في حانة الحياة
ساقون ثلاثة في «حانة الدنيا» إذا ناديتهم أقبلوا بالكئوس وهم يرقصون، وفي عيونهم وشفاههم بسمات خفيفة ساخر لا ترتاح لها نفس … أول «جرسون» من هؤلاء طفل؛ وهو أبدًا طفل وعمره خمس سنين … ويدعونه «الحب»، والثاني رجل وهو أبدًا رجل وعمره أربعون سنة … ويسمونه «الشيطان»، وثالثهم لا عمر له ويدعى «الموت»، والموت هو «البارمان» لهذا الحان. وهو الوحيد من بين الثلاثة الذي لم أفكر يومًا من الدنو منه، وقد زهدتُ من أجله في الشراب على «البار»! … منظره لا يعجبني وحسبي منه وقفته الوقحة، و«فوطته» القذرة التي بها ألف خرق، وضحكته التي كسعال المسلولين، وأسنانه الصفراء العفنة من تأثير إدمانه التدخين والمغيبات. إنه «يُقرفني» ومحال أن أتناول شيئًا من يده طوعًا واختيارًا.
أما «الشيطان» فيعجبني بطلاقته وزلفاه وذكائه. ولولا علمي أنه محكوم عليه غيابيًّا … وأنه من أرباب السوابق في جرائم النصب والاحتيال … لركنَّا إليه … أنا وكافة «الزبائن».
أما «الحب»؛ فالويل من هذا الطفل الجاهل الجميل! إنه يأسرني بلطفه ورقته … أجل إنه الساقي الوحيد الذي أتناول من يده كل شيء … وبلا تحفظ. غير مبالٍ إن كان ما يعطيني سمًّا أو «شمبانيا».
ناديته في الربيع الماضي فأقبل يحمل إليَّ الكأس … ووقف ينظر إليَّ برقَّة ساحرة، ويبتسم إليَّ بابتسامة خلابة تحوي أشياء لم أكن أدركها في ذلك الحين: ماذا تريد! … «البقشيش»؟
– كلا … أريد ألا تطلب إليَّ شيئًا بعد ذلك … إياك أن تطلب قليلًا من الثلج … إن طلبت قليلًا من الثلج فلن آتي لك بطلبك.
– اطمئن … لن أطلب إليك شيئًا … أبدًا … لا «ثلج» ولا «صودا».
وأقبلتُ علي الكأس … لكنه استوقفني أيضًا. وغافلني وحمل الكأس وجرى قليلًا، ثم ضحك ضحكة صبيانية، وقال في نبرة ملائكية: سأعذبك.
غير أني لم أسمع ولم أرَ ولم أدرك إلا شيئًا واحدًا؛ إنه حمل الكأس وابتعد. فارتجفت وصحت مدفوعًا بالرغبة والظمأ: هات الكأس يا جرسون.
فاقترب به من شفتي … وقال بنفس الصوت الموسيقي العذب: سأعذبك!
– هات الكأس يا جرسون!
– سوف تلعنني.
– أنا؟!
– سوف تمقتني.
– أنا عبدك.
– سأعذبك.
– هات الكأس.
– خذ!
•••
ومضى عام.
– يا جرسون … يا جرسون!
– ماذا تريد؟
– الثلج … في الحال … الثلج!
– لقد أنذرتك.
– أرجو منك … قطعة واحدة من الثلج!
– لقد أنذرتك.
– قطعة … ولك ما تريد.
– هيهات … هيهات!
– لا تبتعد … لا تهزأ بي … لن تتركني قبل إحضار الثلج.
– هيهات … هيهات!
– لقد خدعتني … ما كنت أظن طفلًا بريئًا جميلًا يجرؤ على هذه الجريمة: يقدم إليَّ بدل ماء الكروم ماء النار!
– الكروم والنار … يا لك من غِرٍّ ساذج! … الخمر والنار هما عنصرا حياتي. وهما لون خدودي ولون شرابي!
– قطعة من الثلج … ولك ما شئت!
– محال!
– رحماك!
– لو كنت عاقلًا لأدركت أن الثلج ليس في عهدتي.
– لماذا؟! … لماذا؟!
– سَل صاحب الحان.
– أنقذني … لعنة الله عليك.
– الثلج لا يمكن أن يكون في عهدتي.
– آه يا ملعون! وما العمل؟
– عليك بجرسون آخر.
– جرسون آخر؟! … من؟! من؟!
فجرى «الحب» إلى «الشيطان» وأسرَّ إليه كلامًا، ثم أشار بيده إليَّ أنا «الزبون» المسكين، وإذا «الشيطان» قد أقبل نحوي: أنا … هو ذا … ما طلبك؟ … أنا القدير على تنفيذ رغبتك … مُرنِي أُطِع أيها السيد النبيل!
– الشيطان!
– خادمك!
– كلَّا مستحيل! أنت من أرباب السوابق.
– مظلوم وربك، لم يَثبت ضدي شيء … لا تصدق وشايات الناس. وربك إني متهم زورًا وبهتانًا.
– ما الدليل على براءتك؟
– هاك … «رخصتي» … بيضاء كقلب الجنين!
– أليست … مزورة؟ … على كل حال أنا في حاجة إليك الآن! إني في حاجة شديدة إليك … أسامع؟
– محسوبك.
– الحب … هزَأ بي … انتقم لي.
– آسف! الحب زميلي وليس لي عليه سلطان.
– ما العمل إذن؟
– دع الانتقام … وفكِّر في الدواء.
– الدواء … الثلج … قطعة من الثلج … إذن!
– الثلج ليس بالدواء … الدواء هو …
– هو! هو ماذا؟ تكلم؟
– هو الداء … وداوها بالتي كانت هي الداء.
– ماذا تعني؟
– اطلب من «الحب» كأسًا أخرى!
– قل سمًّا آخر، نارًا أخرى سائلة في كأس صافية! … لا، أيها النصاب لقد خدعتَني مرة.
– ومن أدراك؟ ربما في هذه المرة …
– اخرس … يا منافق … دوائي الثلج … وأنا أدرى الناس بدوائي … أعطني قطعة من الثلج … أسرع بالثلج.
– محال.
– أنت أيضًا.
– الثلج ليس في عهدتي.
– كيف ذلك؟ … كيف ذلك؟
– سَل صاحب الحان!
– وما العمل؟ … ارحمني!
– أدلُّك على «جرسون» آخر … وأوصيه بك خيرًا … فلطالما أوصيته عند اللزوم بزبائننا الكرام.
وجري «الشيطان» مهرولًا إلى «الموت» وأسرَّ إليه كلامًا، ثم أشار إليَّ أنا «الزبون»؛ فتقدم «الموت» في بطء وهو يبتسم ساخرًا: من ذا الذي طلبني؟
– الموت! … آه … لا … لا … لا … أبدًا.
– عجبًا لكم يا معشر الزبائن … كلكم متشابهون … تطلبون ثم تنكرون! ألم تطلبني أيها الزبون؟ ها … حا … حا … حا …
– لا تسعل في وجهي … اغرب عني.
– عجبًا لك! … حا … حا … سعالي يخيفك … أتحسبني مسلولًا؟ … لا … أخطأت! هذا من الأفيون، نعم … ها … حا … حا … ألا تحب تعاطي الأفيون؟
– بالله … ابتعد … أسنانك الصفراء … ابتعد … ابتعد.
– والثلج … ألا تطلب الثلج هو في عهدتي ألا تريد؟
– في عهدتك؟!
– في عهدتي دائمًا … من يوم «نزولي الخدمة»، بهذه الحانة.
– كلَّا لا تقربني … قلت لك … لا تقربني … أستودعك الله!
– إلى أين؟! حا …
– ابتعد عني … أنت لا تطاق … رائحتك كريهة.
– والثلج … حا … حا … ألا تطلب ثلجًا … أبيض … تعالَ لا تخف … تعال … ثلجًا أبيض مثل الكفن!
– النجدة … النجدة … يا جرسون «حب»، يا جرسون «شيطان» … يا صاحب الحان … أنقذوني من هذا الجرسون الفظيع … كل شيء يطاق إلا هذا الجرسون البارد الفظيع.