عدو إبليس
(«عزرائيل» وقد انصرف عن دار النبي «محمد» بعد وفاته يرى «إبليس» مقبلًا فرحًا مبتهجًا.)
إبليس
:
هل قبضت روحه؟
عزرائيل
:
وما شأنك وهذا، أخزاك الله؟
إبليس
:
نعم، نعم، لقد مات. أليس هذا صوت ابنته فاطمة تبكي وتصيح:
«أبتاه، أبتاه. أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه!
يا أبتاه إلى جبريل ننعاه!»
عزرائيل
:
وما يعنيك من هذا الأمر؟
إبليس
:
أوليس هذا أيضًا صوت زوجته عائشة في بكاء وشهيق: «وا حرَّ
قلباه! وا مصيبتاه! الآن قد انقطع عنا خبر السماء!»
عزرائيل
:
اغرب عن هذا المكان!
إبليس
:
ثم ها هو ذا صوت نسائه كلهن يبكين: «وا ثكلاه! وا
ثكلاه!»
عزرائيل
:
اغرب عن هذا المكان!
إبليس
:
ما أجمل هذا النهار! … إن نفسي لتكاد تتفجر شعرًا وغناءً.
أصغِ إلى هذه الأغنية:
ذهب عدوي
إلى الفناء
اليوم عيدي
فإلى الغناء
عزرائيل
:
صه قبَّحك الله وقبَّح صوتك!
إبليس
:
صوتي منذ اليوم يستطيع أن ينطلق حرًّا في أرجاء الأرض. صوتي
منذ الآن يستطيع أن ينفذ إلى تلك القلوب التي كانت تميل عني
لتتلقى أخبار السماء. نعم الآن قد انقطع عن الأرض خبر السماء.
لقد عاد إليَّ مُلك الأرض من جديد … وا فرحتاه! وا
فرحتاه!
عزرائيل
:
خسئت! إن نور السماء قد نفذ إلى قلوب الناس، فهيهات بعد
اليوم أن يُصغوا إلى صوتك!
إبليس
:
إنك لا تعرف الناس مثلما أعرفهم. إني أعرف كيف أمر بأناملي
مرًّا رقيقًا على أوتار قلوبهم، فيذهَلون، وأغني بصوتي هذا
غناءً شجيًّا فيطرَبون … إنك لا تعرف ما هي الأغاني التي
أغنيها لهم. إني أغنيهم أغاني الأرض لا أغاني السماء! إن
السماء تنير قلوبهم حقيقة … لكن لأجلٍ قريب. لا تنسَ أنهم
خلقوا من طين الأرض. لا شيء يهزُّ كيانهم غير أغاني
الأرض!
عزرائيل
:
إنهم من الأرض ولكن أعينهم تتطلع إلى السماء.
إبليس
:
نعم، عندما يشير لهم إليها النبي بأصبعه، فإذا ولَّي … عادت
رءوسهم تنخفض نحو الأرض. إنهم كالسنبلة التي لا يرفعها غير
الأصبع، فإذا تُركَت سقطَت.
عزرائيل
(كالمخاطب لنفسه)
:
عجبًا! ولماذا إذن رضي الله أن يقبض نبيه؟ إن لله حكمة، أجل،
أجل. أنسيت أيها الخاسر أن النبي إنما يأتي للتبليغ ويمضي؟ إنه
جاء بالدين. إنه يذهب ولكن الدين باقٍ. الدين هو الأصبع
الدائمة التي لا تنفك تقيم المعوَّج. لا تفرح إذن كثيرًا بموت
النبي. ما مات غير الجسد الزائل. أما المبادئ والتعاليم فهي
قائمة في وجه ريحك العاتية دائمًا … ما الرسول في الحقيقة غير
الرسالة … والرسالة لا تموت
إبليس
:
نعم، نعم.
عزرائيل
:
ما بالك وجَمتَ! إن على وجهك الآن لغبرة تزيده قُبحًا على
قُبحه.
إبليس
:
الرسالة والدين والتعاليم … هذا صحيح … ولكن … تلك أشياء لم
تُخِفني قط … فقد استطعت فيما مضى أن أنزع عنها بعض قوتها … إن
المسيح قد بشر بالمثل الأعلى وفتح قلوب الناس لنور السماء.
وذهب وقد ترك في الأرض قديسِين وخلفاء ساروا على سنته في نبذ
متَع الأرض، والانقطاع مترهبِين في الصوامع والبِيَع والصحاري
ورءوس الجبال يتأمَّلون وجه الله وحده، ناسِين أو متناسِين هذه
الأرض التي من عناصرها صنعت أجسامهم … هنا تراءيتُ لهم ولمن
تبعهم في صور مختلفة تذكرهم بما نسوه وتناسوه، وخاطبتُ أجسامهم
بالمنطق الذي تفهمه، وحدَّثتُ عناصر تركيبهم باللغة التي
تعرفها … فإذا أكثر الناس يصغون إليَّ في أمور حياتهم ومعاشهم
ولا يذكرون تلك التعاليم والمبادئ السماوية إلا يوم يجدون في
أوقاتهم فراغًا للتفكير في السماء. إني ذكي. إني لم أرِد قط في
حربي ضد المسيح أن أقتلع المسيحية من النفوس، ولكني أظهرت في
لباقة ما فيها من علوٍّ شاهق لا يستطيع المخلوقون من تراب وطين
أن يبلغوه ما داموا آدميين … فليصغوا إذًا إلى أغاني الجسد
وأناشيد التراب والطين … وليطلب العلو من كان عنده فضل من فراغ
ينفقه بعيدًا عن الأرض والحياة … وبهذا أصبحت المسيحية الحق
اليوم ترفًا روحيًّا لا يقتنيه غير خاصة الخاصة، أولئك الذين
لم أستطع أن أخاطب فيهم منطق الأجساد والعناصر.
عزرائيل
:
لقد أدرك الله غرضك الأثيم فأرسل محمدًا بدين لا ينكر منطق
الأجساد والعناصر … دين لا يعرف الرهبنة ولا إنكار قوانين
الأرض … دين لا يكره أن يصغي أتباعه إلى أغاني السماء والأرض
معًا … ما وسائل حربك إذن ضد محمد، والإسلام؟
إبليس
:
حقًّا … تلك هي المشكلة! لهذا كان ذلك النبي ألدَّ عدوٍّ
لي!
عزرائيل
:
إنه خاتم الأنبياء لأنه ضيَّق عليك الخناق، وسدَّ كل ثغرة
يمكن أن تنفذ منها سمومك … فماذا أنت صانع؟
إبليس
:
دعني أفكِّر.
عزرائيل
:
فكِّر طول الأبد … فلن تظفر.
إبليس
:
بل لقد فكَّرت وظفرت … الأمر بسيط: يجب عليَّ أن أطمس خصائص
هذا الدين … إني خبِرت الناس لطول لصوقي بهم وعشرتي لهم … إن
الناس يميلون دائمًا إلى التشبه والتشبيه … هذه القرود الناطقة
… يصعب عليها التمييز والتفريق والنظر في فلسفة الأشياء غدًا
عندما يوارى محمد في التراب … ويصبح ذِكرًا وطيفًا كموسى
والمسيح. لن يفرق الناس بين محمد وموسى والمسيح، بل ربما قبل
أن يواروه في الحفرة … انظر … أليس هذا عمر بن الخطاب أحد
خلفائه؟ أصغِ إليه …
عزرائيل
:
إياك أن توسوس له بشيء.
إبليس
:
أصغِ إليه.
(عمر بن الخطاب يقوم في الناس صائحًا.)
عمر
:
لا أسمعن أحدًا يقول: إن محمدًا قد مات، ولكنه أرسل إليه كما
أرسل إلى موسى، فلبث عن قومه أربعين ليلة. والله إني لأرجو أن
تُقطَّع أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات!
عزرائيل
:
عجبًا! ما هذا الذي يقول؟
إبليس
:
أرأيت؟ إنهم قد شبهوه بموسى ولم يهيلوا عليه التراب!
عزرائيل
:
كذبت! إنما هي وسوسة منك!
إبليس
:
صه! انظر! هذا أيضًا رجل من بين الناس يريد أن يقول
شيئًا.
(ينهض أحد الناس صائحًا.)
أحد الناس
:
إن رسول الله قد رُفع كما رُفع عيسى وليرجعن!
عزرائيل
:
رباه! ماذا أسمع؟!
إبليس
:
أرأيت؟ إنهم قد شبَّهوه كذلك بعيسى ولما يدرجوه في
الأثواب!
عزرائيل
:
لست أصدِّق ما أرى وأسمع.
إبليس
:
لقد قلت لك إني أعرَف منك بالبشر.
عزرائيل
:
اللهم نورك! كيف خفِي على هؤلاء أن دينهم لم يكن تكريرًا لما
سبقه من أديان؟ … اللهم إنك منزَّه عن اللغو والتكرار!
إبليس
:
ما أبهجَ هذا النهار! ألا تطربك أغنيتي:
ذهب عدوي
إلى الفناء
اليوم عيدي
فإلى الغناء
عزرائيل
:
آه، لو استطعت أن أبطش بك.
إبليس
:
اقبض روحي إن قدِرت.
عزرائيل
:
ليس لك رُوح يُقبَض.
إبليس
:
بل لي رُوح لا تستطيع قبضه يداك الصغيرتان!
عزرائيل
:
يداي حقًّا لا تستطيعان؛ ولكن يد رضيع تستطيع … إن روحك
ليُزهَق في اليوم ألوف المرات … إن رُوحك لينطفئ في قلب كل
مؤمن ومؤمنة، ومحسن ومحسنة وخيِّر وخيِّرة … إن روحك مارد من
دخان يستطيع طفل بكلمة طيبة أن يحبسه في قمقم من نحاس!
إبليس
:
ولكني لا أموت ولا أذهب إلى الفناء … لأني سلطان الأرض ورُوح
الأرض … ولن أترك الأرض ما بقيَت دودة تسعى في الأرض.
عزرائيل
:
ابقَ ما شئت في الأرض، ولكنك لن تقوى على دحر أعدائك.
إبليس
:
عجبًا لك! أولَم ترَ كيف أني في لحظة استطعت أن أغير معنى
الدين الذي قضى محمد حياته كلها في تجليته وإظهاره وتوضيحه؟
ألم يُذكِّر محمد قومه في كل وقت أنه بشر يوحى إليه … وأنه
يحيا ويموت كبقية الناس … وأن دينه هو دين الحياة … الذي يحلُّ
للناس كل وسائل العيش الصالح على هذا الأرض؟ وما دام دينه دين
الحياة والفطرة والمنطق البشري … فلا ينبغي أن يؤلِّهه الناس
كما ألَّهوا المسيح، ولا أن ينكروا إمكان موته كما فعلوا مع
المسيح … أليس هذا معنى دينه؟ فكيف إذَن بدَّل الناس الآن
المعنى، وانقلبوا يسيرون نحو فكرة التأليه؟
عزرائيل
:
إنهم لم يغيروا شيئًا … ولئن وقع في نفسك شيء من كلام عمر بن
الخطاب، فهو ولا ريب قد قال ما قال خوفًا من الردة!
إبليس
:
ولماذا يخشى ارتداد الناس عن الدين بموت محمد … إنهم إذن
كانوا يعبدون محمدًا!
عزرائيل
:
اللهم ألقِ نورك في صدور الناس!
إبليس
:
هيهات! إن ما تسميه «وسوستي» قد استقر الساعة في صدور
الناس.
عزرائيل
:
خسئت أيها الخاسر … انظر … انظر.
إبليس
:
ماذا؟ من هذا؟
عزرائيل
:
هذا أبو بكر يقوم في الناس … أصغِ إليه.
(أبو بكر ينهض في الناس صائحًا.)
أبو بكر
:
أيها الناس … أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا
قد مات … ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت!
عزرائيل
:
وا فرحتاه … أسمعت؟
إبليس
:
؟
عزرائيل
:
انظر أيضًا … انظر … هذا العباس يريد أن يقول شيئًا.
(العباس يقوم في الناس صائحًا.)
العباس
:
أيها الناس … والله الذي لا اله إلا هو، لقد ذاق رسول الله
الموت، وإنه ليأسن كما يأسن البشر … فادفنوا صاحبكم … إنه ما
مات حتى ترك السبيل نهجًا واضحًا … أحلَّ الحلال وحرَّم الحرام
… ونكح وطلَّق وحارب وسالَم … وما كان راعي غنم يتبع بها رءوس
الجبال بأنصب ولا أدأب من رسول الله فيكم!
(عزرائيل يلتفت إلى إبليس صائحًا صيحة انتصار.)
عزرائيل
:
ماذا تقول الآن في هذا؟ اغرب الآن عن هذا المكان … لقد ظهر
الإسلام، وتألق رُوح هذا الدين!