الخاتمة
كانت بداية ظهور الدراسات المنتظمة عن انقسام البشرية إلى أممٍ في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، وبحلول القرن العشرين تنامى عدد تلك الأعمال بشكل ملحوظ. وكانت هناك أسباب عدة لهذا الاهتمام البحثي الزائد، ومنها محاولةُ مواجهةِ وحشية الحرب العالمية الأولى، التي قُتل خلالها ملايين من الناس أثناء التعبئة الشاملة من أمة ضد أخرى، وهو الأمر الذي اعتقد الكثيرون بسذاجة في تلك الآونة أنه سيضع حدًّا للحروب كافةً. ومن الأسباب الأخرى ظهور مبدأ حق تقرير المصير الذي وضعه وودرو ويلسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في عام ١٩١٨ كردِّ فعلٍ لما حدث من تمزُّقٍ لأوصال الإمبراطوريتين النمساوية-المجرية والعثمانية، وتأسيس عُصبة الأمم في أعقاب تلك الحرب.
ولم تلبث أن برزت أسباب أخرى لظهور أعمالٍ عن الأمة وأيديولوجية القومية؛ وهي: الفاشية الإيطالية والألمانية، ونشوب الحرب العالمية الثانية، وبروز حركات سياسية في آسيا وأفريقيا كان هدفها — باسم الحق القومي لتقرير المصير — هو تخليص تلك المناطق من الاستعمار الأوروبي. وقد تطلَّب ظهور الفاشية تنقيةَ وسائل التحليل، بما يدل على ضرورة تمييز كلٍّ من القومية الفظَّة كأيديولوجية، والمظهر الأشد ضررًا لهذه الأيديولوجية وهي الفاشية، عن الأمة. وفي النهاية، فقد كشفت الحركات السياسية في أعقاب الحرب العالمية الثانية في سبيل تقرير المصير القومي بوضوح عن رغبة الأمة في حرية تقرير شئونها من خلال تنظيم كيانها ضمن دولة قومية مستقلة.
ودائمًا ما كانت هناك خلافات نظرية حول مفهوم الأمة. ويمكن اختصار هذه الخلافات، دون تبسيط زائد، إلى اثنين؛ أولهما: أن هناك مشكلة حول الدرجة التي تكون فيها ثقافة قومية ما (والتي كانت طبيعتها أيضًا مادةً للخلاف) عاملًا في تشكيل شخصية الفرد؛ إذ يمكن أن يفهم الفرد نفسه بطرق مختلفة، على سبيل المثال كعضو في عائلة أو أمة أو دين عالمي؛ فما أهمية الفهم الذاتي للفرد باعتباره عضوًا في أمة ما؟ ولماذا يحدث أحيانًا أن يطغى هذا الفهم على سائر صور فهم الذات؟
ويتعلَّق الخلاف الثاني بالمدى الذي يجب أن يُعتبر عنده ظهور الأمم أمرًا حديثًا من الناحية التاريخية؛ إذ يعتقد الكثير من الاقتصاديين والعلماء السياسيين والاجتماعيين أن عوامل الإيمان بالمساواة السياسية للأفراد (كما يعبر عنه بالديمقراطية وأشكال المواطنة الحديثة) والرأسمالية الصناعية (والتي تتطلب سكانًا كثيري العدد إقليميًّا وموحَّدين ثقافيًّا) ووسائل الاتصال الحديثة؛ قد أدت إلى وجود الأمم. وهم يصفون هذه التطورات السياسية والاقتصادية بأنها من صور «التحديث». وقد قدمتُ دليلًا في هذا الكتاب يلقي ظلالًا من الشك حول جدارة هذه المقولة التي تزعم أن الأمم حديثةٌ تاريخيًّا. وفضلًا عن هذا فقد ظهرت تكهنات بأنه نتيجة للتحديث — على سبيل المثال ما يحدث من تزايد مستمر للتقسيم الدولي للعمل وظهور كيانات مثل الاتحاد الأوروبي — سرعان ما ستختفي الأمم.
ومع ذلك، فثمة أحداث وقعت في الوقت الحالي تزيد من هذه الخلافات وتصنع خلافات أخرى. فعلى النقيض من التكهنات باختفاء الأمم، فما وقع بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وإعادة توحيد شطرَي ألمانيا، لم يفعل سوى تعميق استمرار الارتباطات القومية في مواجهة التحديث، وزيادة التقسيم الدولي للعمل. وخلال العشرين عامًا الأخيرة، كان ثمة تعبيرٌ حماسي ومأساوي في بعض الأوقات عن هذا الاستمرار، كما حدث في البلقان؛ حيث سحرت القومية الفاتنة أولئك الذين عقدوا العزم على حرمان غيرهم، بل وحرمان أنفسهم أيضًا، من مباهج الحياة اليومية. وفضلًا عن هذا، فإنه في إطار مناطق من العالم تتركَّز فيها صور الحياة الحديثة مثل أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة؛ نشأت حركاتٌ انفصالية قومية وإقليمية، وقعت في كيبيك واسكتلندا على الترتيب، وحدث التباسٌ فيما يتعلَّق بالتحليلات السابقة عن التحديث. وهذه الأحداث وغيرها؛ مثل الصراع المستمر بين الهند وباكستان، والحروب العِرقية في أفريقيا، والأهمية المستمرة للدين كعامل في هذه الظروف؛ تشير إلى استمراريةِ وثباتِ الارتباطات القومية في مواجهة المذاهب (بما فيها الاشتراكية وغيرها) التي كانت مضادة للقومية بشكل واضح. وقد اعترف بعض الاشتراكيين بهذه الاستمرارية، فعدَّلوا من وجهات نظرهم تبعًا لذلك. وتتطلَّب أهمية هذه الاستمرارية بعض التفسير، لا سيما أنها تزيد من تعقيد منهاج الدراسة السليم في يومنا هذا، وتحديدًا فهم أفعال البشر التي تُعَد فرديةً ونفعيَّةً على نحو مفرط. لقد صارت الأمة الآن، أكثر من أي وقت مضى، شوكةً في حلق أي رجل رشيد.
إن لأحداث القرن العشرين أهميةً مُلِحَّةً للذين يرغبون في فهم الأمم والقومية. وتُعتبر تأويلاتُ هذه الأحداث، والمناقشات التي جرت عن الخلافات النظرية التي أثارتها تلك الأحداث — مثل ما إذا كانت الأمم ظاهرة حديثة أم لا، وطبيعة الارتباطات التي يكوِّنها الفرد بصورة الأمة وبغيره من الأفراد الذين يشاركونه هذه الصورة — هي حاليًّا القضايا الأساسية التي تناقَش في الدوائر الأكاديمية. ومع ذلك فإن سبب تأليف هذا الكتاب عن القومية يتجاوز كونه مناقشةً أخرى إضافيةً لهذه الخلافات؛ إذ إنني بدلًا من هذا اتبعت مسألةً ذات صلة بهذه الخلافات، إلا أن لها توجهًا مختلفًا، وكان تركيز هذا الكتاب على تقصِّي هذا السؤال: ماذا يقول وجود الأمم عن البشر؟ ولا يعني تتبع هذا السؤال أن تلك الخلافات البحثية، التي كنتُ أحد المشاركين فيها، قد تم تجاهلها، ولكنها لم تكن في مركز النقاش.
وفي محاولة لحل هذه المسألة، يجب أيضًا أن نتفكَّر في سبب وجود الأمم. فكثيرًا جدًّا ما يتحاشى الدارسون مثل هذا التوجه؛ لأنهم يرغبون في تجنُّب أي عنصر من التفكر، وبرفضهم الدخول في مناقشة عما يمكن أن تخبرنا به الأمم عن طبيعة البشرية، فإن هؤلاء الدارسين يتجنبون مخطئين إشكاليةً حول سبب كون الأمة مصدرًا كبيرًا للاهتمام ومطلبًا مُلِحًّا لدى البشر.
ومن بين أسباب استمرارية الأمم وأهميتها — وقد ذكرناه في الفصول السابقة — هو أن البشر مشغولون بالحيوية، وفوق ذلك، بأصولها. ونتيجة لهذا الانشغال، يكوِّنون علاقات حول تلك الأصول، التي تعد العائلة أوضح مثال لها، وتتمركز حول الأم والأب كمصدرين للحياة. ومن المحتمل أن ذلك الانشغال يفسر استمرارية تكوين تراكيب مختلفة من القرابة، وإن كان هذا التكوين متنوعًا من الناحية التاريخية. ويعتبر التعقيد الذي تفرضه الأمة على تكوين تراكيب من القرابة، هو أن الأمة تُدخِل إقليمًا ممتدًّا، وإن كان محدودًا، كعنصر إضافي في هذا الانشغال بالحيوية. ويجب تأمُّل أهمية الميلاد بالنسبة إلى تكوين كلٍّ من الأسرة والأمة؛ إذ يضع الآباء رفاهية أطفالهم قبل رفاهيتهم هم أنفسِهم، وقد يضحِّي أبناء الأمة بأرواحهم من أجل رفاهية أمتهم، ومثل هذه التضحية بالنفس، التي كثر حدوثها خلال القرن العشرين، تتطلَّب التقدير والإشادة.
ومع ذلك، فليس هذا هو المعنى الوحيد الذي ينظِّم البشر أنفسهم حوله، بل هناك علاقات تسمو على الانشغال بالحيوية؛ إذ إنها تهتم بأسلوب الحياة الأمثل، وفي التصنيفات الدينية يكون التباينُ بين هاتين العلاقتين هو تباينًا بين الوثنية والتوحيد، ويبدو أن كليهما مستمرٌّ في شئون البشر.
وليست مهمة السياسة أن تنكر هذين التوجُّهين المختلفين من السلوك الإنساني. فإن مؤازرة أحد هذين التوجهين على نحو متعنِّت على حساب الآخر لا تتسبَّب إلا بإدخالِ افتتانٍ شمولي بأحد تعبيراتهما الأيديولوجية؛ سواء القومية أو الأصولية. ومهمة السياسة هي الفصل ببراعة بين الاحتياجات التي تضعها هذه التوجهات على الحياة البشرية، من خلال الممارسة المتعقِّلة لفضيلة المدنية، التي تنشأ عن الاهتمام بالصالح المشترك لمجتمع المرء الذي قد يكون غامضًا لا محالة.