا وهو تفعيل الوعد نفسه من خلال الكلمات المنطوقة. كما لا «تحمل» الجينات معلومات مثل الحمامة التي قد تحمل رسالة، تمامًا مثلما لا يحمل المفتاح المعلومات الخاصة بكيفية فتح الباب. لا «تشفِّر» الجينات الإرشادات، مثلما قد تشفِّر سلسلة من الخطوط والنقط رسالةً باستخدام أبجدية مورس. حقًّا، يُقال عادةً إن الجينات هي «حاملة» المعلومات، أو «تنقل الإرشادات» اللازمة لتطور وعمل الكائنات، وهكذا دواليك، غير أن طريقة الحديث هذه تقول المزيد عنَّا أكثر ممَّا تقول عن علم الجينات. إننا نتحدث عادةً عن أجهزة الكمبيوتر الحالية كما لو كانت ذكية — مع علمنا أنها ليست كذلك — ونميل إلى أن نُعزي السمات الدلالية إلى التراكيب والعمليات الجينية، التي هي بطبيعة الحال بيولوجية-كيميائية وليست عمدية على الإطلاق. لا يجب فهم مصطلح «الشفرة» بشكل حرفي تمامًا، كما لو كانت الجينات معلومات بالمعنى «الدلالي»-«الوصفي»؛ تحسبًا لمخاطر تشويش فهمنا لعلم الجينات. في المقابل، تمثل الجينات إرشادات، وتعتبر الإرشادات نوعًا من المعلومات الخبرية والفعالة/الإجرائية، مثل: الوصفات، والخوارزميات، والأوامر. من هنا، تعتبر الجينات تركيبات إجرائية ديناميكية تُسهم — بالإضافة إلى عوامل بيئية أخرى لا غنى عنها — في التحكم في تطوُّر الكائنات وتوجيهه. يُعد هذا معنى يدعو إلى الاحترام الكامل؛ إذ تعتبر المعلومات البيولوجية في حقيقة الأمر نوعًا من المعلومات. تمثِّل التراكيب الإجرائية الديناميكية نوعًا خاصًّا من الكيانات المعلوماتية، تلك الكيانات التي تعتبر في حد ذاتها إرشادات، أو برامج، أو أوامر.
تعليق أخير قبل الانتقال إلى المعلومات العصبية. بطبيعة الحال، لا يقتصر الدور الحيوي للجينات على تفسير تطور الكائنات المفردة فقط، بل يمتد إلى وراثة الأنماط الظاهرية عبر الأجيال. بناءً عليه، جرى تبنِّي المناهج المعلوماتية في علم الجينات وفي البيولوجيا التطوُّرية، بل وفي المستوى الأعلى من الأنثروبولوجيا البيولوجية. واعتُبرت «الميمات» (وهي الوحدات أو العناصر المزعومة للأفكار، الرموز، أو الممارسات) على سبيل المثال، الأشباهَ الثقافية للجينات، وهي تنتقل من عقل إلى آخر من خلال الاتصال والظواهر القابلة للتقليد، والتكرار الذاتي، والاستجابة لضغوط مُنتقاة. لكن في سياقات شبيهة، ثمة مخاطرة تتمثل في أن مفهوم المعلومات البيولوجية ربما يفقد معناه الإجرائي المفيد والمادي، ويكتسب في صمت معنًى دلاليًّا بصورة متزايدة. بينما قد يكون هذا الانتقال نحو الجهة اليمنى من خريطتنا ذا دلالة، لا يجب اعتبار هذا الانتقال متضمنًا لخبرة عملية، بل يُعد فقط طريقة لحل مشكلات محددة أو اكتشاف سمات جديدة للموضوعات قيد البحث. يعتبر هذا الانتقال مجازيًّا أكثر منه انتقالًا عمليًّا، ولا يكاد يقدِّم تفسيرات في إطار الترابطات المادية والآليات المتفاعلة.
(٢) المعلومات العصبية
بدون التعديلات الجينية، لم يكن جون ليتطور أبدًا. ينتمي جون وتقريبًا معظم الحيوانات الأخرى (تعتبر الإسفنجيات من بين الاستثناءات المحدودة) إلى ما يُعرف باسم «الحيوانات ثنائية التماثُل». تمتلك هذه الحيوانات أشكالًا جسدية ثنائية التماثل؛ أي إن جانبي أجسادها متماثلان. تشير الدلائل الحفرية إلى أن الحيوانات ثنائية التماثُل ربما تطورت من خلال سلف مشترك قبل نحو ٥٥٠ مليون عام. فيما يعتبر مفاجأة غير سارة لجون، كان ذلك السلف المشترك دودة أنبوبية بسيطة. لحسن حظه، كانت تلك الدودة دودة مميزة. لا يزال من غير الواضح تمامًا متى وكيف تطوَّر الجهاز العصبي لدى الحيوانات ثنائية التماثل، وكيف تطور ذلك في مجموعات مختلفة من الكائنات. لكن عند نقطةٍ ما حرجةٍ، اكتسب سلف جون جسدًا مقسمًا إلى قطاعات، يحتوي الحبل العصبي له على امتداد يُطلق عليه عقدة، لكل قسم من أقسام جسده، وعقدة كبيرة نسبيًّا في نهاية جسده يُطلق عليها الدماغ. هكذا ولد السلاح المضاد للإنتروبي. تعتبر الحياة البيولوجية صراعًا مستمرًّا ضد الإنتروبي الحراري. يمثِّل أي نظام حي أي كيان معلوماتي مضاد للإنتروبي، بعبارة أخرى: كيان معلوماتي قادر على تمثيل التفاعلات الإجرائية (يمثِّل هذا الكيان عمليات المعالجة المعلوماتية) بغرض الحفاظ على وجوده و/أو إعادة إنتاج نفسه (عملية التمثيل الغذائي). حتى الكائنات أحادية الخلايا تستخلص وتتفاعل مع المعلومات من بيئتها من أجل البقاء. إلا أن تطبيق العديد من السلوكيات المضادة للإنتروبي والتحكم فيها لم يتأتَّ إلا مع تطور نظام عصبي معقَّد يستطيع جمع، وتخزين، ومعالجة، وتوصيل كميات هائلة من المعلومات واستخدامها بنجاح. بعد مرور ملايين السنوات من التطور، يمكن الآن العثور على نُظُم عصبية في الكثير من الحيوانات متعدِّدة الخلايا. قد تختلف هذه النظم كثيرًا من ناحية الحجم، والشكل، والتعقيد بين الأنواع المختلفة. ولذا — حتى لا نحيد عن أغراضنا — سنركِّز ببساطة على جون باعتباره فاعلًا معلوماتيًّا مضادًّا للإنتروبي، وسنعرض قدراته في معالجة المعلومات.
يُطلق على جسم الخلية «سوما»، وتشتمل السوما على «نواة» وتركيبات تشبه الأشجار، تُعرف باسم «التغصُّنات»، حيث يجري تلقي وتكامل الإشارات من العصبونات الأخرى. ربما توجد نتوءات متخصصة (الحسكات) تعمل على تنظيم تلقي الإشارات على النحو الأمثل. بشكل نموذجي، تشتمل الحسكات أو التغصنات على جزيئات مستقبلة على سطح الغشاء الرقيق، تتفاعل مع مادة ناقلة كيميائية — ناقل عصبي — يفرزه العصبون المجاور.
يتسبب اندماج الناقل العصبي مع أحد المستقبلات في عمل فتحة (قناة) في الغشاء تتدفق من خلالها الجزيئات المشحونة (الأيونات). يؤدي تدفق التيار خلال القناة إلى تيسير (استثارية) أو تثبيط (مثبط) احتمالية أن ينشط العصبون المتلقي ويرسل إشارته الكهروكيميائية الخاصة إلى الخلايا الأخرى. أما «المحور» فهو عبارة عن أنبوب طويل نحيف ينقل الإشارات الكهروكيميائية. تمثِّل المحاور العصبية خطوط النقل الرئيسية للجهاز العصبي، وهي تسهم كمجموعة في تشكيل الأعصاب. بينما تمتلك المحاور العصبية أقطارًا ميكروسكوبية، تبلغ نحو مايكرومتر واحد عرضًا (واحد على المليون من المتر أو ١ / ١٠٠٠ مليمتر. لاحظ أن سُمك شعرة الإنسان يبلغ ١٠٠ مايكرومتر)، ولكنها قد تكون طويلة للغاية. لعل أطول المحاور العصبية في جسد الإنسان هي محور العصب الوركي، والذي يمتد من قاعدة العمود الفقري إلى الأصبع الكبير في كل قدم.
يُطلق على الإشارة الكهروكيميائية التي ينقلها المحور «كامن الفعل». وإمكانية الحركة إشارة كهروكيميائية لها قيمة بولينية (كل شيء أو لا شيء) تنتقل عبر المحور العصبي إلى أطرافه، حيث تتسبَّب في وقوع عملية إطلاق للناقل العصبي. ماديًّا، ما كمون الفعل إلا موجة كهربية سريعة (متجددة) تبلغ ١٠٠ ملِّي فولت (١ ملِّي فولت يساوي ١ / ١٠٠٠ فولت). يستمر كامن الفعل هذا ١–٣ ملي ثانية، وتنتقل عبر المحور العصبي بسرعات تبلغ ١–١٠٠ متر في الثانية. تنتقل المعلومات حول قوة التنشيط في العصبون؛ ومن ثَمَّ المعلومات التي تنقلها، من خلال تردد (معدل) كمونات الفعل؛ نظرًا لأن حجم وفترة كامن الفعل لا يتغيران بما يكفي لتشفير التغييرات في عملية التنشيط. تبعث بعض العصبونات كمونات فعل بصورة ثابتة، بمعدلات تبلغ ١٠–١٠٠ لكل ثانية، تكون عادةً في صورة أنماط زمنية غير منتظمة. تظل بعض العصبونات الأخرى ساكنة معظم الوقت، إلا أنها تبعث دفعة كبيرة من كمونات الفعل مرة واحدة.
تمثل أزرار الأطراف نهايات المحاور العصبية، حيثُ تتحول كمونات الفعل الآتية إلى عملية إطلاق لمادة الناقل العَصبي. تتفرع معظم المحاور العصبية بشدة، وقد يشتمل العصبون الواحد على آلاف الأطراف. نموذجيًّا، تشتمل الأطراف على حُزَم تمتلئ بجزيئات الناقل العصبي. تنشط المستقبلات التي تستشعر فرق الجهد من خلال كامن الفعل، وتؤدي إلى فتح قنوات في الغشاء الطرفي، يتبع ذلك سلسلة من الأحداث البيولوجية-الكيميائية، وهو ما يؤدي إلى إطلاق مادة الناقل العصبي. يمثل المشبك الوصلة بين عصبونين حيث يجري تبادل الإشارة الكهروكيميائية.
هناك مواد كيميائية عديدة تنقل الإشارات الاستثارية والمثبطة عند المشابك، يعتمد تأثير الناقل العصبي على العصبون على جزيئات المستقبل التي تنشطها. في بعض الحالات، يمكن أن يكون الناقل العُصيبي نفسه استثاريًّا أو مثبطًا، أو قد يكون له آثار سريعة للغاية أو طويلة الأمد للغاية. يمكن لعقاقير مثل الكافيين أن تحاكي أو تتداخل مع النشاط الدماغي عن طريق تيسير أو تثبيط عمل الناقل العصبي. وهناك العديد من الأحماض الأمينية التي يُعتقد أنها تقوم بعمل النواقل العصبية، ولعل أكثر النواقل العصبية انتشارًا في دماغ الثدييات هما حمض الجلوتومات وحمض جاما أمينو بيوتيريك. وبالنظر إلى بساطتهما وانتشارهما، وتوافرهما في الكائنات الأبسط، ربما كان هذان الحمضان من أوائل النواقل العُصيبية التي تطورت.
تعمل العصبونات من خلال تحويل الإشارات الكيميائية إلى نبضات كهربية والعكس. وبناءً عليه، يمثل الجهاز العصبي شبكة معقدة تعالج البيانات كهروكيميائيًّا. تنقسم بنية الشبكة عادةً إلى جهاز عصبي مركزي وجهاز عصبي طرفي. يتألف الجهاز العصبي الطرفي من عصبونات حسية والعصبونات التي تصلها بالحبل الشوكي والدماغ، وهو بدوره يكوِّن الجهاز العصبي المركزي. بناءً عليه، يمثل الجهاز العصبي الطرفي الواجهةَ بين جسد جون وتدفُّق البيانات المادية في العالم الخارجي (الأضواء، الأصوات، الروائح، الضغوط … إلخ)، كما ينسِّق الجهاز العصبي الطرفي حركة جون، بما في ذلك الحالات والوظائف الفسيولوجية. تستجيب العصبونات الحسية إلى مدخلات البيانات الخارجية (المثيرات المادية) عن طريق توليد ونقل البيانات الداخلية (الإشارات) إلى الجهاز العصبي المركزي، الذي يعالج وينقل البيانات المفسرة (الإشارات) مرة أخرى إلى النظام الجسدي. هناك شبكة معقدة أخرى تقع في مركز بنية الشبكة؛ ألا وهي الدماغ. يتألف دماغ جون من حوالي ١٠٠ مليار عصبون، كل منها يرتبط بنحو ١٠ آلاف صلة مشبكية.
بالرغم من هذا العرض السريع، يتضح لماذا تجري دراسة الجهاز العصبي — والدماغ على وجه خاص — من وجهة نظر معلوماتية. من جانب، يسعى علم المعلوماتية العصبية إلى تطوير وتطبيق الأدوات، والأساليب، والنماذج، ووجهات النظر، وقواعد البيانات الحوسبية وما إلى ذلك؛ بغرض تحليل ودمج البيانات التجريبية ولتحسين النظريات القائمة حول بنية ووظيفة الدماغ. على الجانب الآخر، يبحث علم الأعصاب الحوسبي الطبيعة الحوسبية والنظرية المعلوماتية للعصبونات البيولوجية والشبكات العصبية، وفسيولوجيتها وحركتها. وبناءً عليه، وفَّر علم الكمبيوتر وتكنولوجيات المعلومات والاتصال وسائل استثنائية لملاحظة وتسجيل الدماغ (عملية التصوير العصبي)، مثل عملية التصوير الكهربية للدماغ (وهي عملية تسجيل النشاط الكهربي على امتداد فروة الرأس، وهو النشاط الناشئ عن إطلاق الإشارات من العصبونات داخل الدماغ) وعملية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (وهي عملية قياس الاستجابات الحركية الدموية المتصلة بالنشاط العصبي في الدماغ). ومع ذلك، لا يزال الدماغ قارَّةً لم تُكتشف بالكامل؛ إذ يتمثل أحد الألغاز المعلوماتية الكبرى في الكيفية التي تقوم من خلالها الإشارات المادية — التي تنتقل عن طريق الجهاز العصبي — بإنشاء معلومات دلالية متطورة. عندما يرى جون الضوء الأحمر يومض، توجد سلسلة من أحداث معالجة البيانات تبدأ بالإشعاع الكهرومغناطيسي في البيئة، بطول موجي يتراوح بين ٦٢٥–٧٤٠ نانومترًا (واحد على مليار من المتر، أو واحد على مليون من المليمتر؛ يتألف اللون الأحمر بصورة أساسية من أكبر الأطوال الموجية للضوء الذي تستطيع العين الإنسانية تمييزه) وينتهي بإدراك جون أن هناك ضوءًا أحمرَ يومض أمامه، وهو ما ربما يعني أن البطارية فارغة. بينما تعتبر بعض أجزاء هذه الرحلة الاستثنائية معروفة، لا تزال أجزاء كبيرة منها غامضة حتى الآن. بطبيعة الحال، لا يوجد سحر في الأمر، لكن هذا لا ينفي إمكانية أن يكون التفسير النهائي الذي سنتوصل إليه يومًا ما مدهشًا.
يميل أي كائن حي إلى التعامُل مع العالم عن طريق وسيط؛ فهو يحوِّل — على نحو نشط — البيانات (الحسية) إلى معلومات، ثم يعالِج على نحو بنَّاء هذه المعلومات لإدراة تفاعلاته مع العالم. يتضمن كل ذلك تطوير وسيط أو كيانات داخلية تم تخزينها وتحويلها ومعالجتها وإيصالها عبر مدد زمنية مختلفة، بداية من الذاكرة قصيرة المدى إلى ما يصل حتى طوال العمر. عند البشر، تتضمن هذه العملية القدرة الفريدة على جمع، وتخزين، واستعادة، وتبادل، وتكامل، وتحديث، واستخدام، وإساءة استخدام المعلومات الدلالية المكتسبة عن طريق الآخرين، بما في ذلك الأجيال السابقة. نناقش هذا المجال الاجتماعي والاقتصادي للمعلومات في الفصل التالي.