من الأبدية
لو كنت في الأبدية ماذا أشاهد؟
لطالما خطر لي هذا السؤال كلما شاهدت جنازة مارَّة في الطريق. تُرى لو سمع الميت ما يقال خلف النعش من الكلام، ماذا يصنع؟ لو علِم أن هؤلاء المشيعين لا يتكلمون عنه طول الوقت، وأن فيهم من يستنزل عليه اللعنة إذا طال المشي، ولم يبدُ بعد أثر المسجد الذي سيصلى عليه فيه، وأن منهم من يسلِّي نفسه وجاره في أثناء السير بحكايات ونوادر قد تدعو إلى الضحك والابتسام، وأن منهم من يتكلم في عمله وتجارته وبيته وغيطه. لو علِم الميت أن كل ما خصَّه هو من كل هذا الكلام الذي يدور خلف خشبته لا يعدو دقائق معدودات، وأن كل ما أنفق من وقت المشيعين في الخشوع لجلال الموت لا يتجاوز لحظات، وأن الصمت الرهيب الذي كان يجب أن يحيط بنعشه لم يدُم أكثر من دقيقة، ثم بدأ الهمس يعلو، والهمهمة ترتفع، والكلام والثرثرة يَدويان بين الصفوف في طنين كطنين الذباب، ذلك أن الناس غير قديرين على نسيان أنفسهم والسُّمو عن هذه الأرض والارتفاع عن شئون حياتهم العادية الصغيرة أكثر من خمس دقائق.
ومع ذلك، لماذا نريد من الناس الوقوف أمام الموت موقفًا أجلَّ من هذا؛ إن الموت لا يجلُّ ولا يعظم حقًّا إلا في نظر من يموت في تلك اللحظة التي يشعر فيها المحتضر أنه مفارق هذه الدار التي عرفها وعرف أهلها إلى مكان مجهول، فراقًا لا رجعة بعده. في تلك اللحظة يرى المحتضر الدنيا تبعد عنه كما تبعد المحطة عن أنظار المسافر في قطار. ويرى دموع المودعِين من الأهل والخلان تتساقط على باقات الأزهار يقدمونها إليه فيخيَّل إليه أن ذهابه سيغير وجه الأرض. ولا يعلم أن هؤلاء المودعِين سينصرفون من باب المحطة إلى شئونهم ضاحكين كأن لم يحدث شيء. تُرى لو رأى الميت كل ذلك في صندوقه وأعطِي القدرة على الخروج منه والنهوض، أما كان يصيح في الناس: أتسمُّون أنفسكم مشيعين؟ انصرفوا أيها اللكعاء!
إني شخصيًّا لا أعتقد أن الميت يفعل ذلك أو يقوله لو قدِر عليه. إن الميت إذ يجتاز عتبة العالم الآخر ويدخل منطقة «الصفاء» ينظر إلى الناس وأحوالهم من علٍ كما ينظر الإنسان إلى سرب النمل يحمل جناح صرصار إلى ثقب في أسفل الجدار. إنه يستكثر على الناس مجرد التحرك في تابوته لينظر إلى ما يفعلون، إنه يستكثر على المادحين والقادحين حتى مجرد ابتسامة سخرية تعلو شفتيه الجافتين الباهتتين.
فهذا السؤال الذي ألقيته على نفسي لا معنى له عند الميت. إنما هو سؤال يُمليه علينا غرورنا نحن الأحياء.
على أني على كل حال لو تمنيت شيئًا بعد الموت. لرغبتُ في أن أقول أنا رأيي في الناس وقد تركتهم، قبل أن يقولوا هم عني شيئًا وهذا مستطاع. وقد فعل ذلك فيما أعلم أحد الأمريكان أو الإنجليز غريبي الأطوار. إذ سجَّل خطبة له في أسطوانة فونوغراف وأوصى المشيعين أن يطلقوها على قبره تنطق بصوته وأنفاسه وضحكاته وكلماته. فماذا يمنعني من أن أصنع مثله، وأن أقوم في الناس خطيبًا بعد موتي أقول فيهم:
«سيداتي وسادتي:
«أولًا … فلتجفِّف السيدات أعينهن؛ حتى لا يضيع كلامي بين الشهقات، وحتى لا تُضيع الدموع طلاء وجوههن وصبغة شفاههن. وهذا هو المهم. فإني ما زلت حريصًا على أن تكون المرأة جميلة. فالجمال هو العذر الوحيد الذي به نغفر للمرأة كل تفاهتها وحماقتها. عفوًا. لقد نسيت أني ميت، وأنه ما كان يليق بي أن أوجِّه إليكن أيتها السيدات هذه الألفاظ في مثل هذه اللحظة الرهيبة، أنتُن ولا ريب تصغين إليَّ الساعة والغيظ بادٍ عليكن، ولولا جلال الموت، لألقيتن على قبري أحذيتكن ذات الكعب العالي، إن كل ما ستفعلنه الآن عقابًا لي وامتهانًا لشأني، هو أن تخفين في الحال مناديل العبرات العاطرة، وتخرجن أصابع الأحمر الناضرة، وتنظرن في مرآة الحقيبة الصغيرة وتهززن أكتافكن قائلة إحداكن للأخرى: «والنبي الدموع فيه خسارة!» وهذا ما أريد أن أصل إليه، وهذه نصيحتي الثمينة. لكن معشر الأحياء من النساء: حذار أن تتلفن هدبًا واحدًا من أهدابكن الجميلة من أجل شيء على هذه الأرض، فإن الأرض كلها لا تساوي هدبًا واحدًا من أهدابكن!».
«أما أنتم أيها الرجال والأصدقاء والمعجبون، المرتدون السواد على فقيد الأدب، المحزونون لفداحة المصاب الجلل، الباكون لما رُزئَت به العربية والناطقون بالضاد … إلى آخر هذا الهراء الذي سيملأ به خطباؤكم وشعراؤكم تلك المراثي البليغة والقصائد العصماء … وإني لألمح الساعة جيوب بعضكم منتفخة بشعر ونثر قد كتب خاصة للتأبين. ولعل أكثره قد وُضع قبل الاحتضار؛ حتى يكون معدًّا للإلقاء في الوقت المناسب، ولعل إحدى تلك القصائد قد نشرت اليوم في صحف الصباح بينما نشر إلى جانبها خبر الوفاة. كأنما القصيدة العصماء قد خرجت من صدر صاحبها ساعة خروج روحي من صدري! لِمَ كل هذا الإسراع؟ ألا يتركني الأدب وشأني وقد صرتُ ترابًا؟ أيظل يلاحقني شيطان الفن ويصيح في إثري وأنا أفرُّ منه إلى عالم أرجو ألا أرى وجهه فيه. أما يكفيه أنه أضاع عليَّ حياة نابضة. أنا الذي صنعه خالقه من لحم ودم، ووضعه في دنيا جميلة زاهرة، وقال له: «انطلق وعش حياتك في هذه الحياة». فلم أفعل ذلك. ولكني أحلت لحمي ودمي إلى ورق ومداد. آه … إنكم لو أنصفتم معشر المشيعين لوضعتم جثتي مع كتبي وأشعلتم النار في كل هذا. عجبًا. إني أبصِر أحدكم وهو شاب فيما أرى لا يريد أن يصدق ما أقول. وإن فمه ليرتجف كأنما هو يريد أن يصرخ متحمسًا: «في ذمة الخلود، في ذمة الخلود»!»
«أيها الصديق الصغير ليس من اللطف أن أضحك الساعة منك ومن «خلودك»، وأن أبدد تلك الأحلام التي تخيم على عشرين ربيعًا من حياتك النضرة كما يخيم خمائل الأزهار على خلوة المحبين، ولكني أقول لك إن كلمتك هذه إن صلحَت لسنِّكَ وكان لها عندك أعمق المعاني، فإنها عندي الآن لا معنى لها، ولست أدري ماذا تقصد بها؟! تقصد أني قد أكون تركت لكم بعض آثار ربما بقيت. فليكن. ماذا يُهمني أنا من ذلك؟»
«وبعدُ … لا أحب أن أستبقيكم وقوفًا أمام قبري أكثر من ذلك، فإن من بينكم من قد ارتبط بمواعيد سابقة وهو يختلس النظر في ساعته من آنٍ لآن. وليس عندي بعد ما أقول لكم، غير أني أرى في أوائل صفوفكم أصدقاء لي لا يمكن أن أستخف بعواطفي نحوهم. ولعل صداقتهم هي خير ما خرجت به من تلك الدار.»
«والآن، اسمحوا لي أن أسكت سكوتي الأبدي وأنا أرجو منكم أن تنصرفوا إلى شئونكم كأنه لم يحدث شيء؛ فلست في حاجة إلى كلامكم، وإذا أردتم أن تعقِّبوا على قولي هذا بشيء في دنياكم تلك، فضعوا مكان أسطوانتي هذه أسطوانةً موسيقية لأحد الموسيقيين الذين كنت أحبهم، تلك هي اللغة الوحيدة التي أستطيع أن أفهمها عنكم في كل وقت … والوداع.»