الرقابة الحكومية
عندما ذهبت جيرالين جراهام لزيارة حفيدتها، وجدت أن الطفلة تعيش في وضع غير إنساني. وقالت لصحيفة «ذا ميامي هيرالد» إن الطفلة ذات الخمسة أعوام كانت «تجلس وسط أرضية المنزل، بجانب وجوه بشرية، محاولةً أن تأكل قطعة من الخبز. لقد تعلمت كلمات السباب، وليس الكلام العادي.»
اتصلت الجدة بإدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة بفلوريدا «دي سي إف»، وهي الوكالة التابعة للولاية المسئولة عن إنقاذ الأطفال من الاعتداءات المنزلية. على الفور أخذ الباحثون الاجتماعيون الطفلة من أمها — التي وُصِفَت بأنها مدمنة للمخدرات — ووضعوها في رعاية جدتها. ولكن سرعان ما بدأت الجدة تواجه مشكلات مع حفيدتها. أخبرت الجدة الأخصائيين الاجتماعيين بأن الطفلة «تتصرف بغرابة» وأنها بحاجة إلى تقييم نفسي. في أحد الأيام جاءت إلى بيت جراهام امرأة قالت إنها من إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة بفلوريدا، وذهبت بالطفلة. كانت تلك آخر مرة رأت فيها جراهام البنت الصغيرة، حسبما أخبرت الشرطة.
اتصلت جراهام بإدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة بفلوريدا وطمأنها الباحثون الاجتماعيون إلى أن الطفلة كانت تلقى رعاية طيبة، إلا أنهم أبلغوها بأنها لا يمكنها زيارة الطفلة. وكلما سألت عن الطفلة، كانت تتلقى نفس الرد.
بعد مرور خمسة عشر شهرًا على أخذ الطفلة من جدتها، أتت باحثة اجتماعية مختصة بالتبنِّي إلى منزل الجدة، وطلبت أن ترى الطفلة. أصبح واضحًا لجراهام أن الوكالة لم تكن تعرف أين كانت حفيدتها؛ فطبقًا لسجلاتها، كانت الطفلة لا تزال تعيش مع جدتها، حتى إن الملفات اشتملت على تقارير من باحثين اجتماعيين قالوا إنهم زاروا الطفلة في منزل الجدة، وإنها كانت «في أتم الصحة والسعادة.»
عندما سألت صحيفة «ذا هيرالد» رئيس إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة، وصف الأمر بأنه «أكثر الأوضاع التي رأيتها تعقيدًا.» أكد أحد مسئولي الولاية أن تلك كانت «واقعة فردية»، ووصف أحد القضاة طريقة التعامل مع المسألة بأنها «بالغة الحقارة»، واتهم الإدارة بالكذب على المحكمة مرارًا وتكرارًا.
أرادت صحف عديدة أن ترى سجلات الواقعة، إلا أن الوكالة رفضت؛ فقدمت الصحف التماسًا إلى المحكمة، وحصلت على تصريح بالاطلاع على الملفات. غَيْرَ أَنَّه عندما سُلِّمَت السجلات، اكتشف المراسلون أن إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة قد أدخلت عليها تنقيحات بلغ من كثرتها أنه كان لزامًا على الصحف أن ترجع إلى المحكمة.
مع تزايد الضغط من وسائل الإعلام والقادة السياسيين، أُمِرَت الوكالة بحصر جميع الأطفال الموجودين في كَنَفها. أقرت الوكالة أنها لا تعرف مكان تواجد ٥٣٢ طفلًا، وقالت إن معظمهم مراهقون كانوا قد هربوا من دُور الرعاية، أو وُضِعوا في دُور خارج الولاية، أو اختُطِفوا على يد والديهم اللذين لم يكن لديهما وصاية عليهم.
قرر المراسلون في صحيفة «ساوث فلوريدا صن سنتينل» أن يحاولوا التأكد مما إذا كان بإمكانهم العثور على بعض الأطفال المفقودين؛ فاختاروا ٢٤ طفلًا — كلهم تحت سن الرابعة عشرة — كانوا مسجلين في موقع إلكتروني مخصص للأطفال المفقودين الذين هم تحت رعاية الولاية. وعلى الرغم من أن الصحيفة لم يكن لديها الملفات المفصلة التي كانت لدى الباحثين الاجتماعيين التابعين لإدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة، فقد تمكن المراسلون من العثور على اثنين من الأطفال في أقل من ثلاث ساعات. وخلال شهر واحد، كانت الصحيفة قد حددت أماكن تواجد ثلث الأطفال، وتأتَّى ذلك في كثير من الأحيان بمجرد استخدام مساعدة دليل الهاتف والاتصال بأقاربهم. ووجدوا طفلًا واحدًا كانت الوكالة قد وضعته في قائمة «المعرضين للخطر» الخاصة بها؛ لأن والديه كان لديهما سجل طويل من السوابق الجنائية يتعلق بالمخدرات وتهم أخرى. كان الطفل قد وُضع في دار رعاية في جورجيا بعد أن قُبِض على والديه على خلفية اتهامات بالدعارة هناك.
اكتشف مراسلو صحيفة «صن سنتينل» حقيقة مروعة أخرى؛ وهي أنه مع أن تعليمات إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة تُلزِم الباحثين الاجتماعيين بإبلاغ الشرطة عندما يُفْقَد أحد الأطفال، فإن كثيرين منهم كانوا يتباطئون في الإقرار بأنهم قد فقدوا طفلًا كان في كَنَفهم. كان من الممكن في بعض الأحيان أن ينتظروا شهورًا — بل وصل التباطؤ في إحدى الحالات إلى سبع سنين — قبل إبلاغ الشرطة أن ثمة طفلًا مفقودًا. من المحتمل أن بعض الأطفال قد يكونون اختفَوْا دون حتى إبلاغ الشرطة. (لاحقًا، أوردت الصحف أن الباحثين الاجتماعيين في أحد مكاتب منطقة سنترال فلوريدا كان لديهم ملفات مُخْفاة في أحد الأسقف حتى لا يعرف أحد أن ثمة حالات لم يُتحرَّ عنها.)
ليس من المقبول أن يكون لدينا أطفال قد فروا في بعض الحالات لأكثر من سنة حسبما يُزْعَم، وأن يُعْثَر عليهم بواسطة صحيفة؛ إن هذا يدل بالفعل على أننا نحتاج إلى نهج جديد.
ثم اتخذت الأحداث منحًى مختلفًا.
قالت الوكالة إنها ما زالت غير قادرة على العثور على بعض الأطفال الذين أبلغت صحيفة «صن سنتينل» بأنها حددت أماكنهم. طلب مسئولو الإدارة من الصحيفة أن تُسلِّم كل ملفاتها عن الأطفال. كما قال الحاكم بوش: «يجب أن يكونوا شركاء في هذا لأنه إذا كان ثمة أطفال معرضون لخطر ما فإنه يقع عليهم واجب تقديم المعلومات. لقد طلبناها، وآمل أن يسلموها.»
شغلنا الشاغل مُنْصَبٌّ أيضًا على الأطفال. ومع ذلك، فإننا لن نسلم كل تحرياتنا وملفات مراسلينا لأي وكالة. بصفتنا صحيفة مستقلة، من الأهمية البالغة ألا نصبح فرع التحقيق التابع لأي وكالة، أو ألا يُنْظَر إلينا على أننا كذلك.
بدلًا من ذلك، قال إن الصحيفة من الممكن أن تساعد الوكالة على أساس كل حالة على حدة.
فيما بعد، تكشَّف المزيد من التفاصيل المُحْزِنة لتخبُّط إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة بشأن هذه المسألة؛ فالمرأة لم تكن الجدة من جهة الأب — كما كان موظفو الوكالة قد أشاروا — ولم تكن حتى تَمُتُّ بصلة قرابة للفتاة. أيضًا، أخفق التحري الذي أجرته الوكالة لمعرفة خلفية الجدة في اكتشاف أن حالتها قد شُخِّصَت بأنها اضطراب عقلي، وأنه كان لديها سجل جنائي طويل من التوقيفات على خلفية جرائم احتيال. ووقت كتابة هذه السطور، كانت في انتظار محاكمة بتهمة قتل الطفلة، ولم تعثر الشرطة على الجثة.
التوتر الثاني: ينبع من تحديد الدور الذي ينبغي أن تلعبه وسائل الإعلام الإخباري في إدارة الحكومة. ارتأى الحاكم بوش أن وسائل الإعلام ينبغي أن تكون ذراعًا للحكومة تساعدها على تحقيق أهدافها، وخاصةً إذا كان الأمر يتعلق بالأطفال. لكن إيرل موكير رئيس تحرير صحيفة «صن سنتينل» اعتقد أن وسائل الإعلام ينبغي أن تكون مستقلة عن الحكومة. وكما كانت رعاية الحكومة للأطفال الذين تحت وصايتها هي من صميم عملها، كان صميم عمل وسائل الإعلام هو مراقبة الحكومة.
(١) السرية الحكومية
-
أن الحكومة تسيطر على الكثير من مناحي الحياة؛ فبمقدورها أن تسلب الحريات، وتسجن الناس، وتنظم الأعمال التجارية، وتفرض الضرائب والتعريفات، بل أن ترسل المواطنين ليموتوا في ساحات القتال.
-
أن الحكومة تُدار بدولارات الضرائب، وعندما تهدر الحكومة الأموال، فإنها تهدر الأموال التي جمعتها من المواطنين. وعندما تعتمد برامج جديدة، فإن هذه البرامج يُنْفَق عليها بالأموال التي تأخذها من المواطنين من خلال الضرائب.
-
في أي نظام ديمقراطي، فإنه في مقدور المواطنين أن يُحدِثوا فارقًا، ويمكنهم التأثير على الحكومة عن طريق التصويت، وحضور جلسات الاستماع العلنية، والتعبير عن آرائهم. ولكن يتعين أولًا أن تنبههم وسائل الإعلام إلى ما يجري.
يفهم غالبية المسئولين المنتخَبين السبب في تفحص ومراقبة المراسلين للحكومة بتدقيق شديد، إلا أن كثيرين منهم لا يروق لهم الأمر عندما يُوَجَّه ذلك التفحص الدقيق نحوهم. في بعض الأحيان، يكون سبب ذلك هو تورطهم في مخالفات. ولكن في أغلب الأحيان، يكون السبب أنهم يريدون تجنب النقد والجدل اللاذعَيْن؛ فتقريبًا كل قراراتهم قد تغضب بعض المواطنين. قليل من الناس يروق لهم أمر زيادة ضرائبهم أو إغلاق مدارسهم المحلية. أحيانًا لا تئول أفضل خطط الوكالات الحكومية إلى ما كانت تأمل، ولديها برامج فاشلة ونفقات مهدرة، وعادةً تفضل هذه الوكالات التعاطي مع هذه الموضوعات بعيدًا عن أنظار الجمهور.
يشير الكثير من الصحفيين إلى التعديل الأول للدستور، ويعتقدون أنه يتطلب أن يمدهم المسئولون الحكوميون بالمعلومات التي يرغبون في الحصول عليها. غير أن المحاكم وفقهاء القانون لا يرون الأمر بهذا المنظور. بوجه عام، يتيح التعديل الأول للدستور لوسائل الإعلام الإخباري أن تنقل المعلومات الصادقة التي كشفتها، إلا أنه لا يمنحها بالضرورة أي حقوق استثنائية أثناء جمعها للمعلومات. ولحسن الحظ، أصدرت معظم الولايات والحكومة الفيدرالية قوانين تقضي بأن تكون الاجتماعات الحكومية علنية، وأن تكون السجلات العامة متاحة للجمهور.
(١-١) السجلات العامة
في مجتمع ديمقراطي، يجب أن يعرف المواطنون الحالة التي عليها أداء الحكومة إذا ما أُريد لهم الإدلاء بأصواتهم بطريقة واعية. السجلات العامة هي إحدى الوسائل التي يمكنهم بها متابعة أعمال الحكومة. واللفظة نفسها؛ «السجلات العامة»، توحي بأنها متاحة للجمهور.
اطلب وثائق عامة في ولاية إلينوي وستنال أسئلة عدوانية ومعوقات بيروقراطية، بل تهديدات من مفوض أمن أو اثنين. ما لن تناله — في معظم الحالات — هو المعلومات التي أردت الحصول عليها.
عندما طلب مراسل في ولاية آيوا الحصول على وثائق عامة، أرسل مفوض أمن نشرة إلى هيئات إنفاذ القانون محذرًا إياها من المراسل المزعج. تضمنت النشرة اسمه وعنوانه ورقم رخصة القيادة الخاصة به.
وحتى السجلات الأساسية حُجِبَت. عندما طلب مراسل يعمل بمقاطعة فوند دو لاك، بولاية ويسكونسن، أن يطَّلِع على سجل توقيف، قيل له: «إذا ما جرى توقيفك، فلن تود أن يُنْشَر اسمُك، أليس كذلك؟» في تكساس، حُرِم مراسل من الحصول على معلومات عن مفوض أمن أقر بارتكابه جريمة امتلاك ما يزيد على طن من الكوكايين في مقطورة الخيول الخاصة به. قال المسئولون للمراسل إن الكشف عن المعلومات من شأنه أن ينتهك خصوصية مفوض الأمن.
-
فرضت صحيفة «مارين كوربس تايمز» سحب أكثر من ٥٠٠٠ سترة واقية من الرصاص اشتُرِيَت لاستخدامها في العراق رغم فشلها في اختبارات الفاعلية.
-
فحص مراسلو صحيفة «ذا سياتل بوست إنتلجينسر» — مستخدمي ١٠ آلاف صفحة من السجلات — مئات الإعفاءات من قانون الأنواع المهددة بالانقراض، والتي تجيز للمقاولين وأصحاب المناجم وآخرين قتل مخلوقاتٍ مشرفةً على الانقراض أو الإضرار بها أو إصابتها.
-
علمت وكالة «أسوشيتد برس» أن وزارة التعليم بالولايات المتحدة قد أنفقت ٩٫٤ ملايين دولار على العلاقات العامة في السنوات القليلة الماضية.7
-
دعمت صحف آيوا بالوثائق استخدام الولاية أموالًا من وكالة الأمن القومي الفيدرالية لرفع درجة الأمن في أشياء مثل متحف لطواحين الهواء، ولكن ليس لمحاكم المقاطعة ومبانٍ عامةٍ أخرى.
-
في جميع أنحاء البلاد، يحمل بعض المراسلين عادة نماذج طلب سجلات عامة، ونسخًا من قوانين السجلات العامة الخاصة بولايتهم.
-
تورد بعض الصحف كل الجهود التي يبذلها المسئولون لإخفاء السجلات العامة، وتبين للقراء الأسباب التي من أجلها يُعد الوصول إلى تلك السجلات أمرًا مهمًّا.
-
عندما كانت قوانين ولاية فلوريدا الخاصة بالسجلات العامة تحت الفحص، أقامت صحف عديدة في فلوريدا احتفالات «يوم الأحد المشمس»، ووضعت شعارًا خاصًّا على كل خبر استخدم معلومات مستقاة من السجلات العامة. وفوجئ الكثير من القراء — وحتى بعض الصحفيين — بأن أغلب الموضوعات في أقسام الأخبار حمل ذلك الشعار.
-
أجرت صحيفة «بيتسبرج بوست جازيت» دراسة على مدًى عامٍّ عن قوانين السجلات العامة والاجتماعات العلنية في ولاية بنسيلفانيا، وأوردت المشكلات التي تعرض لها سكان تلك الولاية جراء التعامل مع حكومتهم.
في ولاية بنسيلفانيا، اكتشفت صحيفة «بوست جازيت» أنه حتى عندما يفوز المواطنون بأوامر قضائية للحصول على سجلات عامة، أحيانًا ما يتعامل المسئولون مع الأمر بتباطؤ شديد. قُدِّم طلب بالحصول على معلومات عامة في إطار جهود لاكتشاف السبب في أن إحدى المدارس المحلية كانت ستتكلف مصروفات تعادل ضعف ما تتكلفه المدارس المماثلة في المنطقة. أحجم المسئولون عن إصدار المواصفات، إلى أن حكمت المحكمة بأنه يجب الإفراج عن السجلات، وبحلول الوقت الذي أصبحت فيه الوثائق متاحة للعامة، كانت الإنشاءات في المدرسة قد بدأت بالفعل.
(١-٢) الاجتماعات العلنية
إحدى الصور النمطية السائدة عن المراسلين هي تلك التي يكونون فيها جالسين في الاجتماعات الحكومية والمحاكمات يدوِّنون ملاحظات سريعة سيستخدمونها في موضوعاتهم الإخبارية. إلا أن الكثير من مجالس المدن ومجالس إدارات المدارس يبذلون كل ما في وسعهم ليبعدوا المراسلين عن اجتماعاتهم. وفي بعض الأحيان، يرغب الساسة في السرية لإخفاء مخالفات. في مدينة بينساكولا، بولاية فلوريدا، أقام مفوضو المقاطعة اجتماعات سرية لترتيب صفقات أراضٍ عادت بالنفع على أصدقائهم والمساهمين في حملاتهم الانتخابية.
ومع ذلك، في معظم الأحيان، يريد القادة السياسيون لاجتماعاتهم أن تكون مغلقة لأسباب أقل انحرافًا؛ فهم يريدون أن يلتقوا في سرية كي يمكنهم تجنب الانفعال الذي يصحب بعض قراراتهم. وعادة ما يعقدون اجتماعات غير رسمية يتباحثون فيها حول المسائل ويصوِّتون. ثم يمضون في الاجتماع الرسمي في الإجراءات الشكلية الرسمية المتعلقة بإجراءات تمرير القرارات بالإجماع دون مناقشة ولا خلاف. ليس مسموحًا للجمهور أن يستمع إلى الجدال الدائر بين مسئوليه المنتخبين.
(١-٣) تلاعب الحكومة بالرأي العام
مع ازدياد الحكومات حجمًا وتعقيدًا أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، أدرك قادة الحكومة أنهم بحاجة للتواصل على نحو أكثر فعالية مع المواطنين. كانت المؤسسات التجارية الأمريكية قد أدركت هذا بالفعل، ولجأت طلبًا للمساعدة إلى فئة جديدة من المتخصصين؛ خبير العلاقات العامة. سرعان ما حَذَت الحكومة حَذْوها، بضمها عشرات، ثم مئات، وأخيرًا آلافًا من هذه النوعية من المتخصصين إلى كشوف الرواتب العام.
في الوقت الحاضر، لا توجد مؤسسة كبرى — في كل من القطاعين العام والخاص — لا تمتلك خبيرًا في العلاقات العامة. ومن أكبر اللجان الفيدرالية إلى منظومة المدارس المحلية، يلعب خبراء العلاقات العامة دورًا جوهريًّا، ولطالما أثبتت خبرتهم جدواها. بدأت الهيئات الحكومية تجد طرقًا أفضل لتجميع وإعداد حزم المعلومات التي احتاجها الجمهور، وكثيرًا ما يطلب المراسلون من مسئولي المعلومات العامة هؤلاء أن يساعدوهم في إيجاد الحقائق داخل متاهات البيروقراطية. ولكن في بعض الأحيان، تُستخدم خبرتهم في التلاعب بالمعلومات؛ فصناعة المظهر والتلاعب بالرأي العام هما أداتان من أدوات استراتيجية الحكومة.
كان الشعب الأمريكي وغالبية الصحفيين الأمريكيين أبطأ في اللحاق بهذا التطور. في عام ١٩٦٠م في خضم الحرب الباردة، اتهم الاتحاد السوفييتي الولايات المتحدة بالتحليق بطائرات تجسس متطورة فوق موسكو وأراضٍ سوفييتية أخرى. أنكر الرئيس أيزنهاور الأمر، واعتقد الشعب الأمريكي — وكثيرون من العاملين في الصحافة — أن التهمة لم تكن إلا كذبة سوفييتية أخرى، ثم أعلن السوفييت أن طائرات تجسس أمريكية قد تحطمت في عمق الحدود الروسية. أجاب قادة الحكومة الأمريكية بالإنكار إلى حد إنكارهم امتلاك طائرات تجسس أصلًا، وقالوا إنه إن كانت طائرة أمريكية قد تحطمت في روسيا، فإنها كانت في مَهمة تدريبية، وقد تكون قد دخلت المجال الجوي السوفييتي عن طريق الخطأ. اعتقد الأمريكيون عمومًا بأن ذلك ما حدث، ثم أبرز السوفييت عميل وكالة الاستخبارات المركزية فرانسيس جاري باورز، الذي اعترف أنه كان يقود طائرة التجسس يو-٢ التي تحطمت داخل عمق روسيا. فُضحت كذبة أيزنهاور، والغريب في الأمر، ربما بنفس قدر غرابته اليوم، أن الأمريكيين صُعِقوا من أن الحكومة يمكن أن تخدعَهم.
على المستوى الوطني، عادة ما يبرر المسئولون الخداع والكتمان باسم الأمن القومي. قال هاوراد سايمونز — مدير تحرير صحيفة «ذا واشنطن بوست» السابق — سرعة المسئولين الحكوميين في جعل الوثائق سرية كانت فائقة حتى إنه ذُهل من أن المسئولين الحكوميين «يستطيعون أن يتذكروا ما هو سري وما ليس سريًّا.»
(٢) السرية في الحرب
أثناء الحرب العالمية الثانية، عادة ما كان يرتدي الصحفيون الأمريكيون الملابس العسكرية، وحصل كثيرون منهم على رتبة نقيب الفخرية، وركبوا مجانًا طائرات عسكرية، وجالوا جبهات القتال بلا هوادة. وكثيرًا ما كان القادة العسكريون يُطلعونهم مسبقًا على تحركات القوات العسكرية والاستراتيجيات العامة. ومن نواحٍ عدة، كانوا جزءًا من المؤسسة العسكرية، وكانت موضوعاتهم الصحفية تخضع لموافقة السلطات العسكرية.
رغم الرقابة أثناء الحرب العالمية الثانية، «أمدت مؤسسات الأمة الإخبارية في آخر الأمر الجمهورَ الأمريكي بتغطية شاملة للحرب.» حسبما خَلُص فرانك أوكوفير وويليام لورانس في دراسة حول العلاقات بين المؤسسة العسكرية والإعلام.
كانت العلاقات بين المراسلين والقادة العسكريين أكثر ودًّا في بداية حرب فيتنام، إلا أنها توترت ببطء مع انغماس العسكرية الأمريكية أكثر فأكثر في مستنقع الهند الصينية. لم يكن سبب الصدع بين الإعلام الإخباري والعسكريين إفشاء المراسلين لأسرار عسكرية. في واقع الأمر، لم يُبلَّغ أثناء حرب فيتنام عن أي حالات لكشف الإعلام الإخباري عن خطط عسكرية أو تحركات للقوات.
منذ حرب فيتنام، حاول العسكريون السيطرة على تدفق المعلومات. في أكتوبر عام ١٩٨٣م، شرعت الولايات المتحدة في غزو مفاجئ لجزيرة جرينادا في منطقة الكاريبي. وخلال ساعات من إعلان الغزو، كان أكثر من ٤٠٠ صحفي أمريكي قد طاروا إلى باربادوس، نحو ١٦٠ ميلًا شمالي شرق جرينادا؛ إلا أن رحلة الكثيرين منهم انتهت هناك. وللمرة الأولى منذ الحرب الأهلية، رفضت الحكومة منح الصحفيين تصريحًا بالدخول إلى خط المواجهة. استأجر بعض المراسلين والمصورين قوارب أو طائرات، وحاولوا الوصول إلى جرينادا بأنفسهم. أُعيد على الأقل قاربان وطائرة أدراجهم من قِبَل السفن الحربية والطائرات الأمريكية.
بعد يومين من الغزو، وافقت السلطات العسكرية على إرسال حشد إعلامي من ١٥ صحفيًّا جوًّا إلى جرينادا، إلا أن الحشد الإعلامي تعرض لمعوقات في العودة إلى باربادوس. أرسلت الطواقم الإخبارية التليفزيونية تقارير مصورة سينمائيًّا إلى شبكاتها، إلا أن الأفلام لم ترجع إلى الولايات المتحدة في وقت مناسب حتى تُعْرَض في نشرات الأخبار المسائية. في المقابل، أمكن لأفلام التقطتها طواقم تصوير عسكرية أن تصل عائدةً في الوقت المناسب. دفع هذا صحيفة «ذا واشنطن بوست» إلى أن تصف الغزو بأنه «الحرب الرسمية الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، من إنتاج وتصوير ونقل البنتاجون بمباركة من الرئيس.»
بحلول الوقت الذي سُمِح فيه للصحفيين بالسفر إلى الجزيرة، صار واضحًا أن الرئيس والبنتاجون كانا قد أصدرا الكثير من المعلومات الخاطئة. من أجل أن يجعل الهجوم يبدو مبررًا بقدر أكبر، أورد البنتاجون خبرًا بأنه كان يوجد هناك أكثر من ١١٠٠ كوبي، وكلهم كانوا «جنودًا محترفين مدربين تدريبًا جيدًا.» كان هؤلاء الكوبيون — حسبما يُزْعَم — يخططون للاستحواذ العسكري على الجزيرة، إلا أن وزارة الخارجية أكدت لاحقًا أن نحو ١٠٠ فقط من الكوبيين كانوا جنودًا، أما الباقون فكانوا عمالًا يبنون مطارًا.
في التغطية الصحفية المشتركة، يغطي صحفيو الحشد الإعلامي الخبر لصالح الهيئات الصحفية بأكملها عن طريق مشاركتها تقاريره وصوره. يستحسن قليل جدًّا من المؤسسات الإخبارية التغطيات الصحفية أو الإعلامية المشتركة، حيث تفضل المؤسسات الإخبارية أن يكون لها مراسلوها ومصوروها الموجودون أثناء العمليات العسكرية. على الرغم من ذلك، يتفق أغلبها على أن التغطية الإعلامية المشتركة هي أفضل من ألا يكون ثمة تغطية على الإطلاق.
(٢-١) التغطيات الإعلامية المشتركة تتحول إلى أداة
لسوء حظ الصحفيين والجمهور كذلك، لم تكن التغطيات الإعلامية المشتركة تتسم بالفعالية الكافية بعد العملية الليبية. عندما اجتاحت القوات الأمريكية بنما في أواخر عام ١٩٨٩م، نقل البنتاجون حشدًا إعلاميًّا من المراسلين والمصورين الفوتوغرافيين جوًّا إلى بنما، إلا أنه مُنِع من الاقتراب بأي شكل من العمل العسكري. قالت السلطات العسكرية إنه كان لزامًا عليها حماية الصحفيين. وبدلًا من تغطية الغزو الذي كانت تقوم به القوات الأمريكية، احْتُجِز صحفيو الحشد الإعلامي في حجرات بلا نوافذ في المطار. وما إن انتهى القتال، حتى اقتادهم موجهوهم العسكريون في جولات في المخابئ المتعددة للديكتاتور المخلوع مانويل نورييجا، وعُرض عليهم كوكايين وأسلحة نارية ومجلات نسائية وبورتريه لهتلر، وهي الأشياء التي وُجِدت في مخابئ نورييجا.
أُسيئ على نحو مماثل استخدام النقل المشترك للأخبار على يد المؤسسة العسكرية في حرب الخليج العربي عام ١٩٩١م. ستانلي دبليو كلاود — مدير مكتب مجلة «تايم» في واشنطن في ذلك الوقت ومراسل سابق في حرب فيتنام — وصف تلك الحرب بأنها «الصراع الأمريكي الكبير الأسوأ تغطية في هذا القرن.»
(٢-٢) إدماج المراسلين في القوات
أُعْطي الجمهور نصًّا أعده البنتاجون بعناية شديدة، وكونوا رؤية مِجهرية من الواقع الذي يراه الفرد في القوات، لكنهم لم يكوِّنوا النظرة الشاملة التي كان ينبغي أن يكوِّنوها لما يعنيه كل هذا.
اتسمت الأيام الأولى من التغطية الإعلامية للقتال في أفغانستان والعراق بالدعوات التي تهدف إلى إثارة المشاعر الوطنية على نطاق واسع؛ فحسبما أوردت صحيفة «ذا واشنطن بوست»، فرض المديرون التنفيذيون بشبكة «سي إن إن» على كل التقارير المتعلقة بالخسائر البشرية من المدنيين في الحرب الأفغانية أن تورد ذكر الهجوم على مركز التجارة العالمي. وأثناء أول أسبوعين من غزو العراق، ثلاثة من كل أربعة مصادر نقلت عنها الشبكات الإخبارية كانوا مسئولين أمريكيين إما حاليين أو سابقين. فكان التركيز على نجاحات العسكرية الأمريكية. وأفادت التقارير على نطاق واسع أن زوايا الكاميرا التي كانت تعرض إسقاط تمثال كبير لصدام حسين في بغداد أعطت انطباعًا مبالغًا فيه عن عدد العراقيين الذين كانوا في الساحة.
لم يلتقط مصورو الأخبار المحترفون بعضًا من الصور المحورية للحرب، ونظرًا لأن العسكرية الحديثة تستخدم بكثافة أجهزة الكمبيوتر وتكنولوجيا الأقمار الصناعية، كان في مقدور الجنود استخدام الإنترنت لإرسال أفكارهم وصورهم للوطن. وساهم بعضهم في مدونات أبرزت مواطن الضعف في استعداد الأمريكيين للحرب (على سبيل المثال، لم يكن ثمة دروع كافية على سيارات الهامفي، وعدد السترات الواقية من الشظايا كان محدودًا للغاية). وأورد آخرون أخبارًا تتناول نجاحات القوات البرية الأمريكية. حاولت السلطات العسكرية الحد من نوعية التقارير التي تُنشَر على هذه المدونات، وعاقبت البعض على إرسالهم إلى الولايات المتحدة صورًا ملتقطة بهواتف خلوية للمصابين والقتلى العراقيين والأمريكيين. التقط الجنود — ربما دون قصد — بعضًا من أكثر صور الحرب أهميةً. هذه الصور أظهرت المعاملة غير الآدمية للسجناء في سجن أبو غريب، وبدأ جدل دولي حول دور القوات الأمريكية في العراق.
(٣) العمل مع الشرطة
العلاقة بين المراسلين والشرطة علاقة معقدة؛ فعادةً ما يحتاج مراسلو أخبار الشرطة الكثير من المعلومات المفصلة على وجه السرعة، ورجال الشرطة هم أفضل مصادرهم، وفي بعض الأحيان يكونون مصدرهم الوحيد. ولإنجاح العلاقة، يؤمن بعض الصحفيين بأن بعض التعاون بين رجال الشرطة والمراسلين أمر مستحسن. أشار روبرت جرين — مدير تحرير متقاعد لصحيفة «نيوزداي» — أن: «كل رجال الشرطة مُكَلَّفون بإعطاء مراسل أخبار الشرطة كل التفاصيل المبدئية الأساسية الواردة في تقرير دفتر الأحوال، إلا أنهم يعطونه أكثر من ذلك، كالكثير من المعلومات عن خلفية الوقائع؛ فهم يقدمون تلك المعلومات من تلقاء أنفسهم.» وللحفاظ على استمرار تدفق المعلومات، يلزم مراسل أخبار الشرطة أن يحرص على رضاهم الدائم. المعضلة الأخلاقية تتعلق بالقدر المقبول للتعاون بين مؤسسات الإعلام الإخباري وهيئات إنفاذ القانون.
في وقت ما، لاقى المراسلون بعض المشكلات في الحصول على ما كانوا يحتاجون إليه. غالبًا ما كان لرجال الشرطة والمراسلين خلفيات متشابهة، ونشئوا في نفس الأحياء، وحصلوا على أجور متماثلة، بل إنهم أصبحوا رفاقًا للشرب في نفس الحانات. عادة ما تجول المراسلون بحرية عبر ردهات مراكز الشرطة يتحدثون إلى ضباط الدورية ورجال التحرِّي، وزود كثيرون منهم سياراتهم بأجهزة لاسلكية تلتقط ترددات الشرطة، وتجولوا حول مواقع الجرائم كما لو كانوا ضباطًا.
إن كان كل ما يريد المراسل هو أن يكون صديقًا للقائمين على إنفاذ القانون من أجل تيسير وصوله إلى معلومات وتصريحات لأجل الموضوعات الصحفية، فمن المرجح أنه سيغفل عن بعض القضايا الاجتماعية بالغة الضرر التي تتوارى بخفة خلف الطبقة الخارجية التقليدية لأخبار «الجريمة والعقاب» المغلَّفة بصحائف السوابق.
وعلى نفس المنوال، يحض أحد قادة الشرطة الضباط الآخرين على أن يدركوا أن «التدقيق الإعلامي يساعدنا جميعًا عن طريق التأكد من بقاء الهيئات المنوط بها إنفاذ القانون على الجانب الصحيح من القانون.»
لدى أغلب المديريات الآن موظفون مختصون بشئون الإعلام، وهم من يتعاملون مع وسائل الإعلام، وبجعل كل المعلومات تمر من خلال هؤلاء الموظفين، تعفي المديريات الضباط من التعامل مع المراسلين، وتتأكد من سيطرتها على الرسائل التي تُرسَل إلى العامة. على الجانب الآخر، يشكو المراسلون من أنه عندما تطرأ أخبار، لا يكون الموظفون المختصون بشئون الإعلام دائمًا موجودين، وعندما ينجح المراسلون في اقتفاء أثرهم والوصول إليهم، يكون لديهم القليل مما يعرفونه عن الموقف. وغالبًا ما يتسم ضباط الشرطة القدامى بنفس البطء في الرد على مكالمات موظفي شئون الإعلام كما هو حالهم مع مكالمات المراسلين.
في بعض الأحيان يدعو انعدام المعلومات المراسلين إلى البحث عن طرق مبتكرة للحصول على المعلومات. قال روي بيتر كلارك — من كبار الباحثين في معهد بوينتر — إنه يعتقد أن السلوك السيئ من مراسلي أخبار الشرطة «يكون ناتجًا في بعض الأحيان عن تعذر الحصول على المعلومات من المصادر الرسمية.» وإدراكًا منها لحاجة الإعلام إلى معلومات عاجلة وسليمة، تخفف بعض مديريات الشرطة من القواعد؛ ففي مدينة بالتيمور، يمكن لقادة التحقيق وضباط الضبطية في الوقت الحالي التحدث مباشرة إلى المراسلين.
(٣-١) ما مدى التقارب الذي يمكن أن يكون عليه المراسلون ورجال الشرطة؟
المعضلة الأخلاقية للمراسلين هي الموازنة بين الحاجة إلى إقامة علاقات، والتعاون مع جهات إنفاذ القانون، والحفاظ مع ذلك على استقلاليتهم. بعض الصحفيين يتخذون موقفًا متشددًا أساسه عدم التعاون. ويؤمنون بأن أي تعاون يتسبب في عدم وضوح الحد الفاصل بين الشرطة والصحفيين.
وحتى مساعدة الشرطة بأشياء تبدو ظاهريًّا بسيطة يمكن أن يخلق جدلًا في الكثير من الدوائر الصحفية. تلقى ماثيو وايت — الذي كان آنذاك مراسلًا شابًّا في صحيفة مدينة ليتل روك «أركنساس ديمقراط جازيت» — معلومة مفادها أن وحدة المخدرات كانت تخطط لحملة أمنية واسعة النطاق على الكوكايين؛ فرتَّب وايت لمرافقة فرق الاقتحام الشرطية وهم يقتحمون أوكار الكوكايين في مقدمة الضباط الآخرين. لقد وصف التجربة قائلًا: «متعة كبيرة. مطاردات سريعة، ومواقف اسْتُخْدِمَت فيها القوة الفتاكة، ومواقف مقاومة السلطات عند الاعتقال، كل ذلك كان على بعد أقدام من ناظرَي.»
كانت الحملات ناجحة جدًّا لدرجة أن رجال الشرطة جمعوا عددًا من المشتبه فيهم أكثر مما يستطيعون التعامل معه؛ فطلبوا من وايت أن يساعدهم بأن يقوم بتحريك شاحنة، ووافق؛ «ربما لأن والديَّ ربياني على أن أكون دومًا متعاونًا.» عندما عاد إلى غرفة الأخبار التابع لها، لم يكن محرروه راضين. قال موضحًا: «لم يكن رؤسائي يعارضون تعاوني، ولكنهم كانوا قلقين بشأن تخطي الحد بين كون المرء مراقبًا ومشاركًا وبشأن أمور تتعلق بالمسئولية القانونية.» لقد أخبروه ألا يفعل ذلك مرة أخرى، وإلا سيعرِّض نفسه لتوبيخ رسمي.
كان مراسلو أخبار قطاع دوريات الشرطة منقسمين حول النواحي الأخلاقية لتصرفه: رأى روبرت شورت — مراسل أخبار الشرطة في صحيفة «ويتشيتا إيجل» — أن وايت كان يتصرف مثلما من شأن أي مواطن أن يفعل.
إذا احتاج الشرطي منك أن تتصل برقم خدمة النجدة العاجلة ٩١١ أو أن تناوله بندقية الخرطوش الخاصة به لينقذ حياة شخص ما أو يدافع عنه، هل ستفعل ذلك؟ بالطبع ستفعل.
ما الذي يحدث عندما تخطو مبتعدًا عن قواعدك، وتعلق في المنتصف، ثم فجأة تحاول أن تصير مراسلًا ثانيةً؟ لا يمكن في الحقيقة أن تتأرجح جيئة وذهابًا دون أن تتسبب في مشاعر أكثر سوءًا.
اعتقد كثيرون أن مصورًا فوتوغرافيًّا في مدينة ناكوجدوشس، بولاية تكساس، تجاوز الخط الفاصل. كان رجل قد قتل شخصين وكان يمنع الشرطة من التقدم ببندقية خرطوش حينما وصل مصور فوتوغرافي من صحيفة «ديلي سنتينل» المحلية. قال الرجل المهووس للشرطة إنه يريد أن يتحدث إلى مراسل. وهكذا، ناول المصور الكاميرا الخاصة به ومفكرة مراسل لشرطي. تظاهر الشرطي بأنه صحفي، واقترب من الرجل وتحفظ عليه. كانت المحصلة الفورية هي ما أراده الجميع: القبض على الشرير.
ومع ذلك، أزعجت العواقب الأطول أمدًا الكثيرين في الوسط الصحفي. قالت آن كوبر — مديرة لجنة حماية الصحفيين — لمجلة «ذا نيوز ميديا آند ذا لو»: «تعرض تصرفات كهذه الاستقلالية التي يستشعرها كل الصحفيين للخطر، وتزيد من المخاطر التي يجابهونها يوميًّا في تغطيتهم لقصص خبرية خطرة.» وكتب مصور فوتوغرافي عن مجموعة نقاشية تابعة لموقع «بوينتر»: «لقد تعرضتُ للضرب على يد متظاهرين يعتقدون أن أوراق هويتي مزيفة. الآن من المحتمل أن أواجه شخصًا ما يحمل بندقية خرطوش ويقرر أنني قد لا أكون إعلاميًّا «حقيقيًّا».» وشعر أيضًا بقلق من أنه إذا كان يُنْظَر إلى الصحفيين على أنهم تابعون لسلطات إنفاذ القانون؛ «فقد تتراجع مصداقية الصحفيين.»
(٣-٢) حجب الأخبار، نقل الأكاذيب
تقدمت الشرطة في مدينة هاتيسبرج، بولاية مسيسيبي، بطلب غير معتاد إلى الصحيفة والمحطة التليفزيونية المحليتين؛ ففي سبيل تعقب الأشخاص الذين كانوا يحاولون استئجار قاتل مأجور لقتل رجل أعمال محلي، خططت الشرطة لتهيئة اكتشاف جثة رجل الأعمال المضرجة بالدماء في سيارة مركونة على طريق ريفي. أرادت الشرطة من وسائل الإعلام مجاراة الخدعة ونقل الخبر كما لو كان حقيقيًّا، وأمَّلت في القبض على القتلة المحترفين المحتملين عندما يحاولون تقاضي أجرتهم.
لم يُرِد فرانك سذرلاند — الذي كان مدير تحرير صحيفة «هاتيسبرج أمريكان» ورئيس جمعية الصحفيين المحترفين في ذلك الوقت — أن يعترض سبيل سلطات إنفاذ القانون. إلا أنه لم يُرِد التواطؤ معها؛ فطبعت صحيفته جملة واحدة: «الشرطة تسعى لإيجاد معلومات بشأن عمل إجرامي مشتبه في ارتكابه ضد أوسكار بلاك الثالث.» في المقابل، عرضت المحطة التليفزيونية صورًا مزيفة للمشهد الدموي، وأوردت أن بلاك من المحتمل أن يكون قد قُتِل.
(٣-٣) المساومة للحصول على معلومات
عادة ما تؤدي المطالبة بحجب معلومات إلى «شكل من أشكال المساومة التي هي عبارة عن لعبة يومية بين رجال الشرطة ومراسلي أخبار المحاكم»، حسبما كتبت كيلي ماكبرايد، وهي مراسلة مخضرمة لأخبار الشرطة، وتعكف حاليًّا على الإجابة عن المسائل الأخلاقية في معهد بوينتر. وكتبَت أن الأمر يحدث في كل من إدارات الشرطة الكبيرة والصغيرة: «يحدث الأمر بشأن أخبار صغيرة كحوادث السطو المتكررة على السيارات وكبيرة كأخبار القتلة المتسلسلين.»
-
بادئ ذي بدء استدل على المصدر الذي جاءت منه المعلومات؛ فأي شيء يمكن إيجاده في سجل عام، أو أي شيء يُكشف عنه طواعية بواسطة شاهد أو لوحظ مباشرة بواسطة صحفي ينبغي أن يُعتَبَر لقمةً سائغةً؛ فالحجة لصالح الحجب يلزم أن تكون قوية جدًّا.
-
ينبغي أن يدرك المحامون وضباط الشرطة عدم جدوى محاولة تحديد أن معلومة ما ليست للنشر بعد الإدلاء بها.
-
عندما يطلب منك شرطي أو محامٍ أو مسئول بالمحكمة أن تحتفظ بمعلومات، اسأل عن السبب. إذا لم يكن باستطاعته أن يعطيك مبررًا جيدًا، فلتنشر المعلومات.
-
في الحالات التي يكون لدى المحققين فيها طلب وجيه، لا توافق على حجب المعلومات دون تحديد. اسأل: في أي وقت سيكون مقبولًا نشر هذا؟ اتفق مبدئيًّا على فترة زمنية قصيرة، فلتقل مثلًا ٢٤–٤٨ ساعة أو ربما أسبوع، ثم أعد النظر في قرارك.
-
اجعل خدمتك للجمهور هي دليلك. لا تحجب معلومات سيؤدي حجبها إلى تضليل العامة أو إلى ترك انطباع زائف لديهم. بدلًا من ذلك، اتفق على الاحتفاظ بالمعلومات إذا كنت تعتقد أن هذا الفعل يخدم الصالح العام، ولكن عليك أن تدرك أنه في معظم الأحيان يخدم الكشف عن المعلومات ذلك الصالح العام بنفس القدر الذي يفعله إخفاؤها.50
(٤) سيناريوهات للمناقشة
هذه السيناريوهات تعتمد على خبرات المراسلين والمحررين، ولقد عُدِّلَت من أجل المساحة والتأثير. في غالبية هذه المواقف، سيلتمس المراسل المشورة من محررٍ؛ وسيكون من شأن المحررين أن يتخذوا القرار النهائي. بَيْد أن المُدخَلات الرئيسية ستأتي من المراسل، والمحررون الجيدون سيستمعون مليًّا للمراسلين قبل اتخاذ قرار. في بعض الحالات، سترى ملاحظة تشير إلى أنه يمكنك أن تُراجع لترى ما فعله المحررون الحقيقيون. ذلك لا يعني أنهم فعلوا الصواب، ولكن يمكنك مقارنة أفكارك بأفكارهم.
(٤-١) سيناريو الرقابة الحكومية الأول: أبناء يموتون جراء تعاطي أدوية
شقيقان — في الخامسة عشرة والعاشرة من عمريهما — ماتا في غضون أيام تفصل بينهما جراء جرعات زائدة من أدوية مُعطاة للأم حسب وصفة طبية، ووُجِدَت أدوية أخرى في جسديهما.
بعد ذلك ببضعة شهور، تُقرِّر متابعةَ تقرير إخباري عن إساءة استخدام الأطفال الصغار للأدوية المعطاة حسب وصفات طبية. من ناحية أخرى، أخبرك مسئولون مدرسيون ومعلمون وحتى ضباط مكافحة المخدرات أن الأمر لا يمثل مشكلة كبرى بين الأحداث على المستوى المحلي. قال زملاء الفتاة الأكبر في الصف إنها كانت تكره المخدرات بسبب ما كانت قد فعلته لأمها، وأنهم صُدِموا من أنها ماتت بسبب جرعة زائدة. أظهر فحص السجل الجنائي أن الأم كان قد قُبض عليها مرتين لإحرازها الكوكايين الصخري (الكراك). يعتقد الجيران أنها مرت بتجربة إعادة تأهيل مدمني المخدرات بأمر المحكمة قبل بضعة أعوام، إلا أن الأمر لم يجدِ نفعًا. وأخبروك أيضًا أن الأم تركت الأطفال وحيدين بالبيت بينما خرجت تلهو. كان لدى هيئة رعاية الأطفال التابعة للولاية خمس شكاوى ضد الأم، وفي إحدى المرات عندما اسْتُدعي المسعفون إلى المنزل بسبب الإبلاغ عن تعاطي أحد الأولاد جرعة زائدة، رفضت تلقي العلاج الطبي.
قررتَ أن تخبر المحققين بما علمتَ، وهذا بالطبع لم يكن شيئًا جديدًا بالنسبة إليهم. ورغم ذلك طلبوا منك ألا تكتب التقرير الصحفي. وبصورة غير رسمية، قالوا لك إنهم يعتقدون أن الأم تعرف أكثر بكثيرٍ بشأن الوفيات؛ فقد كانوا يأملون أنه بالحفاظ على سرية تحقيقهم، قد تُفرِط في الثقة وترتكب خطأً يمكن أن يزودهم بدليل كافٍ للقبض عليها، وربما القبض على مورد لمنشِّط الميثامفيتامين وللأدوية المعطاة حسب وصفات طبية. ولرغبتك في ألا تعيق تحقيقهم، تقرر أن تمتثل لطلبهم.
كان ذلك منذ ثمانية شهور. تعود اليوم — بعد مضي أربعة شهور وبعد نحو عام على الوفيات — وتحظى بنفس الموضوع الصحفي. سيكتفي المُدَّعي العام بالقول إن القضية «معقدة».
هل تكتب الموضوع الصحفي على أي حال؟ هل تُعطي كل التفاصيل عن المشكلات بالبيت وتاريخ الأم المتعلق بتعاطي المخدرات والتهم المتعلقة بالمخدرات؟ هل تُدرِج تعليقات القائمين على إنفاذ القانون حول التحقيق الجاري والقضية «المعقدة»؟ (قرارات الصحيفة تجدها في نهاية الكتاب.)
(٤-٢) سيناريو الرقابة الحكومية الثاني: التحدث إلى عمدة المدينة
لقد حصلتَ على مَهمتك الأولى كمراسل صحفي، ولمدة شهر، كنتَ تغطي الأخبار المتعلقة بمجلس المدينة، وفي أحد الأيام عندما ترجع إلى العمل، يريد مدير التحرير أن يراك؛ لأن عمدة المدينة اتصلت لتشتكي؛ فقد كتبتَ موضوعًا صحفيًّا في الصحيفة الصباحية، وهي تدَّعي أنك أسأت في الاقتباس منها، وأخطأت في فهم بعض الوقائع الأخرى، بل هي حتى سجلت سرًّا المقابلة الصحفية، ويمكنها إثبات أخطائك. فتُراجِع ملاحظاتك، وتقرر أنك ارتكبت بالفعل بعض الأخطاء، وتنشر الصحيفة تصحيحًا.
بعد بضعة أيام، تتصل بالعمدة لإجراء مقابلة أخرى معها؛ فتقول لك إنها لن تتحدث إليك إلا إذا سمحت لها بقراءة التقرير الصحفي قبل أن ينتقل إلى الصحيفة، وتقول إنها لا تثق بك، وتشير إلى أن من يقرءون التصحيحات ليسوا بكثرة أولئك الذين يقرءون التقارير الصحفية التي تُنشر في الصفحة الأولى. أخبرتك أنه لا بأس في حضورك المؤتمرات الصحفية، ولكن قبل أن تمنحك مقابلة منفردة، عليك أن توافق على شروطها.
ماذا تفعل؟
(٤-٣) سيناريو الرقابة الحكومية الثالث: خبير الدفاع عن النفس
لدى شرطة المدينة موظف خدمة عامة عمل جنديًّا سابقًا في مشاة البحرية، وحائز على حزام أسود في الفنون القتالية. تتضمن واجباته إعطاء دروس في الدفاع عن النفس والتحدث إلى مجموعات الحي عن منع الجريمة. وبينما هو في مطار لندن عائدًا من إجازة يستشعر أن شخصًا ما يسحب حافظة نقوده من جيب بنطاله الخلفي؛ فيدور ويُمسك بيد لصة شابة؛ فتضربه المرأة، ذات الخمس الأقدام والأربع البوصات طولًا، بركبتها بين فخذيه، وتُسقطه على الأرض بحركة كاراتيه، وتركله في وجهه قبل أن تلوذ بالفرار. تُقدم له الشرطة الإسعافات الأولية، ويتمكن من اللحاق بطائرته العائدة إلى موطنه، ولا تزال الكدمات به بعد عودته إلى عمله.
أنت مراسل وتسمع بالشائعة؛ فتتصل بالأمن في مطار لندن جاتويك. يضحك الشخص الذي يرد على الهاتف عندما تسأل عن الواقعة. يتطوع الحارس مُدليًا بأن الشهود قالوا إن المرأة كانت في نصف حجمه، ورفيعة كعارضات الأزياء. ويقرأ الاسم من التقرير المحفوظ من قِبَل أمن المطار، ولكنه يشير إلى أن التقرير الرسمي أخذته شرطة العاصمة.
تقرر أن تحصل على الرواية من جانب موظف شرطة المدينة؛ فيرفض التعليق ويقول إنه لا يوجد أي سبب مطلقًا لأن توجه إليه أسئلة حول الأمر. ويقول: «لا دخل لأحدٍ بالأمر. إن كان قد حدث؛ فقد كان على بعد آلاف الأميال.» ويشير إلى أنه عندما يطلب منك أن تبدأ في وضع تقارير السطو على المنازل في الصحيفة لتحذير الناس، فلن تفعل ذلك. ويُردف قائلًا: «ولكن هل ستتصل بلندن من أجل شيء كهذا؟» ويُلمح إلى أنك سوف «تفقد ما لك من أصدقاء قليلين في قوة الشرطة.»
فهو — بالطبع — الضحية؛ إذ كان خارج الخدمة، ولم يرتكب أي خطأ.
هل تستخدم الخبر، وتحدد هويته، وتشير إلى أن مَهمته هي أن يُعلِّم الضباط كيفية حماية أنفسهم؟