مع الأميرة الغضبى!
الأميرة الغضبى هي «بريسكا» بطلة قصتي «أهل الكهف». وهي مثلي تحب الكتب، هذه الحسناء النضِرة كالزهرة. وكانت تعيش ربيعها الباسم مع مؤدِّبها «غالياس»، هذا الشيخ الفاني ذو اللحية البيضاء. إلى أن وضع القدَر أمامها: الفتى الجميل «مشلينيا». فما كاد يتفتح قلب هذه الزهرة للحب، حتى رأت «القدَر» قد حال بينها وبين حبيبها، وسطَّر في اللوح أمر موته. وقدَر «بريسكا» هو «أنا» ولا فخر، أنا الذي في يدي سعادتها وشقاؤها، أسطِّرهما بكلمة من قلمي! لقد تذكَّرت هذا، ذات ليلة، فحدثتني نفسي أن أهبط إلى عالم مخلوقاتي، فأرى الراضي منهم والساخط، وأطوف بمشاعرهم نحوي ونحو الأشياء كما كان يفعل آلهة الأساطير!
ذهبتُ إلى الأميرة «بريسكا»؛ فوجدتُها تتألق في حُسنها المعهود. ولكنه حُسن عليه غيمة حزن. فما أن رأتني وعرفَتني، حتى هبَّت إليَّ صائحة: إني أبغضكَ! … من أعماق قلبي.
– أستغفر الله! لماذا يا سيدتي؟ ما جنايتي؟!
– وأحتقركَ كما أحتقر «غالياس».
– لاحظي يا سيدتي قبل كل شيء أن ليست لي لحية غالياس!
– قل لي أنت قبل كل شيء؛ ماذا عليك لو أنك أبقيت لي «مشلينيا»؟ … لو أن قلمك تمهَّل لحظة صغيرة ولم يقصِف تلك الحياة قبل أن يحضر غالياس وعاء اللبن؟! ماذا كسبت أنت من موت مشلينيا قبل الأوان؟ لحظة واحدة صغيرة كانت كافية لإنقاذ الفتى … لكنك ضننت بها أيها القاسي الظلوم!
– لست قاسيًا يا سيدتي ولا ظلومًا. ولو كنت أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة واحدة لأبقيته لك عن طيب خاطر.
– لو كنت تمتلك؟ مَن غيرك يملك؟!
– لا تُحمِّليني يا سيدتي هذه التبعة!
– جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا التنصل!
– آه! ما أظلم الإنسان! وما أحوج الخالقين إلى الرحمة والرثاء في هذا الوجود!
– نحن الظالمون وهم المظلومون! شيء بديع!
– إنكم تحمِّلونهم التبعات وترمونهم بالظلم وهُم بَراء من كل صفة من هذه الصفات. فلا ظلم ولا عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا رضا، تلك عواطف لا يعرفونها ولا يشعرون بها. ولو أصغَى إله لصوت آدمي لانحل الكون في طرفة عين، كما تنحل قصة «أهل الكهف» لو أني أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها! فأنتِ تريدين أن أؤخر موت «مشلينيا» دقيقة، ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة كانت كفيلة أن تغير وجه القصة، وتقلب مصير الأشخاص وتلقي عناصر الفوضى في العمل كله. كلا يا سيدتي. إني لم أرِد موت مشلينيا ولم أرِد بقاءه، ولم أحبَّ ولم أكره، ولم أظلم ولم أعدل. إن الخالق لا يمكن أن يخضع لغير قانون واحد: «التناسق».
– هذا كلام تبرر به قسوتك.
– أنتِ يا سيدتي لا تعرفين ما مهنة الخالق! ثقي بأن كلمة «قسوة» لا معنى لها في تلك المهنة.
– أنتَ كائن لا يمكن أن يفهمني، ولا يمكن أن يفهم الحب.
– لا أفهمك، هذا صحيح، أما إني لا أفهم الحب فهذا غير صحيح.
-هل أنتَ تفهم الحب؟
– قليلًا.
– هل أحببتَ في حياتك؟
– أيتها الأميرة! لا أسمح لك بالكلام في شئوني الخاصة.
– معذرة! إنما أردتُ أن أعرف كيف فهمك للحب؟
– ماذا تريدين أن تعرفي؟ أحُب الخالق وهو روح التناسق؟ أم حب المخلوق؟
– بل حب المخلوق … حب القلب … الحب ما أريد. آه … صدقت ما دمتَ أنت خالقًا وأنا مخلوقتك فإن بيننا تلك الهوة … فأنت لا تنظر إليَّ بعين خاصة، ولا تعرفني معرفة خاصة، ولا تتصل بي اتصالًا مباشرًا. إنما تنظر إليَّ كعنصر من عناصر الكل المتَّسق. تنظر إليَّ بعين ذلك القانون الذي تحكي عنه، وينبغي أن تكون مخلوقًا مثلي وعنصرًا أو جزءًا مثلي حتى يكون بيننا ذلك الارتباط الخاص وذلك الالتفات الخاص. فهبكَ كذلك وهبني أحببتكَ فهل تحبني؟
– يا لك من ذكية ماهرة!
– أجِب. إذا أحببتُك؟!
– و«مشلينيا»؟
– دعنا الآن من مشلينيا.
– إذا أحببتِني؟ أنا؟
– نعم، أنتَ.
– إني أخشى هذا الحب.
– لماذا؟
– لأنكِ لن تحبِّيني.
– من أين لك العلم؟
– هل رأيتِني؟ إني لا أشبه مشلينيا في شيء، فليست لي فتوَّته ولا جماله ولا قوامه ولا ذراعاه ولا شفتاه …
– ولا قلبه؟
– (أتَردد قبل أن أجيب) قد يكون لي قلبه، لكن ثقي بأني لو شقيت في الحب فإني لا أذهب إلى الكهف ولا أموت جوعًا. أو لا … ليس عندي كهف أموت فيه. وإن وجدنا الكهف، فلسنا واجدين الشجاعة والصبر عن أكل الشواء والدجاج يومًا واحدًا.
– إذن ليس لك حتى قلبه!
– نعم، وا أسفاه!
– إذن ماذا يصنع مثلك لو شقي في الحب؟
– يذهب إلى كهف من كهوف النبيذ في «مونمارتر» ويؤلف قصصًا تمثيلية.
– مرحى! مرحى!
– لا تغضبي أيتها العزيزة «بريسكا».
– أهذا فهمك للحب؟
– ماذا تريدين؟ إنا لسنا قديسِين!
– نعم، لستم سوى خالقين! آه … كنت أحسبكم خيرًا من هذا!
– كذلك قال «غالياس» يومًا فيما أذكر عن القديسِين الثلاثة إذ خالطهم وحادثهم. ألا تذكرين؟
– كنت أظنك على الأقل خيرًا من غالياس المسكين فهمًا للحب!
– يشقُّ عليَّ أن يخيب ظنك فيَّ يا عزيزتي!
– عزيزتك! كلا. لست أسمح لك! إنك تخاطبني كما لو كنت تعرفني من قبل، أو كما لو كنت لي بعلًا!
– حقيقة أيتها الأميرة ليس لي هذا الشرف!
– تستطيع أن تنصرف يا هذا!
– أنصرف إلى أين أيتها الأميرة؟
– أتسألني؟ إلى حيث كنت … إلى سمائك.
– أين هي هذه السماء؟ في قهوة «سيرانو»؟ أو في قهوة «جروبي»؟ ما أكثر أوهامكم أيتها المخلوقات!
– نعم ما أكثر أوهامنا … وتخيلاتنا … وخيبة آمالنا!
– ذلك أنكم تريدون أن تُخضِعوا كل شيء لخيالكم أنتم.
– صدقت! إننا نتمثل القديسِين والآلهة كما تصورها لنا عقولنا.
– ثقي بأنَّ لو كشف المجهول يومًا لأعين البشر لصاحوا كلهم بكلمتك التي لفظتها الساعة: «كنا نحسبه خيرًا من هذا!»
– ربما …
– ذلك أنهم سيرون المجهول شيئًا لا علاقة له بعقلهم، ولا بخيالهم، ولا بمنطقهم، ولا بعواطفهم، ولا ببشريتهم.
– إنا مخلوقات. ماذا تريد من مخلوقات؟ إنا لا نستطيع أن نخرج من أنفسنا لنفهم ونرى شيئًا غير أنفسنا.
– ومع ذلك فإن لهذه المخلوقات كنزًا لا يوجد عند الآلهة.
– القلب؟
– نعم.
– إني أومن بما تقول، فها أنت ذا خالق من نوع تافه … وليس لك القلب الذي ﻟ «مشلينيا»!
– أعترف أني أقل شأنًا من حبيبك.
– ومع ذلك فقد اجترأَت يدك على إطفاء حياته الجميلة.
– عدنا إلى الاتهام.
– إني أبغضك … أمقتك … أبغضك من أعماق قلبي.
– سبحان الله! أقسم أنَّ لا فائدة من مناقشة امرأة تحب.