أسباب انقسام البشر إلى أمم
على مدار التاريخ، فَهِم البشر أنفسَهم ونظَّموا أنفسهم بطرق مختلفة. وكانت هناك ديانات توحيدية عالمية، اعتُبرت البشرية من خلالها شيئًا واحدًا. وكانت هناك إمبراطوريات عالمية مثل الإمبراطورية الرومانية كانت فيها المواطَنة مشاعًا للكثيرين من سكانها، كما كانت هناك أمم. إن اللغز الفلسفي والأنثروبولوجي المحيِّر أخلاقيًّا هو أن البشر كثيرًا ما ينظِّمون أنفسهم بشكل انقسامي في صور مختلفة من القرابة، تكون الأمة أحد أمثلتها. فلماذا يصنِّف البشر أنفسهم في فئات من العلاقات المحدودة بدلًا من العلاقات العالمية؟ إن مشكلة الانقسام البشري التي يطرحها وجود الأمم في ذاتها هي موضوع هذا الفصل.
ظنَّ بعض المحللين أن هناك عاملًا «فطريًّا» أو «طبيعيًّا» في هذه الانقسامات. وعلاوة على هذا، يعتقد كثيرون من أبناء الأمم أن هناك عاملًا فطريًّا وراء وجود أمتهم، ونفس الأمر ينطبق على وجود أمم أخرى ليسوا من أبنائها (وإن كان هذا الأمر الأخير أقل أهمية بالنسبة إليهم). ومن الواضح أن عبارة «العامل الفطري» تتسم بالغموض، ومن يرغبون في فهم انقسام البشر عليهم بالتأكيد أن يوضِّحوا غموض هذا الاعتقاد، ولكن عليهم أيضًا أن يحاولوا فهم السبب في كون هذا الاعتقاد ذا أهمية إلى هذه الدرجة لأصحابه.
أهو العِرْق؟
خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، كان ثمة مَن يعتقد بأن انقسامات البشر هي أمرٌ «فطري»؛ بمعنى أنه تابعٌ لا مفرَّ منه للفوارق العرقية. فمثلًا زعم الدبلوماسي الفرنسي آرتور دو جوبينو (١٨١٦–١٨٨٢) أن البشرية انقسمت إلى أعراق أو أجناس مختلفة، فضلًا عن أن هذه الأعراق حدَّدت تميُّز ثقافةِ إحدى الحضارات عن الأخرى. وقد سبق هذه المزاعم الأخوان جوهانس وأولاوس ماجنوس بآرائهما العنصرية الغامضة (في منتصف القرن السادس عشر) فيما يخص القوطيين، وآراء ريتشارد فيرستيجان فيما يخص الإنجليز (عام ١٦٠٥)، ولكن كان جوبينو هو الذي قدَّم بشكل أوضح الرأي الذي يقول إن أُفولَ حضارةٍ ما يكون نتيجةً لا مفرَّ منها لاختلاط أحد الأجناس بآخر. ثم امتدت هذه الفكرة على يد أحد الكتَّاب المُعادين للسامية، ويُدعى هيوستون ستيوارت تشامبرلين؛ إذ كان يعتقد بوجود جنس آريٍّ نقيٍّ. ولكن أشد التعبيرات التاريخية شناعةً عن تلك الأفكار العنصرية ما ورد من الفاشية الألمانية المعادية للسامية، التي أكَّدت أن «دماء» اليهود دنَّست دماء الجنس الآري النقي والمتفوق. وقد تبيَّن أن هذه الأفكار والآراء العنصرية عن التقسيمات «الطبيعية» للبشرية إلى أنواع مادية دائمة لا أساس لها علميًّا على الإطلاق؛ إذ يمكن أن تكون الفروق الجينية داخل نطاق أحد الأجناس أكبر مما هي عليه بين الأجناس المختلفة. وقد رُفضت هذه الأفكار الشائنة عن حقٍّ من قِبَل جميع المحللين الجادين.
الثقافة كتفسير
إلا أن رفض الدارسين لهذه الأفكار العنصرية لم يضع نهايةً للادعاءات عن انقسامات البشر. ومن الواضح أن هذه الانقسامات ما زالت موجودة، ومن الضروري أن نفكِّر في سبب هذا الأمر. في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ظهرت آراء مؤرِّخ ألماني يُدعى هاينريش فون ترايتشكه، وهو أحد القوميين الألمان ممن لم يضعوا قيودًا كثيرة، وكان يعتقد أن التضاد بين الأجناس علاقته ضعيفة بالانقسامات القومية للبشرية إلى دول؛ إذ اعتقد ترايتشكه — وجاء رأيه في هذا الصدد مشابهًا لرأي الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان — أن وجود أممٍ منفصلةٍ لم يكن يرجع إلى أسباب بيولوجية، بل إلى أسباب تاريخية. وتشير هذه الفكرة إلى أن انقسامات البشر هي من اختراع البشر، بمعنى أنها ثقافية المنشأ؛ ومن ثم فهي ليست «فطرية». وكانت هذه أيضًا هي وجهة نظر الكاتب صاحب الآراء المؤثرة يوهان جوتفريد هيردر، الذي عاش في القرن الثامن عشر، عن انقسامات البشر.
إحدى المناقشات المثيرة للاهتمام عن انقسام البشرية، التي ركَّزت على العوامل الثقافية، قبل نشوب الحرب العالمية الثانية وبعدها، طَرَحَها أحد المتخصصين في مجال الديانات الهندو-أوروبية، وهو جورج دوميزيل. دفع دوميزيل بأنه كانت هناك ثقافة تتفرَّد بها الشخصية الهندو-أوروبية يُفترض أنها مشتركة، ورأى دوميزيل أن بنية الثقافة الهندو-أوروبية لها ثلاثة مستويات، لكلٍّ منها وظيفة خاصة؛ فوظيفة المستوى الأول هي الحكم وإدارة الشئون المقدسة، ويمثِّله الملك والكاهن، ووظيفة المستوى الثاني هي القوة، ويمثِّله المحارب، والثالث هو مستوى الإنتاج ويمثِّله المزارعون والعمال. كما أضاف قائلًا إن هذه الثقافة الهندو-أوروبية تنفرد بأنها تجسدها وتعبِّر عنها اللغاتُ الهندو-أوروبية. وتبعًا لهذا فقد اعتقد أن تلك الثقافة كانت مختلفةً بالضرورة عن ثقافات المجموعات اللغوية الأخرى.
وتُعَد أطروحات دوميزيل مرتبطةً بهذا الاستقصاء؛ لأن أبناء أمة ما كثيرًا ما يعتبرون اللغة عاملًا مهمًّا في تمييز أمتهم عن الأمم الأخرى. وهذا المنظور عن التراث الثقافي، الذي تبنَّاه أيضًا مع بعض الاختلاف، هيردر ورينان وترايتشكه، يرفض الاعتراف بدور العامل البيولوجي (الذي يُفترض الآن أنه عام في النوع البشري) لصالح الاعتراف بدور الثقافة في الانقسامات البشرية، سواء كانت عن طريق الحضارة أو عن طريق الأمة. ومع ذلك، فإن وجود تلك الانقسامات الثقافية يطرح عددًا من المشكلات. فما مدى مرونة تلك الانقسامات؟ وفوق هذا، كيف يفهم المرء ميل البشرية لتمييز نفسها إلى مجتمعات، لكلٍّ منها تراثه الثقافي الخاص ولغةٌ تحمِل ذلك التراث؟
تشير هذه الأسئلة إلى مشكلات تشكِّل الأساس للخلاف الحالي لما يُسمَّى «صدام الحضارات»، كلٌّ منها بما لديها من تراث ثقافي مميز؛ على سبيل المثال، بين الحضارات اليهودية-المسيحية، والإسلامية، والكونفوشيوسية؛ حيث ربما تفسِّر أطروحات دوميزيل البنيوية الفوارق العميقة تاريخيًّا بين المجموعات اللغوية المختلفة للشعوب سواء أكانت حضاراتٍ أو أممًا. ومع ذلك، فإن أوجه التشابه اللغوية والمؤسسية الظاهرة التي اعتقد دوميزيل أنها كانت مشتركةً بين عدد من المجتمعات الهندو-أوروبية المبكرة وأساطيرها، والتي يبدو أنها تميز تلك المجتمعات عن المجتمعات التي تنتمي إلى مجموعات لغوية أخرى، أو حتى حضارات أخرى، ربما لا تكون مميزة ولا متصلبة. وإن تميُّز تلك الأشكال المؤسسية التي عزاها إلى الهندو-أوروبيين الأوائل يمكن أن تكون ناتجةً عن مراحل متشابهة من التطور الاجتماعي، لا عن أصلٍ لغوي مشترك. وفضلًا عن هذا، فإن البنية الثقافية المكوَّنة من ثلاثة مستويات قد تكون ناتجةً عن المتطلبات الضرورية لوجود أي مجتمع؛ وتحديدًا، الحاجة لوجود نظام (بما في ذلك تبرير ذلك النظام) والحاجة إلى الحماية من التهديدات الخارجية، وتوفير السلع المطلوبة لاستمرار الحياة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن التميُّز المفترض الذي يفصل بين ثقافة وأخرى إما أن يكون مبالَغًا فيه، وإما — في حالة حدوث تطوُّرٍ تاريخيٍّ آخرَ — أن يمرَّ بعملية تعديل. ولعل زيادة التجارة الدولية وانتعاش أفكارٍ كالتي تتعلَّق بحقوق الإنسان يعملان على تقويض الانقسامات بين أمة أو حضارة، وأخرى.
ومع ذلك، فحتى مَن يتمنَّون الخير للإنسانية يجب أن يتشكَّكوا في المدى الذي يمكن أن تصل إليه تلك التطورات في سبيل تقويض الانقسامات البشرية؛ ذلك لأنه حتى الآن، لم تؤدِّ التطورات الثقافية؛ مثل الديانات التوحيدية العالمية، والتجارة الدولية، ووسائل الاتصال التي أصبحت تمتد بين جوانب الأرض إلى تقويض الانقسامات بين البشر بأي صورة كانت، بل إن هذه التطورات الثقافية لم تؤدِّ حتى إلى تقويض الانقسامات العميقة، سواء القومية أو غيرها، التي توجد داخل حضارة معينة من الحضارات. ويتجلَّى هذا في كل تلك الأحداث العديدة التي شهدها القرن العشرون. فبالنسبة إلى الحضارة اليهودية-المسيحية هناك الحربان العالميتان والفاشية، وبالنسبة إلى حضارات الشرق الأقصى ما حدث من عسكرةٍ عنصرية لليابانيين، وانتشار النزعة العسكرية بين الهندوس، والصدامات العسكرية بين الصين وفيتنام، وبالنسبة إلى الحضارة الإسلامية ما حدث من حربٍ بين العراق وإيران.
وبالتأكيد؛ إن الديانات التوحيدية العالمية كانت في الماضي قد أدَّت إلى تقويض مجموعات محلية كانت موجودةً سابقًا من خلال خلق مجتمعات إيمانية واسعة، ولكنها في حالات كثيرة كانت تفعل هذا عن طريق الإسهام بعد ذلك في دمج هذه المجموعات المحلية ضمن أمم. على سبيل المثال كان السبب في دمج الفرنكيين في أوروبا في بدايات العصور الوسطى في شكل أمة، اعتقادهم بأنهم شعبٌ اختاره الرب ليدافعوا عن المسيحية، وقد فعلوا هذا، ولكن ضد إخوانهم من المسيحيين. وبالمثل فقد انصهر الأرمن فيما بين القرنين الرابع والثامن الميلاديَّيْن في شكل أمة أرمينية عن طريق اعتناقهم المسيحية. ومن أمثلة الديانات العالمية التي تُسهم في دمج الأمم أو تعزيزها ما لاحظناه في الفصل السابق لدى حضاراتٍ أخرى. فالسنهاليون بدايةً من القرن الخامس الميلادي اعتبروا أنفسهم أمةً بوذية في سريلانكا على النقيض من الهندوسية (والتاميل). وقد عزَّز الاعتقاد لدى الإيرانيين بأن إيران أمة شيعية من وحدة إيران خلال القرن السادس عشر الميلادي في شكل أمة، وذلك في مقابل المعتقدات السُّنية للعثمانيين.
وهكذا، يتبين أن العلاقة بين التطورات التي تبدو عالمية؛ مثل الديانات التوحيدية، والتجارة الدولية، وبين تقاليد القرابة الإقليمية المقيدة؛ علاقةٌ معقَّدة؛ لأن هذه التقاليد قد تستمر رغم وجود هذه التطورات. خذ على سبيل المثال مرونةَ تلك المعتقدات في نوعٍ من تفرُّد الأمة، التي يعبَّر عنها في حركاتٍ حديثة تُسمَّى «النزعة الإقليمية». وهذه الحركات القومية الأولية لا تظهر فحسب في المناطق الأقل تقدمًا نسبيًّا من الناحية التقنية في آسيا مثل كشمير، ولكنها تظهر أيضًا في مناطق أكثر تقدمًا اقتصاديًّا، وتمثِّل قنواتٍ رئيسية للحياة الحديثة، مع تركيزها على الإيمان بحقوق الإنسان، لجميع البشر؛ مثل كيبيك واسكتلندا ومنطقة إقليم الباسك. ولو كانت الانقسامات البشرية فقط من ظواهر الماضي، لكانت التجارة الدولية تكفي لمحوها، ولكن الحقائق تشير إلى عكس ذلك في واقع الأمر.
إن إدراك أن العامل البيولوجي المفترَض لتكوُّن الأمة، الذي يُعتقد أنه يميز أمة عن الأخرى، قد يكون ناتجًا عن أيِّ عددٍ من العوامل التاريخية؛ قد يثير مشكلات أخرى، وفي حين أن الأساس التاريخي لهذه الاختلافات قد يكون إشارةً إلى إبداعية الخيال البشري، بحيث إن الأمم أو أيَّ عددٍ من العلاقات الإنسانية الأخرى ليست بسبب عامل بيولوجي (ويوحي التباين الواسع في كلٍّ من المجال والغرض، لهذه العلاقات بهذا الأمر تمامًا)، فكيف يمكننا أن نفهم هذه القدرة الإبداعية؟ وفضلًا عن هذا، لماذا يجب أن تُوجَد تقاليد ثقافية مختلفة على الإطلاق؟ لماذا تبدو منتشرة ومستمرة على مدى التاريخ؟ ولماذا تكرَّر التعبير عنها من حيث القرابة؟ هل من المحتمل، في حين أن الجنس البشري إبداعيٌّ بطبيعته، أن تكون العلاقات التي يشكِّلها «اصطناعية»، ومع ذلك لا تكون تلك العلاقات اعتباطية؟ فإذا لم تكن اعتباطية، فهل يشكِّل البشر أممًا بدافع الضرورة، أو حتى بسبب ميل بيولوجي للانقسام؟
الجانب البيولوجي لرؤية «نحن» ضد «هم»
هناك عدة تفسيرات بيولوجية مختلفة لوجود الانقسامات الثقافية للبشرية إلى مجموعات متمايزة واستمرار تلك الانقسامات، التي تُعد الأمة إحداها. ومن بين هذه التفسيرات التنافس الاقتصادي، وتحديدًا أن ندرة الموارد اللازمة لإشباع الرغبات البشرية الممتدة دائمًا والمتصارعة كثيرًا على ما يبدو (ولا يتضمن ذلك ما يتصل فقط بالإشباع البدني المباشر؛ مثل الجوع، بل أيضًا الأهداف الأكثر تعقيدًا مثل اعتبارات المكانة الشخصية) قد أدَّت إلى حشد البشر معًا في مجموعات، وهي بدورها تتنافس بعضُها مع بعضٍ على تلك الموارد. وينبني هذا التفسير — وإن كان بشكل غير مباشر — على فهمٍ معيَّنٍ للبيولوجيا البشرية، كما يفعل تفسير آخر لوجود الدولة، روَّج له توماس هوبز، وهو أن الميل لتجمُّع البشر معًا الهدفُ منه أن تكون حياةُ الفرد أكثر أمانًا. وتُعَدُّ هذه التفسيرات محاولاتٍ لتوضيح استراتيجيات التكيُّف لحفظ الحياة، وفقًا لمصطلحات البيولوجيا التطورية.
وقد فسَّر بعض أتباع الداروينية الحديثة، وعلماءُ النفس التطوريون تكوُّنَ المجموعات المتنافسة كاستجابة تكيُّفية «للملاءمة الشاملة»؛ أي الحث على نقل جينات المرء وجينات أقربائه لمواجهة الندرة أو أي عددٍ من التهديدات (مثل وجود مفترسات أو غرباء) التي تهدِّد ذلك النقل. وإذا كان البشر في الحقيقة «مبرمَجين من الناحية التطورية» لزيادة احتمالية انتقال جيناتهم، فحينئذ — وفقًا لما يقوله هذا الطرح — سيتطلب التعاونُ لتأمينِ الموارد المحدودة المتنافَس عليها وللحماية، مبدئيًّا لدعم المرء لعائلته (وهو تعبير مُستقًى من الانحياز الجيني)، تشكيلَ صورٍ مختلفة من مجموعات أكبر. وهذه المجموعات يفهمها أعضاؤها باعتبارها من القرابة؛ لأن ذلك الفهم سيعمل حينئذٍ على مدِّ «الملاءمة الشاملة» الخاصة بالانتقال الجيني إلى مَن يتعاون معهم المرء؛ ومن ثم تكون المعتقدات التي تتشكَّل حولها الصور المختلفة من القرابة راسخةً تمامًا من الناحية التاريخية؛ لأنها تكون بطريقة ما مشتقَّةً من الجانب البيولوجي، وتعمل على تيسيره.
ويواجه متبنُّو الداروينية إغراءَ تقديمِ تفسيرٍ بيولوجي لجميع السلوكيات البشرية؛ لأنه في نهاية الأمر، كما هو الحال في جميع التفسيرات الطبيعية للسلوك الإنساني، لا يوجد تناقضٌ بين الطبيعة والثقافة؛ إذ يجب على الأخيرة أن تخدم الأولى. ومن ثم، فإنه بالنسبة إلى تلك التفسيرات البيولوجية للسلوك الإنساني، يجب أن يخدم وجودُ مجموعاتٍ مميزة ومتنافسة من أنواع مختلفة غرضًا تكيُّفيًّا ما؛ لأنه بغير ذلك لن توجد تلك المجموعات.
من المحتمل أن هناك بعضَ الفوائد من تضمين الحقائق البيولوجية في العلوم الاجتماعية والتاريخية. ومع ذلك، فهنا أيضًا تنشأ المشكلات؛ وأولها أن هناك التباسًا في معنى أن يكون المرء «مبرمَجًا من الناحية التطورية». فحينما ينظر المرء في نتائج دراساتٍ تقول إن النساء اللاتي يحملن درجةً جامعيَّةً ترتفع لديهن فرصُ عدم الإنجاب عن سائر النساء بنسبة ٥٠٪، أو إنَّ سكان الأمم التي تتمتع بمستوى معيشةٍ عالٍ لديهم أطفال أقل، لدرجة الوصول إلى نقطة الصفر في النمو السكاني أو حتى تناقص عدد السكان، فإن المرء يتساءل عن معنى أن يكون المرء «مبرمجًا من الناحية التطورية» لمصلحة الشخص الجينية. لماذا يختار بعض الناس، سواء على مستوًى فردي أو على مستوًى جماعي قومي، عدمَ إنجاب الأطفال حينما تتراجع مشكلة الندرة وغير ذلك من التهديدات التي تجابه وجود المرء؛ ومن ثم يبدون وكأنهم يقوِّضون «الملاءمة الشاملة»؟ وثانيًا: هناك صعوبة، من النواحي البيولوجية، في تفسير الاعتقاد بأن يكون المرء مرتبطًا جينيًّا بأناسٍ معينين دون أن يكون هذا واقعيًّا. وبالإضافة إلى هذا، صحيح أن التشكيل الثقافي لمجموعة تربطها صلة القرابة وتكون أكبر بدرجة ملحوظة من حجم العائلة؛ قد يقدِّم بنيةً للتعاون الفعَّال في سبيل السعي إلى الموارد وتخصيصها من خلال صياغة المعايير — ومنها اللغة كعلامة مميزة للحضارة — مما يشير إلى مَن يمكن أو لا يمكن الوثوق به. فهل هذا التشكيل في نهاية الأمر من باب حُسن التكيُّف أم سوء التكيُّف؟ كيف يمكن أن يفسر المرء أنواعًا من السلوك تبدو وكأنها تتعارض وبيانَ الظروف المبدئية لتعضيد الانتقال الجيني؛ مثل الصراع الانتحاري من أجل الهيبة القومية أو حروب الدمار الشامل بين الأمم؟
قد يجيب بعض الداروينيين بأن هذه الأمثلة هي تعبيرات عن سوء التكيُّف تنشأ عن حقيقة أن البشر لديهم عقولٌ ترجع إلى العصر الحجري داخل جماجم حديثة؛ أي إن آليات التكيُّف للانتقاء الطبيعي والجنسي تتخلَّف بالضرورة وراء البيئة الثقافية سريعة التغيُّر. إلا أن هذه الإجابة هي اعترافٌ بأنه عند أي نقطة معينة قد لا تكون هناك علاقة مباشرة بين الطبيعة وكثيرٍ من التعبيرات الثقافية للسلوك الإنساني، أو إذا كان لا بد من وجود تلك العلاقة، فإننا اليوم لسنا في وضع يسمح لنا بأن نحدِّد ماهيَّتها؛ إذ يعوزنا منظور آلاف السنين لكي نقوم بهذا التحديد.
تنوع السلوك الإنساني
إن العامل المعقَّد للتفسيرات الطبيعية للسلوك الإنساني هو أن الثقافة ليست شيئًا موحَّدًا؛ إذ ينخرط البشر في عددٍ كبيرٍ من الأنشطة المتنوعة؛ سعيًا وراء أهداف لا وجه للمقارنة بينها، بل تكون في بعض الأحيان متناقضة؛ مثل الميل لتشكيل مجموعات مميزة ومتنافسة (مثل الأمم) إلى جانب الميل إلى تأكيد وحدة الإنسانية، كما في الديانات التوحيدية. فما هو متناقضٌ هنا هو الآتي: كيف يمكن أن يفهم المرءُ القدرةَ البشرية الواضحة على الاختيار بين بدائلَ مختلفةٍ وتبدو بلا وجه للمقارنة بينها؛ مثل الذهاب إلى الحرب دفاعًا عن الدولة التي ينتمي إليها المرء، أو رفْض الإنسان لأن يَقتل إنسانًا آخر؟ أيدل وجود هذه البدائل والقدرة على الاختيار بينها على «انفتاح العقل على العالم» أو «الحرية»؟ قد يعترض أصحاب المذهب السلوكي، ممن يعتقدون أن السلوك البشري توجِّهه دوافع بيولوجية، على هذا الاحتمال بأن يُصرُّوا على أن «الاختيار» هو مجرد نتيجة لأحد أمرين: إما تخلُّف التأقلم التطوري أو التكلفة العالية للمعلومات اللازمة للوصول إلى أعلى مستوًى لسعادة المرء أو درجة اختياره بشكل فعَّال. إلا أن هذه الاعتراضات قد تبدو افتراضيةً تخدم هدف الحفاظ على حصرية الآلية التفسيرية للحالة الأولية المؤكدة، وهي في هذه الحالة الدوافع البيولوجية التي تحدِّد السلوك البشري.
إن الاعتراف بتنوع الأهداف البشرية لا يدحض ميزةَ أيٍّ من التفسيرَيْن الدارويني أو الاقتصادي للسلوك الإنساني؛ إذ إن المساعي المختلفة للبشرية، ومؤسساتها الاجتماعية المصاحبة (مثل الأمة والكنيسة)، والقدرة على الاختيار بينها؛ لها بالتأكيد أسسٌ بيولوجية، إلا أنها مع ذلك، تَحُدُّ من ميزتها التفسيرية. والسؤال الذي ينسجم أكثر مع حقائق السلوك الإنساني هو: كيف تفهم الأغراض البشرية المتنوعة، بل والمتعارضة؟ تؤدِّي هذه الملاحظات إلى إدراكٍ للعلاقة بين الطرق المتنوعة التي تنظِّم بها البشريةُ نفسَها، والأمور البيولوجية الحتمية، أو الطبيعة السلوكية للمملكة الحيوانية. إنها مشكلةُ توضيح غموضٍ ما يُسمَّى «فطرية» الانقسام البشري، التي يُعَد وجود الأمة مثالًا لها، وسيكون الهدف في هذه الحالة متواضعًا؛ وهو تحديد الصعوبات المختلفة الداخلة ضمن عملية توضيح هذا الغموض، وبهذا يتم تحديد التعقيدات بدلًا من تقديم إجابات حاسمة. وسيكون من المفيد ذِكرُ بعض الملاحظات التي أبداها أرسطو عند تركيز انتباهنا على هذه الصعوبات.
فقد لاحظ أرسطو أن البشر حيوانات في الحقيقة؛ بسبب دافعهم البيولوجي للتكاثر وحفظ الذات. ومع ذلك، فقد لاحظ أيضًا أن هناك صفاتٍ أخرى تميز البشر عن سائر المملكة الحيوانية؛ ولا سيما القدرة على الكلام. وصحيحٌ أن ما تُسمَّى الرئيسيات غير البشرية تتواصل فيما بينها، إلا أنها بالقطع لا تُظهر القدرة على فعل هذا إلى الدرجة التي يصل إليها البشر. وبالطبع، فحتى إذا حدَّد المرء الصفات التي تُميز البشر عن باقي المملكة الحيوانية، فإن وجودها له أسلاف في المملكة الحيوانية، وبالتأكيد؛ إن منظِّري البيولوجيا التطورية على حقٍّ في تتبُّع تلك الأسلاف عن طريق افتراض وجود تكيُّفات محتمَلة للصورة البشرية المتطورة لبيئات تصل إلى مئات الآلاف، بل ملايين السنين التي مضت خلال العصر البلايستوسيني، والتي جعلت تلك الصفات ممكنةً. وتشمل هذه التكيُّفات وضعيةَ استقامةِ الجسم عند الوقوف، وإبهامَ اليد في مقابل إصبع السبابة الذي يُسهِّل ابتكار الأدوات؛ ومخًّا كبير الحجم يتسم بالتعقيد، ينمو بشكل كبير بعد الميلاد؛ والمزيج المتناقض الذي يجعل المرء فردًا منعزلًا، ومشاركًا للآخرين، وهو الذي يستتبع رغبة المرء في إخفاء نفسه عن الآخرين (والذي يشمل خداع الذات) وفي أن يكشف نفسه للآخرين من خلال الأمل في نيل تقديرهم واستحسانهم؛ والغرائز التي لا تحدِّد السلوك بدقة، وما يحتمل أن يصاحبها من انفتاح الذهن على بيئات أخرى، بما فيها تلك التي يبتكرها البشر، والتي حالما تنشأ فإنها تقدِّم بؤرًا مختلفة من الاهتمام — وهي تراكيب من التقاليد، التي يتوجَّه نحوها السلوك البشري. ولكي نعيد صياغة مشكلتنا، فإننا نتساءل إلى أي مدًى تُعتبر هذه البيئاتُ المختلفة من الإبداع البشري — والتي تُعَد الأمة واحدةً منها — شيئًا فطريًّا؟
كما لاحظ أرسطو أيضًا أن البشر لديهم القدرة على «التنبؤ باستخدام العقل». وهذا التوجُّه إلى المستقبل ينتج عنه تنظيم البشر لأنفسهم في صورٍ من العلاقات الاجتماعية، تبدو مختلفةً نوعيًّا في محاولةٍ لمواجهة مشكلات مختلفة بما فيها تلك التي تكون في طَوْر النشأة. وهكذا كان أرسطو يعتقد بأن الأسرة والمدينة تتميز كلٌّ منهما عن الأخرى تبعًا للأغراض المختلفة كردِّ فعل للمشكلات المختلفة؛ فبالنسبة إلى العائلة، المشكلة البيولوجية الخاصة بتولُّد الحياة واستمرارها، وبالنسبة إلى المدينة، المشكلة الثقافية المتعلِّقة ليس بمجرد بقاء الناس فحسب، بل بالكيفية التي يحيون بها حياة أفضل، أو رخاء الحياة. وهذا الإدراك للمشكلات التي تبدو مختلفةً نوعيًّا، والتي بدورها تستوجب توجهات مختلفة من السلوك أثارها آدم سميث حينما جذب الانتباه في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» إلى التمييز البشري بين ما هو نافع وما هو سليم.
فهل إدخال البشرية لمشكلةِ ما هو سليمٌ — أي مشكلة معنى الوجود — التي تؤدِّي إلى تكوين مؤسسات اجتماعية متنوعة، والتي تكون متصارعةً في بعض الأوقات (مثل العائلة والمدينة والأمة والإمبراطورية والكنيسة العالمية، وهكذا) يدل على أن هناك فقط علاقةً غيرَ مباشرة بين تلك المؤسسات والتركيبة البيولوجية للبشر؟ وحتى عند مستوى القرابة، فإن التفاوت في أشكالها، الذي يدلُّ على أن المفهوم يشير إلى أكثر من شيءٍ واحدٍ (يتراوح ما بين الرابطة البيولوجية بين الأم والطفل إلى علاقةٍ من التعايش الإقليمي، وحتى إلى التحدُّث بلغة واحدة) قد جعل كثيرًا من المحللين يُصرُّون على وجود علاقة غير مباشرة فقط بين مختلف العلاقات الاجتماعية التي يكوِّنها الإنسان وتنشأ بيولوجيًّا. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الميزة التفسيرية للعلاقة بين العلاقات الاجتماعية؛ مثل الأمة والبيولوجيا تكون محدودةً. وبدلًا من هذا تكون المشكلة التي تواجه المحلِّل هي أن يدرس التقاليد المختلفة من السلوك، والتعبير المؤسسي عنها، والتعديلات التي يخضع لها كلاهما بمرور الوقت، والعلاقة بين تقليد وآخر. ومن ثم يتضح غموض الاعتقاد في فطرية تكوُّن الأمة من خلال إدراك وجود مرونة واسعة المدى من السلوك البشري، حتى لو كانت هذه المرونة ناتجةً عن خصائص بيولوجية برزت بشكل تطوري بمرور الزمن. ولا تزال المشكلة موجودة، وهي كيفية فهم الاستمرار التاريخي لعلاقة القرابة الاجتماعية، رغم أنها علاقة اجتماعية اتخذت أشكالًا مختلفة.
وَدَعْنا نُعِدْ تتبُّعَ بعض خطوات هذا النقاش، وهذا هو اللغز الذي يجابه من يرغبون في فهم الأمة: رغم أن البشرية جزءٌ من المملكة الحيوانية، إلا أنها تتميَّز عن سائر أنواعها في بعض النواحي، كيف هذا؟ مما يخص البشرية القدرةُ على تقسيم نفسها إلى فاعلٍ ومفعول به؛ أي أن يفكر في نفسه، وأن يفكر مليًّا في حالته الشخصية؛ ومن ثم فقد يؤدِّي هذا إلى أن ينخرط المرء في صراعٍ من أجل الوجود. وليس هذا فحسب، بل قد يثير مسألةً حول ماهية الطريقة السليمة للعيش، وهذه هي القدرة على الوعي الذاتي. ومع ذلك، فإن هذه القدرة على التفكر في الذات (أي «انفتاح العقل على العالم» بما في ذلك العالم الذي بداخل الإنسان) تحمل معها إدراكًا لأوجه النقص البشري — وعلى رأسها المعاناة والموت — فيما يتعلق بالبيئتين الحالية والمستقبلية. وفي الحضارة الغربية تعتبر الصياغة الكلاسيكية لمحنة الإدراك الذاتي لهذا النقص هي ما حدث لآدم وحواء من «تفتُّح أعينهما» وما تبعه من اكتشافهما لعُرْيهما وما نتج عن ذلك من شعورٍ بالعار، كما ورد في سِفر التكوين، الإصحاح ٣.
وكردِّ فعلٍ لهذا الانفتاح وما يثيره من قلق، يلتمس العقل أنواعًا من النظام ويؤسسها، التي تمنح التجربة البِنْيةَ اللازمة. وأنواع النظام هذه — أو التقاليد — يعبَّر عنها في صورٍ مختلفة من العلاقات، وهذه بدورها تتشكَّل حول معانٍ مختلفة عن الحياة التي تنشأ عن التأمل في التجربة. ومن ثم، كردِّ فعلٍ لمعنى الحياة الذي يركِّز على التوالد بها وانتقالها، تتكوَّن علاقات القرابة مثل العائلة والعشيرة والأمة، ويجري التعبير عن معنًى للحياة يدور حول الحرية يتمثَّل في علاقات سياسية متفاوتة للحكم الذاتي؛ مثل الديمقراطية. وتتضح مظاهر الانشغال بمعاناة الحياة والتخفُّف منها في صورة تقاليد عقائدية مختلفة وتنظيمها من خلال الكنائس.
وقد تكون هناك صفات بيولوجية تتصل بتكوين هذه العلاقات والتقاليد التي تنشأ حولها؛ على سبيل المثال تخفيف القلق (أو استراتيجيات التكيُّف كما تجري صياغتها في البيولوجيا التطورية) الذي ينشأ عن إدراك أوجه النقص أو عدم اليقين المتعلقة بوجودنا. وربما كانت العلاقات الاجتماعية المتكوِّنة كاستجابة لهذا الإدراك الذاتي هي المكافئ البشري للغرائز الممنوحة بيولوجيًّا، التي تحكم سلوك سائر أنواع المملكة الحيوانية. بعبارة أخرى، فإنه على النقيض من الجهاز الغرائزي المتطور الذي يوجد في المملكة الحيوانية، والذي يحدِّد نشاط الحيوان بدقة (بما في ذلك أين يعيش مع حيوان آخر؛ مثل النحل في خلية النحل) فإن البشر يكوِّنون علاقات اجتماعية واسعة المدى، تشكِّل سلوكياتهم؛ مما يقلل من قلق الشك المتعلق بكيفية التصرف نتيجة للنقص في الجهاز الغرائزي المحدِّد للسلوك.
وهذه العلاقات الاجتماعية المشكِّلة للسلوك تقدِّم أنماطًا من الألفة، وهي أيضًا متوارَثة، ليس جينيًّا، بل من خلال تراث ثقافي. ونتيجةُ تطوُّرِ العقل البشري بعد الميلاد هي أن يكون منفتحًا على تراث ثقافي معين (أو كما يصاغ وفقًا لمصطلحات علم النفس التطوري والعلوم الإدراكية، فإن وحدة معالجة الدماغ لا تسيطر عليها غريزة معينة). فعلى سبيل المثال، يتعلَّم عقلُ الطفل في مرحلةِ تطوُّره اللغةَ وغيرها من تقاليد المجتمع الذي يتربَّى فيه الطفل؛ وبهذا يصير الميراث الثقافي جزءًا من الصورة التي يكوِّنها المرء عن نفسه؛ ومن ثم تضرب الأُلفة بجذورها في نفس المرء وعاداته، وهي أُلفة تحقِّقها الثقافة التي يُولَد المرء في إطارها ويتطوَّر. ويكون وسيط النقل الأوَّلي لهذا الميراث الثقافي هو اللغة؛ أي إنك حينما تكتسب لغةً ما فإنك تكتسب محتواها على حد قول دوميزيل. وفضلًا عن هذا، فإن من يعرف أنهم يتحدثون لغةً مشتركة يعرف عنهم أيضًا أنهم يتشاركون في هذه الأُلفة، وربما كانت هذه الأُلفة المتوارَثة فرديًّا وأهميتها البيولوجية في الحد من القلق تقومان بدور ما في تفسير استمرار الاعتقاد في الارتباطية التي تميِّز الأمة. ويبدو مرجَّحًا أن كون الأمة بِنْيَةً من الألفة يشكِّل جزءًا من أهميتها. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يتضح السبب في أن لغةً ما مشتركةً كثيرًا ما تُفهم على أنها أحدُ العوامل المميزة للأمة، وسببُ أن حفظ تلك اللغة — باعتبارها الحاملة لتراث ثقافي فريد — يُعَدُّ أمرًا شديد الأهمية بالنسبة إلى أبناء الأمة.
ورغم احتمال وجود هذا المكوِّن السلوكي في تراث ثقافي ما، فإن بإمكان البشر أن يتخذوا موقفًا ناقدًا تجاه هذا التراث عبر إثارة مسألة الأسلوب الأمثل للحياة. فإذا كان هناك حقًّا عنصرٌ سلوكيٌّ ما في عملية تكوين العلاقات الاجتماعية، بما فيها الأمة (وكيف لا والبشر جزء من المملكة الحيوانية؟) فإن قدرة الإنسان على التفكُّر الذاتي تتعلَّق إلى جانب أشياء أخرى بالعلاقة الحتمية بين الشخص وبيئته، بما فيها البيئة الثقافية الموروثة. وهكذا تصير العلاقات بين الشخص والبيئة، وبين شخص وآخر مادةً للتأمل والتقييم. ودعنا ندرس كمثال لهذا، ارتباط رجل وامرأة بغرض التناسل.
أيًّا كانت درجةُ الغريزة البيولوجية التي تعمل على دفع البشر للتناسل، ولتكوين علاقات بغرض التناسل، فإن هذه الغريزة هي مادة للتفكُّر، ولأن البشر يُخضِعون الدافعَ البيولوجي للتناسل للتقييم، فإنه يصير عُرضةً للتنوع، كما تعبِّر عنه الصور المختلفة الكثيرة من التزاوج البشري، ليس بالزواج الأحادي فحسب، وإنما أيضًا بالزواج المتعدد، والعلاقات الجنسية غير الشرعية (مثل الدعارة أو الزنا)، وانفصال الذكر عن الأنثى بعد تزاوجهما (كما في الطلاق). وهذا التنوع — حتى وإن كان مقتصرًا على علاقات جنسية جبرية من الناحية البيولوجية — فإنه في نطاق النوع الحيواني يُعَد خاصًّا بالنوع البشري فقط. وفي الواقع فإن البشر قد يرفضون تمامًا ما قد يُفهم من نواحٍ أخرى إما كدافع سلوكي للتناسل، أو العلاقات الاجتماعية المشتقة من هذا الدافع؛ أي العائلة. ومثل هذا القرار ينبع من توجيه المرء لأفعاله من منطلق اعتباره لفهمٍ مختلفٍ لمعنى أن يعيش المرءُ بالطريقة السليمة؛ مثلما نجد مثالًا له في إنجيل متَّى، الإصحاح ١٩: ١٢: «ويوجد خِصْيَان خَصَوْا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات.»
العلاقات الاجتماعية المختلفة
هناك قدرات أخرى تميِّز البشر عن سائر الرئيسيات؛ فأماكن معيشة البشر لا تبدو خاضعةً لمنطق الطبيعة؛ بمعنى أن لدى البشر القدرة على التأقلم مع بيئات متنوعة. وفضلًا عن هذا، فإن لديهم القدرة على تكوين علاقات تتجاوز هذه البيئات المتنوعة التي مُنحت لهم بشكلٍ مباشر؛ أي بما يتجاوز المنطقة المكانية للآليات السلوكية لحواس الشم واللمس والبصر، ومن منطلق إدراكٍ يتجاوز الأفق الزمني لما هو موجود. وتتضح هذه القدرة في علاقات اجتماعية مثل تجارة السلع عبر مسافات طويلة، وفي عقائد كثيرة؛ إذ يكون حدثٌ منها جرى في الماضي البعيد؛ مثل حادثة صلب المسيح، التي تُعَد ذات تأثير على سلوك المرء في الوقت الحاضر. وتتضح هذه القدرة أيضًا في صناعة الأمة، التي يكون امتدادها الإقليمي متجاوزًا للمساحة المكانية لحواس الشم واللمس والبصر لأي فردٍ ينتمي إليها، وإن كانت الوسائل المصوَّرة للأمة؛ مثل الخرائط، توسِّع من رؤية الإنسان تخيُّليًّا. وتدل القدرة على تكوين تلك العلاقات على أن عقل الإنسان له قدرات تخيُّلية تمكِّنه من أن يرنو إلى مواقعَ بعيدةٍ مكانيًّا، ويعتبرها بطريقةٍ ما ملكًا له، وأن يرنو إلى أحداثٍ من الماضي ويعتبرها ذات صلة بحاضره، وأن يرنو إلى رؤيةٍ للمستقبل معتبرًا إياها من اهتمامات الحاضر، وأن يرنو إلى صورٍ من الماضي والحاضر والمستقبل تخص شخصًا آخر معتبرًا إياها كأنها تخصه هو. وقد يمكن تمييز العلاقات المختلفة بعضها عن بعضٍ — ونحن نبحث عن الطُّرق التي تخص الأمة — عن طريق تنوع المعايير المذكورة أعلاه عن المكان والزمان، ولكن هناك معيارٌ تمييزي آخر؛ ألا وهو غرض العلاقة.
حينما يشارك المرء شخصًا آخر في الصور التي يحتفظ بها في ذهنه عن أشياء في الماضي أو الحاضر أو يتوقع حدوثها في المستقبل، فإنها تصير هي المعايير التي قد يقيِّم بها الأشخاص بعضهم بعضًا. وتلك الصور التي يحتفظ بها المرء في ذهنه عن شخص آخر تفترض خصائص ما — وقد تكون حقيقية ماديًّا أو غير ذلك — في ذلك الشخص الآخر. ونتيجةُ هذا التصنيف التقييمي أن يُعتَبر شخصٌ ما إما مشابهًا لآخر بطريقة ما؛ ومن ثم تنشأ كلمة «نحن»، وإما مختلفًا عنه؛ ومن ثم تتأكَّد كلمة «هم». ومن أمثلة تشكُّل كلمة «نحن» الأُمَّةُ؛ حيث تكون الخاصية المفهومة هنا هي محل الميلاد، والمسيحيَّةُ؛ حيث يكون الأمر المفهوم هنا هو الاعتقاد في يسوع المسيح باعتباره الرب والمخلص. وتتفاوت درجة التشابه أو الاختلاف حسب المعايير المفهومة والمؤكَّدة عن الشخص الآخر، وهي تتفاوت تبعًا للغرض من العلاقة، التي تؤثِّر بدورها على اختيار وأهمية تلك المعايير التقييمية أو نقصها.
قد تكون العلاقة المتكوِّنة نتيجةً لوجود سمة مشتركة، أو نقصها، متقطِّعةً زمنيًّا؛ على سبيل المثال، حينما يدخل أحدُ منتجي الحبوب في عقدٍ مع مشترٍ، فهناك عناصر زمنية في هذا النوع من العلاقات؛ إذ يكون قرار منتِج الحبوب بالدخول في علاقة تعاقدية مع المشتري مبنيًّا على كلٍّ من التجربة الماضية والتوقُّع المستقبلي للربح. كما توجد أيضًا عناصر مكانية في هذه العلاقة؛ فقد تقف الأطراف المتعاقدة وجهًا لوجه؛ مثلما يحدث في سوق القرية، أو قد تفصلها مسافاتٌ بعيدة بحيث لا تتقابل أبدًا؛ مثلما يحدث في التجارة الدولية. ولو لم تتحقَّق كلمة «نحن» الخاصة بتلك العلاقة التعاقدية التي تم الدخول فيها من منطلق تحقيق الفائدة لكلا الطرفين، فحينئذ قد توجد حالةُ «هم» بين شخصين صارا الآن متنافسَيْن. ومثل هذه العلاقة تكون متقطِّعةً زمنيًّا؛ لأنها تستمر فقط ما استمرَّ تخصيص العقد.
وما يميِّز هذه العلاقة الاقتصادية الخاصة بتبادل السلع والخدمات في السوق الحديثة الممتدة مكانيًّا هو عدم تمييز الشخصية بين الأشخاص المتعاقدين. وفي هذا المثال من العقد يحدث أن أحد طرفَي العلاقة التعاقدية يُعطِّل أو يتجاهل تمامًا الكثير من الخصائص التي يجدها في الشخص الآخر الذي دخل معه في علاقة تعاقدية؛ حيث يسعى كلٌّ منهما إلى تحقيق مصلحته، إلا في حالة توقُّعٍ تستتبع الثقة بأن يفي الطرفان بأمانةٍ بما عليهما فِعْلُه بمقتضى العقد. وهكذا، حتى تتحقَّق علاقات اقتصادية فعالة، يجب ألا تتدخل الخصائص القومية أو العقائدية التي تؤكِّد التشابه أو الاختلاف في شخص ما من وجهة نظر الشخص الآخر كمعايير تَحُول دون إتمام التبادل التعاقدي للسلع والخدمات. فعدم تمييز الشخصية هذا فيما يخص العلاقة الاقتصادية المثالية يفترض درجةً من التسامح بقدر ما يحدث إغفال أو عدم إقحام للمعايير التقييمية الأخرى بغرض تحقيق هذا النوع من العلاقة. فالتجارة الحرة — على حد قول الخبير الاقتصادي والفيلسوف فرانك نايت — تتبع مذهب «عِشْ ودَعْ غيرك يَعِش.»
إن خاصية العلاقة التي تختص بالمنظومة الدينية تُعتبر من الناحية الزمنية أكثر استقرارًا من تلك التي تخص التبادل الاقتصادي السوقي؛ لأنها بعكس الأخيرة، تدخل معايير تقييمية تؤكد على شيء أساسيٍّ في وجود الفرد. وفي هذه الحالة تتأكَّد علاقة التشابه بين اثنين من العابدين بناءً على ما يتشاركان فيه من إدراكٍ لكلٍّ مِنْ حَدَثٍ ماضٍ يحدِّد حالتهما الحاضرة؛ مثل الوقوع في الإثم، وحدث يُتوقع حدوثه، وسيحدِّد حالتهما المستقبلية مثل الخلاص. والذين لا يتشاركون في تلك الصورة، عن كلٍّ من الحالتَيْن الماضيةِ والمستقبلية — وهم بناءً على ذلك لا ينظِّمون أفعالهم تبعًا لذلك — يُعتبرون خارج هذه المنظومة الدينية. وهؤلاء غير المنتمين لتلك المنظومة قد يَعُدُّهم أعضاءُ هذه المنظومة محكومًا عليهم بالهلاك الأبدي. وفي خاصية المنظومة الدينية لا يحدث تجاهل لمعايير تقييمية معينة تدل على الغرض من الارتباط؛ مثلما يكون في المسيحية من اعترافٍ بيسوع بوصفه الرب والمخلِّص، أو في الإسلام من اعترافٍ بمحمد باعتباره خاتمَ النبيين، بل يحدث تعيينٌ للعلاقة. وفي هذين المثالين من المسيحية والإسلام، لا تلعب المعايير المكانية دورًا مهمًّا في تقييم شخص ما لدى الآخر.
وإذا تحوَّلنا إلى الأمة، فإن هناك مكوِّنًا تقييميًّا مهمًّا، وهو أن الخصائص التي يراها شخص ما في الآخر، والعكس بالعكس — فيما عدا عملية التجنيس القانونية — تعرِّف كِلَا الشخصين لحياتهما كلها. وأهمية المعايير التقييمية التي يضعها البشر بحيث توجد الأمم على أساسها — وهي معايير تؤكِّد على الانقسامات داخل الإنسانية — تختلف عما يحدث من غيابٍ أو تعليقٍ لهذه الأهمية حينما يدخل البشر في علاقات اقتصادية يكون فيها — على الأقل بصورة نموذجية — تسامحٌ بين الأفراد. كذلك يجب تمييزها أيضًا عن المسيحية والإسلام والبوذية؛ ففيها — على الأقل مبدئيًّا — إقرارٌ بمعايير ترفض الانقسامات القومية للبشرية؛ إذ إنها تؤكِّد على الأُخوة العالمية.
إن ديانات العالم دياناتٌ إيمانية؛ إذ يكون المرءُ مسيحيًّا أو مسلمًا أو بوذيًّا بقبوله المبادئ التي تخص أيًّا منها. وعلى العكس من هذا، فإن الخاصية التي يتم الإقرار بها فيما يخص أحد أعضاء أمةٍ ما تركِّز على ميلاده؛ أي ميلاده داخل إقليمه غالبًا، وهذا التركيز الذي تنجم عنه علاقاتُ قرابةٍ تتراوح من العائلة إلى الأمة ككلٍّ؛ يقيِّد إمكانية اتساع العلاقة الاجتماعية. إلا أن هناك عوامل تاريخية مختلفة، ومنها على سبيل المثال القانون والسياسة ووسائل الاتصال والدين؛ يمكن أن توسِّع علاقة القرابة من خلال تكوين ثقافة مشتركة ممتدة إقليميًّا. إن لفظة «نحن» التي تتعلَّق بالمجتمع الإقليمي للأمة هي أكبر من المجتمعات الإقليمية للعشيرة أو القبيلة أو الدولة المدينة. وهكذا، فإن امتداد علاقات القرابة الإقليمية يكون ممكنًا بوضوح، وربما يحدث يومًا ما أن تختفي من الوعي البشري الأهميةُ التقييمية والتمييزية التي تُعزَى إلى محل ميلاد المرء، ولكن هذا لم يحدث حتى الآن. وفضلًا عن هذا، تتدخل اعتباراتٌ أخرى لتُقَيِّد مدى هذا الامتداد؛ مثل الرغبة في حرية الحكم الذاتي. وأيًّا كانت الأسباب، يستمر انقسام البشر إلى أمم مختلفة.