ويطول بنا البحث لو حصرنا في هذا البحث القصير مَنْ كان يُعرف بالتشيع من علماء وأدباء
مصر في عصر الأيوبيين. وهذا يدل على أن العقيدة الشيعية لم تُقْتَلَع من نفوس المصريين،
بل ظَلَّتْ
عقيدةَ بعض المصريين؛ بالرغم مما أصاب الشيعة في مصر في ذلك العصر من ألوان الاضطهاد،
وبالرغم
مما قام به علماء جمهور أهل السُّنة والجماعة من جهود متواصلة في تعليم المصريين علومهم
وآراءهم بفضل تلك المدارس المذهبية السُّنية التي انتشرت في مصر انتشارًا عظيمًا، فكانت
هذه
المدارس هي السبب الأول في تحول الشيعة في مصر إلى رأي الجماعة والسُّنة.
شعر المتشيعين
كان بين بقايا الشيعة في مصر عدد كبير من الشعراء حُفِظَتْ بعض قصائدهم التي يظهر
فيها أَثَر العقيدة الشيعية التي دانوا بها. نذكر من هؤلاء الشعراء أبا العباس شهاب الدين
بن عبد الملك العزازي [٦٣٤–٧١٠ﻫ] التاجر بقيسارية جهارِكسْ بالقاهرة،
١١ كان أديبًا بارعًا، ولا سيما في نَظْم الموشحات، وكان يتشيع ويُظْهِر تَشَيُّعه في
شعره، ومن ذلك قوله:
إذا أنا لم أَبِتْ دامي الأماقي
عليه ودانِيَ الكمد القصِيِّ
وأمسى فيه ذا وَسْن ضنينٍ
وأصبح فيه ذا شَجَنٍ شجِيِّ
فلا صارت بقافية ركابي
ولا عادت بناجحة مطيِّ
وإلا لا اعتقدت ولا علي
ولا أضمرت حُبَّ بني علِيِّ
أُناس أدركوا أَمَدَ المعالي
ونالوا رتبة الشرف العلِيِّ
همُ سُحب الندى يوم العطايا
ويوم الفخر أقمار النديِّ
إذا كَرَّرْتُ ذِكْرَهُمُ كأني
فتقت لطايم المِسك الذكِيِّ
أبوهم ذو الجلالة من قريشٍ
وذو النسب الصحيح من النبيِّ
وناصرُ دِينِه سِرًّا وجهرًا
خلافًا للفريق الجاهلِيِّ
وقاهرُ كل كَفَّارٍ عنيدٍ
وقاتلُ كُلِّ جبارٍ عَتِيِّ
وضاربُ يومَ صِفِّينَ وبَدْرٍ
أعالي هَامَةِ البطل الكَمِيِّ
وكاشِفُ كل مشكلة ولَبْسٍ
وغامضةٍ بلا حَصْرٍ وعِيِّ
أَلِلْباغي عليهم يومُ فَخْرٍ
كأصلهم وفرعهم الذكيِّ
ألِلسَّاعي بهم نحو المنايا
كَقدْرِهِمُ ومَجْدِهِمُ العَلِيِّ
أَتَقْدِرُ ظُلمةُ الليل الدياجي
تُغَطِّي آيةَ الصبح الجَلِيِّ
تُرَى بعد الحسين يسوغ ماءًا
ويحلو مَوْرِدُ العيش الهنِيِّ
وأَيَّةُ عيشة تحلو وتصفو
وقد جار العَدُوُّ على الوَلِيِّ
لقد ظُلِموا وما حازوا حقوقًا
لفاطمةَ البتولِ ولا الوَصِيِّ
بكم يا آلَ يس وطه
تُحَطُّ خَطِيَّةُ الجاني المُسِيِّ
ويحظى بالشفاعة كُلُّ عاصٍ
ويَسْعَدُ كل مُجْتَرِمٍ شَقِيِّ
سلام الله والرضوان منه
عليكم في الغدوِّ وفي العشيِّ
١٢
فهذه المعاني في هذه المقطوعة لا يمكن أن تصدر إلا من شاعر يعتنق التشيع له دينًا،
فولايته لآل البيت، وإسباغ الفضائل عليهم، وشفاعته بهم، وحزنه على الحسين بن عليٍّ وعلى
مَنْ قُتِلَ من العَلويين، كل هذه معانٍ شيعية خالصة لا يُنشدها إلا شاعر شيعي. ولكن
العزازي في هذه القصيدة وفي غيرها من قصائده الشيعية في ديوانه لم يُلِمَّ بالمعاني
الفلسفية الشيعية التي كنَّا نراها عند شعراء الفاطميين، بل اكتفى بإيراد المعاني
الشيعية العامة، التي يقول بها كل فِرَقِ الشيعة غير المتطرفة على اختلاف مذاهبهم، ولذلك
صار من الصعب علينا أن نتعرف الفرقة الشيعية التي كان ينتمي إليها العزازي. وكذلك نقول
عن الشاعر ابن شوَّاق الإسنائي جلال الدين الحسن بن منصور، الذي وَصَفَه الإدفوي
بقوله: «رأيتُه وصَحِبْتُهُ مدة، وكان رئيس الذات والصفات، حسن الأخلاق، كريمًا في نهاية
الكرم، حليمًا له في الحِلم عِلْم.» وقد ذَكَرْنا كيف صُودِرت أمواله لتشيعه، وأنه رحل
إلى
القاهرة فاجتمع بالصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين، فأُعجب هذا به وعَرَضَ عليه
العمل في ديوان الإنشاء فرفض.
كان هذا الرجل يتشيع، وكان تشيعه على النحو الذي كان عليه شيعة مصر قبل عصر
الفاطميين؛ أي: حُبُّ الصحابة وتعظيمهم والاعتراف بفضلهم؛ إلا أنه كان يُقَدِّم عليَّ
بن أبي
طالب عليهم.
١٣ ومع ذلك كان هذا المتشيع شاعرًا، وقد وَصَلَتْنَا قصيدة له يمدح بها أهل البيت
ويصفهم بصفات هي أقرب ما تكون إلى الصفات التي يَذْكرها علماء الشيعة الإسماعيلية عن
الأئمة، فهو يقول:
كيف لا يحلو غرامي وافتضاحي
وأنا بين عبوقٍ واصطباحِ
مع رشيق القدِّ معسول اللمَّا
أسمر فاق على سُمر الرماحِ
جوهري الثغر ينحو عجبًا
رفع المرضى لتعليل الصحاحِ
نصب الهجر على تمييزه
وابتدا بالصد جدًّا في مزاحِ
فلهذا صار أمري خبرًا
شاع في الآفاق بالقول الصراحِ
يا أُهيل الحي من نَجْد عسى
تَجْبروا قَلْب أسير من جراحِ
لِمَ خضتم حال صبٍّ جازم
ما له نحو حِمَاكُمْ من براحِ
ليس يصغي قولُ واشٍ سَمْعَهُ
فعلى ماذا سمعتم قول لاحِ
ومحوتم اسمه مِنْ وَصْلِكُمْ
وَهْوَ في رسم هواكم غير ماحِ
فلئن أفرطتموا في هجره
ورأيتم بعده عين الصلاحِ
فَهْوَ راجٍ لأولي آل العبا
معدن الإحسان طرًّا وللسماحِ
قُلدوا أمرًا عظيمًا شأنه
فهو في أعناقهم مثل الوشاحِ
أمناء الله في السِّر الذي
عَجَزَتْ عن حمله أهل الصلاحِ
هم مصابيح الدجى عند السرى
وهم أسد الشرى عند الكفاحِ
تشرق الأنوارُ في ساحاتهم
ضوءَها يربو على ضوء الصباحِ
أهل بيت الله إذ طَهَّرَهُ
فجميع الرجس عنهم في انتزاحِ
آل طه لو شرحنا فضلهم
رَجَّعَتْ منا الصدور في انشراحِ
أنتمُ أعلى وأغلى قيمةً
من قريضي وثنائي وامتداحِ
جدكم أشرف مَنْ داس الحصا
في مقامٍ وغُدُوٍّ ورواحِ
وأبوكم بعده خير الورى
فارسُ الفرسان في يوم الكفاحِ
وارثُ الهادي النبي المصطفى
ما على مَنْ قال حقًّا من جُناحِ
لو يُقاس الناس جمعًا بِكُمُ
لَرَجَحْتُمْ جَمْعَهُمْ كُلَّ رجاحِ
يا بني الزهراء يرجو حسن
بكم الخُلد مع الحور الصبَّاحِ
قد أتاكم بمديح نظمه
كجُمَان الدُّر في جيد الرداحِ
فاسمعوا يا خير آلٍ ذِكْرَكُمْ
يُنْعِش الأرواحَ مع مَرِّ الرياحِ
وعليكم صلوات الله ما
غَشِيَتْ شمس الضحى كُلَّ الضواحي
وسرى رَكْب وغنى طائر
أَلِفَ النواح بتكرار النواحِ
١٤
فالشاعر في هذه القصيدة ألمَّ ببعض عقائد الشيعة، فالأئمة قد قُلِّدوا أمرًا عظيمًا
شأنه وهي مرتبة الإمامة، وأن الأئمة أمناء الله في السِّر؛ حيث التعاليم الباطنية التي
اؤتمنوا عليها والتي عجز عنها غيرهم، وضمَّن في شعره الآية القرآنية:
إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا،
١٥ وهي الآية التي ذَهَبَ الشيعة على أنها أُنزِلت في أهل البيت من نسل فاطمة بنت
الرسول، ثم ذكر أن عليًّا وَصِيُّ النبي ووريثه، وهي العقيدة التي يتمايز بها الشيعة،
بل هي
أساس التشيع، فهذه كلها معتقدات شيعية بها بعض التأثر بالمعتقدات الإسماعيلية، مما يدل
على أن الشاعر قرأ كثيرًا عن الشيعة وعقائدهم، ودان بهذه العقائد، وتوفي هذا الشاعر سنة
٧٠٦ﻫ.
والشاعر الفقيه الشافعي محمد بن علي بن منجي المتوفى سنة ٦٧٣ﻫ لم يُعرف عنه أنه تشيع،
بل اتجه في أواخر أيامه إلى التصوف، وبنى بإدفو رباطًا ووقَفَ عليه وقفًا،
١٦ كان متأثرًا بآراء الشيعة، ولا سيما في عقيدتهم أن بولاية أهل البيت يُنال
العفو في الآخرة، ففي قصيدته التي أولها:
حادياها خلياها وسراها
للحمى إن شئتما أن تسعداها
ختمها بقوله:
ولئن جُرْتُمْ عليه في الهوى
وعَدَلْتُمْ نحو عذال عداها
فهْو يرجو العفو يوم العرض عن
ولم يصلنا من أشعار هذا الفقيه الصوفي شيء في التشيع سوى هذا البيت الأخير، وإنما
أوردناه لندلل على أن أَثَرَ الشيعة كان قويًّا في نفوس بعض المصريين. وقد ذكَرْنَا أنه
في
سنة ٦٩٧ﻫ ظهرت حركة داود بن سليمان — ويقال ابن شعبان — بن العاضد، التي دعا فيها لنفسه،
وأن الناس اجتمعوا حوله، ومَدَحَه الشعراء بمقطوعات تَظْهَرُ فيها أَثَرُ عقائد الفاطميين،
من ذلك
قول الشاعر إبراهيم بن محمد بن عليِّ بن نوفل الإدفوي المتوفى سنة ٧٣٥ﻫ في مدح داود
هذا:
ظهر النور عند رَفْع الحجابِ
فاستنار الوجودُ مِنْ كُلِّ بَابِ
وأتانا البشير يخبر عنهم
ناطقًا عنهم بفصل الخطابِ
١٨
فالشاعر في هذين البيتين مدح داود بهذه الصفات التي أسبغها شعراء العصر الفاطمي على
الأئمة، متخِذًا المصطلحات الفاطمية الخالصة، فظهور النور عند رفع الحجاب هو ظهور
الإمام بعد استتاره … وفي البيت الثاني يشير إلى أن داعية الإمام — الذي عَبَّرَ عنه
بالبشير — جاءهم بفصل الخطاب، وقد رأينا أن وظيفة الحجة في الدعوة الإسماعيلية هي فَصْل
الخطاب.
١٩ فالشاعر كان يتحدث إذن كما كان يتحدث شعراء الفاطميين، بالرغم من مرور قرن
ونصف تقريبًا على زوال الدولة الفاطمية من مصر. وعندما انتشرت دعوة داود هذا في بلدة
أسفون، أنشد الشاعر الماجن الهجَّاء قطنبة الأسفوني الحسين بن محمد بن هبة الله مقطوعة
شعبية في هجاء هذه الدعوة وهجاء دعاتها، فقال:
حديثٌ جرى يا مالك الرق واشتهَرْ
بأسفون مأوى كل مَنْ ضَلَّ أو كَفَرْ
لهُمْ منهُمُ داعٍ كتيْسٍ مُعَمَّمٍ
وحَسْبُكَ من تيسٍ تَوَلَّى على بَقَرْ
ومِنْ نَحْسِهِمْ، لا أكثر الله مِنْهُمُ
يسبوا أبا بكر ولم يَشْتَهُوا عُمَرْ
فخُذْ مالَهُم لا تختشي مِنْ مآلهم
فإن مآل الكافرين إلى سَقَرْ
٢٠
فمن هذه المقطوعة الشعبية التي أنشدها قطنبة نستطيع أن نعرف أن الدعوة انتشرت بقوة
في
بلدة أسفون، وكان لها دعاة يأخذون العهود والمواثيق، وأنهم كانوا يَسُبُّون الصحابة
على نحو
ما كان يفعله الفاطميون، ويُخَيَّلُ إليَّ أن داود بن سليمان هذا ما هو إلا دَعِيٌّ،
وأنه أحد
دعاة الإسماعيلية النزارية (الإسماعيلية الشرقية)، فإن من عقائد هذه الدعوة أن يتحمل
الإمام فرائض الدين عن المستجيبين، وبذلك دعا داود هذا؛
٢١ ولذلك لم تَجِد الدعوة قبولًا عند أكثر المسلمين. وهجاه الشاعر علاء الدين
الأسفوني عليُّ بن أحمد بن الحسين المتوفى سنة ٧٣۱ﻫ، فقال:
ارْجِعْ ستلقى بعدها أهوالَا
لا عِشْتَ تبلغ عندنا آمالَا
يا مَنْ تَجَمَّعَ فيه كل نقيصة
فلأضربن بسيرك الأمثالَا
وزَعَمْتَ أنك للتكلف حامل
وكذا الحمار يَحْمِل الأثقالَا
٢٢
فلا غرابة إذن أن نرى هذه الدعوة التي هي أقرب إلى دعوة القرامطة القديمة قد فشلت
في
مصر سريعًا، وأن تَنْفِر من داود ومن الذين استجابوا له قلوبُ سواد المصريين؛ ولذلك لم
نَعُدْ
نسمع عن محاولات أخرى في مصر لإعادة الدعوة الفاطمية بعد محاولة داود هذا.
ومن الطرائف التي حَدَثَتْ في النزاع بين أهل السُّنة والشيعة في هذا العصر ما سجله
الشعر
فيما كان يحدث في عاشوراء؛ في هذا اليوم من كل عام كان الشيعة يقيمون مأتم الحسين بن
عليٍّ جرْيًا على السُّنة التي كان يَتَّبِعُها الشيعة في جميع البقاع الإسلامية، وتقليدًا
لما كان مُتَّبَعًا في مصر الفاطمية، وكان الشعراء يُنْشِدون أشعارهم في هذه المناسبة،
مثل ما
أنشده العزازي في قصيدته التي ذكرناها من قبل، ومثل قول الشاعر شهاب الدين أبي العباس
أحمد بن صالح — وقَدْ وَقَعَ مطر غزير في ذلك اليوم:
يوم عاشوراء جادت بالحيا
سُحب تهطل بالدمع الهمول
عجبًا حتى السموات بكت
رزء مولاي الحسين بن البتول
٢٣
ولكن أهل السنة أرادوا أن يكيدوا للشيعة، فكانوا يخرجون في هذا اليوم وقد كُحِّلَت
أعينهم وخُضِبَتْ أيديهم. وفي ذلك يقول الشاعر المصري أبو الحسين الجزار:
وبعود عاشوراء يذكرني
رزء الحسين فلَيْتَ لم يَعُدِ
يا ليت عينًا فيه قد كُحلت
لشماتة لم تَخْلُ مِنْ رَمَدِ
ويدًا به لمسرة خُضِبَتْ
مقطوعة من زندها بيدي
أمَّا وقد قُتِلَ الحسين به
فأبو الحسين أَحَقُّ بالكَمَدِ
٢٤
وأبو الحسين الجزار نفسه هو الذي داعب الشريف شهاب الدين ناظر الأهراء، فكتب إلى
الشريف ليلة عاشوراء عندما أخَّر عنه ما كان من جارية:
قل لشهاب الدين ذي الفضل الندي
والسيد بن السيد بن السيدِ
أُقْسِمُ بالفرد العليِّ الصمدِ
إن لم يُبَادِرْ لِنجَازِ موعدِي
لأحضرن للهناء في غدِ
مُكَحَّل العينين مخضوب اليدِ
٢٥
فالشاعر بمداعبته هذه أعطانا صورة لما كان يجري في ذلك العصر بين المتعصبين من أصحاب
المذهبين: المذهب السُّني الذين كانوا يخرجون ليلة عاشوراء للهناء، والمذهب الشيعي
الذين كانوا يخرجون للعزاء. ويُخيل إليَّ أن عادة المصريين الآن — ولا سيما في الأرياف
— بصنع أطباق الحلوى المعروفة باسم عاشوراء، هِيَ أَثَر من آثار هذا النزاع بين المذهبين
في
عصر الأيوبيين والمماليك.
أثر العقائد الفاطمية في شِعْر أهل السُّنة
وإذا تركنا هؤلاء الشيعة الذين أَظْهَروا تشيعهم في أشعارهم، وصَوَّرُوا لنا لونًا
من ألوان
الفن المتأثر بهذا المذهب الديني، فإننا نواجه ناحية هامة عند شعراء هذا العصر الذي
نتحدث عنه، تلك الناحية هي تأثر الشعراء بالآراء والصور التي تَرَكَهَا شعراء المدح في
عصر
الفاطميين، فنحن نعلم أن الفاطميين جعلوا للأئمة صفات خاصة أُخِذت من صميم عقيدتهم ومذهبهم،
٢٦ واستخدم جميع الشعراء الذين اتصلوا بالأئمة سبيل المدح بذكر هذه الصفات،
٢٧ واستمر هذا الضرب من المديح طوال عصر الفاطميين في مصر، وبالرغم من أن
الدولة الفاطمية دالت على يد الأيوبيين، وأن الدعوة الفاطمية اضمحل أَمْرُها، فلم يَعُد
الدعاة يقومون بنشاطهم؛ فإن الشعراء استمروا في مديحهم في نفس التيار الذي رأيناه عند
الفاطميين، بل خلعوا على سلاطين الأيوبيين نفس الصفات التي خلعها شعراء الفاطميين على
أئمتهم،
بل غلا بعضهم في المدح فنسب إلى السلاطين والخلفاء العباسيين ما لم ينسبه شعراء
الفاطميين إلى أئمتهم، فابن سناء الملك المتوفى سنة ٦٠٨ﻫ مدح صلاح الدين بقوله:
أَعَدْتَ إلى مصر سياسة يوسف
وجُدْتَ فيها من سميك موسمَا
وأحييت فيها الدين بعد مماته
فأنْتَ ابن يعقوبٍ وأنت ابنُ مَرْيَمَا
بقيت إلى أن تملك الأرض كلها
ودمت إلى أن يرجع الكفر مسْلمَا
٢٨
فإذا كنا نقبل أن تكون المقارَنة بين صلاح الدين ونبي الله يوسف لتشابههما في الاسم،
فإننا لا نقبل أن يكون صلاح الدين هو «ابن يعقوب» أو هو عيسى ابن مريم لأنه أحيا الدين
بعد مماته، إلا إذا كنا نتمذهب بالعقيدة الفاطمية التي تُؤَوِّل الآيات القرآنية التي
وَرَدَتْ
في المسيح بأن إحياء الموتى هو نَشْر الدين وإحياء النفوس حياة صحيحة بالعبادة العلمية،
٢٩ أو نقول — كما قال الفاطميون — بالدور وانتقال النبوة والأئمة بالتسلسل
والتعاقب، وأن الخلف يَرِثُ دور السلف تمامًا ويَحْدُث في أيامه ما حَدَثَ في أيام مَنْ
سبقه،
فإذا بمحمد هو عيسى وهو موسى وهو نوح … إلخ.
٣٠
فقول ابن سناء الملك: «فأنت ابن يعقوبٍ وأنت ابن مريما» هو أَثَر من آثار العقائد
الفاطمية.
وفي قصيدة أخرى مَدَحَ هذا الشاعرُ صلاحَ الدين بقوله:
نُصِرْتَ بأفلاك السماء فشُهْبُها
خميس به يردى الخميس العرمرما
رقيت إلى أن لم تجد لك مرتقى
وأَقْدَمْتَ حتى لم تَجِدْ مُتَقَدَّمَا
فما يبرم المقدار ما كنت ناقضًا
ولا ينقض المقدار ما كنت مُبْرِمَا
٣١
ففي البيت الأول يتحدث عن أفلاك السماء التي نَصَرَت السلطان، وأفلاك السماء في التأويل
الفاطمي يعني الملائكة، وهي العقول في الاصطلاحات الفلسفية والإسماعيلية أيضًا.
٣٢ وفي البيت الثاني دَفَعَ الشاعرَ شدةُ المبالغة والغلو في المديح إلى أن جعل
صلاح الدين في مرتبةٍ ليس فوقها مرتبة، وهذا المعنى كثير جدًّا في شعر العصر الفاطمي؛
لأن الإمام مَثَلٌ للمبدع الأول الذي ليست فوقه مرتبة.
٣٣ والبيت الثالث هو نفس معنى بيت ابن هانئ الأندلسي في مدح المعز لدين الله
الفاطمي:
ما شِئْتَ لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
ثم اقرأ لابن سناء الملك أيضًا قوله في مدح عليٍّ الشهيد نور الدين زنكي:
مولى الأنام «عليٌّ» هكذا نَقَلَتْ
لنا الرواة حديثًا غير مُخْتَلَقِ
٣٤
فالشاعر هنا نَقَلَ الحديث النبوي: «مَنْ كنت مولاه فعليٌّ مولاه» الذي قيل في عليِّ
بن
أبي طالب، إلى عليٍّ الشهيد نور الدين زنكي، وتَبِعَ سُنة شعراء الفاطميين الذين مدحوا
الأئمة بأنهم موالي الأنام، ومرة أخرى يمدح صلاح الدين بقوله:
قد مَلَكْتَ البلاد شرقًا وغربًا
وحويت الآفاق سهلًا وحزنَا
واغتدى الوصف عن عُلاك حسيرًا
أيُّ لفظ يقال أو أيُّ معنَى
وشعراء الفاطميين كانوا يُضَمِّنون في أشعارهم الآية: أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، وقال الدعاة:
إن هذه الآية أُنزِلت في عليِّ بن أبي طالب، فأخذ ابن سناء الملك هذا المعنى وأَوْدَعَهُ
شِعْرَه، ولم يجعلها في الأئمة من أهل بيت عليِّ بن أبي طالب، إنما جعلها في صلاح
الدين.
ولم يكتفِ ابن سناء الملك بأن يتأثر بهذه العقائد الفاطمية ويَتَّبِع تيار الشعر
الفاطمي
في مَدْحِه لصلاح الدين الأيوبي أو نور الدين زنكي، بل نراه في مدائحه للقاضي الفاضل
يأتي
بالمعاني التي كانت تقال للأئمة الفاطميين — ولها من عقائدهم سند. أما أن تقال للقاضي
الفاضل فهذا هو الأثر القوي على شِعْر ابن سناء الملك، فنحن نعلم أن الفاطميين وصفوا
الأئمة بأنهم رحمة للعالمين،
٣٦ فجاء ابن سناء الملك وقال للقاضي الفاضل:
عبد الرحيم على البرية رحمة
أمِنْت بصحبتها حُلُولَ عقابها
٣٧
وقال الفاطميون: إن قصر الإمام هو في العبادة العلمية «التأويل الباطن» هو الكعبة،
وأن
الحج الباطن هو زيارة الإمام،
٣٨ فقال ابن سناء الملك للقاضي الفاضل:
يا كعبةً طاف الملوك بها
بل قِبلة حَجَّ الأنام لها
٣٩
وهكذا نستطيع بسهولة أن نَتْبَع أثر العقائد الفاطمية في شعر ابن سناء الملك، وهو
من
شعراء الدولة الأيوبية ومن كبار رجالاتها.
وها هو الشاعر الدمشقي ابن الساعاتي، الذي وَفَدَ على مصر واتَّخَذها دار إقامته،
نراه قد
تأثر بما كان في مصر والشام من عقائد الفاطميين، ونَهَجَ نهْج شعراء المدح في العصر
الفاطمي، فنراه يمدح الخليفة العباسي الناصر لدين الله بما كان يُمدح به الأئمة، فهو
يقول مثلًا:
فروع إلى العباس تنمى أصولها
وما خير فرع أسْلَمَتْهُ أصولُ
هو النسب الزاكي أناف بِفَضْلِهِ
وصيٌّ حوى سبق العُلا ورسولُ
ترى اليوم طلقًّا حين يُذْكَرُ جعفرٌ
ويُسمى إليه حمزةٌ وعقيلُ
له شرف البيت العتيق وزمزمٍ
وما ساقه حادٍ إليه عجولُ
وفضل الذبيحين الذي ما لِفَضْلِهِ
نظيرٌ، وهل للنَّيِّرَيْن عَدِيلُ
عُلاه على السبع الشداد محله
ومَجْدٌ قديم لا يرام أثيلُ
ففي كل يوم للملائكة العُلى
طوافٌ على أبياتكم ونزولُ
٤٠
فهو يمدح الخليفة العباسي بأنه ينتسب إلى الرسول، والوصي عليِّ بن أبي طالب، وجعفر
بن
أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وهذا مَدْح شيعي خالص، لا يُمدح به
إلا الأئمة من نَسْل عليِّ بن أبي طالب. وفي البيت الرابع معنًى من المعاني الفاطمية
التي
تُؤَوِّل شعائر الحج على أنهم الأئمة وقد شَرَّفَهُم الله تعالى بذلك.
٤١ وفي البيت السادس يُضَمِّن عقيدة باطنية خالصة؛ بأن جعل الخليفة العباسي فوق
السبع الشداد، أي في منزلة المبدع الأول (العقل الأول أو القلم)، وقد ذَكَرْنا أن هذا
المعنى لا يُمدح به إلاَّ إمام إسماعيلي على نحو ما أوردناه في نظريتنا التي أطلقنا
عليها «نظرية المثل والممثول»؛ لأن الإمام في العالم الجسماني مثل العقل الأول
الروحاني، ولكن ابن الساعاتي أتى بهذا المعنى غُلُوًّا منه ومبالغةً وتأثرًا بما كان
في
العصر الفاطمي. وفي البيت الأخير جعل الملائكة يطوفون ببيوت العباسيين، وهو معنًى لم
يُنْشَد إلَّا في بلاط الخليفة الفاطمي، فإن الفاطميين أَوَّلُوا الملائكة وطوافَهُم
ببيت
الإمام على الدعاة والحجج الذين يزورون الإمام ويتجهون إليه؛ لأنه قِبلة نفوسهم، وهكذا
نرى شاعرًا آخر من شعراء الأيوبيين يتأثر بالشعراء الفاطميين.
أما الشاعر ابن النبيه المصري المتوفى سنة ٦۱٩ﻫ فقد كان أجرأ شعراء مصر في الأخذ من
عقائد الفاطميين، وكان أَشَدَّهم مبالَغة في مدحه للخليفة الناصر العباسي، حتى إن القدماء
أنفسهم عابوا عليه هذه المبالغة، واتهموه في دينه.
ولابن النبيه عُذره، فقد وُجِدَ في عصر كانت عقائد الفاطميين لا تزال ماثلةً في أذهان
الناس، وكان شعر شعراء الفاطميين لا يزال يُروى بين الناس، فسار ابن النبيه في تيار
هؤلاء الشعراء، وخُيِّلَ له أنه يمدح إمام الفاطميين لا الإمام العباسي عدو الفاطميين،
بالرغم من أن الإمام الناصر العباسي نفسه كان متشيعًا.
فانظر إلى ابن النبيه في إحدى قصائده في مدح الخليفة الناصر يقول:
بغدادُ مَكَّتُنا وأحمد «أحمد»
حُجُّوا إلى تلك المنازل واسجدوا
يا مُذْنِبِين، بها ضَعُوا أوزارَكُمْ
وتَطَهَّرُوا بترابها وتهجَّدُوا
فهناك من جسد النبوة بضعة
بالوحي جبريل لها يتردَّدُ
«باب النجاة» «مدينة العلم» التي
ما زال كوكب هديها يتَوَقَّدُ
ما بين سدرته وسُدة دسته
نبأ يقر له الكفور المُلحِدُ
هذا هو السِّر الذي بَهَرَ الورى
في ظهر آدم والملائك سجَّدُ
هذا «الصراط المستقيم» حقيقةً
مَنْ زَلَّ عنه ففي الجحيم يُقَيَّدُ
هذا الذي يسقي العطاش بكفه
والحوض ممتنع الحمى لا يُورَدُ
«القائم المهدي» أنت بَقِيتَ للـ
ـإسلام تمهد تارة وتشيِّدُ
بُعْدًا «لمنتظر» سواه وقد بَدَتْ
منه البراهين التي لا تُجْحَدُ
إن كان فوق الطور ناجى رَبَّهُ
موسى فبالمعراج أنتم أَزْيَدُ
أو كان يوسف عَبَّرَ الرؤيا فكم
للغيب مِنْكُمْ مصدر أو مَوْرِدُ
الله أَنْزَلَ وَحْيَه لمُحَمَّدٍ
وإليكم وصى بذاك محمدُ
الدهر في يده فجور مرسل
سبط وبأس مُكْفَهِر أجْعَدُ
يا مَنْ لمبغضه الجحيم قرارة
ولِمَنْ يواليه النعيم السرمد
لولا التقية كنت أول معشر
غالوا فقالوا: أنت ربٌ يُعْبَدُ
٤٢
هذا ما أنشده ابن النبيه في الخليفة العباسي، وواضح كل الوضوح مدى غلو هذا الشاعر في
مَدْحه، هذا الغلو الذي لا أكاد أجد له مثيلًا بين شعراء الفاطميين أنفسهم على ما وصفوا
به أئمتهم من صفات وأسبغوا عليهم من نعوت، ولكن شعراء الفاطميين أتوا بهذه الصفات
والنعوت من العقيدة الفاطمية نفسها، ومن التأويلات الباطنية التي تَمَايَزَ بها الفاطميون
ولم يُقِرَّهم عليها فرقة من فرق المسلمين. أما ابن النبيه — وهو شاعر سُنِّيٌّ في دولة
أطاحت
بالدولة الشيعية، وحاولت أن تمحو من البلاد العقيدة الشيعية — وكان يمدح الخليفة
العباسي، ثم يغلو هذا الغلو في المدح، فهذا هو الشيء الذي لم نكن نتوقعه في شعر المدح
في عصر الأيوبيين. والذين لهم إلمام بالعقائد الفاطمية، يستطيعون في سهولة ويُسر أن
يدركوا تأثر هذا الشاعر بالفاطميين، فالشطر الأول من البيت الأول هو نفسه رأي الفاطميين
في عقيدة الأدوار التي تحدثنا عنها من قبل، والحج في الشطر الثاني من البيت الأول وكل
البيت الثاني هو نفسه رأي الفاطميين في الحج الباطني. وعجيب أن يَذْهَبَ الشاعر إلى أن
الخليفة العباسي الناصر بضعة من جسد الرسول؛ لأنه ليس من نسل الرسول، والحديث النبوي
يقول: «فاطمة بضعة مني»، ولكن مبالغة الشاعر وغُلُوَّه في المدح جَعَلَ الخليفة الناصر
من
أبناء فاطمة، مثله في ذلك مثل أئمة الشيعة.
وكذلك قوله: «مدينة العلم» التي جعلها النبي لنفسه دون سواه فقال: «أنا مدينة العلم
وعليٌّ بابها»، وشعراء الشيعة لم يذهبوا إلى أن عليًّا أو أحد أبنائه «مدينة العلم»،
ولكن هذا الشاعر السُّني أبى إلَّا أن يجعل الخليفة الناصر في مقام النبي نفسه.
أما قوله: «باب النجاة» فهو من أقوال شعراء الفاطميين، وكذلك قوله بعد ذلك إن الناصر
هو «الصراط المستقيم» فهذا تأويل باطني خالص لا يقول به إلا شاعر إسماعيلي في مدح إمام
إسماعيلي.
٤٣ أما في قوله: هذا هو السرُّ الذي بهر الورى … البيت، فهو نفس ما قاله
الفاطميون عن مرتبة الاستيداع (النبوَّة)، ومرتبة الاستقرار (الإمامة)، وتَنَقُّلهما
منذ
خلق آدم هذا الدور،
٤٤ وهي نفس النظرية التي اعتنقها الصوفية في هذا العصر، وهي نظرية «النور
المحمدي». ويظهر تأثر ابن النبيه بالمصطلحات والعقائد الفاطمية تأثرًا واضحًا في وَصْفه
للخليفة العباسي بأنه «القائم المهدي»، فقوله هذا أُخِذَ أخذًا عن أقوال الفاطميين، وهو
اصطلاح من مصطلحاتهم الخاصة الذي تمايزوا به عن الفرق الأخرى في وَصْف «المهدي المنتظر»
الذي هو عند الفاطميين آخر دور آدم الحالي «وخاتم السبع المثاني»، وهو عند الفاطميين
الناطق السابع وآخر النُّطقاء، فإذا كان الفاطميون قد انحرفوا عن الدين القويم بأن
جعلوا نبيًّا بعد محمد
ﷺ، فإن أسفنا أشد حين نَجِدُ شاعرًا يتمذهب بمذهب أهل
السُّنة والجماعة يصف خليفة عباسيًّا بهذه الصفة الفاطمية. وإذا كان أهل السُّنة يرون
أن النبي
ﷺ قُبِضَ ولم يوصِ لأحد بعده، خلافًا لقول الشيعة الذين ذهبوا إلى أن
النبي أوصى لعليٍّ يوم «غدير خم»، فإن الشاعر هنا جعل وصية محمد للعباسيين — وهو قول
لم
نسمع به إلَّا من شعراء مصر في عصر الأيوبيين.
ومن الصفات التي خلعها الفاطميون على عليِّ بن أبي طالب أنه «قسيم الجنة والنار»؛
أي
أنه يقسم الناس بين الجنة والنار، فمبغضه في النار، ووليه في الجنة.
وفي ذلك قال المؤيد في الدين يمدح الإمام المستنصر الفاطمي:
بمولانا الإمام أبي تميمِ
هُدِيتَ إلى الصراط المستقيمِ
قسيم النار مولانا معد
وجنَّات العُلَى وابن القسيمِ
فجاء ابن النبيه وجعل هذه الصفة للعباسيين، ويختم ابن النبيه هذه القصيدة بقوله: لولا
تُقَاه لَبَلَغَ به غلوه إلى تأليه الخليفة العباسي، بينما لم يذهب إلى تأليه الأئمة
الفاطميين سوى الغلاة الذين طُرِدُوا من حظيرة الدعوة الفاطمية، ومن هؤلاء دعاة الحاكم،
ولم يذهب شاعر من شعراء الفاطميين إلى القول بهذه الدعوة، فنرى المؤيد في الدين مثلًا
يقول لإمامه:
لست دون المسيح سماه ربًّا
أَهْلُ شركٍ ولا نسميك رَبَّا
ومثل ذلك قوله في قصيدة أخرى:
نظم الله فيك فَضْلَ أُناسٍ
كان فيهم مُقَسَّمًا منثورَا
أهْل بيت قد أَذْهَبَ الله عنهُمْ
كُلَّ رجس وطُهِّروا تطهيرَا
أنت يا ابن النبي خابَتْ صلاة
لم تكن في خلالها مَذْكُورَا
قَرَنَ الله اسْمَهُ باسمك العا
لي، فأربى جلالةً وظهورَا
فهو عِقدٌ على صدور التحيا
تِ وتَاجٌ حَلَّى به التكبيرَا
يا مُعيني إذا دَجَتْ ظُلمة القَبـْ
ـر وخاطبْتَ مُنْكَرًا ونَكِيرَا
يا مُجيري إنْ خِفْتُ يومًا عبوسًا
مُكفهِرًّا مُستصعَبًا قَمْطَرِيرَا
يا مُغيثي والنار تُوقَدُ بالنا
س وترمي شرارها المستطيرَا
يا دليلي على الصراط إذا ما
أَدْهَشَ الخوفُ ناظري تحيِيرَا
بولائي أَمِنْتُ من سيئاتي
يومَ ألقى كتابِيَ المنشورَا
فيك سِرٌّ لولاه ما قَسَمَ الله
على الناس جَنَّةً وسعيرَا
قد هدانا بك السبيل فإما
مؤمنًا شاكرًا وإما كَفُورَا
٤٥
وفي قصيدة أخرى لابن النبيه في مدح الخليفة العباسي الناصر لدين الله أيضًا
يقول:
خُذ من زمانك ما أعطاك مُغْتَنِمًا
وأنت ناهٍ لهذا الدهر آمره
فالعمر كالكأس تُستحلى أوائله
لكنه ربما مُجَّتْ أواخِرُهُ
واجْسُرْ على فرص اللذَّات مُحْتَقِرًا
عظيم ذنبك إن الله غافِرُهُ
فليس يُخذل في يوم الحساب فتًى
و«الناصر» ابن رسول الله ناصِرُهُ
تَجَسَّد الحق في أثناء بُرْدَتِه
وتُوِّجَتْ باسمه العالي منابره
له على ستر سِرِّ الغيب مطلع
فما مَوَارِدُه إلا مَصَادِرُه
يقضي بتفضيله سادات عترته
لو كان «صادقه» حيًّا و«باقره»
كل الصلاة خداج لا تمام لها
إذا تقضت ولم يذكره ذاكِرُهُ
كل الكلام قصير عن مناقبه
إلا إذا نظم القرآن شاعرُهُ
رأيت مُلْكًا كبيرًا فوق سُدَّتِه
جبريل داعيه أو ميكال زائرُهُ
٤٦
فابن النبيه في هذه الأبيات يرى أن الخليفة الناصر من نسل رسول الله، وهو نفس الرأي
الذي قاله من قبل في قصيدته السابقة:
فهناك من جسد النبوة بضعةً
بالوحي جبريل لها يتردد
فإذا كانت هذه هي نظرة ابن النبيه إلى الخليفة العباسي فلا غرو أن نراه يصف هذا
الخليفة بالصفات التي قالها الشيعة عن أئمتهم، فهو إذن الشفيع يوم القيامة، ويكرر هذا
المعنى في قصيدة أخرى فيقول:
بولائي أَمِنْتُ من سيئاتي
يوم ألقى كتابِيَ المنشورَا
بل يذهب في الغلوَّ إلى مدًى أبعد مما ذهب إليه شعراء العصر الفاطمي؛ إذ نسب إلى
الخليفة العباسي معرفة الغيب، وكرر هذا المعنى فذَكَرَهُ في هذه القصيدة وفي القصيدة
السابقة، فبينما طعن علماء السُّنة على أئمة الفاطميين بأنهم يَدَّعُون معرفة الغيب
وتبرأ الفاطميون من هذه المقالة وممن قال بها،
٤٧ نرى ابن النبيه يُلْصِقُها بالخليفة العباسي، ويذهب ابن النبيه إلى أن أئمة
الشيعة، وخاصة جعفر الصادق، ومحمد الباقر بن عليِّ بن زين العابدين، لو كانوا أحياء
لقدموا الناصر العباسي عليهم، ونلاحظ أنه خصَّ جعفر الصادق والباقر دون غيرهما أولًا
للضرورة الشعرية في القافية الرائية، وثانيًا لأن جُلَّ علوم الشيعة إنما رُوِيَتْ عن
طريقهما. ثم يعود ابن النبيه إلى عقيدة الفاطميين التي تذهب إلى أن الصلاة لا تُقبل ما
لم يُصلَّ على الأئمة، فالشاعر هنا أَخَذَ هذه العقيدة ونظمها مستعملًا ألفاظ الفقهاء،
فزعم أن الصلاة خداج إن لم يكن بها الصلاة على الناصر، فإذا كان الشيعة يقولون ذلك
بناءً على عقائدهم فنحن لا ندري على أي أساس قال ابن النبيه ذلك؛ إلا إذا اعتبر الخليفة
العباسي من أئمة الشيعة، وكرر ابن النبيه هذا المعنى في قصائد أخرى، فمن ذلك
قوله:
أنت يا بن النبي خابت صلاةٌ
لم تكن في خلالها مذكورَا
ونحن نعلم أن الشيعة ذهبوا إلى أن في القرآن الكريم عددًا من الآيات أُنزِلت في أهل
البيت،
٤٨ وعدوا ذلك من فضائل أئمتهم ومن مناقبهم، فها هو ابن النبيه يمدح الناصر
بهذا المعنى الشيعي، وختم الشاعر هذه القصيدة بأن الناصر ملك كبير وأن جبريل داعيته وأن
ميكائيل زائره، وهذه من المعاني الباطنية الإسماعيلية التي لم يَقُلْ بها سوى الإسماعيلية،
وذلك أن تأويل الملائكة على الدعاة والحجج، وفي ذلك يقول المؤيد في الدين داعي
الفاطميين:
أنا آدمي في الرواء حقيقتي
ملك تَبَيَّنَ ذاك للمُسْتَرْشِدِ
فأَخَذَ ابن النبيه هذه العقيدة الباطنية ونظمها في شعره وجعلها في الخليفة الناصر
العباسي. من هذه الأمثلة التي أَوْرَدْناها من شعر ابن النبيه، ومن أشعاره الأخرى التي
يجمعها ديوانه نستطيع أن نلمس مدى تأثر هذا الشاعر بالتعاليم الشيعية عامة والفاطمية
منها على وجه الخصوص.
ولم يكن ابن النبيه هو الشاعر الوحيد الذي نرى في شعره أَثَر هذه التعاليم، فها هو
زميله ابن مطروح المتوفى سنة ٦٤٩ﻫ يتأثر بما تأثر به ابن سناء الملك، وابن الساعاتي،
وابن
النبيه … وغيرهم من شعراء ذلك العصر من تعاليم شيعية ومن تراث الفاطميين، ففي مديحه
للخليفة المستنصر بالله العباسي خلع عليه صفات الإمام الفاطمي، فهو يقول:
الله أكبر أي طَرْف يطمحُ
أم أي ذي لسن يقول فيُفْصِحُ
حرم الخلافة والإمام أمامنا
فمن العجائب أن لفظًا يجنحُ
عظم المقام عن المقال فحسبُنَا
أنا نقدس عنده ونُسبِّحُ
شرفًا بني العباس ما أبقيتُمُ
فخرًا لمفتخر به يستنجحُ
من معشر جبريل من خُدَّامِهِمْ
وبمثل ذا يتَمَدَّح المتمدِّحُ
لما سَمَوْا سمحوا فحدث صادقًا
عن أنفسٍ تسمو وأيدٍ تسمَحُ
فوق السماء خيامهم مضروبةٌ
فلخيلهم مَسْرَى هناك ومسرَحُ
حيث النجوم تُعَدُّ من حصبائها
والبرق منها بالسنابك يقدح
أخليفةَ الله الرِّضَى هل لي إلى
بحبوحة الفردوس بابٍ يُفتحُ
حتى أطوف بذلك الحرم الذي
ما فاز إلا مَنْ به يتَمَسَّحُ
وأجيل في ملكوت قُدسك ناظرًا
ما زال يغبق بالنسيم ويُصْبِحُ
وأُقَبِّل الأرض المقدسة التي
أرج السعادة من ثراها ينفَحُ
هذا الذي نزل الكتاب بمَدْحِهِ
فبأي شيء بعد ذلك يُمْدَحُ
هذا نذير النفخة الأخرى الذي
مَنْ لا يدين بحبه لا يُفْلِحُ
إنَّ الخلافة لم تكن إلا لكم
من آدَمٍ وهَلُمَّ جرًّا تصْلُحُ
٤٩
وابن مطروح في هذه الأبيات التي يمدح فيها الخليفة العباسي لا يجاري شعراء العباسيين
في مدائحهم، إنما هو يجاري شعراء الشيعة في مدح أئمتهم، وينهج نهج شعراء الفاطميين خاصة
الذين أسبغوا على الأئمة لونًا من التقديس، ورفعوا مرتبة الأئمة فوق السموات العُلى،
وجعلوا بيد الأئمة دخول الجنة أو النار، وذهبوا إلى أن بالقرآن الكريم آيات وردت في
الأئمة دون غيرهم، وأن مَنْ لا يَدِين بحب الإمام ويتولاه فهو بعيد عن زمرة المؤمنين،
وأن
الإمام هو نذير النفخة الكبرى، وأن الإمامة تَنَقَّلَتْ من آدم إلى أن استقرت في إمام
العصر.
فهذه كلها من المعاني الشيعية التي لم يُمدح بها إلا أئمة الشيعة، ولم نسمع أن شاعرًا
من شعراء الأمويين أو العباسيين مَدَحَ خلفاء الأمويين والعباسيين بمثل هذه المعاني،
إلا في
هذا العصر المتأثر بالتقاليد الشيعية الفاطمية. فإذا اغتفرنا لابن مطروح أن يَصِفَ الخليفة
العباسي بمثل هذه المعاني الشيعية؛ لأن المستنصر بالله كان إمام المسلمين وخليفةَ ربِّ
العالمين، ويَمت إلى النبي ﷺ بصلة القرابة القريبة، فغلا الشاعر في مدحه غلو
الشيعة في مدح أئمتهم. فما عذر ابن مطروح في مدائحه للملك الكامل ناصر الدين محمد بن
العادل الأيوبي الذي لا يَمُتُّ إلى الخلافة بصلة، ولا ينتسب إلى النبي صلوات الله عليه
بسبب؟
ففي قول ابن مطروح في الملك الكامل:
«قُدِّسْتَ» مِنْ مَلِكٍ عظيم الشانِ
مُتَتَابِعِ الحسنات والإحسانِ
تتزاحم التيجان في أبوابه
عند السلام ولابسو التيجانِ
حتى إذا بَصُرَتْ به أبصارُهُمْ
خَرُّوا لهيبته إلى الأذقانِ
أفد المواكب كالكواكب والتحق
«بشريف ذاك العالم الروحاني»
ألقى مقاليد المماليك عنوةً
لك حُسْن تدبير وثبت جنانِ
وتشوف الأملاك لاسمك كُلَّمَا
ذكروا سَمِيَّكَ عند كل آذانِ
أما وقد عَلِقَتْ يدي «بمحمد»
وظفرت منه «ببيعة الرضوانِ»
أنا فيك «حَسَّانٌ» وأنت «محمدٌ»
«بمحمد» عطفًا على «حَسَّانِ»
٥٠
فما معنى تقديس هذا الملك؟ وما الذي صبغ عليه هذه القدسية؟ وما الذي جعل للملك الكامل
الأيوبي شرف الانتساب إلى العالم الروحاني؟ وما هذه البيعة التي وصفها بأنها «بيعة
الرضوان»؟ هذه كلها مسائل نرجعها جميعها إلى مبالغة الشاعر في مدحه، وهي المبالغة التي
ورثها شعراء عصره عن شعراء الفاطميين، وإذا كان ابن مطروح هنا قد أساء في مبالغته لأنه
مدح الملك الأيوبي بصفات دينية ليس بينه وبينها سبب، لكنه سار على سُنة شعراء
الفاطميين، وجرى في تيارهم متأثرًا بهم. ومثل هذا قوله في مدح الملك الأشرف مظفر الدين
أبي الفتح موسى:
الأشرف الملك الكريم المجتبى
موسى وتَمِّمْ بالرحيم المحسنِ
يا أيها الملك الذي مَنْ فاتَهُ
نظر إليك فما أراه بمؤمنِ
والسبعة الأفلاك ما حركاتها
إلا مخافة أن تقولَ لها اسكُنِي
٥١
فالشاعر هنا جعل النظر إلى الملك الأشرف لونًا من ألوان العبادة! وأن الأفلاك تسير
بأمره! وهي صفات خَلَعَهَا عليه الشاعر مبالغة وغلوًّا، بينما هي صفات شيعية هي من صميم
عقائد الشيعة في الإمامة، فإذا قيلت هذه الصفات في الملك الأشرف أو في غيره من ملوك
الأيوبيين أو سلاطين المماليك فهي السخف بعينه؛ لأنها لا تقوم على أساسٍ مَذْهَبِيٍّ
أو عقيدة
دينية، ولكنها المبالغة والتقليد لما كان يَجري في العصر الفاطمي في مصر، فبالرغم من
أن
الأيوبيين في مصر عملوا على مَحْو التشيع، ونجحوا سياسيًّا في تقويض أركان دولة الفواطم،
فإنهم لم يستطيعوا أن ينتزعوا من عقول المصريين هذه الآراء الشيعية أو أن يمحوها مَحْوًا
تامًّا، فقد رأينا من تلك الأمثلة التي أوردناها من الشعر كيف كان تأثير عقيدة الشيعة
عظيمًا في هؤلاء؛ حتى خُيِّلَ إلينا أننا أمام شعراء الشيعة يمدحون أئمة الشيعة.
على أننا نستطيع أن نقول: إنه بالرغم من ذلك كُلِّهِ فإن التشيع ضَعُفَ في مصر شيئًا
فشيئًا،
حتى كاد يُمحى منها، وأصبحت مصر في القرن العاشر الهجري وما بعده تدين بمذهب أهل
السُّنة والجماعة، ولم يكن ذلك عن طريق السيف والإرهاب فحسب، بل كان هنالك سبب أقوى من
الإرهاب والسيف، وهو نشر العلم في مصر.
انتشر المذهب الفاطمي بمصر على يد عدد من الدعاة، واهتم الفاطميون بالدعاة اهتمامًا
عظيمًا فوضعوا للدعاية أُسسًا وللدعاة شروطًا،
٥٢ فانبث الدعاة بين الناس يكالبون أصحاب الفرق الأخرى ويحاجونهم ويُبطلون
آراءهم، وأوهموا الناس أن الحق فيما يقوله الدعاة عن الأئمة، وما زالوا بالناس حتى أقبل
على دعوتهم عدد كبير اعتنقوا المذهب رغبة أو رهبة، فشَغَلَتْ عقائدُ الفاطميين أذهانَ
الناس
طوال العصر الفاطمي، وجاء عصر الدولة الأيوبية فأراد القائمون عليها أن يُغيِّروا عقائد
الشيعة في مصر، ورأوا أن الفاطميين نشروا مذهبهم عن طريق العلم، فحاربوا التشيع بنفس
السلاح الذي استخدمه الفاطميون، وهو الدعوة إلى أهل السُّنة والجماعة عن طريق فَتْح
المدارس السُّنية أولًا، وتشجيع حركة التصوف ثانيًا.