ظهر المُوَشَّح بالأندلس في القرن الثالث للهجرة، ولكنه كان في هذا القرن فجًّا لم
تُوضع
أُسسه وأصوله بعْدُ، شأنه في ذلك شأن ابتداء أي فن آخر، ولم يُتَّخَذ طابعه إلا في القرن
الرابع
للهجرة، إذ أصبح فنًّا له أصوله وقواعده، وظَهَرَ كثير من الوشاحين في الأندلس؛ أمثال:
ابن بقِي،
والتُّطيلي، وغيرهما، وانتقل هذا الفن إلى بلاد المشرق وإلى مصر في العصر الفاطمي، وعُرِفَ
بها على أنه فن شعبي مثل غيره من فنون الشعر الشعبية التي كانت بمصر مثل الزكالش والبلاليق.
فالمصريون إذن هم أول مَنْ صنفوا في فن الموشحات بالرغم أنه فن دخيل عليهم.
والأصل في الموشح الأندلسي — كما جاء في كتاب دار الطراز — أنه كلام منظوم على وزن مخصوص،
يتألف في الأكثر من ستة أقفال وخمسة أبيات تتردد في الموشح ويقال له: الموشح التام، وفي
الأقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات ويقال له: الأقرع، وسنرى أن الموشِّحِين المصريين لم
يتقيدوا بهذا العدد أو ذاك، والتام يُبتدئ بأقفاله والأقرع يُبتدئ بأبياته. أما الأقفال
فهي
أجزاء مؤلفة يجب أن يكون كل قفل منها متفقًا مع بقيتها في وزنها وقوافيها وعدد أجزائها.
والأبيات أجزاء مؤلفة مفردة أو مركبة يلزم في كل بيت منها أن يكون متفقًا مع بقية أبيات
الموشح في وزنها وعدد أجزائها؛ لا في قوافيها، بل يحسُن أن تكون قوافي كل بيت منها مخالفة
لقوافي البيت الآخر. وأقل ما يتركب القفل من جزءين إلى ثمانية أجزاء والبيت ثلاثة أجزاء.
فمن أمثلة الموشح التام قول ابن سناء الملك:
أهوى قمر – أحوى أغر – حلو الرضاب – ألمى
وعاذلي – لما نهى – عن التصابي – أعمى
ألبِس ضناك جهرَا
واكتم هواك سِرَّا
واذرِ الدموعَ تِبْرَا
وارمي العذول بَرَّا
فلو نظر – كان أمَر – بضعف ما بي – حتما
وما نهى – بل كان قد – عَدَّ مُصابي – غُنما
هل تعلمون مَنْ بي
حسبي هواه حسبي
يا حرَّ نار قلبي
زِد يا هوًى في كربي
ويا سهرْ – فلا تذرْ – وباكتيابي – مهمَا
أردت فافـ – ـعل لا تخف – على عقابي – إثمَا
ما لي عنك مذهب
كيف وأنت المطلب
لك الطراز المُذهب
لك النقي الأشنب
مثل الدُّرَر – مثل الزَّهَر – مثل الحباب – نظمَا
لك الذي – نسميه خصـ – ـرا كالسراب – وهْمَا
كالبرِّ بي عقوقك
لأنني مشوقك
أعطشْ إذا أذوقُك
وكالزُّلال ريقك
فيه خصر – ومعتبر – زاد التهابي – بِالْمَا
وكلما – شربت من – ذاك الشراب – أظْمَا
وغادةٍ مختالَهْ
ما صَلُحت إلا لَهْ
غنَّت بشرح الحالَهْ
إذ خَرَّق الغلالَهْ
لمَّا عَبَرْ – وقد سكرْ – خَرَّق ثيابي – ظُلْمَا
في حلٍّ هو – لا تنقلوا – لو مِن عتا – بي كَلِما
فأهوى قمر، فلو نظر، ويا سهر، ومثل الدرر، ولما عبر؛ كل هذه هي بداية الأقفال الستة،
وما
بعدها هي الأبيات. والقفل الأخير في الموشح هو ما يُعرف بالخرجة، ويشترط في الخرجة أن
تكون
على مذهب مدرسة التحامق الذي رأيناه في العصر الفاطمي، وأن تكون ملحونة ومن ألفاظ العامة؛
فإن كانت معربة خرج الموشح من أن يكون موشحًا؛ إلا إن كان الموشح في المدح وذكر الممدوح
في
الخرجة، فيحسُن في هذه الحالة أن تكون الخرجة معربة، وقد تكون الخرجة معربة وإن لم يكن
فيها
اسم الممدوح، ولكن بشرط أن تكون ألفاظها في منتهى الرقة. والمفروض في الخرجة أن يُجعل
الخروج
إليها استطرادًا وقولًا مستعارًا، وأكثر ما تُجعل على ألسنة الصبيان والنساء والسُّكارى،
وفي هذه الحالة لا بد في البيت الذي قبل الخرجة من قال أو قالت أو غنَّى أو غنَّيت أو
غنَّت أو ما في معناها، ففي الموشح السابق نجد الخرجة معربة ذات ألفاظ رقيقة لها وَقْع
خاص.
والموشح الأقرع ذو الخرجة العامية مثل قول ابن سناء الملك أيضًا:
وأنشد المصريون الموشح في كل غرض من أغراض الشعر، ولا سيما في المجون والمدح والغَزَل،
فمن أمثلة المدح قول ابن النبيه يمدح الملك الأشرف — وهو من الموشح الأقرع، بيته من جزءين،
وقفله من أربعة أجزاء، ونلاحظ أن خرجته معربة:
هكذا أسهم المصريون في هذا الفن، وأصبح فنًّا من الفنون المُحَببة إلى الخاصة وإلى
الشعب، وتغنَّى الناس بالموشح كما تغنَّوا بالزكالش والبلاليق.
ابن سناء الملك (٥٥٠ﻫ–٦٠٨ﻫ)
أبو القاسم هبة الله بن القاضي الرشيد أبي الفضل جعفر بن المعتمد سناء الملك بن محمد
بن
هبة الله السعدي، ويُلقب بالقاضي السعيد، ويُعرف دائمًا في الكُتُب الأدبية والتاريخية
بابن سناء الملك. يُعَدُّ ابن سناء الملك من أكبر شعراء مصر في العصر الأيوبي ومن أكثرهم
إنتاجًا للمنظوم والمنثور. وَصَفَهُ ابن خلكان بقوله: «صاحب ديوان الشعر البديع والنظم
الرائق،
أحد الفضلاء الرؤساء النبلاء، وكان كثير التخصص والتنعم، وافر السعادة محظوظًا من الدنيا.»
٦ وقال ياقوت الحموي: «أحد أدباء العصر وشعرائه المُجيدين، ذاع صيته وسار ذِكره.»
٧ وعلى هذا النحو يذكره كل مَنْ تَحَدَّثَ عنه.
وُلِدَ ابن سناء الملك بالقاهرة حوالي سنة ٥٥٠ﻫ في أسرة عريقة مرموقة، وكان والده
قاضيًا
للقاهرة، متصلًا بالأحداث الجِسام التي جَرَتْ إذ ذاك وأدت إلى سقوط الدولة الفاطمية،
كما كان
على اتصال بكبار شخصيات مصر في ذلك الوقت، وكان لذلك أَثَرُهُ في توجيه ولده إلى ناحية
خاصة في
العلم؛ إذ بَعْدَ أن حَفِظَ ابن سناء الملك القرآن الكريم على الشريف الخطيب المتوفى
سنة ٥٦٣،
نراه يتجه إلى الحافظ السلفي ليأخذ عنه الحديث وعلوم أهل السُّنة والجماعة،
٨ مخالفًا في ذلك ما كان مُتَّبَعًا بين أبناء رجال الدولة الفاطمية الذين كانوا
يتوجهون لدراسة مذهب الإسماعيلية. وقد اضطرب ابن سعيد المغربي في حديثه عن ابن سناء الملك
إذ رماه بالمغالاة في التشيع،
٩ ولم يذكر ذلك أحد من مؤرخي ابن سناء الملك، ولعل مصدر هذا الاضطراب الذي وَقَعَ
فيه ابن سعيد أن أفراد أسرة ابن سناء الملك كانوا من رجال دواوين الفاطميين، وكانوا
يتمذهبون بالتشيع أُسوة بغيرهم من رجال الدولة، أما ابن سناء الملك نفسه فقد كان على
مذهب
أهل الجماعة والسُنة، فمن حُسْن حَظِّه أنه وُلِدَ في وقت كانت العقيدة الشيعية قد ضَعُفَتْ
ضعفًا
شديدًا جدًّا في نفوس الناس، وازداد شك المصريين فيها، كما أن الدولة الفاطمية الشيعية
نفسها ظهر عليها الضعف ودلائل الزوال، فلا غرابة أن يَحتاط والِدُه في تربيته وتوجيهه،
ولذلك
أرسله إلى الحافظ السلفي ليأخذ عنه علم الحديث، بالرغم مما يظهر في شعره بعض التأثر
بالتشيع. ومهما يكن من شيء، فابن سناء الملك نشأ متفقِّهًا في الدين الإسلامي على مذهب
أهل
السُّنة، كما أخذ العربية عن ابن بري أكبر علمائها في ذلك العصر، وقد ظَهَرَتْ ميول ابن
سناء
الملك للأدب عامةً والموشح خاصةً في سن مبكرة، فهو يقول في مقدمة كتابه دار الطراز عن
الموشح: «وكنت في طليعة العمر، وفي رعيل السن قد هِمت بها عشقًا، وشغفت بها حبًّا، وصاحَبْتُها
سماعًا، وعاشَرْتُها حفظًا.»
١٠ فهو يصرح هنا بأنه أُعجب بالموشحات منذ صغره، سمع منها كثيرًا، وحفظ كثيرًا وهو
لا يزال صغير السن.
ويُحدثنا العماد الأصفهاني في خريدته أنه كان عند القاضي الفاضل في خيمته بمرج الدلهمية
ثامن عشر ذي القعدة سنة سبعين وخمسمائة، فأطلعه القاضي على قصيدة كتبها له ابن سناء الملك،
وذَكَرَ أنَّ سِنَّ ابن سناء الملك لم تبلغ عشرين سنة، فأُعجب العماد بنظمه.
١١ ويقول العماد مرة أخرى: «ثم وصل إلى الشام في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين في
الخدمة الفاضلية، فوجدته في الذكاء آية، أحرز في صناعة النثر والنظم غاية، يتلقى عرابة
العربية له باليمين راية، قد ألحفه الإقبال الفاضلي في الفضل قبولًا، وجعل طين خاطره
على
الفطنة مجبولًا، وأنا أرجو أن تترقى في الصناعة رُتْبَتُه، وتُعَزَّز عند تمادي أيامه
في العلم
نغبتُه، وتَصْفُو من الصبا منقبتُه، وتُروى بماء الدربة رويته، وستكثر فوائدُه، وتُؤثَر
قلائدُه.»
١٢ فهذا نَصٌّ إن دل على شيء فإنما يدل على أن ابن سناء الملك أَخَذَ ينظم الشعر في
صباه، وأنه أحرز في النثر والنظم غاية وهو لم يزل في نحو الحادية والعشرين من عمره؛ مما
جعل
العماد يرجو أن يتقدم في هذا الفن. ولعل صلة ابن سناء الملك بالقاضي الفاضل كانت من عوامل
تَقَدُّم شاعرنا في فنه، وقد صرح ابن سناء الملك في كتابه «فصوص الفصول» عن تلمذته للقاضي
الفاضل بقوله: «وهو الغني وأنا المحتاج إليه، وهو المعطي وأنا الآخذ منه، وهو الأستاذ
وأنا
التلميذ له والمتعلم منه.»
١٣ أما سبب هذه الصلة الوشيجة بين الأستاذ والتلميذ فيظهر أنها أتت من صداقة
القاضي الفاضل مع جد ووالد ابن سناء الملك، تلك الصداقة الوطيدة التي جعلت القاضي الفاضل
يُنيب القاضي الرشيد (والد شاعرنا) عنه في الحكم كلما تَغَيَّب عن البلاد، وجعلت القاضي
الفاضل
يُرْسِل إلى ابنه رسائل يُحَمِّله فيها السلام إلى ابن سناء الملك وأبيه وجده، أو يرسل
إلى أبي
سناء الملك ويذكر ولده؛ فكل هذا يَدُلُّنا على أن الصلة بين القاضي الفاضل وبين أسرة
ابن سناء
الملك كانت أقوى من صلة النسب، بالرغم مما هو معروف أن ابن سناء الملك وأباه كانا من
رجال
الديوان الفاضلي، ولا نعلم إلى الآن سبب هذه العلاقة وتطورها إلى أن تَوَطَّدَتْ إلى
هذه الدرجة.
بل عندما أرسل ابن سناء الملك إلى القاضي الفاضل يخبره بوفاة زوجه، كتب إلى والده: «وضاعَفَ
كَمَدِي وفاةُ أمِّ ولد القاضي السعيد، وعزَّ عليَّ عَدَمُ صَبْر أبي الحسن وتجرُّعه
الحرقة عليها، وعزَّ
عليَّ قلة صبره وشدة جزعه، وهو بحمد الله قد لَحِقَ الرجالَ في العمر، وأرجو أن يلحق
السادةَ
في العلم والحظ، واللهُ لا ينقص للحضرة عددًا، ولا يشكل لها ولدًا، ولا يُكَدِّرُ مِنْ
عَيْشها
موردًا.» كتب ذلك ردًّا على خطاب ابن سناء الملك إليه يقول: «وفي هذا الشهر ماتت أم ولد
المملوك، فيا لله ماذا فجعَتْ، وماذا أوجعَتْ، وماذا أبكَتْ، كانت والله قرينةً صالحة
صحبها
المملوك وصدغاه في خدي غلام مراهق، وإلى أن شابت منه المفارق، فما رأى منها إلا الصحبة
الصالحة، وإلا المحبة الناصحة، وإلا الديانة الراجحة، وإلا حِفْظَ الغيب، وإلا الإيمان
ولا
ريب، وإلا السلامة ولا عَيْب، وإلا صيانة الذيل والجيب، ولولا أن الموت أكرم نزال على
الحرم
لبكى المملوك وناح، وشكى وباح، وغدا في الأسف وراح.»
١٤
فلا غرابة بعد أن علمنا مدى هذه الرابطة بين الفاضل والسعيد، من أن نقرأ مدائح السعيد
في
الفاضل التي نجدها في ديوانه وفي دار الطراز، فمن ذلك مثلًا قصيدته التي مطلعها:
إن كُنْتَ ترغب أن ترانا فالْقَنَا
يوم الهياج إذا تشاجَرَت القنا
وفيها يقول:
أصبحتُ في مَدْح الأجلِّ مُوَحِّدًا
ولكم أتَتَنْي من أياديه ثُنى
وغَدَوْتُ في حبي له متشيِّعًا
مَنْ ذا رأى مُتشيعًا مُتسنِّنَا
ورأيت صُحْبَتَهُ نعيمًا عاجلًا
فرأيت بذل النفس فيه هَيِّنَا
يا ليت قومي يعلمون بأنني
أدركت مِنْ كفَّيْك نادرة المُنى
أنسيتني أهلي على كَلَفِي بهم
وذكرت أني قد نَسِيتُ الموطنَا
١٥
ويمدحه في قصيدته التي مطلعها:
عادني من هوى الأحبة عيدُ
فلباسي فيه غرامٌ جديدُ
فيقول:
لِيَ من راحَتَيْه جَنَّةُ مأوى
وله بالثناء مني خلودُ
أنا عَبْد وخدمتي مَدْحُ مولى
نجح القصد عنده والقصيدُ
هو قاضٍ — لا بل أمير إذا شئـ
ـتَ — لديه من المعالي جنودُ
وفقيهُ النوالِ يُلْقِي على الخلـ
ـق عطاياهُ والغمام معيدُ
أَوْسَعُوا جُودَه ملامًا وتفنيـ
ـدًا فضاع الملام والتفنيدُ
رَدَّدُوا عَذْلَهُم فَرَدَّ عليهِمْ
كلُّ شيءٍ مردَّدٍ مردودُ
١٦
ويطول بي الحديث لو ذَكَرْتُ جميع مدائح القاضي السعيد في القاضي الفاضل، فديوانه
مليء
بها.
وكان القاضي الفاضل نفسه كثير الثناء على ابن سناء الملك، يَذْكُر بلاغته وصناعته
في النظم،
فمرة كتب إلى والد ابن سناء الملك يقول عنه: «أمَّا بلاغته فقد بَلَغَت الغاية، وأما
قَلَمُه فإنه
به قط أُعْطِيَ الراية.»
١٧
ويقول مرة أخرى في رسالة له معلقًا على قصيدة ابن سناء الملك السينية التي مطلعها:
أمَجْلِسَ لهوي ليس لي مِنْكَ مَجْلِسُ
لأَوْحَشْتَ لما غاب لي عنك مُؤْنِسُ
بقوله: «نُعَرِّف القاضي السعيد وصُولَ كتابه المعطوف على الفائية الوفائية، وقبلها
وَصَلَت
السينية السنية، وما يُرينا من آية إلا هي أَكْبَر من أختها، وما يجلو علينا عروسًا إلا
وقد
جَمَعَ بين حُسنها وبختها، وقَلَّما يجتمع الحُسن والبخت، ولهذا قيل: «وقد تُمنى المليحة
بالطلاق»، وعقائله المليحة لا تُطَلَّق ولا تُطْلَق، وقد علقت العرب أدون منها، فلا غرو
أن
هذه بالقلوب تُعلق وبالضلوع تُعتق، فالمعلقات بعدها زادت على عدتها، وفضلتها هذه بجودتها
وجِدتها …» إلخ.
١٨
فلا غرابة بعد ذلك كله من أن نرى فن القاضي الفاضل يؤْثَر تأثيرًا قويًّا على فن ابن
سناء
الملك، وكلاهما أُولِع بالزينة اللفظية، وكلاهما أَفْرَط في التلاعب اللفظي، وكلاهما
بَلَغَتْ به
المبالغة إلى حد الاستحالة، فلذلك قال القدماء: إن ابن سناء الملك من مدرسة القاضي الفاضل،
وقد ذَكَرْنَا في موضع آخر من هذا الكتاب خطأَ نسبة هذه المدرسة للقاضي الفاضل، وقلنا:
إنها
امتداد لمدرسة الكُتاب الفاطمية، فكل خصائص تلك المدرسة تَظْهَر — بجلاء — في فن ابن
سناء مع ما
حدث من إفراط في استخدام تلك الخصائص. ويظهر أن ابن سناء الملك كان مثل القاضي الفاضل
تمامًا، كانت له ثروة لفظية، استطاع بها أن يتلاعب وأن يُكثر من التوريات، فالتورية أصل
من
أصول فن ابن سناء الملك، كما هي أصل من أصول الفن عند القاضي الفاضل في النثر والشعر.
ويُحدثنا ابن سناء الملك أنه متأثر أيضًا بابن المعتز، فهو يقول: «والمملوك لم يزل يجري
خلف
هذا الرجل ويتعثر، ويطلبه مطالبةً فتتعثر عليه وتتعذر، وما آمن المملوك به سُدى، ولا
آنس
نارَهُ إلا لَمَّا وَجَدَ عندها هدى، ولا مال المملوك إلا إلى طريق مَنْ مَيَّلَ إليه
طبعه، ولا سار
قلبه إلا إلى مَنْ دله عليه سمعه.» وكان ابن سناء الملك يُعْجَب بالبحتري، ويعيب على
أبي تمام،
ولم يجد بين هؤلاء القدماء من شعراء العباسيين من يتخذه أستاذًا له في الشعر سوى ابن
المعتز، بينما كان القاضي الفاضل يتنقص ابن المعتز ويزعم أن تشبيهاته أُخِذت من ذي الرمة.
وبالرغم من هذه العلاقة المتينة التي كانت بين الوزير والقاضي — أي بين القاضي الفاضل
وابن سناء الملك — فإن ابن سناء الملك مَدَحَ الوزير الصاحب ابن شكر، وزير الملك العادل،
وغريم
القاضي الفاضل وعدوه الألد، فهو الذي وصفه القاضي الفاضل بقوله: «أما ابن شكر فهو لا
يُشكر،
وإذا ذُكِرَ الناسُ فهو الشيء الذي لا يُذكر.» وكان ابن شكر يقول عن القاضي الفاضل: «ما
في قلبي
حسرة إلا من ابن البيساني، ما تمرغ على عتباتي.» وكان ابن القاضي الفاضل يحضر عند الصاحب
ابن شكر فيشتمه هذا، فهذا العداء الشديد بين القاضي الفاضل وابن شكر كان واضحًا معروفًا
بين
الناس جميعًا. ومع ذلك كله كان ابن سناء الملك أحد شعراء ابن شكر، فمدحه كما مدحه كثير
من
شعراء مصر، فهو يقول مثلًا في مدح ابن شكر:
ما على الدهر بعد رؤياك عتب
ما بقي للزمان عندي عتبُ
هذه النظرة التي كُنْتُ أشتا
ق إليها طُولَ الزمان وأصبو
أقبل البدر طالعًا بعد أن كا
ن له حين غاب في الشرق غربُ
أقبل الغوث أقبل الغيث جاء الـ
ـليث وافى الوزير عاد الخصبُ
زعفران الْخلوق في الأفْقِ برقٌ
وثناياه بالتبسم شُهْبُ
لَيْسَ مِصْرُ مِصْرًا وقد غَابَ عنها
لا ولا طَعْمُ نِيلِها العذبِ عَذْبُ
أيها الصاحب الذي أَمْرُهُ الجِد
وأمر الأنام لهو ولعْبُ
ويوم كنت أبيض الحال لكن
سَوَّدَتْهُ تلك السنون الشهْبُ
بك يعلو الولي يُستنزل النصـ
ـر يُنال المُنى يهون الصعبُ
كل نجمٍ في نور نَجْمِك يخفى
كل نارٍ في ضوء نارك تَخْبُو
١٩
ويُخيل إليَّ أن ابن سناء الملك كان مضطرًّا إلى مدح الصاحب ابن شكر خوفًا من بطشه
وجبروته، ولا سيما أن ابن شكر كان يتفنن في تعذيب أعدائه؛ وخاصة من كان متصلًا منهم بالقاضي
الفاضل.
ولكن الفن الذي عُرِفَ به ابن سناء الملك وضَرَبَ فيه بسهم وافرٍ هو فن الموشحات،
وقد ذَكَرْنا
كيف أُولِع بهذا الفن منذ صغره، وحَفِظ كثيرًا من الموشحات المغربية، وقرأ كثيرًا منها؛
مما
جعله يُفتن بهذا الفن افتتانًا، ويضع كتابه دار الطراز، ولأول مرة في تاريخ الموشح يظهر
كتاب يتحدث عن قواعد هذا الفن وأصوله، ويكون المؤلف هو ابن سناء الملك.
وقد حَدَّثَنَا في هذا الكتاب عن الموشحات المغربية، وأتى بأمثلة عديدة منها مما كان
يحفظه عن
أهل المغرب، وأردف ذلك بألوان من موشحات من صنعته هو. ومن الطريف أن نذكر أن ابن سناء
الملك
كان يتقن اللغة الفارسية بجانب إتقانه اللغة العربية، بل وَضَعَ موشحًا بخرجة فارسية،
وكان
المصريون السابقون على عَصْره والمعاصرون له يضعون الموشحات بخرجات مغربية، ولكن ابن
سناء
الملك كان لا يتقيد بما تَقَيَّدَ به غيره؛ بل كان يبتكر الخرجات من عنده، ولأول مرة
في تاريخ فن
الموشحات يضع ابن سناء الملك خرجة فارسية، فهو يقول في هذا الموشح:
في خديك من صير اللاذ
ثياب الياسمينْ
ودع ذا فيا حيرة الواشي
من ذا السحر المبينْ
أهيم ولِمَ لا أهيمْ
وما لي لا أودْ
غزالًا وقد قيل ريمْ
وقد قالوا أسَدْ
غرامي عليه مقيمْ
ولي فيه جسَدْ
بمِصْر وقلبي ببغداد
مع ظبي في عرينْ
وكم مات وجْدًا وكم عاش
في سمحٍ وطنينْ
تغربت فيك بمِصْر
مُذ أحفاك الرحيلْ
للقياك إلا بفكري
على أني قتيل
بسهم للحظك نفاذ
للبس الدارعين
وبأس لحُسنك بطاش
بنُسك الطايعين
فيا طول شوقي إليه
ويا همي عليه
وماذا يكون عليه
لو أُسري بي إليه
لأشرب من مرشفيه
وأُسقى من يديه
سلافًا من الدن كم عاذ
بها القلب الحزين
في طاسٍ من التِّبر كم طاش
بها العقل الرصين
أحوم لأني محروم
ومثلي مَنْ يحومْ
وحُسن حبيبي محروم
ولي قلب رحومْ
ووالله إني مظلوم
ومحبوبي ظلومْ
سيمنع ظلمي بنو شاذ
ملوك العالمينْ
أمَا بأسهم هدَّ أعراش
ديار الظالمينْ
وخود كما شبت طفلة
كغصنٍ مايس
أرادت أن تكون خِلة
لظبيٍ كانس
فلما جنت منه قُبلة
شَدَت بالفارسي
دانستي كي بوسه بمن داد
دها أنكسترين
أوار كواي دست من باش
ببوسته شبين
والخرجة الفارسية بمعنى: «هل تعرف متى قبلني إن فمها … كن شاهدي على هذه القُبلة التي
منحتني إياها.»
فابن سناء الملك أول من مَصَّر خرجة الموشح، وأول من ألف كتابًا في هذا الفن، كما
أنه أول
من أكثر من كتابة الموشحات، فإن كان ابن سناء الملك عُرِفَ بالشعر، فإني أضعه بين
الموشِّحِين؛ لأن الموشَّح هو الفن الذي بَرَزَ فيه ونَبَغَ أكثر من نبوغه في الشعر.
ويظهر أن بني سناء الملك أصابتهم محنة المصادرة بسبب أبيات قالها مهذب الدين الخيمي
الشاعر عندما عُذِّبَ ابنه، وهي:
عصروك أمثال اللصو
ص ولم تفِد تلك الأمانهْ
فإذا سَلِمْتَ فخُنْهُمُ
إن السلامة في الخيانهْ
وافعل كفعل بني سنا
ء الملك في مالِ الخزانهْ
٢٠
ولكن لم يذكر المؤرخون شيئًا عن هذه القصة.