البحث عن أُسس
تخيل أن مدينة بضخامة مدينة نيويورك غُرست فجأة في السهل الساحلي لولاية كارولاينا الشمالية ثم ضُوعفت مساحتها. والآن تخيل أن هذه المدينة ليس بها محطات معالجة لمياه الصرف الصحي. هب أن كل المخلفات الناتجة عن ١٥ مليون قاطن تُقذَف ببساطة إلى حُفَر مفتوحة وتُرَشُّ في الحقول.
حوِّل أولئك البشر إلى خنازير، ولستَ بحاجةٍ للتخيل على الإطلاق؛ فهذا المكان موجودٌ بالفعل.
مدينة شاسعة من الخنازير قد ظهرت فعليًّا بين عشية وضحاها في المقاطعات الواقعة شرقي الطريق السريع ٩٥ بين الولايات. إنها مدينة عملاقة قِوامها ٧ ملايين حيوان يعيشون في حظائر عزل معدنية، وكل خنزير يُخلِّف ضعفَيْ إلى أربعة أضعاف المخلفات التي يُخلِّفها الإنسان العادي.
كل ذلك السماد — نحو ٩٫٥ ملايين طن في العام — يُخَزَّن في آلاف من التجاويف الطينية التي تُسمى بحيرات ضحلة؛ حيث تتحلل وتُرَش أو تُنشر على الأراضي المزروعة.
-
استقر رأي أبحاث علمية حديثة على أن ثَمَّة مُلوِّثات من بحيرات الخنازير الضحلة تصل إلى المياه الجوفية. ووفق تقديرات أحد تقارير جامعة ولاية كارولاينا الشمالية، نحو نصف البحيرات الضحلة الموجودة — ربما المئات — يُسرِّب تسريبًا سيئًا بالقدر الذي يؤدي إلى تلويث المياه الجوفية.
-
العلماء بصدد اكتشاف أن مزارع تربية الخنازير ينبعث منها كميات ضخمة من غاز الأمونيا، الذي يعود إلى الأرض في المطر. ويُعتقَد أن الأمونيا يُسْهم في التزايد الهائل والفجائي في نمو الطحالب وهو ما يَسُد الكثير من أنهار الولاية ومصباتها.
-
قال الخبراء إن الرائحة تَمْتَصها الأنسجة الدهنية في الجسم البشري: «ذلك هو السبب في أن بعض الناس يقولون إنهم يظلون يشمون الرائحة بعد تركهم المزرعة بوقت طويل.»
-
يمكن للرائحة أن تكون أكثر من مجرد مصدر إزعاج. قالت باحثة في جامعة ديوك إنها كانت تؤثر على الصحة العقلية للسكان، واكتشفت أن الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من مزارع تربية الخنازير الكبيرة عانَوْا من «مزيد من التوتر والاكتئاب والغضب والإرهاق والارتباك مع تراجع نشاطهم على نحو ملحوظ.»
لست بحاجة لأن تُمعن النظر لتكتشف تداخلات صناعة لحم الخنزير في سياسة ولاية كارولاينا الشمالية وحكومتها، فقط ابدأ من القمة.
السيناتور الأمريكي لوش فيركلوث — عضو بالحزب الجمهوري يقود لجنة فرعية في الكونجرس تختص بالبيئة — هو مُزارع خنازير ثري.
الحاكم المنتمي للحزب الديمقراطي جيم هنت هو أعلى مُتلقٍّ للمساهمات السياسية من وينديل إتش ميرفي، الذي تُعتبر شركته دوبلين كاونتي للخنازير هي الأكبر في البلاد.
رئيس لجنة البيئة في مجلس الولاية، عضو الحزب الجمهوري جون إم نيكولز، يبني مشروعًا ضخمًا للخنازير في مقاطعة كرافين، وسوف يربي خنازير لحساب ميرفي.
رئيس لجنة الكونجرس للبيئة والزراعة، عضو الحزب الديمقراطي تشارلز دبليو ألبرتسون من مقاطعة دوبلين، هو صديق لميرفي، واستنادًا إلى الإسهامات، يُعد المُشَرِّع المُفَضَّل لصناعة لحم الخنزير …
من وجهة نظر الأشخاص الذين لديهم مظالم ضد صناعة لحوم الخنازير، تبدو التحالفات مثل تكتل قُوًى.
«لم نجد من يعيرنا آذانًا متعاطفةً صاغيةً في أي مكان.» هذا ما قاله روبرت مورجان من ليلينجتون، وهو سيناتور أمريكي سابق يمثل المُدَّعين في أربع دعاوى ضد مزارع ضخمة لتربية الخنازير.
القواعد الأخلاقية للهيئة التشريعية لولاية كارولاينا الشمالية لا تمنع الممثلين الذين لديهم مصلحة شخصية في مشروع قانون من الدفع به إلى الهيئة التشريعية. وهكذا اعْتُبِر انتخاب أحد منتجي الخنازير في الجمعية العمومية قانونيًّا وأخلاقيًّا على السواء؛ ومن ثم يمكن مساعدته على تمرير قوانين تعني ملايين الدولارات لشركته ولصناعته.
في هيوستن، افتتحت محطة «كيه إتش أو يو» التليفزيونية برنامجها الذي يُذاع في الساعة العاشرة بتقرير أعده فريق المدافعين الاستقصائي التابع لها. بدأت المراسلة آنا ويرنر المقطع هكذا:
هاتان حالتان فقط من حالات مشابهة كثيرة وجدها «المدافعون» في كل أنحاء تكساس؛ تبلغ اثنتي عشرة حالة خلال السنوات القليلة الماضية، وتتضمن كلٌّ منها مزيجًا مألوفًا: سيارة فورد إكسبلورر وإطار فايرستون إيه تي إكس مع ما يُطلق عليه انفصال السطح الخارجي للإطار، حيث ينسلخ حرفيًّا السطح الخارجي للإطار عن الإطار نفسه. يقول الخبراء إنه عندما يحدث ذلك مع بعض المركبات، فهذا يمكن أن يعني حادث انقلاب مدمرًا.
استمر تقرير ويرنر لما يقارب ١٠ دقائق. في سبيل جمع معلومات للتقرير، لم تتحدث ويرنر إلى ضحايا الحوادث المحليين وحسب، بل سافرت إلى واشنطن لتتحدث إلى رئيس سابق للمجلس الوطني لسلامة النقل، وأجرت مقابلة مع خبير في بناء الإطارات وموظف سابق في شركة فايرستون للإطارات، أقر بأنه صنع إطارات رديئة، وتعقبت حوادث مشابهة تورطت فيها سيارات من ماركة إكسبلورر وإطارات فايرستون في ولايات أخرى.
تواصلت ويرنر أيضًا مع شركة فورد ومع شركة بريدجستون/فايرستون للإطارات، وطلبت منهم أن يَقُصُّوا ما حدث من وجهة نظرهم. أخبرها متحدث باسم شركة فورد أن سيارات إكسبلورر لم تكن ملومة؛ لقد كان «خطأ سائق» هو سبب ما وقع من مشكلات. ولم تكن شركة فايرستون لتُعلق تليفزيونيًّا، ولكن أرسلت خطابًا يقول إن الشركة تقف إلى جانب سلامة إطاراتها.
على الفور، بعد أن بُثَّ تقرير ويرنر، غمر المشاهدون المحطة بفيض من التقارير لحوادث أخرى تورطت فيها سيارات إكسبلورر مزودة بإطارات فايرستون. بدأت ويرنر في إجراء متابعة إخبارية للموضوع. عندما علم مسئولو شركة فايرستون أنها كانت تنجز تقريرًا آخر، أسرعوا من فورهم بإرسال خطاب إلى المسئولين التنفيذيين في مؤسسة إيه إتش بيلو، مالكي المحطة. اتهم الخطاب ويرنر ﺑ «التزييف وتحريف الحقائق» في تقاريرها عن الإطارات. كتب نائب رئيس بشركة فايرستون: «نقلت هذه السلسلة بوضوح رسائل مُضلِّلة مفادها أن إطارات راديال إيه تي إكس خطرة، وأنها تهدد سلامة أي شخص يستخدمها، وأنها ينبغي أن تُنْزَع من كل مَرْكَبة مُثَبتة بها.» وأضاف: «كل رسالة من هذه الرسائل هي ببساطة مجافية للحقيقة.» بالإضافة إلى أن محطة «كيه إتش أو يو» كانت — كما ادعت شركة فايرستون — منشغلة ﺑ «إثارة المشاعر ونِسَب المشاهدة» أكثر من خدمة مشاهديها. لو أن المحطة أرادت حقًّا أن تمد يد العون لسائقي منطقة هيوستن، لكانت أعدت تقارير عن «الإجراءات الصحيحة لصيانة الإطارات» و«طرق القيادة الصحيحة».
رغم أن الخطاب لم يرد به ذكر للتشهير ولا هدد صراحةً بإقامة دعاوى قضائية، كان من الواضح أن شركة فايرستون كانت جادةً جدًّا. كانت وسائل الإعلام الأخرى بطيئة في التعامل مع الخبر ونشره، ومضت شهور قبل أن تبدأ الصحف والشبكات في الكتابة عن المشكلات المُحتملة. صرَّح صحفي بمحطة «كيه إتش أو يو» لصحيفة «ذا نيويورك تايمز» أنه اعتقد أن الخطاب الشديد اللهجة من شركة فايرستون قد يساعد في تفسير السبب في إحجام وسائل الإعلام الإخبارية الأخرى. ومع ذلك، لم يؤدِّ الخطاب إلى بث الخوف في محطة «كيه إتش أو يو». بثَّت المحطة مقطعًا مدته تسع دقائق قدمته ويرنر أوردت فيه حوادث أخرى تسببت فيها إطارات مَعيبة.
جلبت السلسلة إلى المحطة وإلى ويرنر الكثير من مظاهر الحفاوة والتكريم، بما في ذلك جائزة سيجما دلتا تشي من جمعية الصحفيين المحترفين وجائزة بيبودي المرموقة.
•••
في مدينة سبرينجفيلد، بولاية إلينوي، سمع سكوت ريدر آباءً ومعلمين يسألون بعضهم بعضًا عن السبب في عدم فصل المعلمين غير الأكْفاء. كانت الإجابة دومًا هي نفسها: «لا يمكنهم فصله؛ إنه يتمتع بتثبيت وظيفي.» ومع ذلك فإن ريدر ليس أبًا عاديًّا يشعر بالسخط إزاء نوعية التعليم التي يحصل عليها طفله. يحيط ريدر بحكومة الولاية في إلينوي لصالح صحف في كانكاكي وأوتاوا ومولين وروك آيلاند؛ فقرر أن يكتشف حجم الصعوبة التي كانت تواجهها المدارس لفصل المعلمين السيئين.
-
قدَّم ١٥٠٠ طلب مستنِدًا على قانون حرية الحصول على المعلومات يطلب أن تُطلِعه دوائر المدارس على سجلاتها العامة. في واقعة واحدة، كان على الشركة المالكة للصحيفة التابع لها أن تقيم دعوى قضائية وتحصل على أمر قضائي قبل أن يتمكن ريدر من أن يطَّلِع على السجلات.
-
قرأ كل قضية تحكيم تتضمن معلمًا مدرسيًّا ودائرة مدرسية.
-
أمضى عددًا لا يُحصى من الساعات يُنَقِّب في سجلات المحاكم والوثائق القانونية وتبويب النتائج.
-
أجرى مقابلات مع مئات من الناس، بما في ذلك آباء، وتلاميذ، ومحامون، وخبراء في التعليم.
-
قاد واحدًا من أكبر استقصاءات الوثائق الإعلامية في تاريخ مقاطعة كوك ومقر إدارتها مدينة شيكاجو.
وقد خصص ريدر ستة أشهر للعمل على هذا الخبر وحده، وسريعًا ما أدرك أنه كان ثمَّة الكثير ليفعله؛ فأصبح التحقيق أكثر من عمل بدوام كامل. قال ريدر: «استمررتُ في العمل خلال عدد من العطلات الأسبوعية … لم أحصل على إجازة حتى إنني وجدت نفسي أُدْخِل بيانات على كمبيوتر محمول في جناح الولادة بمستشفى بينما نامت زوجتي ورضيعتي بالقرب مني.»
ما الذي توصل إليه تحقيقه؟ لقد كشف أنه من النادر جدًّا في ولاية إلينوي أن يُفْصَل معلمٌ لديه تثبيت وظيفي. وجد ريدر دائرة ريفية صغيرة واحدة أنفقت أكثر من ٤٠٠ ألف دولار أمريكي على أتعاب المحاماة لفصل معلمٍ واحدٍ، وكانت القضية ما زالت في المحاكم. لم تستطع إحدى الدوائر أن تفصل مساعد مدير أنجب طفلًا من واحدة من طالبات الصف السابع في مدرسته؛ إذ أمره القضاء بأن يدفع نفقة إعالة الطفل، ولكنه احتفظ بوظيفته.
-
أن ولاية إلينوي بها نحو ٩٥ ألف معلم لديهم تثبيت وظيفي، إلا أنه لا يُفْصَل إلا اثنان كل عام بسبب عدم الكفاءة.
-
في الأعوام العشرة الماضية، لم تُقْدِم ٩٤ بالمائة من الدوائر على فصل معلم لديه تثبيت وظيفي.
-
خلال تلك المدة، ٨٤ بالمائة من الدوائر لم تُعطِ معلمًا لديه تثبيت وظيفي تقديرًا غير مُرضٍ قط في تقييم نهاية العام. «يحصل الجميع تقريبًا على تقدير «ممتاز» أو «فائق».» كما أخبره أحد المشرفين.
•••
التقارير الثلاثة السابقة هي أمثلة لتقارير إخبارية شاملة ومروية على نحو جيد. سنمضي بذلك خطوة إضافية ونقول إن تلك التقارير تُمَثِّل «الصحافة المراعية للأخلاقيات».
ساهمت هذه التقارير في ضمان حياة أفضل للكثير من الناس. أطلعت سلسلة أخبار «الخنزير الملك» التي أطلقتها صحيفة «ذا نيوز آند أوبزرفر» المواطنين على تطور كبير في ولايتهم ورفعت درجة الوعي لدى الناخبين عن قضية مجتمعية مهمة. أظهر الصحفيون تعاطفًا إزاء أناس افتقروا إلى النفوذ السياسي كي يكون في مقدورهم إعلان وطرح شواغلهم. كان المحررون والمنتجون على استعداد لكشف بعضٍ من أقوى رجال الأعمال والساسة في الولاية.
مما لا شك فيه أن محطة «كيه إتش أو يو» قد عززت من سلامة آلاف من سائقي المركبات؛ فلقد دفعت السلسلةُ الحكومةَ الفيدرالية إلى التحقيق في هذه الحالات. مضت محطة «كيه إتش أو يو» قُدُمًا في الموضوعات الإخبارية رغم أنها كانت تأخذ على عاتقها مواجهة اثنتين من كبريات المؤسسات تنفقان الكثير من المال على الإعلانات التليفزيونية. عندما تساءل سكوت ريدر عن السبب في أن مدارس إلينوي العامة لم تفصل المعلمين السيئين، شرع في سلسلة من الإجراءات تمخضت عن إصلاحات قد يكون من شأنها تحسين جودة التعليم الحكومي في إلينوي.
توضح هذه التقارير حقيقة أخرى عن أخلاقيات مهنة الصحافة؛ فبعكس معظم المحامين والكثير من الأطباء، لا يعمل معظم الصحفيين من أجل أنفسهم. لقد عَمِل هؤلاء الصحفيون لحساب إدارات أظهرت شجاعة في حماية فريق الأخبار من ضغط أُناس ذوي نفوذ في مجال الأعمال وفي الحكومة. كانوا على استعداد لمنح المراسلين الحرية للعمل لشهور على موضوعات إخبارية، بدلًا من تحجيمهم بموضوعات إخبارية يمكن سريعًا عمل تقارير بها من أجل ملء المساحة الإخبارية. منحت صحيفة «ذا نيوز آند أوبزرفر» ومحطة «كيه إتش أو يو» والمجموعات الصحفية الصغيرة التي عمل معها ريدر الصحفيين الوقتَ والدعم اللذين احتاجوا إليهما لصنع صحافة عالية الجودة ومراعية للأخلاقيات.
(١) الصحافة والأخلاقيات
-
البعض يتصور الأخلاقيات فقط كقائمة من القواعد التي تحدد بوضوح ما يمكنهم وما لا يمكنهم فعله: لا تَقْبَل المِنَح، لا تنخرطْ في أنشطة قد تخلق تضاربًا في المصالح، لا تنتحل أفكار وتعابير شخص آخر، إلى آخره.
-
يخشى آخرون أنه إذا أفرط المراسلون في انشغالهم بالأخلاقيات، فسوف ينتجون صحافةً باهتةً يعتريها التردد: سوف يكونون بالغي القلق بشأن إيذاء مشاعر شخص ما أو ارتكاب خطأ حتى إنهم لن يسعوا سعيًا نضاليًّا إلى الحقيقة.
-
والبعض يعتبر الأخلاقيات مجرد حيلة من حيل العلاقات العامة لجعل الناس يحبون المراسلين. فكما يقولون، فليس من المفترض أن يكون المراسلون محبوبين. من المفترض أن يقدموا تقارير إخبارية.
بَيْد أن الأخلاقيات أرحب مما يدرك هؤلاء الناس. وكما سيتناول الفصل الثاني، ينظر غالبية الفلاسفة إلى الأخلاق على أنها دراسة الفوارق بين الصواب والخطأ، والطُّهر والفساد، والنفع والضرر. تفرض المهن مطالب أخلاقية أكثر تحديدًا على كاهل ممارسيها؛ فالمحامون، مثلًا، مُطالبون بأن يدافعوا عن موكليهم أفضل دفاع ممكن حتى وإن كانوا يشكُّون في براءتهم، والأطباء يقسمون أنهم لن يتسببوا في ضرر لمرضاهم، والكهنة والأخصائيون النفسيون ملزمون بعدم تكرار ما يجري إطلاعهم عليه أثناء الاعتراف أو الاستشارة.
-
أن يُطْلِعوا العامة بالوقائع والتوجهات والتطورات بشأن المجتمع والحكومة. الصحفيون ملزمون بجمع معلومات بأفضل ما بوسعهم وأن يقولوا الحقيقة حسبما يجدونها. ويجب أن يكونوا غير متهيبين في سعيهم إلى الحقيقة ولا يعوقهم تضارب المصالح.
-
أن يعاملوا الناس — سواء أولئك الذين يدخلون ضمن قاعدتهم الجماهيرية أو أولئك الذين يصنعون الخبر — بإنصافٍ واحترامٍ، بل وبتعاطفٍ. لن يفيد الصحفيين النضالُ من أجل الحقيقة لو كان عدد كبير من الناس لا يصدقون التقارير الإخبارية لأنهم لا يثقون في الإعلام الإخباري أو لا يحترمونه.
-
أن يرعوا العملية الديمقراطية؛ فلكي يحكم الناس أنفسهم، ينبغي أن يكونوا مُطَّلِعين على قضايا وإجراءات حكومتهم. وسائل الإعلام الإخبارية هي المزود الرئيسي لتلك المعلومات.
(١-١) الصحافة والمجتمع الديمقراطي
التوقع بأن الصحفيين ينبغي أن يستكشفوا كلًّا من القضايا الاجتماعية والسياسية كان أمرًا أساسيًّا في الولايات المتحدة منذ وقت طويل. حتى قبل الثورة الأمريكية، كانت الصحف تقود المعارك في القضايا الدينية والصحية والسياسية. مثال ذلك، صحيفة أسسها الشقيق الأكبر لبن فرانكلين، جيمس، تصادمت مع رجال الدين البروتستانتيين حول قضية تطعيمات الجدري. ومع اقتراب الثورة، استخدم المهاجرون المنشورات والصحف لحشد التأييد ضد إنجلترا. وبعد فرض البريطانيين قانون التمغة البغيض، تنامى الاهتمام بالسياسة وتنامى بالمثل عدد الصحف الأمريكية. كانت هذه الإصدارات تمثل إلى حد بعيد جانبًا من الحياة الفكرية الأمريكية حتى إنه ما إن أُنشئت الدولة الجديدة، حتى ضَمِن التعديل الأول للدستور حرية الصحافة.
(١-٢) الصحفيون كأداة رقابة
ظل الصحفيون يتحدثون عن «دورهم الرقابي» منذ الأيام الأُولى للجمهورية الأمريكية. وثمَّة عبارة أُخرى تُستَخدَم لتعريف دور الصحفيين هي عبارة حديثة نسبيًّا. أصبحت عبارة «حق الجمهور في المعرفة» (أو ما يُطلَق عليه «حرية تدفق المعلومات») بمثابة تعويذة للصحفيين الأمريكيين بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ كافح الصحفيون لتوسيع إمكانية الوصول إلى معلوماتٍ عن الحكومة.
(١-٣) الجمهور يتشكك فيمن نصَّبوا أنفسهم رقباء
(١-٤) هل الأمور بهذا السوء حقًّا؟
حاول الكثيرون تفسير هذه المعضلة بالإشارة إلى أن احترام الأمريكيين لكل المؤسسات، بما في ذلك الكنائس والمدارس والحكومة قد تدنَّى. وهم محقون إلى حد ما. ومع ذلك لم تفقد أي من هذه الفئات احترامًا بقدر ما فقد الإعلام الإخباري.
ربما تشكلت نظرة الجمهور للصحفيين نتيجة لعوامل متنوعة. أحد هذه العوامل قد يتمثل في أن الجمهور أصبح أكثر اعتيادًا على الكيفية التي تُجمَع بها الأخبار، وهذا الاعتياد تولَّد عنه ازدراء. منذ زمن ليس ببعيد، كان إذا أقام سياسي أو قائد عسكري مؤتمرًا صحفيًّا، كان الجمهور إما أن يقرأ عنه في الصحيفة أو يشاهد أبرز النقاط في أخبار المساء. لم يكن الجمهور أبدًا ليعرف إذا ما كان الصحفيون قد سألوا أسئلة غبية أو تصرفوا بطريقة همجية. في الوقت الحالي، من المرجح أن يُبَث المؤتمر الإخباري بثًّا حيًّا؛ فيمكن للجمهور أن يشاهد الصحفيون أثناء أدائهم عملهم، وعادةً ما لا يكون ذلك أمرًا لطيفًا.
أيضًا أصبح الجمهور الأمريكي على وعي بأن الإعلام مملوك لمؤسسات أعمال ضخمة من خارج الولايات المتحدة، وتلك اهتمامها منصب على الأرباح أكثر من المصلحة العامة. ورغم أن الصحفيين — وبالأخص الصحفيين العاملين في الصحافة المقروءة — قد يرون أنفسهم باحثين مستقلين عن الحقيقة، يراهم الكثير من الجمهور مجرد خُدَّامٍ يعملون لحساب الشركات الأمريكية. عندما تُخَفِّض الشركات عدد المراسلين الذين يغطون الأخبار، فإنها تعزز اعتقاد الجمهور بأن الدور الرئيسي للصحف هو ملء جيوب المالكين الأثرياء، وليس تقديم خدمة عامة.
عامل آخر من العوامل المُفضية إلى التدهور فيما يتعلق بالصحفيين هو جنوح الكثير من الناس نحو تجميع كل المصادر الإخبارية في كيان واحد. عبارات مثل «وسائل الإعلام الرئيسية» تخفي تنوعًا مذهلًا من وسائل الإعلام الإخباري. يجمع المصطلح برامج المناظرات على قنوات الكابل الإخبارية مثل برنامج «ذا أورايلى فاكتور» مع صحيفة مثل «ذا نيويورك تايمز»، والأخبار التليفزيونية المحلية المليئة بالجريمة في بعض الأسواق مع البرامج الإخبارية الليلية للشبكات، وإثارة جيرالدو ريفيرا الإعلامية مع برنامج جيم لهرر المتزن «نيوز آور» على شبكة بي بي إس. وحدة وسائل الإعلام الرئيسية هذه تصبح كيانًا واحدًا كبيرًا يسهل الهجوم عليه. على سبيل المثال، بعد موت الأميرة ديانا، ألمحت روايات إخبارية أولية خطأً أن المصورين المستقلين، الباباراتزي، تسببوا في حادث التصادم الذي أودى بحياتها. في اليوم التالي، تلقى المصورون العاملون لحساب المنافذ الإخبارية في المدن الأمريكية الصغرى السباب من المارة ووُصِفوا ﺑ «قتلة ديانا». عندما سأل مراسل في مؤتمر إخباري امرأة — قالت إن الرئيس بيل كلينتون قد أقام علاقة معها — عما إذا كان يستخدم واقيات ذكرية، استنكر أُناس كثيرون مسلك المراسلين عديمي الإحساس. طرح السؤالَ «مراسلٌ» من برنامج هوارد ستيرن الإذاعي، الذي يتفاخر بافتقاره إلى الذوق.
احتمالات أن يحكم الجمهور البريطاني بالسلب على وسائل الإعلام ككل بناءً على تصرفات البعض أقل كثيرًا؛ فهم يقسمون صحفهم في المعتاد إلى «صحافة التابلويد الصفراء ذات الترويسة الحمراء» و«الصحف عالية الجودة ذات القطع الكبير». في الماضي، أشار المصطلح إلى الحجم الفعلي للصفحات المطبوعة في هذه الصحف؛ إذ كانت صحف التابلويد الأصغر حجمًا تعادل تقريبًا في الحجم صحيفة «ناشيونال إنكوايرر» التي توضع في حامل محلات البقالة الأمريكية. ورغم أن الصحف البريطانية في الوقت الحالي غالبًا ما تكون في نفس الحجم، فما تزال الأسماء ودلالاتها قائمة. تغلَّف صحف التابلويد البريطانية مثل صحف «ذا صن»، و«نيوز أوف ذا وورلد»، و«ذا دايلي ميرور» بتقارير مثيرة، وفي بعض الأحيان مُبالَغ فيها، وصور لنساء بملابس لا تكاد تسترهن. في المُقابِل، تُعد صحف بريطانيا العالية الجودة ذات القطع الكبير مثل «ذا جارديان» و«ذا إندبندنت» ضمن أكثر الصحف احترامًا في العالم؛ إذ تتسم بالتقارير والتحليلات المتمكنة. يكنُّ البريطانيون احترامًا كبيرًا لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» التي تتلقى دعمًا حكوميًّا، والتي يعتبرها البعض المصدر الأبرز للأخبار المذاعة في العالم.
(٢) تحسين المهنة
-
«مارسوا مبادئ الصحافة المراعية للأخلاق»: إذ وجدوا أخبارًا تلقي الضوء على جزء من المجتمع من المحتمل أنه كان خافيًا على الكثير من الناس، وكانوا دئوبين في إيجاد الحقائق. أطلعت سلسلة «الخنزير الملك» ناخبي ولاية كارولاينا الشمالية على بعض تصرفات حكومة ولايتهم ومسئوليهم المنتخبين. حذرت سلسلة محطة «كيه إتش أو يو» المستهلكين من خطرٍ ما، واستحثت أجهزة الرقابة الحكومية على أن تتحرك. أمضى ريدر شهورًا ينقب في وثائق حكومية، وقدَّم أكثر من ١٥٠٠ طلب بمعلومات عامة عندما لم يكن البيروقراطيون على استعداد للمساعدة وتقديم المعلومات.
-
«كانوا بارعين في مهنهم»: كي يكون الصحفيون أخلاقيين وجديرين بالثقة، ينبغي أن يكونوا مؤهلين لما يفعلونه. لو أن ثمة خبرًا منقوصًا أو يحتوي على أخطاء، فسيصل إلى الجمهور معلومات مغلوطة. ولو لم يُصرِّح بالخبر كما ينبغي، قد لا يهتم الجمهور بقراءته أو مشاهدته على شاشة التليفزيون. لن يخوض معظمنا في بحر من كتابة سيئة، وفيديو ممل، وتصميم بلا روح.
-
«اجتهدوا في سبيل منظومة إخبارية قوية»: منحتهم صحيفة «ذا نيوز آند أوبزرفر»، والصحف الصغيرة، ومحطة «كيه إتش أو يو» الدعم والوقت اللذين احتاجوا إليهما ليصنعوا أخبارهم، وساندت الإدارة الصحفيين وهم يتحدَّوْن شخصيات سياسية مؤثرة ومؤسسات تِجارية قوية. وبينما تُصنَع كلَّ يومٍ صحافةٌ من الطراز الأول في غرف أخبار من الدرجة الثانية، عادةً ما يكون وجود مالكين ومديرين مستنيرين مُقَوِّمًا رئيسيًّا في ممارسة الصحافة المراعية للأخلاقيات.