أخلاقيات المعلومات
توشك رحلتنا عبر المفاهيم المتنوعة للمعلومات أن تكتمل. بدأنا بالنظر في ثورة المعلومات، وسنرى الآن بعض تداعياتها الأخلاقية.
بيَّنت الفصول السابقة بعض التحوُّلات المهمة التي جلبتها تكنولوجيات المعلومات والاتصالات إلى حياتنا. تعتبر الحياة الأخلاقية لعبة كثيفة المعلومات؛ لذا تفضي أي تكنولوجيا تغيِّر «حياة المعلومات» بصورة جذرية إلى آثار أخلاقية عميقة على أي لاعب أخلاقي. تذكَّر أننا نتحدث عن ثورة وجودية، ليس فقط تغييرًا في تكنولوجيا الاتصالات. لا تضيف تكنولوجيات المعلومات والاتصال — من خلال تغيير السياق الذي تبرز فيه الموضوعات الأخلاقية تغييرا جذريًّا — أبعادًا جديدة شائقة إلى المشكلات القديمة، بل تؤدي بنا إلى إعادة التفكير — منهجيًّا — في الأسس نفسها التي تقوم عليها مواقفنا الأخلاقية. لنر كيف يحدث ذلك.
(١) أخلاقيات المعلومات بصفتها أخلاقيات بيئية جديدة
يفيد نموذج المورد-المنتج-الهدف في تصحيح التركيز الزائد في بعض الأحيان على بعض التكنولوجيات بعينها (يحدث هذا بصورة ملحوظة في مجال أخلاقيات «الكمبيوتر»)، من خلال تسليط الضوء على الظاهرة الأكثر جوهرية للمعلومات في جميع تنويعاتها وتاريخها الطويل. كان ذلك أيضًا هو موقف وينر، وتتعلق الصعوبات الكثيرة التي يجري مواجهتها في الأسس المفهومية لأخلاقيات الكمبيوتر بعدم الاعتراف بَعدُ بأخلاقيات الكمبيوتر باعتبارها أخلاقيات بيئية في المقام الأول، ومجال اهتمامها الرئيسي يجب أن يكون الإدراة البيئية وسلامة الحيز المعلوماتي.
منذ ظهور الأعمال الأولى في ثمانينيات القرن العشرين، كانت أخلاقيات المعلومات تدور حول دراسة الموضوعات الأخلاقية المنبثقة عن أحد «أسهم المعلومات» الثلاثة المختلفة في نموذج المورد-المنتج-الهدف.
(٢) أخلاقيات المعلومات بصفتها موردًا
دعنا نتدبَّر أولًا الدور المحوري الذي تلعبه المعلومات كمورد بالنسبة إلى عمليات التقييم الأخلاقية التي يقوم بها «أ» وأفعاله. تتضمن عمليات التقييم والأعمال الأخلاقية مكوِّنًا معرفيًّا؛ إذ ربما يُتوقع أن يسعى «أ» إلى مواصلة التصرف وفقًا «لأفضل ما لديه من معلومات»، بمعنى تحقيق أفضل استفادة من أي معلومات يستطيع جمعها من أجل بلوغ نتائج (أفضل) حول ما يمكن وما يجب أن يجري في بعض الظروف. دفع سقراط بأن الفاعل الأخلاقي حريص بالسليقة على اكتساب أكبر قدر ممكن من المعلومات كلما تطلَّبت الظروف ذلك، وأن الفاعل المُطَّلع سيفعل الأمر الصائب على الأرجح. تحلِّل «العقلانية الأخلاقية» الشر والسلوك الخاطئ أخلاقيًّا باعتبارهما نتاج معلومات معيبة. في المقابل، تنحو «المسئولية» الأخلاقية إلى أن تتناسب طرديًّا مع درجة المعلومات المتوافرة لدى «أ»، حيث يقابل أي انخفاض في المعلومات عادةً لدى «أ» انخفاض في المسئولية الأخلاقية لديه. هذا هو المعنى الذي تدخل وفقه المعلومات في عباءة الدليل القضائي، وهو أيضًا المعنى الذي يجري الحديث فيه عمَّا يقوم به «أ» من اتخاذ القرار القائم على المعلومات، أو الموافقة القائمة على المعلومات، أو المشاركة القائمة على المعلومات. في الأخلاقيات المسيحية — على سبيل المثال — حتى أسوأ الخطايا يمكن غفرانها في ضوء نقص المعلومات لدى المذنب، وبما أنه من الممكن أن نتخيل تقييمًا للموقف معاكسًا للواقع إذا قلنا إنه في حال إبلاغ «أ» بالمعلومات كما يجب، كان «أ» سيتصرف بصورة مختلفة؛ ومن ثَمَّ لم يكن ليرتكب الخطيئة (لوقا ٢٣ : ٣٤). في سياق علماني، يذكرنا أوديب وماكبث كيف قد تؤدي عملية سوء إدارة الموارد المعلوماتية إلى نتائج مأساوية.
من منظور «الموارد»، يبدو أن الماكينة الأخلاقية تحتاج إلى معلومات — بل الكثير منها — حتى تعمل كما يجب. غير أنه حتى ضمن الإطار المحدود الذي يتبناه تحليل يعتمد فقط على المعلومات كمورد، وهو ما يمثل مجرد رؤية دلالية للحيز المعلوماتي، يجب توخي الحذر؛ تحسبًا لاختذال الخطاب الأخلاقي إلى الفروق الدقيقة التي تخص الكم الكبير أو الجودة العالية أو المفهومية للموارد المعلوماتية. لا تعتبر قاعدةُ كلما كانت المعلومات أكثر كان ذلك أفضل القاعدةَ العامة الوحيدة أو الفضلى؛ إذ قد يصنع السحب (الظاهر والواعي في بعض الأحيان) للمعلومات فرقًا كبيرًا. ربما يحتاج «أ» إلى غياب (أو منع نفسه من الاطلاع على) بعض المعلومات بغرض تحقيق غايات مرغوبة أخلاقيًّا، مثل: حماية سرية الأشخاص، أو ترسيخ المعاملة العادلة، أو إجراء تقييم موضوعي. وطبقًا لجون راولز صاحب مفهوم «حجاب الجهل» يستغل هذا المفهوم على نحو معروف هذا الملمح للمعلومات بصفتها موردًا، من أجل وضع منهج موضوعي للعدل في إطار العدالة. ليست مسألة الاطَّلاع أمرًا محمودًا دائمًا، بل ربما تكون خطأً أو خطرًا من الناحية الأخلاقية.
وسواء أكان الوجود (الكمي والكيفي) أو الغياب (الكامل) للمعلومات بصفتها موردًا محلًّا للسؤال، ثمة سبب وجيه للغاية في أن توصف أخلاقيات المعلومات بأنها دراسة الموضوعات الأخلاقية الناشئة عن كلٍّ من إتاحة الموارد المعلوماتية، وإمكانية الوصول إليها، ودقتها، وذلك بصرف النظر عن شكل هذه الموارد، ونوعها، ودعمها المادي. ممَّا نعده من الأمثلة على الموضوعات في أخلاقيات المعلومات كموارد ما يُطلق عليه اسم «الفجوة الرقمية»، ومشكلة «التخمة المعلوماتية»، وتحليل الاعتمادية والوثوقية في مصادر المعلومات.
(٣) أخلاقيات المعلومات بصفتها منتجًا
معنى ثانٍ وثيق الصلة تلعب فيه المعلومات دورًا أخلاقيًّا مهمًّا؛ ألا وهو المعلومات بصفتها «منتجًا» لعمليات التقييم الأخلاقية التي يقوم بها «أ» وأفعاله. لا يعتبر «أ» مستهلكًا للمعلومات فقط، بل هو أيضًا منتج للمعلومات، ربما يخضع إلى قيود فيما ينتهز الفرص. تتطلب تلك القيود والفرص تحليلًا أخلاقيًّا. من هنا، ربما تغطي أخلاقيات المعلومات — كما نفهمها الآن كأخلاقيات معلومات بصفتها منتجًا — الموضوعات الأخلاقية المنبثقة، على سبيل المثال: في سياق «المحاسبة»، «المسئولية»، «قضايا التشهير»، «الشهادة»، «السرقات الأدبية»، «الإعلان»، «الدعاية»، «إيصال المعلومات الخاطئة»، وبصورة عامة «القواعد العملية للاتصال». يعتبر تحليل لا أخلاقية «الكذب» الذي طرحه إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤) أحد أفضل دراسات الحالة في الكتابات الفلسفية المتعلقة بهذا النوع من أخلاقيات المعلومات. تذكرنا كاسندرا ولاوكون، في تحذيرهما العبثي للطرواديين من الحصان الخشبي لليونانيين، بما قد تؤدي إليه الإدارة غير الفعالة للمنتجات المعلوماتية من عواقب مأساوية.
(٤) أخلاقيات المعلومات بصفتها هدفًا
بصرف النظر عن مدخلات «أ» من المعلومات (الموارد المعلوماتية) والمخرجات (المنتجات المعلوماتية)، هناك معنى ثالث ربما تخضع فيه المعلومات إلى تحليل أخلاقي، تحديدًا عندما تؤثر عمليات تقييم وأفعال «أ» الأخلاقية على البيئة المعلوماتية. تشمل أمثلة ذلك احترام «أ»، أو انتهاكه، خصوصية أو سرية معلومات شخص آخر. ومثال جيد آخر ألا وهو «القرصنة»؛ لأنها بمثابة الاطِّلاع غير المصرَّح به على نظام معلومات (مميكن عادةً). ومن الشائع اعتبار القرصنة على نحو غير صحيح إحدى المشكلات التي تجب مناقشتها في الإطار المفهومي لأخلاقيات الموارد المعلوماتية. وهي بذلك خطأ في التصنيف يسمح للقرصان بالدفاع عن موقفه من خلال الدفع بعدم استخدام المعلومات التي تم الدخول إليها (دع عنك إساءة استخدامها). إلا أن القرصنة — بمفهومها الصحيح — هي أحد أشكال انتهاك الخصوصية. محل السؤال الآن لا يتمثل فيما إذا كان «أ» يستخدم المعلومات التي جرى الاطِّلاع عليها دون تصريح، بل ما يعنيه أن يدخل «أ» إلى البيئة المعلوماتية دون تصريح. لذا ينتمي تحليل القرصنة إلى أخلاقيات المعلومات بصفتها هدفًا. تشمل الموضوعات الأخرى ذات الصلة هنا «الأمن»، «تخريب الممتلكات» (من حرق المكتبات والكتب إلى نشر الفيروسات)، «القرصنة»، «الملكية الفكرية»، «تطبيقات المصدر المفتوح»، «حرية التعبير»، «الرقابة»، «الترشيح»، و«رقابة المحتوى». يعتبر كتاب «عن حرية الفكر والحوار» لمؤلِّفه جون ستيوارت مِل (١٨٠٦–١٨٧٣) أحد الكتب الكلاسيكية حول أخلاقيات المعلومات والذي تم تفسيرها بأخلاقيات المعلومات بصفتها هدفًا. تبين جولييت من خلال محاكاة موتها، وهاملت من خلال تمثيل الإعداد لقتل أبيه؛ كيف قد تؤدي الإدارة غير الآمنة لبيئة المعلومات إلى عواقب مأساوية.
(٥) أوجه قصور أي نهج لدراسة أخلاقياتالمعلومات على المستوى المصغر
مع نهاية هذا العرض العام، يبدو أن نموذج المورد-المنتج-الهدف قد يساعد المرء في الحصول على بعض التوجيه المبدئي في عدة موضوعات تنتمي إلى التفسيرات المختلفة لأخلاقيات المعلومات. لكن رغم مميزات هذا النموذج، يمكن نقده باعتباره غير كافٍ من وجهتين:
من جانب: يعتبر النموذج تبسيطيًّا للغاية. يمكن الدفع بأن العديد من الموضوعات المهمة تنتمي «بصورة رئيسية وليس حصريًّا» إلى تحليل أحد «الأسهم المعلوماتية» وأحدها فقط. ربما يكون القارئ قد أعمَل فكرَه في العديد من الأمثلة التي تبين المشكلة. فشهادة أحد الأشخاص قد تعتبر معلوماتٍ موثوقًا بها عند شخص آخر. بينما قد تتحدد مسئولية «أ» عن طريق المعلومات المتوافرة لديه، ربما تتعلق المسئولية أيضًا بالمعلومات التي ينتجها «أ»، حيث تؤثر الرقابة على «أ» باعتباره مستخدمًا للمعلومات ومنتجًا لها. إن تشويه المعلومات (بعبارة أخرى: الإنتاج والتوزيع العمدي لمفاهيم خاطئة ومضللة) لهو مشكلة أخلاقية تتعلق «بالأسهم المعلوماتية» الثلاثة جميعها، كما تؤثر حرية التعبير أيضًا على توافر المحتوى المسيء (مثلًا: مواد الأطفال الإباحية، والمحتوى الذي يتَّسم بالعنف، والعبارات المؤذية اجتماعيًّا، وسياسيًّا، ودينيًّا) وهو ما قد يشكل موضع مساءلة أخلاقية ولا يجب تداوله.
على الجانب الآخر، ليس النموذج شاملًا بما يكفي، حيث إن هناك موضوعات مهمة أخرى لا يمكن وضعها بسهولة على الخريطة على الإطلاق؛ نظرًا لأنها تنبثق من — أو تعتمد ضمنيًّا على — التفاعلات بين «الأسهم المعلوماتية». ربما يكفي هنا مثالان مهمان. «الأخ الأكبر»، بمعنى مشكلة «المراقبة» و«التحكم» في معلومات قد تهم «أ»، والنقاش حول ملكية المعلومات (بما في ذلك حقوق التأليف والنشر، وسَنُّ قوانين براءات الاختراع) و«الاستخدام العادل» الذي يؤثر على المستخدمين والمنتجين، في الوقت الذي يشكِّل بيئتهم المعلوماتية.
لذا يعتبر النقد معقولًا. وحقيقةً لا يعتبر نموذج المورد-المنتج-الهدف نموذجًا كافيًا، إلا أن سبب عدم كفايته وكيفية تحسينه أمران مختلفان. وعلى الرغم من فائدة هذا التحليل الثلاثي إلى حَدٍّ ما إلا أنه ليس مُرضيًا، ويرجع ذلك على وجه الدقة إلى أن أي تفسير لأخلاقيات المعلومات يعتمد على واحد فقط من «الأسهم المعلوماتية» يعتبر اختزاليًّا إلى حَدٍّ كبير. مثلما تؤكد الأمثلة المذكورة عاليَه، يواجه من يدعمون التفسيرات الضيقة لأخلاقيات المعلومات بصفتها «أخلاقيات مصغَّرة أي على مستوى الفرد» (بعبارة أخرى: أخلاقيات عملية، محددة المجال، تطبيقية، ومهنية) مشكلة عدم القدرة على التكيُّف مع عدد كبير من الموضوعات ذات الصلة، والتي تبقى مبهمةً أو غير مفهومة. يبين النموذج أن النسخ ذات الخصوصية من أخلاقيات المعلومات، والتي تفضِّل بعض الأوجه المحدودة فقط «لدورة المعلومات»، غير مرضية. لا يجب استخدام النموذج في الزَّجِّ بالمشكلات في تصنيفات ضيقة، وهو ما يُعد أمرًا مستحيلًا. وإنما علينا استغلال النموذج باعتباره وسيلةً مفيدة يمكن إبدالها، في ضوء ظهور مناهج أكثر شمولًا في تناول أخلاقيات المعلومات بصفتها «أخلاقيات واسعة النطاق»؛ أي أخلاقيات نظرية، لا تعتمد على مجال محدد، وقابلة للتطبيق.
ربما تساعد مشابهة بسيطة في عرض هذا المنظور الجديد. تصور النظر إلى العالم بأسره من منظور كيميائي. حيث يحقق كل كيان وعملية صيغة كيميائية محددة. على سبيل المثال: يتألف الإنسان أساسًا من الماء. ننتقل الآن إلى المنظور المعلوماتي. سيجري وصف الكيانات نفسها بأنها مجموعات بيانات، بعبارة أخرى: باعتبارها أشياء معلوماتية. بصورة أكثر دقة، سيمثل الفاعل «أ» (مثل أي كيان آخر) حزمة مستقلة، مكتفية بذاتها، شاملة تتضمن (١) هياكل البيانات المناسبة، التي تشكِّل طبيعة الكيان محل البحث، بعبارة أخرى: حالة الشيء، هويته الفريدة، وصفاته؛ و(٢) مجموعة من العمليات، والوظائف، والإجراءات، التي يجري تنشيطها من خلال تفاعلات أو مؤثرات متنوعة (أي الرسائل التي يجري تلقيها من الأشياء أو التغيرات الأخرى في داخلها نفسها)، وتحدد بالتالي كيفية تصرف أو ردود فعل الأشياء. عند هذا المستوى من التحليل، ترتقي النُّظم المعلوماتية بهذا الشكل، بدلًا من كونها مجرد أنظمة حية بصفة عامة إلى دور العوامل الفاعلة والمفعول بها لأي عمل، مع وصف موازٍ للعمليات، والتغييرات، والتفاعلات البيئية معلوماتيًّا.
يغير فهم طبيعة أخلاقيات المعلومات وجوديًّا — لا معرفيًّا — من تفسير «مجالها». لا تقتصر أخلاقيات المعلومات البيئية على اكتساب رؤية عالمية لدورة المعلومات الكاملة؛ ومن ثَمَّ تتجاوز حدود المناهج الأخلاقية المصغرة الأخرى، بل يمكنها أيضًا أن تكتسب دورًا باعتبارها أخلاقيات موسعة شاملة، بعبارة أخرى، باعتبارها أخلاقيات تتعلق بعالم الواقع بأسره، مثلما هو مبيَّن في القسم التالي.
(٦) أخلاقيات المعلومات بصفتها أخلاقيات موسعة
إحدى الطرق المباشرة في التعريف بأخلاقيات المعلومات بصفتها منهاجًا عامًّا في تناول الموضوعات الأخلاقية هي مقارنتها بالأخلاقيات البيئية. تعتمد الأخلاقيات البيئية في تحليلها للوضع الأخلاقي للكيانات والنظم البيئية البيولوجية على القيمة الجوهرية «للحياة»، وعلى القيمة السلبية الجوهرية «للمعاناة». إنها طريقة تعظم من أهمية دور الكائنات الحية الأخرى بخلاف الإنسان، وتسعى إلى تطوير أخلاقيات تهتم بالكائنات المفعول بها، وقد لا يكون هذا «المفعول به» بشرًا فقط بل أي شكل من أشكال الحياة. في حقيقة الأمر، تمتد أخلاقيات الأرض في مفهومها عن المفعول به ليشمل أي مكون للبيئة، ومن ثَمَّ تقترب أكثر من المنهج الذي تدعمه أخلاقيات المعلومات. يتمتع أي شكل من أشكال الحياة ببعض الخصائص الأساسية أو المصالح الأخلاقية التي تستأهل وتتطلب الاحترام، على الأقل وفق الحد الأدنى، ونسبيًّا — أي وفق معنى يمكن تجاوزه — عند مقارنتها بالمصالح الأخرى. لذا، تشير الأخلاقيات التي تُعظم من أهمية الكائنات الحية الأخرى إلى أن طبيعة وسلامة المفعول به (المتلقي) في أي عمل تشكِّل (على الأقل جزئيًّا) موقفه الأخلاقي، وأن الموقف الأخلاقي يؤثر تأثيرًا كبيرًا على الفاعل المتفاعل. يجب أن تسهم هذه الادِّعاءات من حيث المبدأ في توجيه القرارات الأخلاقية للعامل الفاعل وفي تقييد السلوك الأخلاقي له. يقع «مُتلقي» العمل، أو المفعول به، في القلب من الخطاب الأخلاقي، باعتباره مركزًا للاهتمام الأخلاقي، بينما ينتقل «ناقل» أي عمل أخلاقي — أو الفاعل — إلى هامشه.
الآن ضع كلمة «الوجود» محل كلمة «الحياة» وسيصبح جليًّا ما تعنيه أخلاقيات المعلومات. تمثِّل أخلاقيات المعلومات أخلاقيات بيئية تتمحور حول المتلقي لكنها تجعل «التمحور حول الوجود» يحل محل «التمحور حول الكائنات الحية». تشير أخلاقيات المعلومات إلى أن ثمة شيئًا أكثر جوهرية من الحياة، ألا وهو «الوجود»؛ أي وجود وازدهار جميع الكيانات وبيئتها العالمية، بل ثمة شيء أكثر جوهرية من المعاناة؛ ألا وهو تحديدًا «الإنتروبي». الإنرتوبي هنا ليس مفهومَ الإنتروبي الحراري الذي جرى مناقشته في الفصل الخامس، بمعنى مستوى الاختلاط في أحد النُّظم. بل يشير الإنتروبي هنا إلى أي نوع من «دمار»، و«فساد»، و«تلوث»، و«نضوب» الأشياء المعلوماتية (العقل، وليس فقط المعلومات بصفتها محتوى دلاليًّا)، بعبارة أخرى: أي شكل من أشكال إفقار الواقع. توفِّر أخلاقيات المعلومات إذن مفردات مشتركة لفهم عالم «الوجود» بأسره معلوماتيًّا. يشير مفهوم أخلاقيات المعلومات إلى أن «الوجود»/المعلومات تحظى بقيمة جوهرية. تدعم أخلاقيات المعلومات هذا الموقف من خلال إدراك أن أي كيان معلوماتي لديه حق الاستمرار على حالته، وحق الازدهار، بمعنى تحسين وإثراء وجوده وجوهره. بناءً على هذه «الحقوق»، تقيِّم أخلاقيات المعلومات واجب أي فاعل أخلاقي في إطار المساهمة في نمو «الحيز المعلوماتي»، وأي عملية، أو عمل، أو حدث يؤثر سلبًا على الحيز المعلوماتي بأسره — ليس مجرد الكيان المعلوماتي — في صورة زيادة في مستوى الإنتروبي به، ومن ثَمَّ حالة من الشر.
في أخلاقيات المعلومات، يتعلق الخطاب الأخلاقي بأي كيان معلوماتي، بعبارة أخرى: ليس فقط بجميع الأشخاص، وثقافتهم، ورخاءهم، وبالتفاعلات الاجتماعية، وليس فقط بالحيوانات، والنباتات، وحياتها الطبيعية المناسبة، بل أيضًا بأي شي موجود — من اللوحات والكتب إلى النجوم والأحجار — وأي شيء قد يوجد أو سيوجد، مثل الأجيال القادمة، وأي شيء كان موجودًا ولم يعد كذلك، مثل الأسلاف أو الحضارات القديمة. إن أخلاقيات المعلومات تتسم بالموضوعية والعمومية؛ نظرًا لأنها تستكمل عملية التوسُّع في مفهوم ما يمكن اعتباره مركزًا (مهما كان ضئيلًا) لأي ادِّعاء أخلاقي استكمالًا تامًّا، وهو ما يشمل حاليًّا جميع أمثلة «الوجود» من الناحية المعلوماتية، سواء جرى تنفيذها ماديًّا أو لا. في هذا المقام، تشير أخلاقيات المعلومات إلى أن كل كيان، بوصفه تعبيرًا عن «الوجود»، له كرامة، يشكِّلها نمط وجوده وجوهره (مجموع الخصائص الأساسية كافة التي تشكل هذا الكيان وتجعله ما هو عليه)، ويستأهل الاحترام (على الأقل في الحد الأدنى وفيما يمكن التغاضي عنه)، ومن ثَمَّ تحمِّل أخلاقيات المعلومات الفاعل المتفاعل ادِّعاءات أخلاقية، ويجب أن تسهم في تقييد قراراته وسلوكه الأخلاقي وتوجيهها. يشير «مبدأ المساواة الوجودي» هذا إلى أن أي شكل من أشكال الواقع (أي مثال من أمثلة المعلومات/«الوجود»)، لمجرد كونه ما هو عليه، يحظى بحق أدنى، مبدئي، مهم في الوجود وفي التطور على نحو يلائم طبيعته. يفترض الإدراك الواعي لمبدأ المساواة الوجودية افتراضًا مسبقًا توافرَ حكم موضوعي للموقف الأخلاقي من منظور موضوعي، بمعنى أنه منظور غير متمحوِر حول الإنسان كأهم كائن في الكون قدر الإمكان، وبدون توافر هذة القيمة المعرفية يصبح السلوك الأخلاقي أقل احتمالًا في حدوثه. يتحقق تطبيق مبدأ المساواة الوجودية، متى كانت الأفعال موضوعية، وعامة، و«مراعيةً للآخر». يكمن في أصول هذا المنهج «الثقة الوجودية» التي تجمع العوامل الفاعلة والمفعول بها معًا. تتمثل إحدى الطرق المباشرة لتوضيح مفهوم الثقة الوجودية في عقد مقارنة مع مفهوم «العقد الاجتماعي».
تشير الأشكال المتنوعة من التعاقدية (في علم الأخلاق) والعقدية (في الفلسفة السياسية) إلى أن الالتزام الأخلاقي، أو واجب الولاء السياسي، أو عدالة المؤسسات الاجتماعية، تكتسب دعمها من خلال ما يُطلق عليه «العقد الاجتماعي». وقد يكون العقد الاجتماعي اتفاقية افتراضية بين الأطراف التي تشكِّل المجتمع (مثلًا: بين الشعب والحاكم، أو بين أعضاء جماعة ما، أو بين الفرد والدولة). يتفق الأطراف على قبول شروط العقد ومن ثَمَّ يحصلون على بعض الحقوق في مقابل بعض الحريات التي — زعمًا — سينالونها في حالة افتراضية للطبيعة. تمثل الحقوق والمسئوليات للأطراف المشاركة في الاتفاق شروط العقد الاجتماعي، بينما يمثل المجتمع، الدولة، الجماعة … إلخ، الكيانَ الذي جرى إنشاؤه بغرض تفعيل الاتفاقية. لا تثبُت الحقوق والحريات بل قد تتغير، وذلك بناءً على تفسير العقد الاجتماعي.
تميل تفسيرات نظرية العقد الاجتماعي إلى أن تتمحور حول الإنسان بوصفه الكائن الأهم (عن غير وعي عادةً) بصورة كبيرة (يتمثل التركيز على العوامل الفاعلة العقلانية البشرية) والتشديد على الطبيعة القسرية للاتفاق. بينما لا يعتبر هذان الملمحان من سمات مفهوم الثقة الوجودية، إلا أن الفكرة الأساسية للاتفاق الأساسي بين الأطراف باعتباره أساسًا للتفاعلات الأخلاقية يمكن إدراكها. في حالة الثقة الوجودية، يتحول الاتفاق إلى «ميثاق» افتراضي بالكامل، بدائي، يسبق منطقيًّا العقد الاجتماعي، الذي لا تملك جميع العوامل الفاعلة إلا التوقيع عليه عند قدومهم إلى الوجود، وهو الاتفاق الذي يتجدد باستمرار في الأجيال اللاحقة.
-
يمثل العالم الأصول أو «الذخيرة»، بما في ذلك العوامل الفاعلة والمرضى الحاليين.
-
يمثل المانحون جميعهم «أجيالًا» ماضية وحالية من العوامل الفاعلة.
-
يمثل الأشخاص الموثوق فيهم جميعهم عوامل فاعلةً «فردية» حالية.
-
يمثل المستفيدون جميعهم العوامل الفاعلة والمفعول بها من «الأفراد» الحاليين والقادمين.
مع مجيئه إلى الوجود، يصبح العامل الفاعل ممكنًا، وذلك بفضل وجود الكيانات الأخرى. يصبح العامل الفاعل إذن مقيدًا بكل ما هو موجود فعليًّا، «قسرًا» و«حتميًّا» بل و«رعايةً» أيضًا. «قسرًا» نظرًا لأنه لا يوجد شخص يأتي إلى الوجود طوعًا، على الرغم من أن كل شخص يستطيع — نظريًّا — الخروج طوعًا من الوجود. «حتميًّا» نظرًا لأن الرابط الوجودي قد ينفرط عن طريق العامل الفاعل على حساب عدم الاستمرار في الوجود باعتباره عاملًا فاعلًا. رغم أن الحياة الأخلاقية لا تبدأ من خلال أحد أفعال الحرية، إلا أنه من الممكن أن تنتهي بها. أما جزئية الرعاية، فتتأتى نظرًا لأن المشاركة في الواقع عن طريق أي كيان، بما في ذلك أي فاعل — أي يعتبر أي كيان تعبيرًا لما هو موجود — يوفر الحق في الوجود ويمثل دعوة (لا واجب) لاحترام ورعاية الكيانات الأخرى. لا يتضمن الاتفاق إذن أي قسر، بل علاقة تبادلية من التقدير والعرفان والرعاية، والتي يدعمها الإدراك المتمثل في اعتماد جميع الكيانات على بعضها. يبدأ الوجود من خلال هبة، حتى وإن كانت هبة غير مرغوب بها. يصبح الجنين مستفيدًا فقط من العالم في البداية. بمجرد ميلاده وصيرورته إلى فاعل أخلاقي كامل، سيصبح الجنين مستفيدًا وشخصًا موثوقًا فيه في العالم. سيكون الجنين مسئولًا عن العناية بالعالم، وطالما كان عضوًا في جيل العوامل الفاعلة الحية سيكون مانحًا أيضًا للعالم. بمجرد موته، يترك العامل الفاعل العالم لعوامل فاعلة أخرى من بعده ومن ثَمَّ يصبح عضوًا في جيل المانحين. اختصارًا، تصبح حياة العامل الفاعل الإنساني رحلة من كونه مستفيدًا فقط إلى كونه مانحًا فقط، مارًّا عبر مرحلة كونه عاملًا فاعلًا مسئولًا موثوقًا به في العالم. بينما نبدأ حياتنا العملية كعوامل فاعلة أخلاقية باعتبارنا غرباء عن العالم، يجب أن تنتهي حياتنا العملية باعتبارنا أصدقاء له.
بالتأكيد ستختلف الالتزامات والمسئوليات التي تفرضها الثقة الوجودية بناءً على الظروف، ولكن التوقع هنا — بصورة أساسية — هو أنه سيجري اتخاذ الأفعال أو تجنُّبها في ضوء رفاهة العالم بأسره.
لا يمكن المبالغة في تقدير الأهمية البالغة للتغيير الجذري في المنظور الوجودي. تفشل الأخلاقيات البيولوجية والأخلاقية البيئية في تحقيق مستوى من الموضوعية الكاملة؛ نظرًا لأنها لا تزال متحيزة ضد الكيانات غير العاقلة، والكيانات التي لا حياة فيها، والكيانات غير الملموسة، والكيانات المجردة (حتى الأخلاقيات الأرضية تعتبر منحازة ضد التكنولوجيا والأشياء المصطنعة، على سبيل المثال). من منظورها، يستحق كل ما هو حي بداهةً اعتباره مركزًا ملائمًا للادعاءات الأخلاقية، مهما كانت ضئيلة؛ لذا يفوتها عالم بأسره. يعتبر هذا الآن هو الحد الأساسي الذي تتجاوزه أخلاقيات المعلومات، وهو ما يخفض أكثر من الحد الأدنى الذي يجب تحقيقه، من أجل اعتباره مركزًا للاهتمام الأخلاقي، وصولًا إلى العامل المشترك الذي يشترك فيه أي كيان، ألا وهو حالته المعلوماتية. وبما أن أي شكل من أشكال «الوجود» يعتبر في أي حالة أيضًا كيانًا متماسكًا من المعلومات، فإن القول بأن أخلاقيات المعلومات تتمحور حول المعلومات، يساوي تفسيرها، على نحو صحيح، كنظرية ترتكز على الوجودية.
تتمثل النتيجة إذن في أن جميع الكيانات — «باعتبارها» أشياء معلوماتية — تحظى بقيمة أخلاقية جوهرية، على الرغم من كونها قيمة ضئيلة وقابلة للإبطال؛ ومن ثَمَّ يمكن اعتبارها عوامل أخلاقية مفعولًا بها، تحظى ولو بالنزر اليسير بدرجة من الاحترام الأخلاقي تفهم كاهتمام «منزَّه عن الأغراض»، «تقديري»، و«يتسم بالرعاية». مثلما أشار الفيلسوف أرني نيس (١٩١٢–٢٠٠٩): «تتمتع جميع الأشياء في المحيط الحيوي بحق متساوٍ في الحياة والازدهار.» يبدو أنه ليس ثمة سبب وجيه في عدم تبنِّي منظور أعلى، أكثر شمولًا، ومتمحورًا حول الوجود. تحظى فيه الجمادات إضافة إلى الأشياء المثالية، والأشياء غير الملموسة، والأشياء الفكرية بدرجة دنيا من القيمة الأخلاقية، مهما كانت ضآلتها، وهو ما يستوجب احترامها.
يعتبر الإنسان جزءًا من الكل الذي نطلق عليه «الكون»، جزءًا محدودًا في الزمان والمكان. يفكر الإنسان في نفسه، أفكاره ومشاعره، باعتبارها شيئًا منفصلًا عن باقي الأشياء، نوع من الضلالات البصرية لوعيه. تعتبر هذه الضلالة نوعًا من السجن لنا، يحصرنا في رغباتنا الشخصية وفي ودِّنا نحو أشخاص قليلين قريبين منَّا. يجب أن تكون مهمتنا هي تحرير أنفسنا من سجننا من خلال توسيع دائرة تعاطُفنا لتشمل الإنسانية جمعاء والطبيعة بأسرها بجمالها. ورغم أنه لا يستطيع أحد تحقيق هذا بالكامل، فإن بذل الجهد من أجل تحقيق ذلك في حدِّ ذاته هو جزء من عملية التحرر وأساس للأمن الداخلي.
هل لدى الناس التزامات أخلاقية تجاه الصخور؟ [وأجاب على ذلك] بالنسبة إلى جميع الأمريكيين تقريبًا، ممن لا يزالون متشبعين بالأفكار السائدة تاريخيًّا في المسيحية … ليس للسؤال أي معنى على الإطلاق. فإذا حان الوقت الذي لا يصبح فيه سؤالٌ مثل هذا مثيرًا للسخرية، ربما سنكون على مشارف تغيير في بِنى القيمة التي توفر إجراءات ممكنة للتعامل مع الأزمة البيئية المتزايدة. يأمل المرء في أن هناك مزيدًا من الوقت المتبقي لذلك.
وفقا لأخلاقيات المعلومات، هذا هو المنظور البيئي الصحيح، وهو يعتبر منطقيًّا للغاية بالنسبة إلى أي معتقدات دينية أو روحية (بما في ذلك المعتقدات اليهودية-المسيحية) التي تعتبر الكون بأسره خلقًا إلهيًّا، يسكنه الإله، ويُعد هبة للإنسانية، وهو الكون الذي يجب على الإنسانية أن تعتني به. تترجم أخلاقيات المعلومات كل هذا إلى مصطلحات معلوماتية. إذا كان ثمة شيء يمكن أن يكون عاملًا أخلاقيًّا مفعولَا به أو متلقيًا، يمكن إذن أخذ طبيعته في الاعتبار من قبل أي فاعل أخلاقي «أ»، ويسهم هذا المتلقي في تشكيل أفعال «أ»، مهما صَغُرت. وإذا وضعنا ذلك في صيغة أكثر ميتافيزيقية، تدفع أخلاقيات المعلومات بأن جميع جوانب وأمثلة «الوجود» تستأهل شكلًا مبدئيًّا، ربما كحد أدنى وبما يمكن التغاضي عنه، من أشكال الاحترام الأخلاقي.
إن للتوسع في مفهوم ما قد يُعَدُّ مركزًا للاحترام الأخلاقي ميزة تتمثل في تمكين المرء من فهم الطبيعة الابتكارية لتكنولوجيات المعلومات والاتصال، باعتبارها توفر إطارًا مفهوميًّا قويًّا وجديدًا. كما أنه يمكِّن المرء من التعامل مع السمة الأصلية لبعض موضوعاته الأخلاقية على نحو مُرضٍ، من خلال تناول هذه الموضوعات من منظور قوي نظريًّا. بمرور الوقت، انتقل علم الأخلاق بثبات من مفهوم ضيِّق إلى مفهوم أكثر شمولًا لما يمكن أن يُعد مركزًا للقيمة الأخلاقية، من المواطن إلى المحيط الحيوي. إن ظهور عالم المعلومات، باعتباره بيئة أثينية جديدة يقضي فيها البشر معظم حياتهم، يفسِّر الحاجة إلى التوسُّع أكثر في مفهوم ما قد يُعد طرفًا أخلاقيًّا مفعولًا به أو متلقيًا. وبناءً عليه، تمثل أخلاقيات المعلومات التطور الأكثر حداثة في هذا الاتجاه المسكوني، ومنهاجًا بيئيًّا دون تحيُّز مُنْصَبٍّ حول الكائنات الحية. فهي تترجم الأخلاقيات البيئية إذن في إطار كيانات الحيز المعلوماتي والكيانات المعلوماتية؛ إذ لا تقتصر المساحة التي نشغلها على الأرض فقط.