في النوم
إذا جنَّ الليل، ورقد الناس، وسكنَت الكائنات، قام هو في خفة الطائر، ورقة النسيم، ينسج قصصه العجيبة بأناملَ لا يعرف وصفها إنسان. ذلك هو الحُلم. فنان حاذق يأتي بالمعجزات في رءوس النائمين.
وهو ككلِّ فنان محترف كتِب عليه الإنتاج في كل ليلة، لا يبرأ من الإسفاف، ولا يستطيع أن يجيد في كل حين. فهو لا يخرج دائمًا في كل الرءوس آيات متناسقة البناء، شيقة الحوادث، مستقيمة التفكير. إنه هو أيضًا ضحية «الروتين» الذي يقتل الفنانين.
لكنه إذا أبدع أوحى. وإني لأعرف كتَّابًا يستلهمون الحلم. وإني لأذكر خبرَ كاتبٍ روسي أو مجَري كان يأكل قبل النوم حتى الكظة؛ طالبًا التخمة، راغبًا في الكابوس يصوِّر له من الحوادث المخيفة ما ينفعه في استنباط قصة. أما أنا فأبغض الكابوس ولا أريده، ولو ألهمني خير القصص فإن لحظةً أقضيها في جوه الخانق لأشقُّ على نفسي من الجحيم؛ غير أني لا أنسى رؤيا منسجمة الفكرة متصلة الخيوط، رأيتها ذات ليلة، فاستطاعت أن تشغل بالي في الصباح، وأن تقبضني على القلم، وأن تستكتبني هذه السطور:
رأيت أني معها في حجرة واحدة. أما هي فغادةٌ حسناء، ذلك النوع من الحسن الذي أحبه. ولست أدري كيف عرف الحلم ذوقي فاختار لي مثل هذه المرأة! جلسنا معًا وهي في ثوب أخضر خفيف. وكأن بيننا حبًّا قديمًا، والحلم خير من يلعب بالزمن كما يلعب المصور بالألوان. فلم نكن نعيش، أنا وهي، إلا في ثوانٍ … لكنها كالأعوام، لها ماضٍ وذكريات. يحيط بنا إطار مصنوع من جوهرٍ لا أدري ما هو، لعله ما يسمونه «السعادة». وفجأة، طرق علينا الباب. وظهرت خادمة تعلن في صوت خافت أن زوج الفاتنة قادم. هرج واضطراب وقعَا في الحجرة. فقفزت أنا من مكاني أبحث عن حذائي. ونهضَت هي في سرعة الريح إلى المرآة تصلح من شأنها. وتملَّكني الوهم وحرج الموقف فعجزتُ عن إدخال قدمي في الحذاء، ورأت هي ما أنا فيه، فصاحَت بي: عجِّل بالخروج!
– لا أحبَّ إلى نفسي الآن من الخروج سالمًا. لكن الحذاء …
– ألا تريد أن تنصرف؟
– حافيًا؟ هذا لا يجوز. وهل أنتِ ترضين لي الخروج على هذه الحال؟
فلم تجِب وجذبتني من ثيابي، ودفعتني إلى الباب، فخرجتُ أحمل حذائي في يدي، وإذا أنا — وجهًا لوجه — أمام رجل وسيم الطلعة، أنيق الهيئة حيَّاني باسمًا؛ فارتجفت ونظرت إلى عينيه، فلم أرَ فيهما غضبًا ولا سخرية. وأشار لي في كياسة أن أضع الحذاء في قدمي على مهل. فقلتُ متلعثمَ اللسان: أشكرك يا سيدي على هذا اللطف.
وحاولت أن أفعل ما أراد فلم أستطع؛ فلقد حَرَن الحذاء مرة أخرى، وأبَى أن يلين لتوسلاتي الحارة ولعرقي المتصبب في هذا الظرف المؤلم. وخرجَت «الحسناء» زاهيةً كالقمر، فما إن رأت الرجل والرجل رآها حتى وقع أحدهما في أحضان الآخر، وقبلات …
وشعرت في أعماق نفسي وقتئذٍ أني لا أصلح للبس الحذاء ولا الانصراف، ولا لصنع شيء في هذا الوجود! فجلست القرفصاء أنظر وأسمع ولا أدري لي مصيرًا. وفرغَا من القبَل ولكنهما ظلَّا متعانقين وهي تقول له: أهذا شغفك بي؟ مضى عام دون أن أسمع عنك خبرًا!
– ألا تعرفين ما حدث؟ لقد أمسينا من أصحاب الملايين.
– ملايين؟! كيف؟ كيف؟ أخبرني!
– أنا الآن «مليونير».
– أتقول حقًّا؟ وا فرحتاه! تعال فقُص عليَّ كل ما حدث منذ أن تركتني وسافرت إلى تلك البلاد النائية!
وتناولَت يده، تقوده إلى الحجرة، فعثرَت قدمها الصغيرة بشخصي الحقير، ولم يزَل موضوعًا إلى جانب الحذاء. لكن أي حذاء. إني فيلسوف. كما أن هذا الرجل المحترم، زوجًا كان أو غير زوج، فيلسوف هو أيضًا فيما يبدو لي. ذلك أني لم أكَد أسمع أن الرجل صاحب ملايين حتى أدركتُ أن لا محلَّ الساعة للبكاء على حب! ورنَّت في أذني تلك اللحظة كلمةٌ هائلة ضاحكة: «الذهب»! كما رنَّت ولا ريبَ في قلب الحسناء فنسيَت كل شيء. وصرتُ في نظرها، أنا وحذائي على عتبة الباب، كائنَين متساويَين! نسيَت كل شيء وشيكًا؛ لأن «الذهب» كلمة جليلة عظيمة، لها صوت مدوٍّ مهيب كصوت حوافر جياد مطهمة على أرض من الرخام الأصفر … كلمة كالدخان السحري ترى خلالها القصور والعروش والحلى والتيجان! ونسيتُ أنا أيضًا كل شيء كان ويكون، حتى ما أنا فيه من ذل وتعس. كما نسيتُ أن أنهض من الأرض، وأن أرفع يدي عن حذائي الذي لم يوضَع في قدمي ولن يوضَع. ومرَّ بي هذان السعيدان … في حرص واحتياط حتى لا يعثرا بي في طريقهما إلى الحجرة. فقلتُ في أدب خالص: دوسَا، لا مانع عندي مطلقًا من أن تدوسَا!
واستحوذَت عليَّ مشاعر غريبة. لست أعلم لها اسمًا بين مشاعر الناس. فلم ألبث أن تقدمتُ نحو الرجل وقلتُ في احترام عميق: لقد أشرق النور في هذا البيت مذ حللتُم به، وإن سيدتي كانت شديدة القلق، كثيرة الهم لغيبَتكم الطويلة حتى أسعدَها الله أخيرًا بأوبَتكم الظافرة الميمونة.
فالتفتَ إليَّ الرجل في استغراب خفيف، ولكن الدهشة كلها كانت دهشة المرأة. ولم أمهِلها حتى تُفيق، فوجَّهت إليها من فوري الخطاب: أما كنتِ يا سيدتي تذكرينه دائمًا في شوق ولوعة؟ ها هو ذا قد عاد ولا ينقصكما الآن إلا خلوة تتبادلان فيها رقيق العتاب، حتى تصفو القلوب، ويتصل بينكما ما انقطع بطول الفراق.
وانتظرت أن أحظى منهما بجواب، فلم ألقَ إلا سكوتًا باردًا ونظراتٍ فاترة. وتحركَا آخر الأمر نحو الحجرة ودخلاها وأغلقا عليهما من دوني الباب، وأنا واقف جامد، وكأني لا أعيش. وثُبتُ إلى نفسي قليلًا، فإذا عرقٌ يسيل من كل بدني: لماذا صنعتُ هذا وقلتُ هذا؟ وهل سألني واحد منهما أن أكون لهما رسول سلام؟ وهل هما في حاجة إليَّ، حتى يدخل قلبيهما الصفاء؟ ومن قال إنهما كانا غاضبين؟ إنهما الآن مثلُ كل متحابَّين مؤتلفَين لا يطلبان إلى أحدٍ أن يمشي بينهما بخير أو بشرٍّ. ينبغي أن أفهم الآن أني قد طُردت من الفردوس حافيَ القدمين.
وانتهى الحُلم من تأليف قصته، وسكتَ عن الكلام المباح وقد أدركه الصباح. واستيقظتُ فوجدتُ أني حقيقةً عاري القدمين وقد سقط اللحاف عني، ولكن ستار النسيان لم يسدَل في رأسي على الرواية، فقد تركَت في نفسي أثرًا عميقًا. وطفقتُ أقول:
«حتى الحلم، ذلك الفنان البارع، لا يملك لمثلي من ذلك الجوهر الطيار الذي يقال له «السعادة» غير مقدار قليل لا يشفي الغليل!»