المشكلة
ما ضرورة وجود الأمم؟ شكَّل البشر على مرِّ التاريخ جماعاتٍ من أنواع مختلفة قامت على معايير كانت تُستخدم في تمييز «نحن» عن «هم»، وإحدى هذه الجماعات تسمَّى «الأُمَّة». وقد لقي آلافُ البشر — بل ملايين في واقع الأمر — حتفهم في حروبٍ اندلعت دفاعًا عن أُممهم، كما حدث في الحربين العالميَّتين الأولى والثانية خلال القرن العشرين، الذي ربما كان أكثرَ القرون قسوةً ووحشيَّةً في تاريخ العالم. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل من المهم فهم طبيعة الأمة؛ تلك النزعة لدى البشر نحو تقسيم أنفسهم إلى جماعات متمايزة، ومتصارعة في أغلب الأحيان.
يمكننا ملاحظةُ الأدلَّة على تشكيل البشر لمجتمعاتٍ إقليميَّةٍ كبيرةٍ ومتمايزةٍ في أوائل السجلات التاريخية المكتوبة؛ فتُسَجِّلُ كتاباتٌ تعود إلى الحضارة السومريَّة في منطقة نهرَيْ دجلة والفرات، منذ نحو ٢٥٠٠ عام قبل الميلاد، معتقداتٍ كانت تميِّز «إخوة أبناء سومر» — أولئك أصحاب الأصول السومرية — عن الأجانب. وخلال القرن السادس عشر قبل الميلاد، كان المصريون القدماء يعتبرون أنفسهم مختلفين عن كلٍّ من «الآسيويين» الذين كانوا يعيشون شرق بلادهم، و«النوبيين» الذين كانوا يعيشون في الجنوب.
أريد أنا الفرعون كاموس أن أعرف ما الغرض من قوتي … فأنا أجلس هنا في طيبة بينما يَقتطِع آسيويٌّ وآخرُ نوبيٌّ لنفسه جزءًا من أرض مصر … لا يمكن للمرء أن يستقرَّ في أرضه على نحو ملائم في حين تُسلَب ممتلكاته بواسطة ضرائب يفرضها الهمج. سوف أصارع هذا الآسيوي وأبقر بطنه، وأتمنى أن أنقذ مصر وأسحق الآسيويين.
وفي الكتابات الصينية المبكرة في فترة الدول المتحاربة (٤٨١–٢٢١ قبل الميلاد) وصولًا إلى فترة حكم أسرتَي تشين وهان (٢٢١ قبل الميلاد إلى ٢٢٠ ميلاديًّا)، كانت الفوارق تُحدِّد بين الصينيين المتفوقين كما يصفون أنفسهم، وبين أولئك الذين كانوا يعتبرونهم أجانبَ وفي أدنى مرتبةٍ من البشر؛ ويُسمَّون اﻟ «داي» واﻟ «رون». وفي الإصحاح ١٠ من سِفْر التكوين، هناك اعترافٌ بالانقسامات الإقليمية واللغوية للبشرية إلى ما يسميه بنو إسرائيل القدماء «الغوييم» أو الأغيار.
هؤلاء بنو سام حسب قبائلهم كألسنتهم بأراضيهم حسب أممهم (الغوييم). هؤلاء قبائل بني نوح حسب مواليدهم بأممهم (الغوييم).
في القرن الخامس قبل الميلاد، أكَّد المؤرخ هيرودوت على عِرْقٍ إغريقيٍّ مشتركٍ بين جميع اليونانيين.
ثم هناك عِرْقنا الإغريقي المشترك؛ نحن مشتركون في الدم ومشتركون في اللغة؛ وتلك الأضرحة للآلهة مِلْكٌ لنا جميعًا؛ الإسبرطيين والأثينيين، وهناك أيضًا تضحياتنا المشتركة، وعاداتنا، وتنشئتنا المشتركة.
وقسَّم أفلاطون وأرسطو البشرَ إلى يونانيين وبربر؛ والبربر هم الشعوب البربرية المنحدرة من آسيا الصغرى. وربما يعود أصل الكلمة اليونانية التي تعني «بربر» إلى نوعٍ من المحاكاة الصوتية لِلُّغة الأجنبية للشعوب المنحدرة من آسيا الصغرى، والتي كانت غير مفهومة على الإطلاق لليونانيين. غير أنه في أعقاب الحروب اليونانية مع بلاد فارس، اكتسبتِ الكلمةُ نبرةَ احتقارٍ لا تزال لصيقةً بها حتى يومنا هذا في استخدامنا لمصطلح «بربري». وعلاوة على ذلك، وصف أفلاطون في وصفه للجمهورية المثالية ألفةً معيَّنةً تربط بين جميع مَن وُلِدوا يونانيين، كما لو كانوا جميعًا ينحدرون من نفس العائلة. ونتيجة لذلك، كان يعتقد أن البربر ليسوا فقط مجرد أجانب بالنسبة إلى اليونانيين، وإنما هم أيضًا أعداؤهم ﺑ «الفطرة».
أؤكد أن الجنس الإغريقي — فيما يتعلَّق بذاته — هو ذاته (كما لو كان الجميع ينتمون لنفس العائلة) متجانس ومتماثل، وفيما يتعلَّق بالبربر، هو أجنبي وغريب؛ لذا عندما يقاتل الإغريق البربر ويقاتل البربر الإغريق، نؤكد أنهم في حالة حربٍ، وأنهم أعداء بالفطرة.
لا تزال هذه الانقسامات — حيث تُميِّز جماعةٌ ما نفسها عن جماعة أخرى وتُعارضها — مستمرَّةً حتى بداية القرن الحادي والعشرين؛ فكلٌّ مِن الشيشانيين والأوكرانيين يعتبرون أنفسهم مختلفين عن الروس؛ والأكراد يُميِّزون أنفسهم عن كلٍّ من العراقيين والأتراك؛ ويلتمس التايوانيون كيانًا منفصلًا عن الصين؛ وانفصل السلوفاكيون والتشيكيون بعضهم عن بعضٍ، مكوِّنين دولتَيْن قوميَّتَيْن منفصِلَتَيْن؛ ويعتبر البعض أن كشمير ليست جزءًا من الهند؛ وغير ذلك. ويهدف هذا الكتاب إلى دراسة نزعة البشر هذه إلى فصل أنفسهم بعضهم عن بعضٍ وتكوين مجتمعات متمايزة نُسمِّيها أممًا.
وبعد أن أدركنا هذا، لا بد أن نُقِرَّ أيضًا بأن البشر يُظهِرون نزعةً أخرى عندما ينخرطون في أنشطة لا يهمُّ فيها من كان آباؤهم، أو أين وُلدوا، أو ما اللغة التي يتحدثونها. هذه الأنشطة، بدلًا من أن تؤكِّد على الاختلافات والانقسامات بين البشر، تجمع بين الناس وتقرِّبهم بعضهم من بعض. فعلى سبيل المثال، ينشغل العلماء بفهم الحقائق الفيزيائية للكون؛ مثل طبيعة الضوء. فالضوء نفسه ليس إنجليزيًّا أو فرنسيًّا أو ألمانيًّا؛ وليس هناك منهجٌ علميٌّ إنجليزي أو فرنسي أو ألماني؛ هناك علم فحسب. والحديث عن منهج علمي عِرْقي أو قومي مفترض — كما حدث عندما أصرَّ النازيون على وجود «علم آري» — هو خيانة لطبيعة العلم عن طريق إدخال اعتبارات لا مكان لها في فهم الجوانب الفيزيائية للكون. ومن الأمثلة البارزة الأخرى على الأنشطة والمفاهيم المتماثلة التي تجمع البشر معًا الدياناتُ التوحيدية والتجارة. وفوق هذا، فعلى مرِّ التاريخ، سعت الإمبراطوريات الكبرى، مثل الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية العثمانية، إلى توحيد الشعوب التي تحكمها كبديل سياسي للأمم. وهكذا، في حين يعتبر الإنسان نفسه في أغلب الأحيان فردًا ينتمي لأمَّة معينة، فإنه يمكن أن يعتبر نفسه أيضًا جزءًا من الإنسانية عمومًا.
إذا كان الفحص الواجب لسؤال «ما الأمة؟» يتطلَّب دراسةَ نزوعِ البشر إلى التأكيد على الاختلافات، فإن هذا الفحص لا بد أن يَنظر بعين الاعتبار للأنشطة التي تُوَحِّد البشرية. والإخفاق في هذا لن يؤدي إلا إلى إساءة فهم أهمية الأمم في الشئون الإنسانية. ودراسة هذه الأهمية للأمم هي بالضبط محور هذا الكتاب. إننا مَعْنِيُّون هنا قبل كل شيء بالسؤال «ما الذي يخبرنا به وجود الأمم عن البشر؟» قبل أي شيء آخر. ولكن ما الأمة؟ وما القومية؟
يستخدم كثيرون مصطلحَ «قومية» على نحو خاطئٍ كمرادفٍ لمصطلح «أُمَّة»؛ فالقومية تشير إلى مجموعة من المعتقدات بشأن الأمة، وأيُّ أُمَّةٍ تضم آراءً مختلفة بشأن شخصيتها؛ ومن ثم، تكون هناك دائمًا لأي أمة معتقداتٌ مختلفةٌ ومتنافسةٌ بشأنها، وغالبًا ما تعبِّر تلك المعتقدات عن نفسها في صورة اختلافات سياسية. فالبعض قد يرون أن أُمَّتهم تدافع عن الحرية الفردية، في حين قد يكون آخرون مستعدين للتضحية بتلك الحرية في مقابل الأمن. البعض قد يرحِّب بالمهاجرين ويؤيد سياسات تسهِّل عليهم تحوُّلهم إلى مواطنين، في حين قد يكون آخرون معادين لسياسة الهجرة. ولنأخذْ مثالًا آخر: تأمَّل النزاعات الدائرة الآن في الهند؛ فبعض أفراد تلك الأمة لديهم رؤية ضيقة متعصِّبة لبلادهم بإصرارهم على أنه ينبغي أن يكون بها ديانة واحدة فقط هي الهندوسية؛ في حين يظن آخرون أنه يجب أن تكون هناك حرية اعتقاد بحيث تكون للمسلمين والسيخ والمسيحيين حقوقٌ كاملةٌ باعتبارهم أفرادًا ينتمون للأمة.
ما يُميِّز القومية هو الاعتقاد بأن الأمة هي الهدف الأوحد الذي يستحق السعي وراء تحقيقه؛ وهو تأكيدٌ غالبًا ما يؤدِّي إلى الاعتقادِ بأن الأُمَّة تحتاج إلى ولاءٍ مطلق لا نقاش فيه. وعندما يَسُود مثل هذا الاعتقاد بشأن الأمة، يمكن أن يهدِّد الحريات الشخصية. وعلاوة على هذا، فإن القومية غالبًا ما تؤكِّد على أن الأمم الأخرى أعداءٌ ألِدَّاءُ للأمة التي ينتمي إليها المرء؛ فهي تزرع الكراهية تجاه كلِّ ما يُعتبَر أجنبيًّا؛ سواء أكان أمة أخرى، أو مهاجرًا، أو شخصًا يدين بديانة أخرى أو يتحدث لغةً مختلفة. وبالطبع ليس بالضرورة أن ينظر المرء إلى أمته وعلاقتها بالأمم الأخرى بهذه الطريقة.
على نقيض القومية، فإن الأمة هي نوع معين من المجتمعات. ولكن أيُّ نوع من المجتمعات؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال في الفصل التالي.
غير أن توضيح ما نعنيه بمصطلحَي «الأمة» و«القومية» على نحو أوسع، وتناوُل المسائل الأخرى التي أثرناها بإيجاز في الفصل الأول، أمرٌ ينطوي على مشكلات أخرى ذات صلة؛ مثل: ما العَلاقة الاجتماعية؟ ما الإقليم؟ ما القرابة؟ هناك أيضًا المسائل المتعلِّقة بظهور الأمم في التاريخ، وعلاقة الأمة بالدين، ونزعة البشر إلى تقسيم أنفسهم إلى أمم مختلفة. وسوف نتناول كل مسألة من تلك المسائل في الفصول التالية.