من ذلك نقول: «إنه وُجِدَ بمصر جماعة من المسلمين عُرِفوا بالصوفية كانوا يُنادُون
بالقول
بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم ابتدأوا يتدخلون في سياسة الدولة، وفي التأثير على
مجرى
الحوادث، بل اشتطوا في تَدَخُّلهم فطلبوا من القاضي أن يُظهر عدم رضائه عن تعيين الوالي
الجديد
على البلد، حتى لو كان هذا الوالي أخا الخليفة العباسي ووَلِيَّ عهده.»
وهكذا نقرأ عن عدد من كرامات هؤلاء المتعبدين، ونحن لا ندري من أين أتت هذه الروايات
الخاصة بكرامات هؤلاء القوم؟ فإننا لم نعثر على أصولها التي أَخَذَ عنها الذهبي ونَقَلَهَا
عنه
السيوطي، فالمعروف أن بَيْن الذهبي وهؤلاء الزهاد نحوًا من ثلاثة قرون، وكان الذهبي في
عصر
اشتدت فيه حركة التصوف وتعدَّدَتْ طرقُها وكَثُرَ حديث الناس عن الكرامات، ومَنْ يدري!
لعل هذه
الكرامات التي نُسِبَتْ إلى هؤلاء الزاهدين أو غيرهم من الصوفية قد وُضِعَتْ وَضْعًا
في عصور
متأخرة لإرضاء عاطفة شعبية تريد إثبات صوفية هؤلاء الزاهدين، فالشعب لا يقبل الصوفي إلا
بما
يُروى عن كراماته، بينما نجد كثيرًا من الناس لا يؤمنون بهذه الكرامات.
استمر تيار الصوفية في مصر طوال العصر الفاطمي، ولكننا نرى أنهم اتخذوا لهم بالقرافة
مكانًا خاصًّا عُرِفَ بهم، وكأنهم كانوا يأخذون عظة من الموتى ليزدادوا زهدًا في الدنيا،
وقد وَصَفَهم الشاعر الماجن الأمير تميم بن المعز لدين الله الفاطمي بقوله:
وهكذا كانت زيارة الأمير تميم للقرافة سببًا في أن يعود إلى التضرع إلى الله يستغفره
ويتوب إليه ويتشفع بالرسول الكريم عما اقترفه من آثام.
ولا نغالي إذا قلنا إن بعض الصوفية في مصر الفاطمية كانوا من دعاة الفاطميين، ولا
سيما
هؤلاء الدعاة الذين كانوا في مرتبة «المكاسرة» أو «المكالبة»، فكانوا يُختارون ممن لهم
حسب
ونسب ويُعرفون بشدة التقوى والزهد، وكانوا يلمون إلمامًا تامًّا بآراء أصحاب الفرق
الإسلامية بجانب تضلعهم في علوم أهل البيت؛ ولهذا قلنا: إن مظهر هؤلاء المكالبين كان
هو مَظْهر
المتصوفين، وكان وجود هؤلاء الدعاة في مصر سببًا في صعوبة التفريق بينهم وبين المتصوفين
الذين رأينا اهتمام الفاطميين بهم، وقد ذكرنا كيف بنى الفاطميون مصاطب أو تكايا للصوفية،
ولكن المصادر التي بين أيدينا لا تكفي للحديث عن الصوفية في هذا العصر.
ولما أخذت الدعوة الإسماعيلية في التدهور والضعف في مصر بعد موت المستنصر الفاطمي
سنة
٤٧٨ﻫ، وانقسمت الدعوة إلى نزارية ومستعلية، تهاون المصريون بأمر الدعوة، وظهرت حركة القصار
في دار العلم بمصر، وقام يدعو إلى مذهبه الذي عُرِفَ بالبديعية، وأقبل عليه قومٌ من
المصريين، ولكن الفاطميين قاوَموا هذه الحركة في شدة وعنف، وأغلقوا دار العلم بسبب هذه
الفتنة الجديدة، واستطاعوا أن يُخْمدوا هذه الحركة قبل أن يَسْتَفْحِل أَمْرُها. واستمر
المصريون
يستخفون بأمر الدعوة الإسماعيلية والأئمة الفاطميين، وتطلعوا إلى شيء جديد يشغل الفراغ
الذي
شَغَرَ بضعف الدعوة الإسماعيلية؛ ولذلك تبعوا طريقةً صوفية جديدة ظهرت في أواخر العصر
الفاطمي
وهي الطريقة الكيزانية، ولم يستطع الفاطميون في أواخر أيامهم أن يصرفوا المصريين عن هذه
الطريقة الجديدة، بالرغم من أن تعاليم هذه الفرقة الصوفية الجديدة كانت تخالف تعاليم
الدعوة
الإسماعيلية الشيعية؛ وذلك لما حل بالفاطميين من وَهَن وضَعْف وتغلب الوزراء الذين لم
يهتموا
بالبلاد بقدر اهتمامهم بأنفسهم.
(١) الكيزانية
أما فرقة الكيزانية الصوفية فهي تُنسب إلى شيخها أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن
ثابت،
على خلاف بين المؤرخين في هذا الاسم، فالسبكي يقول: إنه محمد بن إبراهيم بن ثابت،
٢٦ وبذلك قال ابن خلكان
٢٧ وابن تغري بردي،
٢٨ بينما يقول ابن سعيد: إنه محمد بن ثابت.
٢٩ واتفق المؤرخون على أنه لُقِّبَ بالكيزاني نسبةً إلى صناعة الكوز، وعُرِفَ أنه
من الصوفية، ووصفه ابن سعيد بقوله: «أخبرني جماعة من المصريين أنه كان من عُبَّاد الفسطاط
الملازمين للقرافة وجبل المقطم، وكان مذهبه الاعتزال، وهو من فضلاء المائة السادسة.»
٣٠ وقال عنه العماد الأصفهاني: «فقيه واعظ مُذَكِّر، حسن العبارة، مليح الإشارة،
لكلامه رقة وطلاوة، ولنظمه عذوبة وحلاوة، مصري الدار عالِم بالأصول والفروع، عالِم بالمعقول
والمشروع، مشهود له بألسنة القبول، مشهور بالتحقيق في عالم الأصول، وكان ذا رواية ودراية
بعلم الحديث، ومعرفة بالقديم مكون الحديث، إلا أنه ابتدعَ مَقَالَةً ضَلَّ بها اعتقاده،
وزَلَّ في
مزلقها سداده، وادعى أن أفعال العباد قديمة، والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة
إلى
اليوم مقيمة — أعاذنا الله من ضلة الحلم، وزلة العلم، وعلة الفهم — واعتقد أن التنزيه
في
التشبيه — عَصَمَ الله من ذلك كل أديب أريب ونبيل نبيه.» إلى أن قال: «وتوفي بمصر سنة
ستين
وخمسمائة ﻫ، وهو شيخ ذو قبول وكلام معسول، وشِعر خالٍ من التصنع مغسول، ودُفِنَ عند قبر
إمامنا الشافعي رضي الله عنه، والكيزانية بمصر فرقة منسوبة إليه، ويَدَّعُون قِدم الأفعال،
وهم
أشباه الكرامية بخراسان.»
٣١ ويقول ابن خلكان: «كان زاهدًا ورِعًا، وبمصر طائفة يُنسبون إليه ويَعْتَقِدون مقالته.»
٣٢
فمن ذلك نستطيع أن نتبين أنه عُرِفَ بالعِلْم والزهد، ويذكر السبكي أن ابن الكيزاني
«سمع عن
أبي الحسن عليِّ بن الحسين بن عمر الموصلي وأبي عليٍّ الحسن بن محمد الجيلي، وروى عنه
خَلْقٌ»،
٣٣ كما اتفقت الآراء على شدة ورَعِه وتقواه، غير أنه ابتدع مقالةً خَالَفَ بها ما كان
عليه جمهور أهل السُّنة وما كان عليه معاصِرُوه من الشيعة الإسماعيلية الذين كانوا في
أواخر
سني حكمهم في مصر، فابن الكيزاني كان يقول بالتجسيم، وأهل السُّنة يذهبون إلى التنزيه
وأن
الله ليس كمثله شيء، وقال الإسماعيلية بالتجريد، وأن الله تعالى ليس لَيْسًا وليس أَيْسًا،
وينفون
عنه تعالى جميع الصفات والأسماء، فالله فاعلُ هذه الصفات كما هو فاعلُ كل شيء «وأنه لا
توجد
في لغة من اللغات ما يمكن الإعراب عنه بما يليق به».
٣٤ فالاختلاف شديد بين رأي ابن الكيزاني، وبين آراء الشيعة الإسماعيلية التي كانت
في عصره، وبين رأي جمهور أهل السُّنة، ومع ذلك تبع بعض المصريين طريقة الكيزانية واعتنقوا
مقالة ابن الكيزاني.
ومن الغريب أن أشعاره التي وصلت إلينا — والتي بقيت من ديوانه الذي كان منتشرًا بين
أيدي
الناس — ليس بها ما يدل على هذه الآراء التي نُسِبَتْ إليه، فشعره الصوفي جرى مجرى أصحاب
مذهب الحب الإلهي، ولكن يُخيل إليَّ أن رغبة ابن الكيزاني في الوعظ كانت تؤثر على أسلوبه
في
أشعاره الصوفية، فهو لا يرمز في شعره — كما فعل ابن الفارض من بعده — بل كان يُوَضِّح
ويفصل
ويمزج أحواله الصوفية من حُبٍّ إلهي ببعض الإرشادات الوعظية، فهو يقول مثلًا:
اصرفوا عني طبيبي
ودعوني وحبيبي
عللوا قلبي بذكرا
ه فقد زاد لهيبي
طاب هتكي في هواه
بين واشٍ ورقيبِ
لا أبالي بفوات النـ
ـفس ما دام نصيبي
ليس من لامٍ وإن أطـ
ـنب فيه بمصيبِ
فهذه المقطوعة تُشعرنا بأن الشاعر كان يعيش في حبه الإلهي، ولكنها تُشعرنا أيضًا بمدى
ما
كان عليه من توكل ومن تسليم بما قَدَّرَهُ القضاء له والصبر على ما قُدِرَ له، وهذه المعاني
كثيرة جدًّا في بقية أشعاره التي بين أيدينا فهو يقول مثلًا:
يا مَنْ بدا هجرانه
ما أنت أول مَنْ هَجَرْ
هي سُنَّة مألوفة
فيمن تَقَدَّمَ أو غَبَرْ
داوِمْ على ما أنت فيـ
ـه فإنما الدنيا عِبَرْ
عَوَّدْتُ نفسي الصبر والـ
ويتجه في أشعاره الصوفية اتجاه الزاهدين البكائين الذين كان يقوم زهدهم على الخوف
والبكاء، وهذا هو مذهب الحسن البصري، فاتبع ابن الكيزاني هذا الاتجاه، وظَهَرَ ذلك في
شعره فهو
يقول:
بربكما عَرِّجَا ساعةً
ننوح على الطفل الدارِسِ
ففيض الدموع على رَسْمِهِ
يُتَرْجِم عن حرق البائِسِ
وعهدي بغزلانه رُتعًا
لدى مَلعبٍ بالدُّمى آنِسِ
ولي فيهمُ شادنٍ أهيف
يفوق على الغصن المائِسِ
٣٧
ويقول أيضًا:
جهد عيني أن لا تذوق هجوعَا
وجفوني أن لا تكفَّ دُمُوعَا
ولساني أن لا يزال مُقِرًّا
أنني لست للعهود مُضِيعَا
وفؤادي أن لا يُلَّم به الصبـ
ـر وسقمي ألا يروم نُزُوعَا
ولقد أودع الغرامُ بقلبي
زَفَرَاتٍ أضحى بها مصْدُوعَا
وإذا أطنب العزول فقد عا
هَدْتُ سمعي أن لا يكون سَمِيعَا
وحرامٌ على التلهف أن يبـ
ـرح أو يحرق الحشا والضُّلُوعَا
وبَعِيد أن يَجْمَع الله شَمْلِي
بالميسرات أو نعود جَمِيعَا
٣٨
وهكذا نجد في شعر ابن الكيزاني اتجاهًا في الحب الإلهي لم نعرفه فيما وَصَلَنَا من
أشعار
المصريين، إلا ما نراه في أشعار ذي النون المصري، ولم نَعْرِفْه عند شعراء الدعوة الإسماعيلية.
وأُعْجِبَ المصريون بمذهب ابن الكيزاني واتجاهه، فتمذهب بمذهبه كثير من المصريين، وانتشرت
أشعاره وديوانه بين المصريين — على نحو ما روى العماد وابن خلكان — بالرغم من أن مذهبه
كان
قريبًا من مذهب ذي النون ذلك المذهب لم يَقْبَله المصريون من قبل.
فابن الكيزاني إذن كان أَوَّلَ شاعر صوفي ظهر في أواخر العصر الفاطمي استحدث طريقة
صوفية، وكان
له مريدون، واستمرت تعاليمه مدة طويلة بعد وفاته سنة ٥٦٠ﻫ (وقيل: سنة ٥٦١ﻫ، وقيل: سنة
٥٦٢ﻫ)؛
أي أن الفرقة الكيزانية الصوفية كانت أوَّلَ فرقة صوفية بمصر أيام انقراض الدولة الفاطمية،
وإقبال المصريين عليها دليل على أن هذه الآراء الصوفية — على أي وجه كانت — هي التي شغلت
الفراغ الذي تركه الدعاة الإسماعيلية، فالمصريون تأثروا بمعتقداتِ وتعاليمِ الإسماعيلية،
ولما
وَجَدَ المصريون أَنْفُسَهُم بعد انقراض الدولة الفاطمية قد حُرِموا مما يُغَذِّي عاطفتهم
الدينية — في
أي صورة كانت — اتجهوا إلى التصوف، وأَحَلُّوه في نفوسهم وحياتهم محلَّ ما كانوا يسمعونه
من الدعاة
الإسماعيلية، ويظهر أن القائمين على الدولة الأيوبية فَهِمُوا هذه الناحية النفسية في
الشعب،
فحاربوا العقائد الإسماعيلية في مصر بتعاليم الصوفية وبنشر مدارس الحديث، والتعاليم
السُّنية التي قال بها الأئمة الأربعة.
(٢) التصوف في العصر الأيوبي
انتقل التصوف في مصر إلى طور جديد باستيلاء صلاح الدين الأيوبي على البلاد، واستئصال
شأفة الدولة الفاطمية ودعوة الإسماعيلية من البلاد، فقد اهتم صلاح الدين ومن جاء بعده
من الحكام بهؤلاء الفقراء الصوفية، فأقاموا لهم الزوايا أو الخوانق لإقامتهم على نحو
ما
فعل الفاطميون من قبل من بناء مصاطب الصوفية في القرافة. ففي سنة ٥٦٩ جَعَلَ صلاح الدين
«دار سعيد السعداء برسم الفقراء المتصوفة الواردين من البلاد الأخرى، ووَقَفَهَا عليهم،
ووَلَّى عليهم شيخًا، كما وَقَفَ عليهم بستان الحبانية (بجوار بِركة الفيل)، وقيسارية
الشراب
بالقاهرة، وناحية دهمرو من البهنساوية، وشَرَطَ أن مَنْ مات من الصوفية وترك عشرين دينارًا
فما دونها كانت للفقراء ولا يتعرض لها الديوان السلطاني، ومن أراد منهم السفر يُعطى
تسفيرة، ورَتَّبَ لهم في كل يوم طعامًا ولحمًا وخُبزًا، وبنى لهم حمَّامًا بجوارهم».
٣٩ فكانت دار سعيد السعداء أول خانقاة أُقيمت للصوفية في عهد الأيوبيين، ثم
توالت بعد ذلك الخوانق في مصر حتى كَثُرَتْ، واسترعى كَثْرَتُها انتباهَ ابن بطوطة، فقال
في رحلته
عن هذه الخوانق في مصر: «وأما الزوايا فكثيرة، وهم يسمونها الخوانق، واحدتها خانقاة،
والأمراء بمصر يتنافسون في بناء الزوايا، وكل زاوية بمصر مُعَيَّنَة لطائفة من الفقراء،
وأكثرهم من الأعاجم، وهم أهل أدب ومعرفة بطريقة التصوف، ولكل زاوية شيخ وحارس، وترتيب
أمورهم عجيب.»
٤٠
وذكر المقريزي في خططه عددًا كبيرًا من هذه الزوايا والتكايا والخوانق التي
برسم الصوفية، مما يدل على اهتمام الأيوبيين والمماليك من بعدهم بحركة التصوف اهتمامًا
خاصًّا، لعل مَصْدَرُه ما قيل: إن الجنس الآري يميل إلى التصوف، والأيوبيون والمماليك
من
الجنس الآري، وربما كان مصدره الاقتداء بنور الدين زنكي الذي كان يحب الفقراء والصوفية
ويعطف عليهم، وفي ذلك يقول أبو شامة المقدسي: «كان نور الدين إذا دَخَلَ عليه الفقيه
أو
الصوفي أو الفقير يقوم له ويمشي بين يديه ويُجلسه إلى جانبه كأنه أقرب الناس إليه، وكان
إذا أعطى أحدهم شيئًا يقول: إن هؤلاء لهم في بيت المال حق، فإذا قنعوا منا ببعضه فلهم
المنة علينا.»
٤١
ولكن يُخيل إليَّ أن تشجيع التصوف على هذا النحو لم يكن عفوًا، إنما كان من
التدبيرات التي رُسِمَتْ سياستها لمحاربة الدعوة الإسماعيلية الشيعية من البلاد؛ وذلك
للتقارب الشديد بين آراء الصوفية وآراء الإسماعيلية، فقد رأينا الدعاة في العصر الفاطمي
يُعمِلون العقل لنشر مذهبهم وعقيدتهم، فكان العقل عندهم طريقًا للوصول إلى المعرفة وإلى
الله، والتصوف من ناحيته يصل بالمريد عن طريق الذوق والرياضة إلى المعرفة وإلى الله،
فلا غرو أن يستعمل الأيوبيون سلاح التصوف في وجه الدعوة الإسماعيلية ليشغلوا المصريين
عن الإسماعيلية بالتصوف، حتى لا يجد المصريون فراغًا بعد القضاء على عقيدتهم.
أضف إلى
ذلك كله أن الحياة المصرية في ذلك العصر كانت تدعو إلى شيء من الاستسلام للمقادير
والاتجاه إلى الله والزهد في الدنيا، فالاضطرابات التي حَلَّتْ بمصر بسبب الحروب الصليبية
أولًا، والحروب التي كانت بين سلاطين آل أيوب بعضهم مع بعض، ثم الحروب التي كانت بين
المماليك بعضهم مع بعض، كل ذلك جعل المصريين — وقد ألمَّت بهم المحن والمصائب — يتطلعون
إلى لون من ألوان الحياة الروحية، عساها تخفف عنهم هذه الآلام والمحن التي حاقت بهم من
كل جانب. كان المصريون في العصر الفاطمي يهرعون إلى الدعاة ويستغيثون بالأئمة عندما تحل
بهم نوائب الدهر وتتعاقب عليهم صروفه اعتقادًا منهم بأن الأئمة ملاذ كل مستغيث، وكانت
العقيدة الإسماعيلية تأمرهم بذلك، ولكن في العصر الأيوبي وعصر المماليك لم يجد المصريون
هذا الملاذ فاتجهوا إلى شيوخ الطرق الصوفية، الذين كثروا وتشعبوا إلى فرق وطرق لكل
طريقة شيخ ولها مريدون، ولها شعائر في التصوف العملي (حلقات الذكر) تختلف عن غيرها،
وأصبح للصوفية بمصر نظام اعترفت به الدولة وأحاطته بعنايتها، كما كانت الدعوة
الإسماعيلية في العصر الفاطمي، وقد رأينا كيف كان الصوفية يعيشون في الخوانق مما تُدِرُّه
عليهم الدولة، ومما كان يحمله الأمراء والكبراء طلبًا لبركة هؤلاء المتصوفة، فمما لا
شك
فيه أن كثيرًا من المصريين اتخذوا طريق التصوف حتى يَنْعَمُوا بما كان يَنْعَم به غيرهم
من
سكان الخوانق؛ أي أنهم اتخذوا التصوف وسيلة للحياة الدنيا، ومنهم من اتخذ التصوف مذهبًا
دينيًّا له.
في هذا العصر الذي نتحدث عنه وَفَدَ على مصر عدد كبير من الصوفية الغرباء، لعل أبعدهم
ذِكرًا وأشدهم أثرًا هم محيي الدين بن عربي، وأبو الحسن الشاذلي، والسيد أحمد البدوي،
فهؤلاء وأمثالهم من زعماء المتصوفة، الذين دخلوا مصر وحملوا معهم آراءهم الصوفية التي
لم تعرفها مصر من قبل، كان لهم أثر في تطور التصوف في مصر بما أَدْخَلُوه من آراء
جديدة.
ولعل محي الدين بن عربي كان أشد المتصوفة أثرًا في صوفية مصر، فرأيه في وحدة الوجود
هو الرأي الذي قال به أكثر متصوفة مصر — بل وغير مصر — وكفى أنْ أنقل ما كتبه عنه أستاذنا
الدكتور أبو العلا عفيفي: «ولا مبالغة في القول بأن كتاب الفصوص أعظم مؤلفات ابن عربي
كلها قدرًا، وأعمقها غورًا، وأبعدها أثرًا في تشكيل العقيدة الصوفية في عصره والأجيال
التي تلته، فقد قَرَّرَ مذهب وحدة الوجود في صورته النهائية، ووَضَعَ له مصطلحًا صوفيًّا
كاملًا استمده من كل مصدر وَسِعَه أن يستمد منه كالقرآن، والحديث، وعلم الكلام، والفلسفة
المشائية، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة والغنوسطية المسيحية، والرواقية، وفلسفة فيلون
اليهودي، كما انتفع بمصطلحات الإسماعيلية الباطنية والقرامطة وإخوان الصفا.»
٤٢
ومعنى هذا كله أن فلسفة محيي الدين بن عربي إنما هي مزيج من عدد كبير من الآراء
والفلسفات التي عَرَفَهَا تاريخ الفكر الإنساني قبل ابن عربي، فلا غرو أن تتفق بعض آراء
محيي الدين مع آراء الإسماعيلية، فإن فلسفة الإسماعيلية تقوم أيضًا على مزيج من الآراء
والفلسفات القديمة، وكما أن محي الدين أَخْضَعَ آراء الذين سبقوه إلى مذهبه في التصوف،
كذلك
فعل الإسماعيلية قَبْلَه في إخضاع الآراء القديمة إلى فِكْرَتهم في التوحيد والإمامة،
ولكن
الخلاف شديد بين مذهب محيي الدين ومذهب الإسماعيلية؛ ذلك أن محيي الدين كان ينادي بوحدة
الوجود، وعَنْه أخذ صوفية مصر، فهو الذي يقول في الفتوحات: «سبحان من خلق الأشياء وهو
عينها.»
٤٣ وقال أيضًا: «فإن للحق في كل خلق ظهورًا، فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو
الباطن عن كل فَهْم؛ إلا عن فَهْم من قال: إن العالم صورته وهويته.»
٤٤ ويقول مرة أخرى: «أحدية كل شيء معقولة بحيث لا يمتري فيها من له مسكة عقل
ونظر صحيح، وأنت إذا نظرت إلى هذا الواحد فلا بد وأن تحكم عليه بأن له رتبة يكون عليها
في الوجود، فإما أن يكون مؤثِّرًا أو مؤثَّرًا فيه، وإما أنه لا يكون واحدًا منهما، وإما
أن يكون المجموع، فالمؤثِّر هو الفاعل والمؤثَّر فيه مَحَلُّ الانفعال، فما في الوجود
إلا المجموع.»
٤٥ ولكن الإسماعيلية يذهبون في توحيدهم مذهبًا يخالف ما جاء به محيي الدين بن
عربي، فإنهم قالوا: «إن الله ليس كمثله شيء، ولا يمكن أن يكون أيْسًا، وباطلٌ أن يكون
لَيْسًا،
وليس من جنس العقول حتى تدركه العقول، فهو أَبْدَعَ العقول وليس من جنسها، ولا يمكن أن
يوصف
بصفة توصف بها مخلوقاته.»
٤٦ فالله سبحانه وتعالى عند الإسماعيلية مُبْدِع الوجود، ولكنه عند أصحاب وحدة
الوجود هو عينها وأن العين واحدة، وإذن نستطيع أن نقول مطمئنين: إن فكرة وحدة الوجود
التي دان بها كثير من صوفية مصر لم تكن من آثار الإسماعيلية التي كانت منتشرةً في مصر
قبل عصر محي الدين بن عربي.
ناحية أخرى ألمس فيها الخلاف بين ابن عربي وبين الإسماعيلية، فقد ذكر أستاذنا الدكتور
أبو العلا عفيفي أن ابن عربي فيلسوف آثر أن يهمل منهج العقل الذي هو منهج التحليل
والتركيب، ويأخذ بمنهج التصوير العاطفي والرمز والإشارة والاعتماد على أساليب الخيال
في التعبير.
٤٧ وهذا يخالف الإسماعيلية الذين كانوا يَدْعُون إلى إعمال العقل وإلى التفكير
العميق، ولم يجعلوا للوجدان أو الخيال سبيلًا إلى مذهبهم وآرائهم؛ ولذلك عُرِفوا في بعض
البلدان بالفرقة التعليمية، وقالوا بالعبادة العلمية (أي: علم الباطن) المبنية على عمل
العقل، فالمنهج العقلي الذي سار عليه الإسماعيلية أهمله ابن عربي. وهكذا نستطيع في
سهولة ويُسْر أن نتبع الخلاف في أسماء الله وصفاته، والحديث عن الإمام عند الإسماعيلية
والولي عند الصوفية.
ومع هذا الخلاف الذي بين مذهب الإسماعيلية وبين مذهب ابن عربي، فإننا نكاد نجد
اتفاقًا في كثير من الآراء في كلا المذهبين، فالشيعة — ومنهم الإسماعيلية — قالوا
بنظرية «النور المحمدي»، ورَوَوْا أحاديث نُسِبَتْ إلى الرسول
ﷺ مثل: «كنت نبيًّا
وآدم بين الماء والطين»، ومثل: «أول ما خلق الله نوري» إلى غير ذلك من هذه الأحاديث،
كما قالوا بأن النور المحمدي تَنَقَّلَ من زمن إلى زمن فظهر في صورة آدم فنوح فإبراهيم
فموسى
فعيسى؛ إلى أن ظهر في صورة محمد، ثم في عليِّ بن أبي طالب والأئمة من بعده؛ فهذه الفكرة
الشيعية ظهرت عند الصوفية ولا سيما في صوفية ابن عربي في حديثه عن الكلمة المحمدية أو
الحقيقة المحمدية،
٤٨ وظهر أثرها في صوفية مصر الذين قالوا بأن النور المحمدي هو القطب، وأن
الأقطاب هم ورثة هذا النور المحمدي وأنه يظهر فيهم كما ظَهَرَ في الأنبياء، فمن ذلك قول
إبراهيم الدسوقي:
نعم نشأتي في الحب من قبل آدم
وسِرِّي في الأكوان من قبل نشأتي
أنا كنت في العلياء مع نور أحمد
على الدرة البيضاء في خلوتي
أنا كنت في رؤيا الذبيح فداءه
بلطف عنايات وعين حقيقةِ
أنا كنت مع إدريس لما أتى العُلا
وأُسكن في الفردوس أنعم بقعةِ
أنا كنت مع عيسى على المهد ناطقًا
وأَعْطَيْتُ داودًا حلاوة نغمةِ
أنا كنت مع نوح بما شهد الورى
بحارًا وطوفانًا على كف قدرةِ
أنا القطب شيخ الوقت في كل حالة
أنا العبد إبراهيم شيخ الطريقةِ
٤٩
فهذه المقطوعة التي أنشدها أحد الصوفية في مصر تُرِينا إلى أي حد كان هذا المتصوف
يرى
أنه نشأ قبل آدم، وأن سِرَّهُ وُجِدَ قبل خَلْق الكون فكان مع النور المحمدي، وأنه شهد
الأنبياء السابقين جميعهم، فسِرُّهُ تَنَقَّلَ من دور إلى دور … حتى ظهر في هذا القطب
شيخ
الوقت.
ويقول ابن الفارض:
وناهيك جمعًا لا بفرق مساحتي
مكان مقيس أو زمان مؤقتِ
بذاك علا الطوفان نوح وقد نجا
به مَنْ نجا من قومه في السفينةِ
وغاض له ما فاض عنه استجادة
وَجدَّ إلى الجودى بها واستقرَّتِ
وسار ومتْن الريح تحت بساطه
سليمان بالجيشين فوق البسيطةِ
وقبل ارتداد الطرف أُحْضِرَ مِنْ سَبَا
له عَرْشُ بلقيس بغير مشقةِ
وأخمد إبراهيمُ نارَ عدُوِّهِ
وعن نوره عادت له روض جنةِ
ولما دعا الأطيار من كل شاهقٍ
وقد ذُبِحت جاءَتْهُ غيرَ عَصِيَّةِ
ومن يده موسى عصاه تَلَقَّفَتْ
من السحر أهوالًا على النفس شقَّتِ
ومن حجَرٍ أجرى عيونًا بضربةٍ
بها، دَيمًا سقَّت وللبحر شقَّتِ
ويوسف إذ ألقى البشير قميصَهُ
على وجه يعقوبَ إليه بأوبةِ
وفي آل إسرائيل مائدة من السـ
ـماء لعيسى أُنزِلت ثم مُدَّتِ
ومن أكمهٍ أبرى ومن وضح عِدًا
شفى وأعاد الطين طيرًا بنفخةِ
وسرُّ انفعالاتِ الظواهر باطنًا
عن الإذن ما أَلْقَتْ بأُذنِك صيغتي
وجاءَ بأسرار الجميع مفيضها
علينا لهم ختمًا على حين فترةِ
وما منهمُ إلا وقد كان داعيًا
به قَوْمَه للحقَ عنْ تبعيةِ
فعالِمنا منهم نبيٌّ ومَنْ دعا
إلى الحق منا قام بالرُّسليةِ
٥٠
وفي قصيدة أخرى يقول ابن الفارض:
أنتم فروضي ونفلي
أنتم حديثي وشغلي
يا قبلتي في صلاتي
إذا وقفت أُصَلِّي
جمالكم نُصْبَ عيني
إليه وجهت كلي
وسِرُّكم في ضميري
والقلب طور التجلي
آنسْتُ في الحي نارًا
ليلًا فبشرْتُ أهلي
قلت: امكثوا فلَعَلِّي
أجِدْ هُدَايَ لَعَلِّي
دَنَوْتُ منها فكانت
نار المُكلَّم قبلي
نوديت منها كفاحًا
ردُّوا ليالي وصلي
حتى إذا ما نداني السـ
ـميقات في جمع شملي
صارت جبالي دكًّا
من هَيْبَةِ المتجلِّي
ولا سِرٌّ خفيٌّ
يَدريه من كان مثلي
وهكذا نلمس في مثل هذه الأشعار نظرية انتقال النور المحمدي من جيل إلى جيل، ومن نبي
إلى نبي؛ حتى حل هذا النور في الأقطاب الصوفية، وقد ذكرنا أن هذا الرأي هو رأي الشيعة،
مع
خلافٍ في أن الذي وَرِثَ هذا النور بعد النبي محمد ﷺ هم الأئمة من نسله؛ ولذلك نرى
الشاعر الإسماعيلي المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي يُعَبِّر عن تسلسل هذا النور في
الأنبياء والأئمة بقوله في مدح إمامه:
سلام على العترة الطاهرَهْ
وأهلًا بأنوارها الزاهرَهْ
سلام بَديًّا على آدمٍ
أبي الخلق بادِيهِ والحاضرَهْ
سلام على مَنْ بطوفانه
أُديرت على مَنْ بغى الدائرَهْ
سلام على مَنْ أتاه السلامُ
غداة أحفَّتْ به النائرَهْ
سلام على قاهِرٍ بالعصا
عُصاةَ فراعنةٍ جائرَهْ
سلام على الرُّوح عيسى الذي
بمَبْعَثِه شَرُفَتْ ناصِرَهْ
سلام على المصطفى أحمدٍ
وَلِيِّ الشفاعةِ في الآخرَهْ
سلام على المرتضى حَيْدَرٍ
وأبنائه الأنْجُمِ الزاهرَهْ
سلام عليك فمَحْصُولُهُمْ
لديك أيا صَاحِبَ القاهرَهْ
٥٢
فالإمام عند الشيعة هو مَجمع هذا النور المحمدي، أَخَذَهُ عن الإمام الذي سَبَقَهُ،
ويسلمه
للإمام الذي بعده، أما عند الصوفية فلهم نظام القطب على نحو ما رأينا في شعر إبراهيم
الدسوقي. ولكن عبد العزيز بن أبي فارس بن أبي الأفراح الصوفي المصري المتوفى سنة ٧٠٣ﻫ
قال في نظام درجات الصوفية ومراتبهم: «إن الأقطاب سبعة، والأبدال والأعين وهم النجباء
كذلك، والأوتاد أربعة، والغوث يجمعهم، وهو مقيم بمكة، والخِضر يجول ولا حكم له إلا على
أربعة أشياء: إغاثة ملهوف، أو إرشاد ضال، أو بسط سجادة شيخ، أو تولية الغوث إذا مات،
والغوث يحكم على الأقطاب، والأقطاب على الأبدال، والأبدال على الأوتاد، فإذا مات الغوث
وَلَّى الخِضر من يكون قطبًا بمكة غوثًا، وجَعَلَ بدل مَكَّة قطبًا وعين مكة بدلًا، وبدل
مكة
رشيدًا وهكذا، فإن مات الخِضر صلى الغوث في حجِر إسماعيل تحت الميزاب فتسقط عليه ورقة
باسمه فيصير خِضرًا، ويصير قطب مكة غوثًا … وهكذا.»
٥٣
هذه المراتب التي جعلها ابن أبي الأفراح للصوفية تدعونا إلى الإشارة إلى مراتب الدعاة
عند الإسماعيلية، فحجج الجزائر اثنا عشر حجة، ولكل حجة جزيرة أربعة وعشرون داعيًا،
وثلاثون داعيًا مأذونًا، ويرأس هؤلاء جميعًا داعي الدعاة الذي يقيم بالحضرة مع الإمام،
وللإمام أن يختار من كبار رجال الدعوة وعلمائها مَنْ يجعله في مرتبة الحججية فيُعرف
بالحجة فقط، كما يختار من يجعله في مرتبة البابية — ويُعرف بالباب — وإذن، فالقول بأن
هناك
علاقة بين ترتيب الدعوة الإسماعيلية وترتيب رجال الصوفية لا يزال قولًا فجًّا في حاجة
إلى تدعيم علمي.
ناحية أخرى أرى ابن عربي وغيره من الصوفية يتفقون فيها مع رأي الإسماعيلية ذلك هو
العلم الباطن، فابن عربي كان يقول بأن العلم الشرعي يُوحَى به إلى الرسول على لسان
المَلَك، أما العلم الباطن عند الولي فهو إرْثٌ يرثه الولي من خاتم الأولياء الذي يرثه
بدوره من منبع الفيض الروحي جميعه، أي: الحقيقة المحمدية.
٥٤ ويقول أبو السعود بن أبي العشائر الصوفي المصري المتوفى سنة ٦٤٤ﻫ: «الطلب
شغل الظاهر، والمطلوب شغل الباطن، ولا يستقيم ظاهر إلا بباطن، ولا يسلم باطن إلا بظاهر.»
٥٥ ونظم ابن الفارض هذه الآراء في قوله:
فخُذ عِلم أعلام الصفات بظاهر الـ
ـمعالم في نفسٍ بذاك عليمةِ
وفهم أسامي الذات عنها بباطن الـ
ـعوالم من روحٍ بذاك مشيرةِ
وهكذا ذهب الصوفية إلى القول بالظاهر والباطن، وهذا الرأي هو أهم ما قال به الشيعة
الإسماعيلية حتى عُرِفوا بالباطنية نسبةً إلى قولهم: إن لكل ظاهر باطنًا، وعلى المؤمن
أن
يعتقد بالظاهر والباطن معًا.
٥٦
وتتفق آراء الصوفية مع آراء الإسماعيلية في ضرورة ستر علم الباطن إلا على أهله
ومُسْتَحِقِّه، بحيث لا يُفاتح المستجيب بعلوم الباطن إلا بقدر، وكلما ارتقى في المرتبة
ازدادت مُفَاتَحَتُه، وها هو إبراهيم الدسوقي يقول عن ذلك: «أهل هذا الزمان ما بقي عندهم
إلا
المنافَسَة، فهم يسألون عن معنى الصفات أو معنى الأسماء أو معنى مُقَطَّعات الحروف، وهذا
لا
يليق بالمبتدئ السؤال عنه، وأما المتمكن فله أن يُلَوِّح بذلك لمن يستحق، فإن علمها طريقة
الكشف لا غير.»
٥٧ ويقول مرزوق القرشي المتصوف المصري: «احْتَجَبَتْ أسرار الأزل عن العقول كما
استقرت سبحات الجلال عن الإبداع.»
٥٨
على أن ابن الفارض اعترف في صراحة تامة بالأئمة مِنْ نسل عليِّ بن أبي طالب، وبالتأويل
الباطن الذي خُصَّ به عليٌّ، ونَظَمَ قول الإسماعيلية أن النبي قال: «أهل بيتي مثل النجوم
بأيهم اقتديتم اهتديتم.» فابن الفارض يُعبِّر عن ذلك وكأنه رجل شيعي يتحدث فهو
يقول:
بِعِتْرَتِهِ استغنَتْ عن الرسُل الورى
وأصحابه والتابعين الأئمةِ
وأوضح بالتأويل ما كان مُشكِلًا
«عليٌّ» بعلمٍ نالَهُ بالوصيةِ
وسائرهم مثل النجوم مَنْ اقتدى
بأيهمُ منه اهتدى بالنصيحةِ
٥٩
ومن الاتفاق بين آراء الإسماعيلية وآراء بعض المتصوفة — مثل أبي الحسن الشاذلي —
قول
الإسماعيلية: إن النبي
ﷺ أخذ عن جبريل وميكائيل وإسرافيل واللوح والقلم؛ أي: من
الخمسة الحدود العُلوية التي وَضَعَ لها الإسماعيلية مصطلَحًا خاصًّا، وهو الخيال والفتح
والجد والتالي والسابق، وأن النبي أَمَدَّ الوصي (الإمام) والحجة والداعي والمأذون والمكاسر
بهذه العلوم الباطنية، فكأن النبي يأخذ عن خمسة حدود عُلوية ويمد خمسة حدود جسمانية،
هذا رأي الإسماعيلية في الأخذ عن الحدود. أما الشاذلي فقد سُئِلَ: مَنْ شيخُكَ؟ فقال:
«أما فيما مضى فعبد السلام بن مشيش، وأما الآن فإني أُسقى من عشرة أبحر: خمسة سماوية،
وخمسة أرضية.»
٦٠ ويروي الشعراني في طبقاته هذا الحديث برواية أخرى، وهي أن الشاذلي عندما
سُئِلَ عن شيخه قال: «كنت أنتسب إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش، وأنا الآن لا أنتسب إلى
أحد، بل أعُومُ في عشرة أبحر: محمد، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وجبريل، وميكائيل،
وإسرافيل، وعزرائيل والروح الأكبر.»
٦١ فالشاذلي يتحدث هنا كما كان يتحدث المستجيب عند الإسماعيلية في تقسيم
الحدود الدينية إلى عُلوية وجسمانية، غير أن الشاذلي جَعَلَ حدوده الجسمانية النبي
ﷺ والخلفاء الراشدين، بينما الإسماعيلية لا يعترفون بأحد من الخلفاء
الراشدين إلا بعليِّ بن أبي طالب الذي له الوصاية، أما الحدود العُلوية فلا فَرْقَ بين
قول
الإسماعيلية وقول الشاذلي؛ إلا أن الشاذلي قال بعزرائيل، بينما قال الإسماعيلية
باللوح.
ويتفق الإسماعيلية مع رأي إبراهيم الدسوقي في القول بالبنوة الروحية، وأن الابن
الروحي أعظم منزلة من ابن الجسد، فالإسماعيلية قالوا: النسبة الجسدانية تنقطع إذا
اضمحلت الأجسام وبقيت النسبة النفسانية؛ لأن جواهر النفوس باقية بعد فراق الأجساد، وإن
كان يُظَنُّ أن الابن الجسداني يُحْيِي ذِكْرَ أبيه بعد موته، فالابن النفساني أيضًا
إن عاش أحيا
ذِكْرَ أبيه في مجلس العلماء، كما نذكر نحن معلمينا وأستاذينا أكثر مما نذكر آباءنا الجسدانيين،
٦٢ ومن ذلك ما رواه الإسماعيلية، أن النبي
ﷺ قال لعليِّ بن أبي طالب:
«أنا وأنت أبوا هذه الأمة.»
٦٣ فنفس هذا الرأي قال به المتصوف المصري إبراهيم الدسوقي، فهو يقول: «وَلَد
القلب خَيْرٌ مِنْ وَلَد الصلب، فولد الصلب له إِرْث الظاهر من الميراث، ووَلَد القلب
له إرث
الباطن من السِّر.»
٦٤
ونظم ابن الفارض هذا الرأي:
ومن الآراء التي اتفق فيها الإسماعيلية مع آراء بعض الصوفية، القول بالفترات أو
الأدوار؛ ذلك أن الإسماعيلية قالوا: إن الله تعالى يُرسل رسولًا ليدعو الناس إلى الصراط
المستقيم، ولكن تأتي بعد الرسول فترات تَكْثُر فيها البدع والأهواء، فيرسل الله رسولًا
آخر
لهداية الناس ويكون حجة عليهم، ومحمد
ﷺ هو خاتم الرسل، ولكن الأئمة من بعده هم
الذين يقومون مقامه في الهداية، وهم حجة الله على عباده في دوره إلى أن ينقضي هذا الدور
بظهور قائم القيامة «المهدي». هذا الرأي الإسماعيلي ذهب إليه محمد بن أبي جمرة الصوفي
فقد قال: «لما كان العلماء والأولياء ورثة الرسل والأنبياء، فلا بد من حصول فترات تقع
بين العالم والعالم والولي والولي، فإذا انْدَرَسَتْ طريقة الداعي أتى — بعد زمانٍ —
مَنْ يُجَدِّدُها،
ولما كان يَحْصُل في فترات الأنبياء عبادةُ الأصنام من دون الله، كذلك يقع في فترات
الأولياء عبادة الأهواء والبدع وتبديل الأفعال بالأقوال وغير ذلك.»
٦٦
على أن أكثر صوفية مصر في هذا العصر الذي نتحدث عنه ذهبوا إلى القول بالحب الإلهي
والمشاهدة بجانب قولهم بوحدة الوجود. وظَهَرَ ذلك كله في أدبهم، فها هو إبراهيم الدسوقي
يقول:
سقاني محبوبي بكأس المحبةِ
فتُهْتُ عن العشاق سُكرًا بخلوتي
ولاح لنا نور الجلالة لو أضا
لصُم الجبال الراسيات لدُكَّتِ
وكنت أنا الساقي لمن كان حاضرًا
أطوف عليهم كَرَّةً بعد كرةِ
ونادمني سِرًّا بسِرٍّ وحكمةٍ
وأن رسول الله شيخي وقوَّتِي
٦٧
وقال الدسوقي أيضًا وقد أظهر رأي أصحاب الوحدة، كما تحدث عن مرتبته القطبية وما لهذه
المرتبة من مكانة الحقيقة المحمدية:
تجلى لي المحبوب في كل وِجهةِ
فشاهدته في كل معنًى وصورةِ
وخاطبني مني بكشف سرائري
فقال: أتدري من أنا؟ قلت: مُنْيَتِي
فأنت مناتي، بل أنا أنت دائمًا
إذا كنت أنت اليوم عين حقيقتِي
فقال: كذاك الأمر لكنه إذا
تَعَيَّنَت الأشياءُ كُنْتَ كنسختِي
فأوصلت ذاتي باتحادي بذاتِه
بغير حلول بل بتحقيق نسبتي
فصرت فناءً في بقاءٍ مؤبَّدٍ
لذاتٍ بديمُومِيَّةٍ سَرْمَدِيَّةِ
وغيبني عني فأصبحت سائلًا
لذاتيَ عن ذاتي لشغلي بغيبتِي
وأنظر في مرآة ذاتي مشاهدًا
لذاتي بذاتي وهْي غاية بُغْيَتِي
خَبَأْتُ له في جنة القلب منزلًا
تَرَفَّعَ عن دعد وهند وعلوةِ
أنا ذلك القطب المبارك أَمْرُهُ
فإن مدار الكل من حول ذروتِي
أنا شمس إشراق العقول ولم أفل
ولا غبت إلا عن قلوبٍ عَمِيَّةِ
يروني في المرآة وهْيَ صَدِيَّةٌ
وليس يروني بالمراة الصقيلةِ
وبي قامت الأنباء في كل أمةٍ
بمختلف الآراء والكل أمتي
٦٨
ومن أقوال قطب الدين محمد بن عليٍّ الصوفي — الذي ولي مشيخة الكاملية إلى أن مات سنة
٦٨٦، وقد أظهر أيضًا مذهب الوحدة في شعره:
لما رأيتك مشرقًا في ذاتي
بَدَّلْتُ من حالي ذميمَ صفاتي
وتَوَجَّهَتْ أسرارُ فكري سُجدًا
لجميل ما واجَهْتُ مِنْ لحظاتِي
وتلوت من آياتِ حُسْنِك صورةً
سارت محاسنها بجَمْع شتاتِي
وبلوت أحوالي فحلت مُعبرًا
في الصحو عن سُكْرِي بصدق نياتِي
وتحولت أحوال سري في العُلى
فَعَلَتْ على محوٍ وعن إثباتِ
وتوحدت صفتي فرحت مروحًا
نظرًا لما أُشْهِدْتُ من آياتِ
لا أشتهي أن أشتهي متنزهًا
بل أنتهي عن غفلةِ الشهواتِ
أنا إن ظهرت فعن ظهور بواطن
شهدت بنطق كان من سكناتي
من كان يجهل ما أقول عَذَرْتُهُ
فالشمس تَخْفَى في دُجى الظُّلماتِ
٦٩
وقال ظافر بن محمد بن صالح بن ثابت زين الدين الأنصاري المعروف بالطناني — وكان من
الفقراء الصوفية أصحاب الخِرق:
تميس فتخجل الأغصان منها
وتزرى في التلفت بالغزالِ
وتحسب بالإزار بأن تَغَطَّتْ
وقد أبدت به شكل الجمالِ
سلوها لِمَ تغطي البدر عمدًا
وتسمح للنواظر بالهلالِ
ولِمَ تصلي الحشا بالعتب نارًا
وفي ألفاظها برد الزلالِ
ولِمَ فضحت بمعصمها اعتصامي
وأطبقت العقيق على اللآلي
ويُبدي حالها أمرًا عجيبًا
ظهورًا في خفاء مثل حالي
فإن حاكت بوفر الردف وجدي
فقد حاكى لها الخصر انتحالي
حلال في الغرام بها عذابي
كما عذب اللمى منها حلالي
٧٠
فهذا الصوفي عَبَّرَ عن حبه الإلهي تعبيرًا هو تعبير الغَزَليين الحسيين؛ حتى لنحسبه
من شعراء الغَزَل لولا القرينة التي ظَهَرَتْ في قوله عن «وجده» وخفاءِ حالِهِ؛ لقلنا:
إنه من
المتغزلين، ومثل هذا قول شهاب الدين محمد بن عبد المنعم — المعروف بابن الخيمي الشاعر
الصوفي المتوفى سنة ٦٨٥ﻫ:
كلفت ببدر في مبادي الدُّجى بدا
فعاد لنا ضوء الصباح كما بدا
وحَجَّبَ عنا حُسنه نور حُسنِهِ
فمن ذلك الحُسن الضلالة والهدى
فيا عاذلي دعني ونار صبابتي
عليه فإني قد وَجَدْتُ لها هدى
وهاك يدي إني على ترك حبه
مدى الدهر لا أعطيك يا عاذلي يدا
فما العيش إلا أن أبيت مواصلًا
لبدري أو في حب بدري مُسَهَّدَا
فيا نار قلبي حَبَّذَا أنت مصطَلًى
ويا دمع عيني حبذا أنت مَوْرِدَا
يا سقمي في الحب أهلًا ومرحبًا
ويا صحة السلوان شأنك والعِدَا
فلست أرى عن مِلَّة الحب مائلًا
وكيف ونور العامرية قد بدا
٧١
ومن الصوفية المصريين الذين أخذوا آراء ابن عربي ونادَوْا بها عبد العزيز بن عبد
الغني
بن أبي الأفراح، المعروف بالشيخ عبد العزيز المنوفي، المتوفى سنة ٧٠٣ﻫ، وكان له ديوان
شعر
٧٢ حاولنا العثور عليه فلم نُوَفَّقْ، فمن مقطوعاته التي بَقِيَتْ له يُظْهِر فيها آراءه
في وحدة الوجود:
وجدت بقائي عند فقد وجودي
فلم يَبْقَ حَدٌّ جامِعٌ لحدودي
وألقيت سري عن ضميري ملوحًا
برمز إشاراتي وفك قيودي
فأصبحت مني دانيًا بمعارِفٍ
وقد كنت عني نائيًا بجمودي
ومن عين ذاك الأمر حكم مبيِّنٌ
لتحقيق ميراثي وحِفْظ عهودي
فمن مبتدا فرقي قُنُوتي ووِجهتي
إلى منتهى جمعي يكون سجودي
وعاكف ذاتي مطلق غير مطرقٍ
وبادي صفائي قَدْ وفى بعقودي
وإن أَمَرَتْنِي نشأتي غير نسبتي
فصالح آبائي نذير ثمودي
سأُلْقِي عصاي في رحاب تَجَرُّدي
لتأتي من نحو القبول وفودي
٧٣
وهكذا نرى في أدب الصوفية في مصر تلك الآراء التي أوجدها المتصوفة الذين وفدوا على
مصر من الخارج، ورأينا أن آراء محيي الدين بن عربي كانت أكثر الآراء انتشارًا بين صوفية
مصر. على أن من الحق علينا أن نقول: إن بعض الصوفية في مصر لم يَقْبَلوا آراء محيي الدين
بن
عربي، فالشيخ محمد بن حميدة كان يُكَفِّر من يقول بوحدة الوجود ويُحَلِّل قَتْلهم، فهو
القائل:
«لو قدرت أن أقتل مَنْ يقول: «لا موجود إلا الله.» فَعَلْتُ، فيما يقول هذا في بوله وغائطه
وعجزه عن دفع الآلام عن نفسه؟ وشرط الإله أن يكون قادرًا، فكيف يقول أنا عين الحق! هذا
مِنْ أضل الضلال.»
٧٤ كما كانت لآراء ابن تيمية عند وفوده إلى مصر أَثَرٌ في الطعن على ابن عربي
وعلى مَنْ نهج منهجه من الصوفية، ونذكر من علماء مصر من الذين طعنوا على مذهب وحدة
الوجود ابن حجر العسقلاني، والبقاعي الذي وَضَعَ كتابًا بعنوان «تنبيه الغبي على تكفير
ابن
عربي»، وابن خلدون وغيرهم.
على أننا نريد أن نقف قليلًا عند قول ابن خلدون في مقدمته: «ثم إن هؤلاء المتأخرين
من
المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى
الحلول والوحدة، وملئوا الصحف منه، مثل الهروي في كتاب المقامات له، وغيره، وتبعهم ابن
سبعين وابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين
للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضًا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبًا لم
يُعرف لأولهم، فأُشْرِبَ كل واحد من الفريقين بمذهب الآخر، واختلط كلامهم، وتشابهت عقولهم.»
٧٥ فهذا كلام لا ندري كيف صدر عن ابن خلدون، إذ الحقيقة التي أثبتها البحث
العلمي الحديث، أن الإسماعيلية لا يقولون بالحلول ولا يقولون بألوهة الأئمة، وقد ذكرنا
مِنْ قَبْل أن مذهب وحدة الوجود الصوفية تخالف آراء الإسماعيلية، ولم نسمع من الإسماعيلية
عن شيء اسمه الحب الإلهي، ولم يقل الإسماعيلية بالشهود، بل ينفون الرؤية نفيًا باتًّا.
ومن عجب أن يقع بعض الباحثين المحدثين فيما وقع فيه ابن خلدون من قبل، فيَدَّعُون أن
ابن
عربي ومن سلك سبيله كانوا متأثرين بالإسماعيلية، وأن الصوفية أخذوا آراءهم في الحلول
والفناء والاتحاد من الشيعة الإسماعيلية؛ ذلك لأن الإسماعيلية لا تذهب إلى هذه الآراء
ولا تقول بها، بل تُكَفِّر من يذهب إليها.
ابن الفارض (٥٧٧–٦٣٢ﻫ)
لعل أبرز شخصية صوفية ظهرت في حياة الشعر في العصر الأيوبي هو ابن الفارض، هو شرف
الدين أبو حفص عمر بن أبي الحسن علي. قيل: إن أصله من حماة، ولكنه وُلِدَ ونشأ في
مصر، ولُقِبَ بابن الفارض نسبةً لأن أباه كان يثبت الفروض للنساء على الرجال.
٧٦ وُلِدَ بالقاهرة في ذي القعدة سنة ٥٧٧ هجرية.
٧٧ ويُحدثنا العماد في كتابه شذرات الذهب: «نشأ ابن الفارض تحت كنف أبيه
في عفاف وصيانة، وعبادة وديانة، بل زُهد وقناعة، ووَرَع أسدل عليه لِبَاسَهُ وقِنَاعَه،
فلما
شَبَّ وترعرع اشتغل بفقه الشافعية، وأخذ الحديث عن ابن عساكر وعن الحافظ المنذري
وغيره، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء وسلوك طريق الصوفية، فتزهد وتجرد.»
٧٨
أما كيف اتجه ابن الفارض إلى هذه الناحية الروحية؟ فالحديث في ذلك مضطرب، ويُخَيَّل
إليَّ أن موجة التصوف التي طغت على مصر في ذلك العصر — والتي تحدثنا عنها في الفصل
السابق — امْتَدَّتْ وغَمَرَتْه، كما غمرت غيْرَه من معاصريه، ونحن لا نستطيع أن نقبل
كل ما
قيل عن هؤلاء الصوفية الذين قابَلَهم ابن الفارض في بدء حياته الصوفية، ولا عن
كراماتهم؛ لأننا لا نعتقد في مثل هذه الخرافات التي يَدَّعِيها الصوفية، أو نَثِقُ فيما
يسمونه بالكرامات، وإذن فكل ما روي من قصص عن علاقة ابن الفارض بالشيخ البقال أو
بغيره هي عندي من القصص الذي يُروى للمناقب قبل كل شيء.
ومهما يكن من شيء، فإن ابن الفارض بعد أن بدأ حياته الصوفية ترك مصر، ورحل إلى
الحجاز، حيث قضى زهاء خمس عشرة سنة انقطع فيها عن الناس، وأكْثَرَ من زيارة الأودية
المحيطة بمكة، فهو يقول في تائيته:
فلي بعد أوطاني سكون إلى الفلا
وبالوحش أُنسي إذْ من الإنس وحشتي
وفي مكة ازدادت حالته الصوفية، وظَهَرَ في شعره الحب الإلهي، وعاد ابن الفارض إلى
مصر
وظل بها إلى أن توفي سنة ٦٣٢ﻫ. ويظهر أن ابن الفارض استطاع أن يحظى باحترام
معاصريه، وانتشر شِعْره بين بعض المثقفين الذين أُعجبوا به، حتى بلغ أمْرُهُ السلطان
الملك الكامل بن العادل الذي أبى إلا أن يبدأ ابنَ الفارض بالزيارة تبرُّكًا به،
فعندما عَلِمَ ابن الفارض بقدوم الملك لزيارته خرج من باب المسجد الآخر، وسافر إلى
الإسكندرية، ثم عاد بعد قليل مريضًا، وظل مريضًا إلى أن مات، فإن صَحَّتْ هذه القصة فهي
تدل على ما كان يُكِنُّه معاصروه له من حب وتقدير، وما كان هو نفسه يعتز بحالته
الصوفية.
أما أهم الآراء الصوفية التي نستخلصها من شعر ابن الفارض فهي أنه كان من القائلين
بالفناء والاتحاد في الذات الإلهية، فهو يقول:
وها أنا أُبدي في اتحادي مبدئي
وأُنهي انتهائي في تواضع رِفعتي
جَلَتْ في تجليها الوجود لناظري
ففي كل مَرْئِيٍّ أراها برؤيتي
فقد بلغ به حبه الإلهي إلى درجة الفناء في محبوبه، ثم نراه يتأثر بمذهب ابن عربي
في وحدة الوجود على نحو ما ذكرناه.
ويذهب الزميل الدكتور محمد مصطفى حلمي إلى أن ابن الفارض كان على مذهب وحدة
الشهود أيضًا.
٧٩ وهذه الآراء التي نجدها عند ابن الفارض هي نفس الآراء التي نراها عند
غيره من صوفية مصر في ذلك العصر، ولكن ابن الفارض يمتاز على غيره بشاعريته التي
جَعَلَتْ منه شاعرًا من أكبر شعراء الصوفية في العالم الإسلامي، واستحق لقب «سلطان
العاشقين». ويذهب صاحب شذرات الذهب إلى أن ابن الفارض «له النظم الذي يستخف أهلَ
الحلوم، والنثر الذي تغار منه النثرة بل سائر النجوم»،
٨٠ فإن صح هذا القول — وهو غير مستبْعَد على من له مثل قدرته على الشعر — فيكون ابن الفارض
قد ضَرَبَ بأسهمه في الفن القولي شعرًا ونثرًا، ولكن ابن الفارض
عُرِفَ بشعره أكثر مما عُرِفَ بنثره. وشعره الذي جُمِعَ في ديوانه يدلنا على أنه
كان متأثرًا بالبدعة الفنية التي كانت عند شعراءِ وكُتَّابِ أواخر العصر الفاطمي، وتأثر
بها القاضي الفاضل، وابن سناء الملك، والعماد الأصفهاني، وابن النبيه — أحيانًا — وغيرهم
من شعراء العصر الأيوبي، وسماها مؤرخو الأدب بمدرسة القاضي الفاضل، وأخص ما
يختص به فن هؤلاء الشعراء هو الإسراف في الزينة البديعية، والتلاعب اللفظي، فهم
شعراء صناعة متكلفة، ولكنهم كانوا حريصين أشدَّ الحرص على المعاني مع حرصهم على
الزينة اللفظية، والشاعر المُجيد منهم هو الذي كان يوفِّق بين ما يرمي إليه من معنى،
بينما أفسد الحرص على التلاعب اللفظي كثيرًا من معاني شعراء هذه المدرسة. فابن
الفارض إذن كان أحد الشعراء الذين تأثروا بمدرسة الزينة البديعية، ويظهر أنه كَلِفَ
بهذا الضرب من فن الشعر وأسرف فيه إسرافًا شديدًا جدًّا، فكان يوفق أحيانًا فيسمو
بفنه، ويفشل أحيانًا أخرى فيهبط بشعره، انظر إليه وهو يقول:
وخُذ بقية ما أبقيت من رمَقٍ
لا خير في الحب إن أبقى على المُهجِ
مَنْ لي بإتلاف روحي في هوًى رشأ
حلو الشمائل بالأرواح ممتزجِ
فاللوم لؤم ولم يُمْدَح به أحَدٌ
فهل رأيت محبًّا بالغرام هُجِي
فبالرغم مما يظهر في هذه الأبيات من تلاعُب لفظي، فإن الشاعر وُفِّقَ — إلى حدٍّ بعيد
—
في رسم الصورة التي أرادها، ولم يُفْسِد تلاعبُه اللفظي المعاني التي قَصَدَ إليها، بل
كانت الألفاظ التي اختارها سببًا في جمال شعره، ثم اقرأ له هذه الأبيات:
تراه إن غاب عني كل جارحةٍ
في كل معنى لطيفٍ رائقٍ بهجِ
في نغمة العود والناي الرخيم إذا
تَأَلَّفَا بين ألحانٍ من الهزجِ
وفي مسارح غزلان الخمائل في
برد الأصائل والإصباح في البلجِ
وفي مساقط أنداء الغمام على
بساط نورٍ من الأزهار منتسجِ
وفي مساحب أذيال النسيم إذا
أهدى إليَّ سُحيرًا أطيب الأرجِ
وفي الْتِثَامِيَ ثَغْرَ الكأس مُرْتَشِفًا
ريق المُدامة في مُستنزه فرجِ
ففي هذه الأبيات يبتعد الشاعر عن تكلفه في الزينة البديعية، وينطلق من قيودها إلى
الطبيعة يستوحي منها فنه، فإذا بهذه الأبيات تَرِقُّ في اللفظ وتسمو في المعنى،
وتعطينا صورة فنية فيها جمال وروعة تدل على ما كان عليه ابن الفارض من دقة الحس
ورقة الشعور والتمكن من فن الشعر، ولعل قصيدته اليائية قد جمعت بين مذهبه في
التلاعب اللفظي، وبين ابتعاده عن هذه المُحَسِّنات بالرغم من صعوبة القافية، وها هي
بعض أبياتٍ من هذه القصيدة:
سائق الأظعان يطوي البيد طَيْ
مُنعِمًا عَرِج على كُثبان طَيْ
وبذات الشيح عني إن مَرَرْ
ت بحيٍّ من عُريب الجِزع حَيْ
وتلطَّف واجرِ ذكري عندهُمْ
عَلَّهُم أن ينظروا عطفًا إلَيْ
قُل تركت الصبُّ فيكم شبحًا
ما له مما براه الشوق فَيْ
خافيًا عن عائدٍ لاح كما
لاح في بُرديه بعد النشر طَيْ
صار وصف الضر ذاتيًّا له
عن عناء والكلام الحي لَيْ
كهلال الشك لولا أنه
أنَّ عيني عينه لم تتأيْ
مثل مسلوب حياةٍ مثلًا
صار في حُبِّكُمُ مسلوبَ حَيْ
مُسبلًا للنأي طرفًا جاد إنْ
ضن نوء الطرف إذ يسقط خَيْ
بين أهليه غريبًا نازحًا
وعلى الأوطان لم يعْطِفْهُ لَيْ
جامحًا إن سِيمَ صبرًا عَنْكُمُ
وعليكم جانحًا لم يَتَأَيْ
نشر الكاشح ما كان له
طاوِيَ الكشح قُبيل النأي طيْ
في هواكم رمضان عُمره
ينقضي ما بين إحياءٍ وَطَيْ
صاديًا شوقًا لِصَدَّى طيفِكُمْ
جِدَّ مُلتاحٍ إلى رؤيا وَرِيْ
حائرًا فيما إليه أمرُهُ
حائر والمرء في المحنة عِيْ
فكأيِن من أسًى أعيا الإِسى
نال لو يغنيه قولي وكَأَيْ
رائيًا إنكار ضُرٍّ مَسَّهُ
حَذَرَ التعنيف في تعريف ريْ
والذي أرويه عن ظاهر ما
باطني يَزويه عن علمي زَيْ
يا أُهيل الود أنَّى تُنكرو
ني كهلًا بعد عرفاني فَتِيْ
وهوى الغادة عمري عادةً
يجلب الشيب إلى الشَّاب الأحيْ
نصبًا أكسبني الشوق كما
تُكسب الأفعال نصبًا لام كَيْ
ومتى أشكو جراحًا بالحشى
زيد بالشكوى إليها الجُرح كَيْ
عين حسادي عليها لي كَوَتْ
لا تعدَّاها أليم الكي كَيْ
عجبًا في الحرب أُدعى باسلًا
ولها مُستبسلًا في الحب كَيْ
هل سمعتم أو رأيتم أسدًا
صاده لحْظُ مهاةٍ أو ظَبِيْ
٨١
ومما لا شك فيه أن ابن الفارض له في غرامياته بعض المقطوعات التي تجعلنا نشك في
أنها من مقطوعات الحب الإلهي، بل نقول: إنها من لون الغَزَل الإنساني، وفي هذه
المقطوعات تظهر رقة أسلوبه، فانظر إلى حلاوة قوله:
أدِرْ ذِكر من أهوى ولو بملام
فإن أحاديث الحبيب مُدامي
فلي ذِكرها يحلو على كل صيغةٍ
ولو مَزَجُوه عُذَّلي بخصامِ
كأن عَذولي بالوصال مُبَشِّري
وإن كنت لم أطمع بِرَد سلامِ
وهكذا نرى ابن الفارض يصطنع في شعره المحسنات البديعية كما كان يُجرد شعره منها.
ثم اقرأ هذه المقطوعة من قصيدته الكافية:
تِهْ دلالًا فأنت أهلٌ لذاكَا
وتحكَّم فالحُسن قد أعطاكَا
ولك الأمر فاقضِ ما أنت قاضٍ
فعلَيَّ الجمالُ قد وَلَّاكَا
وبما شِئْتَ في هواك اختبرني
فاختياري ما كان فيه رِضَاكَا
فعلى كل حالةٍ أنت مني
بيَ أَوْلَى إذ لَمْ أكن لَوْلَاكَا
وكفَاني عن التحكم ذُلِّي
وخضوعي ولست من أكفاكَا
لك في الحي هَالِكٌ بل حي
في سبيل الهوى استلذ الْهَلَاكَا
عَبْدُ رِقًّ ما رقَّ يومًا لعتقٍ
لو تَخَلَّيْتَ عنه ما خَلَّاكَا