٢
لا أستطيع أن أصف نهايتنا على نحوٍ أفضل من بدايتنا؛ لأن خوفنا تلاشى كما بدأ، بلا سبب. وفجأة، تمكنت من الرؤية والسمع والسعال وابتلاع ريقي. عندما نظرتُ ورائي، رأيت أن الآخرين كانوا يتوقفون أيضًا؛ وفي وقتٍ قصير، كنا جميعًا معًا، رغم مرور وقتٍ طويل قبل أن نتمكَّن من الحديث، ووقت أطول قبل أن نجرؤ على ذلك.
لم يُصَب أحد بإصاباتٍ خطيرة. تعرضت زوجتي المسكينة لالتواءٍ في كاحلها، وكُسر أحد أظافر ليلاند على جذع شجرة، أما أنا فقد خدشتُ أُذني وألحقتُ بها الضرر. لم ألحظ ذلك حتى توقفت.
خيم الصمت علينا جميعًا، وأخذنا يتفحص بعضنا وجوه بعض. فجأة أطلقت الآنسة ماري روبنسون صرخةً رهيبة. «أوه، يا إلهي الرحيم! أين يوستاس؟» ثم كادت تسقط لولا أن السيد ساندباتش أمسكها.
قالت ابنتي روز، التي كانت تتمتع برباطة جأش تفوق بقية أفراد المجموعة: «يجب أن نعود، يجب أن نعود على الفور. لكني آمُل — أشعر أنه بأمان.»
كان ليلاند جبانًا لدرجة أنه اعترض على ذلك. ولكن بعد أن وجد نفسه أقلية، وخوفًا من أن يُتْرَك بمفرده، استسلم. ساعدتُ أنا وروز زوجتي المسكينة، وساعد السيد ساندباتش والسيدة روبنسون الآنسة ماري، وعُدنا ببطءٍ وصمت، واستغرقْنا ٤٠ دقيقة لصعود المسار الذي نزلنا منه في ١٠ دقائق.
كان حديثنا بطبيعة الحال مُفككًا؛ إذ لم يرغب أحد في إبداء رأيه فيما حدث. كانت روز الأكثر ثرثرة؛ لقد أذهلتنا جميعًا بقولها إنها كادت تتوقَّف حيثما كانت.
قال السيد ساندباتش: «هل تقصدين أنك لم تكوني … أقصد أنك لم تشعُري بأنك مُجبرة على السير؟»
قالت: «أوه، بالطبع، لقد تملَّكني الخوف» — كانت أول من استخدم هذه الكلمة — «ولكنني شعرت بطريقةٍ ما أنني إذا استطعتُ التوقُّف فسيكون الأمر مختلفًا تمامًا، وأنني لن أشعُر بأي خوفٍ على الإطلاق، إذا جاز التعبير.» لم تُعبر روز عن نفسها بوضوح أبدًا، ومع ذلك، فهي جديرة بعظيم الثناء لأنها، وهي أصغرنا سنًّا، صمدت لفترةٍ طويلة في ذلك الوقت الرهيب.
تابعت روز قائلة: «أعتقد أنني كان يتعين عليَّ أن أتوقَّف، لو لم أرَ أُمي تمضي.»
بعثت تجربة روز في نفوسنا بعض الاطمئنان بشأن يوستاس. لكن شعورًا رهيبًا ينذر بحدوث شرٍّ تملَّكنا جميعًا، ونحن نتسلق بصعوبة المنحدرات المغطاة بالكستناء ونقترب من المنطقة الخالية من الأشجار. عندما وصلنا إليها، تحررت عقدة ألسنتنا. هناك، على الجانب الآخر، كانت بقايا غدائنا هناك، وبالقرب منها، كان يوستاس مُمددًا بلا حراك على ظهره.
وبشيءٍ من الحضور الذهني، صِحت على الفور قائلًا: «مرحبًا، أنت أيها القرد الصغير! انهض!» لكنه لم يرد، ولم يُجب على عمَّاته المسكينات عندما تحدثنَ إليه. وما أثار رُعبي بشكل لا يوصف، هو أنني رأيت إحدى تلك السحالي الخضراء تخرج مُسرعة من تحت كُم قميصه عندما اقتربنا منه.
وقفنا نُراقبه وهو يرقد هناك بصمتٍ مطبق، وبدأت أُذناي تَخِزَانني تحسبًا لانفجارٍ من النحيب والدموع.
جثت الآنسة ماري على ركبتَيها بجانبه ولمست يدَه التي كانت متشابكة بتشنُّج في العشب الطويل.
وعندما فعلت ذلك، فتح عينَيه وابتسم.
ومنذُ ذلك الحين، كثيرًا ما رأيت تلك الابتسامة الغريبة، سواء على وجه المالك أو في صوره الفوتوغرافية التي بدأت تظهر في الصحف المصورة. لكن حتى ذلك الحين، كان العبوس والغضب والاستياء هي التعبيرات التي ارتسمت على وجه يوستاس دائمًا؛ وكنَّا جميعًا غير مُعتادين على هذه الابتسامة المزعِجة، التي كان يبدو دائمًا أنها بلا سبب وجيه.
أمطرته عمَّاته بالقُبلات التي لم يبادلهنَّ إيَّاها، ثم ساد صمتٌ غير مريح، بدا يوستاس طبيعيًّا وغير مُضطرب، ومع ذلك، لو أنه لم يكن قد خاض تجارب مُدهشة بنفسه، لكان ينبغي أن يكون أكثر دهشةً لسلوكِنا الغريب. حاولت زوجتي بلباقة غريزية سريعة أن تتصرف وكأن شيئًا لم يحدث.
قالت وهي تجلس لتُخفف من ألَم قدمها: «حسنًا يا سيد يوستاس، كيف كنتَ تسلي نفسك منذ أن غبنا؟»
أجاب قائلًا: «شكرًا لك يا سيدة تايتلر، لقد كنتُ في غاية السعادة.»
«وأين كنت؟»
«هنا.»
«وكنت مُستلقيًا طوال الوقت، أيها الفتى الكسول؟»
«لا، ليس طيلة الوقت.»
«ماذا كنت تفعل قبل ذلك؟»
«أوه؛ كنت إما واقفًا أو جالسًا.»
«كنت تقف وتجلس دون أن تفعل شيئًا! ألا تعرف القصيدة التي تقول إن «الأيدي العاطلة هي أدوات الشيطان …»؟»
«أوه، يا سيدتي العزيزة، اصمتي! اصمتي!»، قاطعها السيد ساندباتش فجأة، فشعرت زوجتي بالإهانة بطبيعة الحال بسبب مُقاطعته، فلم تقُل شيئًا آخر وابتعدت. فوجئت برؤية روز تأخذ مكانها على الفور، وبحرية أكبر مما تُظهره عادة، مرَّرَت أصابعها بين شَعر الصبي الأشعث.
قالت بسرعة: «يوستاس! يوستاس! أخبِرني بكل شيء، كل شيء.»
جلس ببطء — وكان حتى ذلك الحين مُستلقيًا على ظهره.
«أوه يا روز»، قال همسًا، وبعد أن أثار فضولي، اقتربتُ لأسمع ما سيقوله. وبينما كنت أفعل ذلك، لمحتُ آثار أقدام بعض الماعز في التربة الرطبة تحت الأشجار.
أشرتُ قائلًا: «لقد زارتك بعض الماعز فيما يبدو. لم يكن لديَّ أي فكرة أن الماعز ترعى هنا.»
نهض يوستاس بشقِّ الأنفس وأتي ليرى، وعندما رأى آثار الأقدام، استلقى وتدحرج عليها، كما يتمرغ الكلب في التراب.
بعد ذلك ساد صمت مُطبق، قطعَه أخيرًا خطاب السيد ساندباتش الجاد الرصين.
قال: «يا أصدقائي الأعزاء، من الأفضل أن نعترف بالحقيقة بشجاعة. أعلم أن ما سأقوله الآن هو ما تشعرون به جميعًا في الوقت الحالي. لقد كان الشيطان قريبًا جدًّا منَّا في صورة جسدية. ربما يكشف الوقت عن بعض الأذى الذي أوقعه بيننا. ولكن، في الوقت الحالي، بالنسبة إليَّ على الأقل وفي جميع الأحوال، أريد أن أشكر الله على الخلاص الرحيم.»
وبقوله هذا ركع، وبينما ركع الآخرون، ركعتُ أنا أيضًا، على الرغم من أنني لا أومن بأن الشيطان مسموح له أن يهاجمنا في صورة مرئية، كما أخبرتُ السيد ساندباتش لاحقًا. أتي يوستاس أيضًا، وركع بهدوءٍ مقبول بين عمَّاته بعد أن أومأْنَ إليه. ولكن بعد أن انتهى الأمر، نهض على الفور، وبدأ يبحث عن شيءٍ ما.
قال: «أوه! لقد شق أحدهم صافرتي إلى نصفَين.» (لقد رأيتُ ليلاند يحمل سكينًا مفتوحًا في يده، وهو تصرُّف من يؤمن بالخُرافات لا أوافِق عليه أبدًا).
وتابع قائلًا: «حسنًا، لا يهم.»
«ولماذا لا يهم؟» هكذا قال السيد ساندباتش، الذي كان يُحاول منذ ذلك الحين أن يوقع بيوستاس في الكلام كي يسرد ما حدث في تلك الساعة الغامضة.
«لأنني لا أريدها بعد الآن.»
«لماذا؟»
عندها ابتسم الصبي؛ وبما أنه لم يكن لدى أي أحدٍ على ما يبدو أيُّ شيء آخر ليقوله، انطلقتُ بأسرع ما يمكن عبر الغابة، وسحبتُ حمارًا لأحمل زوجتي المسكينة إلى المنزل. لم يحدث شيء في غيابي، باستثناء أن روز طلبت من يوستاس مرةً أخرى أن يُخبرها بما حدث، ولكنه هذه المرة، أدار رأسه بعيدًا، ولم يُجبها بكلمةٍ واحدة.
بمجرد عودتي، انطلقنا جميعًا. مشى يوستاس بصعوبةٍ وبألَم تقريبًا، لذا، عندما وصلنا إلى الحمير الأخرى، رغبت عمَّاته في أن يمتطي أحدها طوال الطريق إلى المنزل. لديَّ قاعدة ألتزم بها وهي ألا أتدخل أبدًا بين الأقارب، ولكنني تدخَّلتُ لمنع ذلك. وكما اتضح فيما بعد، تبين أنني كنت على حقٍّ تمامًا؛ لأن هذا التمرين الصحي، على ما أعتقد، بدأ يُحرك دورته الدموية الراكدة ويُرخي عضلاته المتصلِّبة. مشى بخُطى مسرعة لأول مرة في حياته، رافعًا رأسه لأعلى، مُستنشقًا الهواء بعمق ساحبًا إيَّاه إلى صدره. أشرت برضًا إلى الآنسة ماري روبنسون أن يوستاس أصبح أخيرًا يشعر بشيءٍ من الفخر بمظهره الشخصي.
تنهَّد السيد ساندباتش، وقال إنه يجب مراقبة يوستاس بعناية؛ لأن أيًّا منَّا لم يفهمه بعد. تنهَّدت الآنسة ماري روبنسون أيضًا، التي كانت تسترشد به كثيرًا — أكثر من اللازم، في رأيي.
قلت: «بربك يا آنسة روبنسون. لا يُوجَد مشكلة في يوستاس. تجاربنا غامضة، وليس تجربته. لقد ذهل من رحيلنا المفاجئ، ولهذا كان غريبًا للغاية عندما عُدنا. إنه بخير تمامًا، ولقد تحسَّن، إن صح التعبير.»
قال ليلاند: «وهل يعتبر تبجيل القدرة البدنية والنشاط الأعمى المُنعدِم العقل حدَّ العبادة، بمثابة تحسُّن؟» وركز عينَيه الكبيرتَين بحزنٍ على يوستاس، الذي توقف ليتسلَّق صخرة باندفاع كي يقطف بعضًا من نبات بخور مريم. «وهل الرغبة الشديدة في انتزاع الجمال القليل الباقي من الطبيعة، يمكن اعتبارها تحسُّنًا أيضًا؟»
إن الرد على مثل هذه التعليقات مَضيعة للوقت، خاصة عندما تأتي من فنانٍ فاشل يُعاني من إصبع مُصابة. غيرت موضوع الحديث بسؤالي عما يجب أن نقوله في الفنادق. وبعد بعض المناقشات، اتفقنا على ألا نقول أي شيء، سواء في الفندق أو في رسائلنا التي سنُرسلها إلى عائلاتنا. إن الصدق المزعج، الذي لا يجلب سوى الحيرة والإزعاج للسامعين، هو أمر خاطئ في رأيي؛ وبعد نقاشٍ طويل، تمكنت من إقناع السيد ساندباتش بالموافقة على وجهة نظري.
لم يشارك يوستاس في محادثتنا. كان يركض، كصبيٍّ حقيقي، في الغابة إلى اليمين. شعور غريب بالخجل؛ منعنا من ذكر خوفنا له علانية. في الواقع، بدا من المعقول تقريبًا أن نستنتج أن محادثتنا لم تؤثر فيه سوى تأثير ضئيل. لذلك شعرنا بالانزعاج عندما عاد حاملًا حفنةً من نبات الأقنثا المزهر وهو يصيح قائلًا:
«هل تعتقدون أن جينارو سيكون هناك عندما نعود؟»
كان جينارو هو النادل المؤقت، وهو صياد سمك أخرق وقح، أتَوا به من مينوري في غياب إيمانويل اللطيف الذي يتحدث الإنجليزية. كان الفضل يرجع إلى جينارو في الغداء السيئ الذي تناولناه، ولم أستطع أن أفهم سبب رغبة يوستاس في رؤيته، إلا إذا كان للسخرية من سلوكنا.
قالت الآنسة روبنسون: «أجل، بالطبع سيكون هناك. لماذا تسأل يا عزيزي؟»
«أوه، فكرت في أنني أرغب في رؤيته.»
قال السيد ساندباتش غاضبًا: «ولماذا؟»
«لأنني؛ لأنني أرغب، أرغب؛ لأنني؛ لأنني أرغب.» ورقص على إيقاع كلماته مبتعدًا في الغابة المظلمة.
قال السيد ساندباتش: «هذا أمر غريب للغاية. هل كان يُحب جينارو من قبل؟»
قالت روز: «لم يُمضِ جينارو هنا سوى يومَين، وأنا أعلم أنهما لم يتحدثا مع بعضهما كثيرًا.»
في كل مرة كان يعود فيها يوستاس من الغابة، تكون معنوياته مرتفعة أكثر. في إحدى المرات جاء يصيح فينا كهنديٍّ متوحش، وفي مرة أخرى تظاهر بأنه كلب. في المرة الأخيرة، عاد بأرنبٍ مسكين مذهول يجلس على ذراعه، مُرتعبًا لدرجة منعته من الحركة. فكرت في أنه أصبح صاخبًا للغاية، وكنا جميعًا سعداء بمغادرة الغابة والبدء في السير على مسار الدرج الشديد الانحدار الذي يؤدي إلى بلدة رافيلو. كان الوقت متأخرًا وكان الظلام يحل، وكنا نتحرك بأقصى سرعة مُمكنة، ويوستاس يهرول أمامنا كالعنزة.
وفي المكان نفسه تمامًا الذي يفضي فيه مسار الدرج إلى الطريق السريع الأبيض، وقع الحدث الاستثنائي التالي لهذا اليوم الاستثنائي. كان ثلاث نساء عجائز يقفنَ على جانب الطريق. لقد جِئنَ، مثلنا، من الغابة، وكُنَّ يضعْنَ حُزَم الحطب الثقيلة على حاجز الطريق المنخفض. توقف يوستاس أمامهن، وبعد لحظة من التفكير، تقدم للأمام وقبَّل السيدة التي كانت تقف على اليسار على خدها!
صاح السيد ساندباتش قائلًا: «يا رفيقي الطيب! هل أنت مجنون؟»
لم يقل يوستاس شيئًا، لكنه عرض على المرأة العجوز بعضًا من زهوره، ثم سارع بالمضي قدمًا. نظرت إلى الوراء، وبدت رفيقتا المرأة العجوز مندهشتَين من هذا التصرف مثلنا تمامًا. ولكنها وضعت الزهور في صدرها، وكانت تتمتم بالصلوات.
كانت تحية السيدة العجوز هذه أول مثال على سلوك يوستاس الغريب، وهو ما فاجأَنا وأزعجنا في الوقت نفسه. لم يكن الحديث معه مُجديًا؛ لأنه إما كان يُجيب بردودٍ سخيفة، وإما أن يرحل دون أن يجيب على الإطلاق.
لم يُشر يوستاس في طريق العودة إلى جينارو، وتمنَّيت أن يكون ذلك قد نُسيَ. ولكن، عندما وصلنا إلى الساحة، أمام الكاتدرائية، صرخ بأعلى صوته قائلًا: «جينارو! جينارو!»، وبدأ يركض في الزقاق الصغير المؤدي إلى الفندق. مما لا شك فيه، كان جينارو هناك في نهاية الزقاق، وذراعاه وساقاه بارزة من بدلة النادل الصغير اللطيف الذي يتحدث الإنجليزية، ويعتمِر قبعة صياد قذرة على رأسه؛ لأنه، كما قالت صاحبة المنزل المسكينة بصِدق، مهما كانت تشرف على مظهره وتهتم به، كان دائمًا ما يتمكن من إضافة شيءٍ غير مناسب إليه قبل أن يفرغ.
قفز يوستاس لملاقاته، ووثب مباشرةً بين ذراعَيه، ووضع ذراعَيه حول رقبته. ولم يكن ذلك في حضورنا نحن فحسب، بل أيضًا في حضور صاحبة المنزل، والخادمة، وحامل الحقائب، وسيدتَين أمريكيتَين جاءتا لزيارة الفندق الصغير لبضعة أيام.
إنني أحرص دائمًا على التصرُّف بلُطف مع الإيطاليين، حتى لو كانوا لا يستحقون ذلك؛ لكن هذا السلوك الحميمي الفاسد كان غير مُحتمل على الإطلاق، ولن يؤدي إلا إلى رفع الكلفة والإهانة للجميع. أخذتُ الآنسة روبنسون على انفراد، وطلبتُ منها الإذن بالتحدث بجدية مع يوستاس حول سلوكه المتساهل مع الأقلِّ منزلةً اجتماعية. منحتني الإذن، لكنني قررتُ الانتظار حتى يهدأ الصبي السخيف قليلًا من حماسة اليوم. في هذه الأثناء، بدلًا من الاهتمام بطلبات السيدتَين الجديدتَين، حمل جينارو يوستاس إلى المنزل، كما لو كان هذا شيئًا معتادًا تمامًا وعاديًّا.
سمعته يقول وهو يمر بجانبي: «هو كابيتو.» وهو تعبير بالإيطالية يعني، «لقد فهمت»، ولكن بما أن يوستاس لم يتحدث معه، لم أتمكن من فهم مغزى هذا التعليق. وهو ما قد أدى إلى زيادة حيرتنا، وبحلول الوقت الذي جلسنا فيه حول المائدة لتناول العشاء، كانت قد اسْتُنزِفت قدرتنا على التخيل والكلام على حدٍّ سواء.
حذفت من هذا السرد التعليقات المختلفة التي قيلت؛ إذ يبدو أن القليل منها يستحق التسجيل. ولكن، لمدة ثلاث أو أربع ساعات، كان سبعة منا يسكبون حيرتنا في سَيل من التعجب المناسب وغير المناسب. وأرجع البعض وجود صلةٍ بين سلوكنا في فترة ما بعد الظهر وسلوك يوستاس الآن. بينما لم يرَ آخرون أي صلةٍ على الإطلاق. ظل السيد ساندباتش مُتمسكًا بإمكانية وجود تأثيرات شيطانية، وقال أيضًا إنه يجب أن يُعرَض على طبيب. أما ليلاند، فلم يرَ سوى تطور «ذلك الصبي الجاهل الذي يعجز اللسان عن وصفه.» وأصرَّت روز، لدهشتي، على أن كل شيءٍ يمكن اغتفاره؛ بينما بدأت أرى أن الشاب الصغير يحتاج لأن يتعرَّض لضربٍ شديد. كانت الآنسة روبنسون المسكينة تتأرجح بلا حول ولا قوة بين هذه الآراء المتنوعة؛ فتارة تميل إلى الإشراف الدقيق، وتارة إلى الإذعان، وتارة إلى التأديب الجسدي، وتارة إلى العلاج باستخدام أملاح إينو الفوارة.
مر العشاء بشكلٍ جيد إلى حدٍّ ما، على الرغم من أن يوستاس كان مُتململًا للغاية، بينما كان جينارو كالعادة يُسْقِط السكاكين والملاعق، ويتنخع ويُنظف حلقه. لم يكن يعرف سوى بضع كلمات من اللغة الإنجليزية، وقد أجبرنا جميعًا على الاقتصار على استخدام الإيطالية كي نُعلمه بطلباتنا. طلب يوستاس، الذي تعلم القليل بطريقةٍ ما، بعض البرتقال. ما أثار انزعاجي هو أن جينارو استخدم في إجابته ضمير المخاطب المفرد، وهي صيغة لا تستخدَم إلا عند مخاطبة الأشخاص المقربين والمتساوين. لقد جلب يوستاس ذلك على نفسه، ولكن وقاحةً كهذه كانت بمثابة إهانةٍ لنا جميعًا؛ لذا كنت مُصممًا على التحدث، والتحدث فورًا.
عندما سمعته ينظف الطاولة تحدثت على الفور، واستدعيتُ حصيلتي من الإيطالية، أو بالأحرى النابوليتانية — اللهجات الجنوبية بغيضة — وقلت: «جينارو! لقد سمعتُك تخاطب السيد يوستاس ﺑ «أنتَ».»
«هذا صحيح.»
«إنك مُخطئ. يجب أن تستخدِم صيغ أكثر تهذيبًا مثل «حضرتك». وتذكَّر أنه على الرغم من أن السيد يوستاس يتصرف أحيانًا بسخف وحمق — مثلما فعل عصر هذا اليوم على سبيل المثال — إلا أنه يجب عليك دائمًا أن تتصرف معه باحترام؛ لأنه سيد إنجليزي شاب، وأنت صبي إيطالي صياد فقير.»
أعلم أن كلامي يبدو مُتعجرفًا للغاية، ولكن في اللغة الإيطالية يمكن للمرء أن يقول أشياء لا يمكن أن يحلم المرء حتى بقولها في اللغة الإنجليزية. علاوة على ذلك، ليس من الجيد التحدُّث بلِينٍ مع أشخاص من تلك الطبقة. ما لم تحدَّد الأمور بوضوح، فإنهم سيستمتعون بإساءة فهمك بخُبث شديد.
لو كنت وجهت مثل هذه الملاحظة لصياد إنجليزي نزيه، لكان لكمَني في عيني في الحال، ولكن الإيطاليين البائسين المنسحِقين يفتقرون إلى الكبرياء. لم يفعل جينارو أي شيءٍ سوى أن تنهَّد وقال: «هذا صحيح.»
أجبت قائلًا: «تمامًا»، واستدرتُ للذهاب. ما أثار سخطي أنني سمعته يضيف: «لكن في بعض الأحيان لا يكون الأمر مهمًّا.»
صحت قائلًا: «ماذا تقصد؟»
اقترب مني وأومأ بأصابعه البشعة.
«سيد تايتلر، أودُّ أن أقول هذا. إذا طلب منِّي يوستازيو أن أُخاطبه ﺑ «حضرتك»، سأفعل. ولكن بخلاف ذلك لن أفعل.»
وبذلك أمسك بصينية بها أغراض العشاء، وغادر الغرفة سريعًا وهو يحملها؛ وسمعت كأسَين آخرَين من النبيذ يسقطان على أرضية الفناء.
كنت الآن غاضبًا نوعًا ما، وخرجت لأتحدث مع يوستاس. لكنه كان قد أوى إلى الفراش، وكانت صاحبة المنزل، التي كنتُ أرغب في التحدُّث إليها أيضًا، مشغولة. وبعد مزيدٍ من التساؤلات المبهمة، التي عبرنا عنها بغموض بسبب وجود جانيت والسيدتَين الأمريكيتَين، أوَيْنا جميعًا إلى الفراش أيضًا، بعد يومٍ مُرهق وشديد الغرابة.