فنون الشعر
كانت الحياة الأدبية قوية مزدهرة في العصر الفاطمي، واستمر تيار هذه الحياة بعد انقراض
هذا العصر الفاطمي بنفس القوة التي كان يسير عليها من قبل، فالتغيير السياسي ودوال دولة
وتأسيس أخرى لم يُضعف الفن الأدبي في مصر، بل ربما استفاد الأدبُ من هذا التغيير السياسي
فوائدَ لم يكن ليحققها لو استمر الفاطميون على ما كانوا عليه. وكان كثير من فحول أدباءِ
وشعراءِ العصر الأيوبي قد شاهدوا أواخر العصر الفاطمي، وأسْهَمَ كثير منهم في الحياة
الأدبية،
وعَرَفوا فنونها واتجاهاتها، فساروا في العصر الأيوبي متأثرين بما كانوا عليه، حتى إن
مصطلحات العقائد الفاطمية ظَلَّتْ في شعر المدح والتصوف على نحوِ ما رأيناه في البحث
الأول
والثاني من هذا الكتاب.
وكما كان الشعراء الفاطميون يَخْرُجون إلى المتنزهات والبساتين، كذلك كان يفعل شعراء
الأيوبيين، وكما كان التنافس شديدًا بين شعراء العصر السابق، كذلك كان التنافس قويًّا
عنيفًا بين شعراء عصرنا هذا، وظهرت في هذا العصر الأيوبي بعض اصطلاحات فنية في تنافس
هؤلاء
الشعراء، هذه الاصطلاحات هي في حقيقة الأمر قديمةٌ معروفةٌ منذ عهد بعيد، ولكن ظَهَرَتْ
في العصر
الأيوبي بصورة لافتة، فمثلًا كان الشعراء قديمًا يطلبون من بعضهم بعضًا إجازة نصف بيت
أو
بيت من الشعر أو أكثر لإظهار مهارتهم الفنية، أو قُلْ: هي لون من ألوان الرياضة الذهنية
بين
الشعراء.
أما في العصر الأيوبي فقد حُدِّدَ لذلك مدلولات تعارف عليها الشعراء والنقاد، فقسموا
الإجازة مثلًا إلى:
إجازة شاعر لمعاصره أو إجازة الشاعر لشاعر قديم.
والإجازة — كما تُعرف قديمًا — هي أن يَنظم الشاعر على شِعْر غيره في معناه ما يكون
به تمامه
وكماله. فمن ذلك ما رواه عليُّ بن ظافر، أنه اجتمع هو والقاضي الأعز أبو الحسن عليُّ
بن
المؤيد الغساني يومًا بالرصد، فرأيا شعاع الأصيل فوق بياض الماء، فقال ابن ظافر:
أذْكَت الشمس على الماءِ لهَبْ
وَطَلَبَ من الأعز إجازة هذا القصيد، فقال:
فكَسَتْ فِضَّتَه منها ذَهَبْ
١
ومن ذلك أيضًا أن ابن الساعاتي كان في مجلسِ سماع عند بعض الرؤساء، فغنَّى مُغَنٍّ
قبيحِ
الصوت، فقال بعض الحاضرين:
مَنْ مُنصفي ممن إذا
ما ناح نُحْتُ لِقُبْحِ نَغْمِهْ
وطَلَبَ إلى ابن الساعاتي إجازة هذا البيت، فقال:
هو خارج وَقْتَ الغنا
ء وداخِلٌ في رَحْمِ أُمِّهْ
٢
ويُحدثنا عليُّ بن ظافر أيضًا أنه قال: بِتنا ليلةً على المقياس عند مبالغة النيل
في نقصه
واحتراقه، وانفراجه عما لم يزل مستورًا من أرضه ومفرقه، والمَراكب قد انتظمَتْ في لُبَّتِه،
ورَكَدَتْ
بالإرساء فوق لُجته، وأحاطت به إحاطةَ المحيط بنقطته، وسفهاء الرياح تَعْبَث بها حتى
كادت تَذْهَب
بوقارها، وأجسادُها قد لَبِسَت لفقد الماء حداد قارها، وهي في أوكارها من المرامي مزمومة،
وأجنحة قلوعها لعارض الليل مضمومة، فقلت بديهًا:
أوَ ما ترى المقياس قد حفَّتْ به
سُود المراكب فوق ظهر اللُّجةِ
يسمو وقد حَفَّتْ به كقلادةٍ
سبجية في لُبةٍ فِضِّيَّةِ
واستجزْتُ ابنَ المؤيد، فقال:
وكأنه حِصنٌ عليه عَسْكَرٌ
للزنج لَفَّ بنوده للحملةِ
٣
وهكذا عاد شعراء مصر إلى ما كان عليه الشعراء في مصر والأقطار العربية الأخرى من هذا
اللون من الرياضة الذهنية، وإنشاد أبيات من الشعر على البديه كُلَّمَا طُلِبَ إليهم ذلك.
ومن هذه الرياضة لون عُرِفَ بالتمليط.
عَبَّرَ ابن ظافر عنه بقوله: «هو أن يجتمع شاعران فصاعدًا على تجريد أفكارهم، وتجريب
خواطرهم في العمل في معنًى واحد.»
٤ فمن التمليط ما يكون بين شاعرين، ومنه ما يكون بين شعراء، ومنه ما يكون بقسيم
لقسيم، ومنه ما يكون ببيت لبيت، ومنه ما يكون ببيتين لبيتين، والفرق بينه وبين الإجازة
أن
التمليط يتفق فيه الشعراء قبل العمل، أو يُندبون لذلك وتتكرر بينهم المناوبة، وهذه شروط
ليست من شروط الإجازة.
ومن التمليط لون يسمى المماتنة، وهو ما يقع بين شاعرين بقسيم لقسيم. «والمماتنة لغةً:
المماطلة والمباعدة في الغاية»، ومثال ذلك أن شهاب الدين يعقوب ابن أخت الوزير، انفرد
يومًا
ببوصير بالفقيه رضي الدين أبي إسحاق، وكان في خدمة الوزير نجم الدين، فجلس إليهما غلام
من
أولاد بعض الرؤساء، فقال الفقيه الرضي:
لله يومٌ مضى ببوصيرِ
… … … …
قال الشهاب:
… … … …
والعيش صَفْوٌ بِغَيْر تكديرِ
فقال الرضي:
نديمنا فيه شادن غنجٌ
… … … …
فقال الشهاب:
… … … …
مُكْتَحِلٌ جَفْنه بتفتيرِ
ويقول ابن ظافر: جلست مع الشهاب يعقوب يومًا بالجامع الأنور بالقاهرة لانتظار الجمعة،
وكان يجلس بالقرب من مكاننا صبيٌ وضيء نهب وجهه، وشعره من البدر نوره، ومن الليل ديجوره،
واغتصب طرفه وعطفه من الظبي كُحله، ومن الغصن ميله، يُنعت بالشمس، فتأخر حضوره يومًا،
فتعاطَيْنَا القول في غيبته، فقلت:
أفدي الذي غاب فغاب السرورْ
… … … …
قال الشهاب:
… … … …
واتَّسَعَ الهم بضيق الصدورْ
فقلت:
وأَظْلَمَ الأنور مِنْ بَعْدِهِ
… … … …
فقال الشهاب:
… … … …
وليس بعد الشمس للأفْقِ نُورْ
٥
ومن التمليط ما يقع بين شاعرين ببيت لبيت، ويسمى هذا النوعُ الإنقاذ، مثال ذلك أن
اجتمع
ابن المنجم الشاعر، وأبو الحسن الذروي، والفقيه الأديب أبو الفضل المنبوز بطيري، في منزل
الأديب عبد المنعم الجزيري، وجلسوا للحديث، فدخل عليهم أبو الربيع سليمان بن تنين الطحان،
وذكر أنه رأى رجلًا مصلوبًا بأعلى الجسر وطُعِنَ بعد صلبه، فاقترح الوجيه الذروي أن يصنعوا
في هذا شيئًا، فاقترح النجم أن يكون الإنقاذ بين أبي الفضل وأبي الربيع، وأن تكون القافية
على حرف الذال، فقال أبو الفضل في الحال:
ومُفَجَّعٍ تَخِذَ الجذوعَ مَطِيَّةً
فتَقَطَّعَتْ لركوبها أفخاذُه
وأطال أبو الربيع التفكر، وافتضح في تمادي التأهل، فدس إليه ابن المُنجم رقعة صغيرة
فيها:
وبدا لسن الرمح فيه نفاذة
أخنى على أفلاذه فولاذُه
وناولها له بحيث فطنت الجماعة وتغافلوا، وخفي الأمر على أبي الفضل طيرى لسوء بصره؛
فقال:
«بيتي خير من هذا البيت.» وأكثر الصياح والجلبة، فقال له ابن الذروي: دع عنك هذا القول،
ألست القائل في بيتك: «تخذ الجذوع» فهذا صُلِبَ على جذع أو مائة؟! وقلت: «أفخاذه» فله
فخذان
أو عشرة؟! وأوحى إليه بالقصة؛ فأقصر عن الكلام، ثم الْتفَتَ ابن الذروي إلى سليمان الطحان
وقال له: «قد ثبت اليوم عملك للشعر.» فانصرف وقد ألزموه بعمل دعوة سرورًا بذلك.
٦
وقال القاضي الأعز بن المؤيد: تسايرت أنا والقاضي المخلص أبو العباس أحمد بن عوف بشاطئ
خليج الإسكندرية من جهة القنطرة المعروفة بقنطرة السواري، وقد رَقَصَتْ أشجاره على غناء
أطياره،
وملأ لها ساقي الغمام كئوس جلناره، فبينما نحن نتناشد من نفيس رقيق الأشعار، ونتعاطى
من
كئوس رحيق الأخبار، ونتَعَجَّب من سماء ذلك الماء كيف خَلَتْ من البدور، ومن نجوم تلك
الأزهار مع
طلوع شمس النهار كيف لا تغور؛ إذ بجوارٍ هناك جوار، وبدور من قبل السواد سوار، فقلت:
لله أي بدورٍ
من السوار سواري
فقال المخلص:
من كل هيفاء جرسى الـ
ـوشاح خرسى السوارِ
فقلت:
لاحَتْ فحَلَّتْ وحَلَّتْ
قلبي وعقْد اصطباري
فقال:
تنوب فرعًا ووجهًا
عن الدُّجى والنهارِ
فقلت:
فناظراها وقلبي
ما بين راضٍ وضارِ
فقال:
وخدها وفؤادي
من جلنارٍ ونارِ
فقلت:
تحكي الغزالة في بهـ
ـجةٍ وحُسْن قنارِ
فقال:
ومن التمليط ما كان يقع بين ثلاثة من الشعراء، مثال ذلك ما ذكره ابن ظافر إذ يقول:
مضيت أنا وشهاب الدين يعقوب والقاضي الأعز بن المؤيد رحمه الله في جماعة من أصحابنا
إلى
الدير المعروف بالقصير، إيثارًا لنظر تلك الآثار، فلما تنزهنا في حُسن منظره، وقضينا
الوطر
من نظره، تعاطَيْنَا القول فيه، جريًا على عادة خلعاء البلغاء، وظرفاء الأدباء، ومُجَّان
الشعراء، الذين نبذوا الوقار بالعراء، فقطعوا طريق الأعمار بطريق الأغمار، وضيَّعُوا
العين
والعقار في تحصيل العين والعقار، فقال الشهاب:
سقى الله يومي بدير القصير
قصير العزالى طويل الذيولْ
محل إذا لاح لي لم أَقِفْ
بصحبي على حوملٍ فالدخولْ
فقلْتُ:
فكم فيه من قمرٍ في دُجًى
على غصنٍ في كثيبٍ مهيلْ
بلحظ صحيح وجفن سقيمٍ
وروح خفيف وردف ثقيلْ
فقال الأعز:
قطعت به العيش مع فتيةٍ
صُباح الوجوه كِرامِ الأصولْ
بكل كريم قصير المراء
حاز المعالي بباعٍ طويلْ
فقال الشهاب:
أذاقه سل سيف المُدام
فكم من سليبٍ وكم من قتيلْ
فقال الأعز:
وكم من خليعٍ كريم الفعال
يجدد بالجود غيظَ البخيلْ
فقلتُ:
يوافيه ذا ذَهَبٍ جامدٍ
فيُفْنِيه في دائبٍ للشمولْ
ثم صنع الشهاب فيه على غير هذا الروي والوزن، فقال:
على عُمْرِ القصير قصرت عمري
صَنَعْتُ خلاعتي وأزلْتُ وقْرِي
فقال الأعز:
ولم أسمع لَعَمْرِي قَوْلَ زيدٍ
إذا ما لَامَنِي أو قَوْلَ عمرو
فقلتُ:
ظفرنا فيه من شفةٍ وكأسٍ
لمشروبَيْنِ من ريقٍ وخمرِ
فقال الشهاب:
ودافعنا يقينَ الدين فيه
بمظنونين من خمرٍ وخضرِ
فقال الأعز:
كسوت به الكئوس البيض حُمرًا
من القمص اشتريناها بصفرِ
فقلتُ:
وظلْتُ بمارقٍ للهو أتلو
بهز البيض فيه عناق سُمرِ
٨
كانت هذه الرياضة الذهنية من عوامل رُقي فن الشعر في ذلك العصر، فمحاولة كل شاعر أن
يثبت
مَقْدِرَتَهُ على هذه الألوان، واجتماع الشعراء في زيارة أماكن النزهة والتمتع بجمال
الطبيعة،
ومطالبة بعضهم بعضًا في أن يُنْشِدوا في موضوع بعينه؛ كان — ولا شك — له أَثَرُه في هذه
النهضة الفنية
التي نراها في عصر الأيوبيين، بالرغم مما ذكرناه من أن هذه الرياضة كانت معروفةً عند
شعراء
العرب في غير مصر وفي غير هذا العصر.
أسهم شعراء الأيوبيين في الموضوعات التي عرفها الشعر العربي منذ أقدم عصوره من مدح
وهجاء
وغزل وخمريات، إلى غير ذلك من موضوعات الشعر، ولكننا نرى في هذا العصر بعض الفنون التي
أعتبرها جديدة كل الجِدَّة في الأدب العربي؛ إذ لم يَعْرِض لها شعراء العرب، ولم تظهر
إلا في
عصرنا هذا. وقد ذكرنا في حديث سابق من هذا الكتاب أن الحشيشيات ظَهَرَتْ لأول مرة في
العصر
الأيوبي، وهو فن جديد لم يطرقه الشعراء من قبل. كما تحدثنا عن الشعور بالوحدة الإسلامية،
وكان حديث الشعراء في هذا العصر جديدًا أيضًا، وهو أثر من آثار فكرة نور الدين زنكي وصلاح
الدين الأيوبي في توحيد البلاد الإسلامية وحدةً تَجْعَل المسلمين قوة أمام أعدائهم
المستعمرين.
ونستطيع الآن أن نضيف إلى هذه الفنون الجديدةِ فنًّا آخر هو أثر من آثار ظهور عنصر
الأتراك
في بلادنا المصرية، فأول ما نراه من ذلك الإشادة بعنصر الأتراك وقوة الترك، وأنهم استطاعوا
أن يهزموا كلَّ من يقف في طريقهم، ففي قصيدة لابن سناء الملك يقول:
بدولة الترك عزَّت مِلَّةُ العَرَبِ
وبابن أيوبَ ذلَّتْ شيعة الصُّلبِ
ويقول العماد الأصفهاني في قصيدة له:
لمْ تَلْهُ عن باقي البلاد وإنما
ألهاك فَرْضُ الغزو عن هَمدانِ
للروم والإفرنج منك مصائبٌ
بالتُّرك والأكراد والعُرْبَانِ
ويقول ابن المجاور:
جاءت جنود الله تطلب ثأرها
وصدورها عما قليل تشتفي
فانهض بها وتقاضَ حَقَّكَ موقنًا
أن الإله بما تؤملْه حَفِي
هم فتيةُ الأتراك كل مجفجفٍ
يغشى الكريهة فوق كل مجفجفِ
قوم يخوضون الحِمام شجاعةً
لا ينظرون إليه من طرفٍ خفِي
إن صبحوا الأعداء في أوطانهم
تركوا ديارهُمُ كقاعٍ صفصفِ
أنت اصطفيتهم لنصرة ديننا
للَّه درُّ المصطفَى والمصطفِي
ويقول النظام المصري في شجاعة التُّرك:
ومَنْ ذا يطيق التُّرك في الحرب إنهم
بنُوها وكلُّ الناس زور وباطلُ
حُماةٌ كُماةٌ كالضراغم خيلُهُمْ
معاقِلُهُمْ والخيل نِعمَ المعاقلُ
ويقول ابن النبيه:
إياك والأتراك إن لبعضهم
أشخاص غزلانٍ وفِعْلُ أسودِ
فن الغَزَل
وكما مدح شعراء مصر الأتراك فقد تغزلوا بهم، ومن العجيب أن شعراء مصر خالفوا شعراء
العرب في الغَزَل بالعيون الواسعة التي تُشْبِه عيون البقر الوحشي أو عيون الجآزر، وتغزلوا
بعيون الأتراك الضيقة، فالشاعر ابن النبيه يقول:
سواي في سلوانه يَطْمَعُ
فعَنِّفُوا إن شئتُمُوا أو دَعُوا
أوْضَحْتُمُ الرشْدَ فمن يهتدي
وقُلْتُمُ الحق فمن يسمعُ
بيَ ضيق العين وإن أطنبوا
في الحَدَق النُّجْل وإن أوْسَعوا
٩
فالشاعر هنا يتحدث عن محبوبه ذي العيون الضيقة، بالرغم من حديث الشعراء السابقين
وإطنابهم في وَصْف الحدَق النُّجْل والعيون الواسعة، فهو لا يرضى إلا بالعيون الضيقة
—
عيون الأتراك — وهو يكرر هذا المعنى في أشعارِهِ ويُكثر مِنْ ذِكْر هذه العيون الضيقة،
ثم نراه
يصطنع في شعره هذا المعنى الذي لا يزال يجري بين المصريين إلى الآن حتى ذهب مَذْهب المثل،
وهو أن «ضيق العين دليل البُخل»، فابن النبيه يقول مثلًا:
أمانًا أيها القمر المُطِلُّ
فمن جَفْنَيْكَ أسيافٌ تُسَلُّ
يَزِيد جَمَالُ وجهك كلَّ يومٍ
ولي جَسَدٌ يذوبُ ويضْمَحِلُّ
وما عَرَفَ السقامُ طريقَ جسمي
ولكن دل من أهوى يدلُّ
يميل بطرفه التركي عني
صدقتم إنَّ ضِيقَ العين بُخلُ
١٠
فالشاعر يتغزل بعيون الأتراك الضيقة، فإذا صَدَّ عنه محبوبه تَذَكَّرَ ما يجري على
ألسنة
الناس من أن ضيق العين تدل على البُخل. ويعود ابن النبيه مرة أخرى إلى التحدث عن العيون
الضيقة وما تدل عليه من البُخل، فيقول:
ويح قلب المحب ماذا يقاسِي
كل قلب عليه كالصخر قاسِي
يا جفوني أين الدموع فقد أحـ
ـرق قلبي توقُّدُ الأنفاسِ
جَدَّ وجْدي في حُبِّ لاهٍ وأودى
بفؤادي تذكاره وهْوَ ناسِي
مِنْ بني التُّرك لَيِّن العطف قاسِي الـْ
ـقلب سَهْل الخداع صَعْب المراسِ
ضيق العين وَهْي من صفة البُخـ
ـل فإن جاد كان ضِدَّ القياسِ
١١
ويتغزل بالتُّرك مرة أخرى، فيقول:
تعالى الله ما أحسَنْ
شقيقًا حفَّ بالسوسَنْ
خُدود لَثْمها يُبري
من الأسقام لو أمْكَنْ
غزال ضيِّق الأجفا
ن يحكي الرشَّأ الأعيَنْ
ويتغزل ابن مطروح بأعيُن التُّرك، فيقول:
حذارِ سيوف الهند من أعيُن التُّركِ
فما شُهِرت إلا لِتُؤْذِنَ بالفتْكِ
وهكذا كان التغزل بالأتراك وبالعيون التركية الضيقة من موضوعات الشعر في هذا العصر،
وجاء الشعراء بعد العصر الذي ندرسه فأكْثَروا من الحديث عن العيون الضيقة، فقد فتح شعراء
العصر الأيوبي هذا الباب لمن جاء بعْدَهم، حتى خُيِّل إلينا أن شعراء مصر في عصر المماليك
والعثمانيين نسوا العيون الواسعة، أو أنهم لم يتذكروا ما جاء في الشعر العربي منذ العصر
الجاهلي من تشبيهاتِ واستعاراتِ وكناياتِ الشعراء عن العيون، ولكن لكل عَصْرٍ فِتْنته
وبِدْعته.
ليس معنى ذلك أن شعراء العصر الأيوبي لم يذكروا في غَزَلهم العيون الواسعة، فإنهم
تحدثوا عنها في غَزَلهم، وكان غَزَلهم هو استمرار للغَزَل الذي كان في العصر الفاطمي،
غير أن غزل العصر الفاطمي كان متأثرًا بالترف الفاطمي، بينما كان غَزَل الأيوبيين — في
أكثره — عفيفًا ليس به الفُحش الذي كان في العصر السابق، حقيقةً وُجِدَ في عصرنا مثل
ابن
المرصص المتوفى سنة ٦٣٨ﻫ الذي كان يقول:
تنقَّلْ فلذَّاتُ الهوى في التنقُّلِ
ورِدْ كلَّ صافٍ لَا تَقِفْ عند مَنْهَلِ
وإن سار مَنْ تهوى فسِرْ عن غرامه
ولا تُرْسِلَنْ دمعًا على مُتَرَحِّلِ
ولا تُسْكِنَنَّ الوجْدَ في دار غُرْبَةٍ
ولا تَجْعَل المحبوبَ عنك بمَعْزِلِ
وكن آمرًا إن كان لا بُدَّ من هَوًى
فولِّ من الأحباب مَنْ شئتَ واعْزِلِ
حديثُ الهوى مثل الحديث حقيقةً
فآخِرُ حُبٍّ ناسِخٌ حُكْمَ أَوَّلِ
ولا تَسْمَعَنْ قول امرئ القيس إنه
مُضِلٌّ ومَنْ ذا يهتدي بمُضَلِّلِ
فلا خدر إلا وهْو خِدْر عنيزةٍ
ولا دارَ إلا وهْي دارة جلجلِ
وفي الأرض أحباب وفيها منازل
فلا تبكِ مِنْ ذكرى حبيبٍ ومَنْزِلِ
١٣
فالشاعر هنا يتهكم بهؤلاء الذين يتخذون محبوبة واحدة ويبكون إذا رحلت عنهم، فعلى
الرجل أن يكون حاكمًا على قلبه، يحب من يشاء ويهجر من يشاء، ثم يتهكم بامرئ القيس الذي
جَعَلَ غَزَله وقفًا على عنيزة، ووقف باكيًا على دارة جلجل، فإن من مبادئ شاعرنا المصري
أن
يُتنقل في الهوى. ومهما يكن من الأمر فإن شعراء مصر جميعًا أنشدوا في الغَزَل، حتى
هؤلاء الذين عُرِفوا بالتزام الوقار في حياتهم الخاصة وبعدوا عن مجالس اللهو أمثال
القاضي الفاضل، إذ لم يكن يتظاهر بما كان يتظاهر أصحاب الدواوين في عصره من الميل إلى
الغلمان ومعاقرة بنت الحان. وكان يُنكر على أصدقائه ذلك، ويروى للتدليل على ذلك أن
السلطان صلاح الدين قال يومًا للقاضي الفاضل: «لنا مدة لم نرَ فيها العماد، فلعله ضعيف،
امضِ إلى داره وتَفَقَّدْ أحواله.» فلما دخل الفاضل دار العماد وجد أشياء أَنْكَرَهَا
في نفسه مثل
آثار مجلس أُنْس وطيب ورائحة خمر وآلات طرب، فأنشده:
ما ناصَحَتْكَ خبايا الود مِنْ رَجُلٍ
ما لم يَنَلْكَ بمكروهٍ من العذلِ
مَحَبَّتِي فيك تأبى أن تسامحني
بأن أراك على شيءٍ من الزللِ
١٤
فهذه القصة تدل على أن القاضي الفاضل لم يكن بالرجل الذي تستهويه النساء أو يتبع
الغلمان والسماع، وكان يُنكر على أصدقائه ذلك، ومع هذا كله فله غَزَل بالمذكر مثل
قوله:
شَرْخَ الشباب بِحُبِّكُم أفْنَيْتُهُ
والعمرَ في كَلَفٍ بِكُمْ قضيتُهُ
وأنا الذي لو مَرَّ بي مِنْ نَحْوكُمْ
داعٍ وكنْت بحضرتي لبيتُهُ
كيف التعرض للسلو وحُبُّكم
حبٌّ بأيام الشباب شرَيْتُهُ
للَّه داءٌ في الفؤاد أجنه
يزداد نكسًا كلما داوَيْتُهُ
قالوا حبيبك في التجني مُسْرِفٌ
قاسٍ على العشاق قُلْتُ: فَدَيْتُهُ
أأروم من كلفي عليه تخلصًا
لا والذي بطحاءُ مكةَ بَيْتُهُ
ولو استطعْتُ بكل إسمٍ في الورى
من لذة الذكرى به سَمَّيْتُهُ
١٥
فالقاضي الفاضل في هذه الأبيات يُكِنُّ حبًّا دفينًا لازَمَهُ منذ شبابه ولا يستطيع
أن يسلو
عنه، فقد تمَكَّن الحب من قلبه ولم يجد له دواء بالرغم من تجني محبوبه وقسوته على عاشقه،
فالقاضي الفاضل يتغَزَّل غَزَلًا بعيدًا عن فُحش القول أو وَصْف أعضاء المحبوب، إنما
اكتفى بالناحية النفسية لحالته. وتغزل القاضي الفاضل بالمؤنث مثل قوله:
وحياةِ حُبِّك ما نَسِيتْ
عهدًا لحُبِّك ما حييتْ
وإذا رضيت بما لقيـ
ـت فقد نعمت بما شقيتْ
ولقد وجدت على الحشا
بردًا لنارك إذ صليتْ
ولقد تطفَّل بي الشقا
ء على هواك وما دعيتْ
لا تسألنْ عن ليلتي
باتت عداك كما أبيتْ
وإذا تكلم عاذلي
فجوابه عندي السكوتْ
صيَّرت حُبَّكَ شافعي
ومن الشفيع ترى أتيتْ
غض جفونك يا سها
مُ فقد رَمَيْتَ بما رُمِيتْ
إني لأُعرف بالصوا
ب وطرقه لكن بُلِيتْ
أنا مَنْ يُقدمه الهوى
لكن تؤخره البخوتْ
لو كان قلبي في يدي
لجفا الحبيب كما جفيتْ
أنا في العذاب فلا أعي
ش كما أريد ولا أموت
وإذا تلاقت رفقة
فحديثها ما قد لقيتْ
مولاي قد نِلْتُ المُنى
فاسْلَم فإني قد فنيتْ
أأخاف أن تبقى همو
مي في هواك وما بقيتْ
وعلى الحقيقة لو أذنـ
ـتَ بأن أموت إذَنْ حَيِيتْ
١٦
ففي هذه المقطوعة تغَزَّل القاضي الفاضل غَزَلًا تُذَكِّرنا رِقَّتُه وسهولته وعدم
تكلفه
بأرق شعراء الغَزَل، فهو لا ينسى حبه طول حياته، وبالرغم من أنه شقي بهذا الحب فهو يَشْعُر
أنه في نعيم، ويقضي ليله مهمومًا ويدعو على أعداء محبوبه أن يصيبهم بالليل ما أصابه.
وإذا تحدث العُذال فلا يجيبهم، ويتحدث عن السهام المنبعثة من عيون محبوبه، وأنه بالرغم
من أن عقله كان يدرك طرق الصواب فإنه بَلِيَ بالحب، ثم يدعو لمحبوبه بأن يَسْلَم بالرغم
مما يلاقيه هو من شقاءٍ وَصَلَ إلى درجة الإشراف على الفناء. ثم انظر إلى البيت الأخير
من
هذه المقطوعة الذي يَقرُب مما نسمعه الآن بين شباب مصر في معاكسة الفتيات، فكلمة من
المحبوب ولو كانت كلمة الموت له كفيلة بأن تُحييه. فشعراء مصر جميعًا قد أنشدوا في
الغَزَل كما قلنا، ومن المُلاحَظ أن مقدماتهم الغَزَلية قد طالت طولًا يُخَيَّل إلينا
معه
أن الشاعر نسي غرضه من القصيدة، ففي مدائحهم كانوا يُقَدِّمون غَزَلًا، ويسرفون في إطالة
الغَزَل، ثم يتخلصون إلى المدح في شيء من الرقة والجمال، فمثلًا قال ابن سناء الملك في
مدح القاضي الفاضل:
ضنَنْتَ بطرف ظَلَّ بعدي سُقْمُهُ
أرأيتمُ مَنْ ضَنَّ حتى بالضنَى
يا عاذلين جهلتم فضل الهوى
وعذلتم فيه ولكني أنَا
إني رأيت الشمس ثم رأيتها
ماذا عليَّ إذا هويت الأحسنَا
وسألت مِن أي المعادن ثغْرُها
فوجدت من عبد الرحيم المعدنَا
أبصرت جوهر ثغرها وكلامه
فعلِمت حقًّا أن هذا مِنْ هُنَا
ويقول بهاء الدين زهير — في قصيدة يمدح بها الأمير نصير الدين بن اللمطي:
لها خفر يوم اللقاء خفيرها
فما بالها ضنَّت بما لا يضيرها
أعادَتُها أنْ لا يُعاد مريضُها
وسِيرتُها أن لا يُفَكَّ أسيرها
وها أنا ذا كالطيف فيها صبابة
لَعَلِّي إذا نامت بليلٍ أزورها
من الغيد لم توقد مع الليل نارها
ولكنها بين الضلوع تثيرها
تقاضي عزيم الشوق مني حُشاشة
مروعة لم يبقَ إلا يسيرها
وإنَّ الذي أبقته منها يد الهوى
فداء بشير يوم وافى نصيرها
أو قول البهاء زهير — في مدح السلطان صلاح الدين بن العزيز:
آهًا لقلبٍ ما خلا من لوعة
أبدًا يحن إلى زمان قد خَلَا
ورسوم جسمٍ كاد يحْرِقُه الهوى
لو لم تبادِرْه الدموع لأَشْعَلَا
ولقد كَتَمْتُ حديثه وحَفِظْتُهُ
فوجدت دمعي قد رَوَاهُ مُسَلْسَلَا
أهوى التذلل في الغرام وإنما
يأبى صلاح الدين أن أتذلَّلَا
وعلى هذا النحو أبدع شعراء مصر في تخلصهم إلى المدح في شيء من رشاقة اللفظ وجمال
المعنى، مما يدل على تَمَكُّن الفن عندهم. ثم انظر إلى ابن مطروح في هذه المقطوعة الغَزَلية
الجميلة التي صوَّر فيها عِشْقه وضَعْفه وتخاذُله أمام محبوبه، وصَوَّر هذا المحبوب في
صور
مختلفة:
هزوا القدود وأرهفوا سُمْر القنا
واستبدلوا بَدَلَ السيوفِ الأعْيُنَا
وتقدَّمُوا للعاشقين فكُلُّهُمْ
أخذ الأمان لنفسه إلا أنَا
لا أن لي جلدًا ولكني أرى
في الحب كل دقيقةٍ أن أُفتنَا
لا خير في جفنٍ إذا لم يكْتَحِلْ
أرقًا، ولا جفنٍ تجافاه الضنى
وأنا الفداء لبابلي لحاظُهُ
لا تستطيع الأُسْدُ تثبت إن رَنَا
لما انثنى في حُلَّةٍ من سندسٍ
قالت غصون البان ما أبقى أنا
هذا على أنَّ الغصون تَعَلَّمَتْ
منه رشاقة لينها لَمَّا انثنى
وبخده وبشعره وعذاره
معنى العقيق وبارقٍ والمنحنى
أقسى عليَّ من الحديد فؤاده
ومن الحرير تراه خدًّا ألينَا
شَبَّهْتُه بالبدر قال ظَلَمْتَنِي
يا عاشقي والله ظُلمًا بَيِّنَا
١٧
أو قوله:
إنْ قِسْتُه بالبدر ما أنْصَفْتُه
أو بالغزال وَجَدْتُه مظلومَا
هذا نَبِيُّ الحُسن جاء فَكُلُّكُمْ
صَلُّوا عليه وسلموا تسليما
١٨
أو قول عليِّ بن عرام:
أَطَلْتَ من اللوم المردَّد والعَذْل
فأقْلِلْ فإني في الغرام لفي شُغلِ
فما الحب إلا النار والعذل عنده
هواء به يزداد في قوة الفعلِ
رضيت بسلطان الهوى متسلطًا
على مهجتي في الحكم بالجور لا العدلِ
بقلبيَ سهمٌ لا بقلبك صائبٌ
رميت به عن سحر أعينها النُّجْلِ
تنام خَلِيَّ الحال مما يحسه
شَجٍ كحلت عيناه بالسُّهد لا الكُحلِ
وإن غزالًا كالغزالة وجهه
ضعيف القُوى يسطو بليثِ أبي شبلِ
ومن خصره المهضوم كيف مع الضنى
ينوء بِرِدف باهِظٍ حمْله عبلِ
وفي خده نار، وماء شبيبةٍ
وما اجتمع الضدان إلا على قتلي
ومشمولة سُقيَتُها من رضابه
وما لي سوى تقبيل خَدَّيْه من نقلِ
فمِنْ شفتيه كأسها وحبابها
يُرَى عِقد ثغرٍ عِقده غير مُنحلِ
١٩
ومن ذلك قول ابن مطروح:
سفرَتْ وجاءت في الغلائل تنثني
فأَرَتْكَ حَظَّ المجتلى والمجتني
ورَنَتْ فما تُغْنِي التمائمُ والرُّقى
وأبيك عن لحظات تلك الأعْيُنِ
بدوية كم دونها من ضاربٍ
بالسيف مرهوبِ السطا لم يُؤْمَنِ
مَنْ كان يملك قَلْبَهُ مِنْ طَرْفِهَا
نال الخلود وليس ذاك بممكنِ
قال العواذل إنني في حبها
لا أرعوي لا أنتهي لا أنثني
كم قُلْتُ للعذال لما زُرْتُها
هذي الذي في حبها لُمْتُنَّنِي
لو شاهَدوا منها الذي شاهَدْتُه
لتيقَّنَ العذال فيها أنني
لم أنْسَها ويدي مكان وشاحها
وسألتها عن خصرها قالت فني
أعلمتها أن التفرق في غد
قالَتْ: وعَيْشِ أبي لقد أحزَنْتَنِي
وبكت فلو نُظِمَتْ لآلي دَمْعِها
ظفرت يدي منها بعِقدٍ مثمنِ
وتقول — إذْ أَوْجَسْتُ خيفةَ أهلها:
اضرب بلحظي أو بقدي فاطعنِ
أو فاحتجب إن شئت إن لم تَلْقَهُمْ
بدجى ذوائبيَ الْأُولى حيَّرْنَنِي
فسمعت ما يُلْهِي اللبيبَ موَلَّهًا
ويذيب قلبَ الخاشع المتديِّنِ
ما كان أشوقني للثم بنانها
ولقد ظفرت بلثمها فليهنني
ودخلت جنة وَصْلِها مُتنزهًا
يا ليت قومي يعلمون بأنني
من هذا كله نستطيع أن نقرر ما قلناه سابقًا: إن شعراء مصر جميعًا قد تغَزَّلوا، سواء
أكان شعرهم وقفًا على الغَزَل أم كان شعرًا تقليديًّا، هو المعروف عند جميع الشعراء
الذين كانوا يُقَدِّمُون لغرضهم بالغَزَل، ونستطيع أن نلاحظ أن الأوصاف التي ذكروها في
غَزَلهم هي نفس الأوصاف القديمة المألوفة، ولكن تشبيهاتهم وأساليبَهُم هي التي نستطيع
أن
نلمس منها الروح المصرية. لم يترك شعراء مصر في فنهم الغَزَلي شيئًا عن الحب — وصالِهِ
وهَجْرِه والوشاة والعاذلين، ولا أجزاء جسم المحبوب — إلا ونجده في أشعارهم، ولكن في
شيء من
العفة — إن صح هذا التعبير — والبعد عن فُحش القول أو الألفاظ النابية، حقيقةً وُجِدَ
بين الشعراء مَنْ تَعَرَّضَ لذكر أجزاء دقيقة من الجسم، إنما لم يكن ذلك في أشعار الغَزَل
التي وَصَلَتْنَا، إنما كان ذلك في شعر الهجاء أو شعر التحامق، وشعراء الغَزَل اتَّبَعُوا
في فهم
ما عُرِفَ في هذا العصر بالطريقة الغرامية التي سنتحدث عنها في حديثنا عن مدرسة الرقة
والسهولة.
الخمريات
أسهم شعراء مصر في وصْف الخمر ومجالسها وساقيها، ولهم في ذلك كله جولاتٌ لَعِبَ فيها
خيال الشعراء، فظهر في شعرهم بعض المعاني الجديدة التي لم تخطر على بالِ الشعراء
السابقين، ومثل ذلك قول الخطير بن مماتي في وصف الخمر إذا صُبَّت من الإبريق:
إذا انبرت من فم الإبريق تحسبها
شهاب ليلٍ رمى في الكأس شيطانَا
٢٠
فالشاعر صوَّر الخمر في اندفاعها من الإبريق إلى الكأس كأنها شهاب ثاقب رمى شيطانًا
ربض في الكأس، ولعل الشاعر تخيل حبيبات الخمر في الكأس على أنها الأنفاس الأخيرة
للشيطان الغارق بعد أن أصابته رمية الشهاب الصائبة. وهذه صورة خيالية لا أكاد أعرف
أحدًا من الشعراء سبقه إليها. على أن أكثر الأوصاف التي ذَكَرَها المصريون هي نفس الصفات
القديمة التي رَدَّدَها الشعراء، فقول هبة الله بن وزير:
ومحجوبة في الدن قد كانت الأولى
قديمًا أَعَدَّتْهَا لصرف همومها
يلوح من الكاسات ساطِعُ نُورِهَا
كشمسٍ تَبَدَّتْ من فتوق غُيُومِهَا
ولسْتَ ترى إلا شعاعًا وإنما
يدل عليها نغمة من نسيمهَا
٢١
فهذه الأوصاف من أنها حُجِبت في الدنان منذ عهد بعيد، وأن القدماء حرصوا عليها لتبديد
همومهم، وأنها في الكأس مثل الشمس، وأنها كالشعاع لولا أن رائحتها تدل عليها، كل هذه
أوصاف قديمة أكْثَرَ منها الشعراء السابقون وفي غير مصر، ولكن الجمال هنا في طريقة تعبير
الشاعر عن هذه المعاني.
وكان الشعراء يدعو بعضهم بعضًا إلى مجالس اللهو؛ حيث الخمر والطرب، ويدعون أصدقاءهم
إلى قضاء وقت يطيب فيه الجو لاحتساء الخمر وسماع القيان، ويقولون في ذلك كُلِّه شعرًا
هو
صورة لما تعودنا قراءته من الأشعار العربية في هذا الموضوع، فالشاعر البهاء زهير
يقول:
علا حس النواعيرِ
وأصوات الشحاريرِ
وقد طاب لنا الوقتُ
صفا من غير تكديرِ
فقم يا ألف مولايَ
أَدِرْهَا غيرَ مأمورِ
أَدِرْهَا من سنى الصبح
تزد نورًا على نورِ
عقارًا أصبحت مِثْلَ
هباءٍ غَيْرِ مَنْثُورِ
بَدَتْ أحسنَ مِنْ نارٍ
رأتْها عينُ مقرورِ
نزلنا شاطئ النيلِ
على بسط الأزاهيرِ
وقد أضحى له بالمَوْ
جِ وَجْهٌ ذو أساريرِ
تسابَقْنَا إلى اللهو
ووافينا بتبكير
وفينا رُبَّ مِحْرَابٍ
وفينا رُبَّ مَاخُورِ
ومِنْ قوم مساتيرٍ
ومن قوم مساخيرِ
ومن جِدٍّ ومن هَزْلٍ
ومن حَقٍّ ومن زُورِ
فطَوْرًا في المقاصير
وطورًا في الدساكيرِ
وإخوان كما تدري
من القبط النحاريرِ
وفيهم كل ذي حُسنٍ
من الإحسان موفورِ
وتالٍ للمزاميرِ
بصوتٍ كالمزاميرِ
وفي تلك البرانيسِ
بدورٍ في دياجيرِ
وجوه كالتصاويرِ
تصلي للتصاويرِ
ومن تحت الزنانيرِ
خصور كالزنابيرِ
أتيناهم فما بقوا
ولا ضنوا بمدخورِ
ففي هذه المقطوعة يصور الشاعر هذا اليوم الذي قضاه على شاطئ النيل بين جماعة من
أصدقائه ذوي الأهواء المختلفة فيهم الجادُّ وفيهم الخليع، ولكنهم اتفقوا جميعًا على أن
يقضوا يومًا سعيدًا بين جمال الطبيعة، وفي ضيافة الرهبان الأقباط الذين قدموا لهم الخمر
الذي ادخروه عندهم. وبالرغم من أن المعاني التي أتى بها الشاعر قديمة مألوفة، ولكن
الصورة التي رسمها في هذه المقطوعة صورة مصرية خالصة، لا يمكن أن تصوِّر إلا حياةً مصرية
بما فيها من ذِكْر النيل والأقباط.
والشاعر ابن النبيه يحث على شُرْب الخمر وطلب اللذَّات على جمال الطبيعة، مما يجعلنا
نتذكر شعراء مدرسة الطبيعة في العصر الفاطمي، فهو يقول مثلًا:
الروض بين متوج ومشنَّفِ
والزهر بين مدبج ومفوَّفِ
والغصن غَنَّاه الحمام فهَزَّهُ
طربًّا وحيَّاه الغمام بقرقَفِ
والظل يسبح في الغدير كأنه
صدأ يلوح على حسامٍ مرْهَفِ
قِسْ بالسماء الأرض تَعْلَمْ أنها
بكواكب الأزهار أحسن زخرفِ
أحداق نرجسها لخد شقيقها
مبهوتة بجماله لم تطرفِ
والطل في زهر الأقاح كأنه
ظلم ترقرق في ثنايا مرشفِ
رقَّ الزجاح وراق كأسُ مُدامنا
ورضاب ساقينا الأغن الأهيفِ
فمزجْتُ ذاك بهذه وشَرِبْتُهَا
ولثمته وضممته يتلطف
وجنيت من وجناته لما استحى
وردًا بغير مراشفي لم يُقطفِ
ورنا إليَّ بطرفه فكأنما
أهدى السقام لمدنفٍ من مدنف
بِتنا وقد لف العناق جسومنا
في بردتين تَكَرُّم وتعفُّفِ
٢٣
فالأبيات الأولى من هذه المقطوعة في وَصْف الطبيعة تُشْبِه إلى حد بعيد مقطوعات الشاعر
الفاطمي ابن حيدرة العُقيلي
٢٤ الذي جعل شعره في الطبيعة والخمر والحض على طلب اللذَّة، وابن النبيه هنا
صورة أخرى لابن حيدرة في وصفه للطبيعة أو في مجونه ولذَّاته.
أما الشاعر الخطير بن مماتي فهو يصف مجونه وكأنه يروي قصته مع تلك الفتاة التي قضى
معها طول الليل، فهو يقول:
يا رب خود زُرْتُها
في الليل بعد هجودها
فاجأتها فتبالهت
فلزمت ضَمَّ نهودها
ورشفت خَمْرَ رضابها
وجنيت وَرْدَ خدودِها
وأَمِنْتُ في قَصْر الوِصا
لِ حَيَاةَ طول صدودِها
حتى إذا وَلَّى الدُّجى
في عَدِّها وعديدها
وبدت جيوشُ الصبح في
أعلامها وبنودها
ويقول البرهان إبراهيم بن الفقيه:
أَحدُ بالعودِ أكؤُسَ الصهباءِ
في رياضٍ ملأى من الأنداءِ
نفضتْ راحة الغمام عليها
لؤلؤًا بدَّدَتْهُ كَفُّ الهواءِ
ولدينا مقطَّعات عليها
نَصِلُ السُّكْرَ بالضحى والمساءِ
بَسَطَ الروض أخضرًا في ذراها
والشاعر أمين الدين بن أبي الوفاء المشهور بابن العصار المتوفى سنة ٦٣٠ﻫ يقول:
لا تلُمني في الراح والريحانِ
وسماعي مَثَالثًا ومثانِي
واسقني بالكبير حثًّا فحثًّا
بَيْنَ زَهْرِ الرياض حتى ترانِي
لا تلَذُّ الحياةُ إلا بشربٍ
وغرامٍ وذاك أغلى الأماني
حَبَّذَا حبذا حبيبٌ عطوفٌ
ذَكَرَ الوصْل بَعْدَ ما قد جفانِي
زارني بالهلال فوق قضيبٍ
ظَلْتُ أجني منه قُطُوفَ المجاني
أنا دعني وما تراه فسادًا
فإمامي فيما ارتكبت ابن هانِي
٢٧
فهؤلاء الشعراء أصحاب هذه المقطوعات السابقة اتفقوا جميعًا على الدعوة إلى شُرْب
الراح
وسماع الأغاني واللهو بالنساء بين جمال الطبيعة، حتى ذهب ابن العصَّار صاحب المقطوعة
الأخيرة إلى أنه يَتَّبع مذهب أبي نواس في المجون واللهو، ولا يستمع إلى مَنْ يقول له
بفساد
هذا المذهب، بل أصرَّ على أن أبا نواس إمامه في حياته. وشعراء العصر الأيوبي أكْثَروا
من
هذه المعاني وتلك الصور بالرغم مما ساد العصرَ من ضَعْفٍ اقتصادي؛ بسبب كثرة الحروب التي
خاضها السلاطين الأيوبيون، وبسبب تلك المجاعات التي كانت أثرًا لانخفاض النيل عِدَّةَ
مرات.
٢٨
ونضرب مثلًا لهذه المجاعات؛ ما حدث في سنة ست وتسعين وخمسمائة في سلطة الملك العادل
أبي بكر بن أيوب، إذ يقول المقريزي: «وكان سبب الغلاء توقف النيل عن الزيادة وقصوره عن
العادة، فتكاثر مجيء الناس من القرى إلى القاهرة من الجوع، ودَخَلَ فصل الربيع فهب هواءٌ
أعْقَبَهُ وباءٌ وفناءٌ، وعُدِمَ القوتُ حتى أَكَلَ الناس صغار بني آدم من الجوع، وكان
الأب يأكل
ابنه مشويًّا ومطبوخًا، والمرأة تأكل ولدها، فعُوقِب جماعة بسبب ذلك، ثم فشا الأمر
وأعيا الحكام، فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخِذه أو شيء من لحمه،
وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت … إلخ.»
٢٩ فكل هذه المصائب التي حَلَّتْ بالبلاد جعلت المصريين يميلون إلى لون من الاتكال
على الله والزهد في الحياة مما سهل على الصوفية نَشْر مبادئهم. ومع ذلك كله فلم يترك
المصريون لَهْوَهم ومجونهم وهُمْ في هذا الضيق الشديد، وهذا شأنهم دائمًا في كل أزمة
تقابلهم، لا يجدون متنفسًا لهم من الهم والكرب إلا بالمجون والفُكاهة، ويكفي أن نَذْكُر
هنا ما قاله القاضي الفاضل في متجددات سنة سبع وثمانين وخمسمائة: «في شوال قَطَعَ النيل
الجسور، واقتلع الشجر، وغرَّق النواحي، وهدم المساكن، وأتلف كثيرًا من النساء والأطفال
… ودخلت البلد — أي القاهرة — وفيها من البغي، ومن المعاصي، ومن الجهر بها، ومن الفسق،
ومن الزنا واللواط، ومن شهادة الزور، ومن مظالم الأمراء والفقهاء، ومن استحلال الفطر
في
نهار رمضان وشرب الخمر في ليله ممن يقع عليه اسم الإسلام، ومن عدم النكير على ذلك
جميعه، ما لم يُسمع ولم يُعهد مثله.»
٣٠ فبالرغم مما حلَّ بالبلاد من مصائب لم يَتْرُك المصريون مجونهم.
ابن النبيه (٦١٩ﻫ)
أبو الحسن عليُّ بن محمد بن يوسف بن يحيى الملقب بكمال الدين، المعروف بابن النبيه،
الشاعر الذي وصفه السيوطي بقوله: «الشاعر المشهور أحد شعراء العصر.»
٣١ وقال ابن شاكر: «الأديب الشاعر البارع صاحب الديوان المشهور.»
٣٢ ولا تذكر المراجع التي بين أيدينا شيئًا عن أسرته، بل أغْفَلَتْ هذه المراجعُ
الحديثَ عن مولده ونشأته، فنحن لا نعرف أين ومتى وُلِدَ، ولا ندري شيئًا عن طفولته أو
شبابه، ولا شيئًا عن أساتذته الذين تلَقَّى عنهم حتى بَلَغَ هذه المرتبة في الفن، فالذي
يقرأ
ديوان ابن النبيه يستطيع بسهولة ويُسْر أن يحكم بأنه كان متضلعًا في العلوم الأدبية
وعلوم العربية، كان متأثرًا بشعر القدماء، فأحيانًا نراه متأثرًا خُطى أبي الطيب
المتنبي في مدائحه لسيف الدولة، مثل قول ابن النبيه في مدح الملك الأشرف موسى:
ملك غرار السيف خير دُرُوعِه
والصافنات الجرد خير حصونِهِ
ملك يُرى بين الصوارم والقنى
كالليث في أشباله وعرينِهِ
ملك إذا ما جاشَ بَحْر جيوشِهِ
ملأ الملا بسهوله وحزونِهِ
لو كان بين يدي عَلِيٍّ مِنْهُمُ
صَفٌّ لحازَ النصرَ في صِفِّينِهِ
٣٣
فمثل هذه المقطوعة الحماسية تُذَكِّرنا منذ أول وَهْلة بهذه القصائد التي تُعَدُّ
من أروع ما
أنشده المتنبي، وتدلنا على مدى تأثر ابن النبيه بالشاعر القديم. ويقول بعض الباحثين:
إننا نجد في شعر ابن النبيه ما يُذَكِّرُنا بأبي نواس فهو يطلب اللذَّة، ويدعو إلى المجون
واللهو كما كان يفعل الشاعر أبو نواس، فابن النبيه يقول في الدعوة إلى الشراب وفي وصف
الخمر وساقيها:
طاب الصبوح فهاك وهات
واشرب هنيئًا يا أخا اللذَّات
كم ذا التواني والشباب مطاوع
والدهر سمح والحبيب مواتي
قم فاصطبح من شمس كأسِكَ واغتبِقْ
بكواكبٍ طَلَعَتْ من الكاساتِ
صفراء صافية تَوَقَّدَ نورُها
فعجِبْتُ للنيران في الجَنَّاتِ
يَنْسَلُّ عن قار الظروف حبابها
والدُّر مُجْتَلَب من الظُّلماتِ
وتُريكَ خيط الصبح مفتولًا إذا
مرقت من الراووق في الطاساتِ
عذراء واقعها المزاج أما ترى
منديل عذرتها بكَفِّ سقاتِ
يسعى بها عبل الروادف أهيف
خنث الشمائل شاطر الحركاتِ
يهوى فتسبقه ذوائب شعْرِهِ
ملتفةٌ كأساوِدِ الحَيَّاتِ
بَدْرٌ مَنازِلُ نيراتِ كئوسِهِ
ما بَيْن منصرِفٍ وآخَرِ آتِ
لو قُسِّمت أرزاقه بيمينِهِ
عدل الزمان على ذوي الحاجات
٣٤
فالشاعر هنا يمدح الصبوح ويدعو إلى مَنْ يُشاركه في شرابه، وينعي الكسل والتواني؛ لأن
الظروف كلها مهيأة، فهناك الشباب والحبيب الذي أَقْبَلَ للمشاركة في الشراب، ثم هذه الفرص
التي سَمَحَ بها الدهر، لهذا يدعو شاعرُنا إلى تعاطي الخمر في الصباح وفي المساء. وبعد
هذا
الإلحاح في دعوته أَخَذَ في وصف الخمر، فهي شمس في الصباح، وكواكب بالليل، يخرج حبابها
من
القار الأسود كما يخرج اللؤلؤ من الظُّلمات … إلى غير ذلك من هذه الصفات التي عَرَفَها
شعراء العرب من قبل، وإذا تحدث عن الساقي فحديثه هو نَفْس حديث الشعراء السابقين، ولكن
أسلوب الشاعر هنا، ودقة اختياره للألفاظ التي رَسَمَ بها صورَهُ المختلفة تجعلنا نُعْجَبُ
بفن
هذا الشاعر. ولكن ذلك كُلَّه لا يجعلنا نقول: إن الشاعر كان متأثرًا بأبي نواس، إنما
كان
يتبع شعراء الغَزَل والطبيعة الذين كانوا في العصر الفاطمي، فكانوا يدعون مثله إلى هذا
اللون من اللهو والمجون، ويكفي أن نلقي نظرة على شعر الأمير تميم وابن وكيع التنيسي
وابن حيدرة العُقيلي وغيرهم من شعراء العصر الفاطمي، لندرك أن ابن النبيه لم يكن إلا
تلميذًا من هذه المدرسة المصرية الخالصة، بالرغم من هذا التشابه بين منهج أبي نواس
ومنهج شعراء هذه المدرسة المصرية، فالجميع يطلبون اللذَّة والتمتع بما في الحياة من
مباهج.
وذهب الباحثون أيضًا إلى أن ابن النبيه متأثر بأبي نواس لأنه دعا إلى عدم الوقوف على
الديار، وتَهَكَّمَ بالبكاء بالأطلال، فهو يقول مثلًا:
دَعِ النوْحَ خَلْفَ حدوجِ الركائِبِ
وسلِّ فؤادك عَنْ كُلِّ ذاهِبِ
ببيض السوالِفِ حُمْرِ المَرَاشـِ
ـفِ صُفْرِ الترائِبِ سُودِ الذوائِبِ
فما العيش إلا إذا ما نَظَمْتَ
بثغر الحباب ثنايا الحبايِبِ
أحاشيك من وقفةٍ بالطلول
تبل الصدا بصداها المجاوِبِ
تكلف صُم الحجار الكلام
وكم في جنون الهوى من عجائِبِ
ولو كنت تشكو الهوى صادقًا
لما عَلَّلَتْكَ الأماني الكواذِبِ
تأَمَّلْ كئوس عتيق الرحيقِ
ترى الماء يَجمُد والخمر ذائِبِ
لها في الزجاجة رَقْص الشبابِ
ومفرقُهَا أشْمَطُ اللون شائِبِ
وترعد غيظًا إذا أُبرِزَتْ
مِن الدَّنِّ كالمحصنات الكواعِبِ
كأن الحباب على رأسها
جواهرُ قد كُلِّلَتْ في عصائِبِ
بِحُمْرتها صَحَّ عند المجو
سِ إنَّ السجود إلى النار واجب
٣٥
فهذه المقطوعة وأمثالها من التهكم بِمَنْ وقف على الديار وبكى الأطلال أو وَدَّعَ
رَكْب
الحبيب بالبكاء، كل ذلك جعل بعض الباحثين يقولون: إنه متأثر بأبي نواس، غير أني لا
أوافقهم على هذا الرأي؛ لأن الشاعر مصريٌّ متأثر بالحياة المصرية، شأنه في ذلك شأن جميع
الشعراء في مصر الإسلامية الذين لم يعرفوا الوقوف على الديار ولم يذكروا الأطلال؛ لأن
حياة الاستقرار في مصر لا تَعْرِف هذا اللون الذي عَرَفَتْه البادية، فالمصريون لا يتحدثون
عن
الرسوم الدارسة لأنها ليست من حياتهم، وإذا فُرِضَ ووَجَدْنَا شاعرًا مصريًّا ذَكَرَ
الديار
والأطلال فإن ذلك يُعتبر تقليدًا لشعراء العرب، ونَظَرَ المصريون إلى هذا القول على أنه
من
المُستظرفات، معنى هذا أننا لا نستطيع أن نقول: إن ابن النبيه كان متأثرًا بأبي نواس
بالرغم مما نجده في شِعْرِه من التهكم بالواقفين على الديار. ويُخَيَّل إليَّ أن ابن
النبيه
كان فنانًا يعشق الجمال ويتبعه وكان يهيم بالطبيعة أيضًا، فهو يقول مثلًا:
يا ساكني السَّفح كم عينٍ بكم سفحت
نزحتمو فهْيَ بَعْد البُعْدِ ما نَزَحَتْ
لهفي لظبية إنسٍ مِنْكُمُو نَفَرَتْ
لا، بل هي الشمس زالت بعدما جَنَحَتْ
بيضاء حجَّبَهَا الواشون حين سَرَتْ
عني فلو لَمَحَت صبغ الدُّجى لَمَحَتْ
يقتص من وجنتيها لحْظ عاشقها
إن ضَرَّجت قلبه باللحظ أو جَرَحَتْ
مَنْ لي بِسلمٍ وفي أجفان مُقْلَتِها
للحرب بيض حِداد قط ما صَفَحَتْ
يهتز بين وشاحيها قضيب نقا
حمائم الحلي في أفنائه صدحت
وأسود الخال في مُحْمَر وَجْنَتِها
كمسكة نَفَحَتْ في جمرة لَفَحَتْ
لها جفونٌ وأعطاف عَجِبْتُ لها
بالسُّقم صَحَّت وبالسُّكر الشديد صَحَتْ
وروضةٍ وجنات الورد قد خجلَتْ
فيها ضُحى وعيون النرجس انفتَحَتْ
تشَاجَرَ الطيرُ في أفنانها سَحَرًا
ومالت القُضب للتعنيق واصطَلَحَتْ
والقطر قد رَشَّ ثوب الدوح حين رأى
مَجَامِرَ الزهر من أذياله نفحَتْ
باكَرْتُها وحمام الزهر نافرة
عن البروج بكف الصبح إذ وَضَحَتْ
ما بين غُدران ماءٍ كاللُّجَيْن طَفَتْ
وأكؤُسٍ كنُضارٍ ذائبٍ طفحَتْ
بِكر إذا ابنُ سماءٍ مَسَّهَا لبسَتْ
ثوب الحباب حياءً منه واتَّشَحَتْ
تشعشعت في يد الساقي وقد مُزِجتْ
كأنها بنصال الماء قد ذُبِحت
يسعى بها أهيف خَفَّتْ معاطفُهُ
لكنْ روادفُه من ثُقلها رَجَحَتْ
للحُسن ماء ومرعى فوق وجنتِهِ
ربيع عيني فيه كلما سَرَحَتْ
٣٦
ومثل قوله:
إذا رأيت الهلال والغصنا
ذَكَرْتَ قدًّا ومنظرًا حسنًا
مهفهف ما إن ثنى لنا وبدا
إلا رأيت الهلالَ والغُصْنَا
كالروض حُسنًا وبهجةً وجنى
كالبدر حُسنًا ورِفعةً وسنَا
فالشاعر هنا يتحدث عن محبوبه مُتغزِّلًا، ويصف المحبوب بالهلال والغصن، وأنه كالروضة
في الحُسن والبهجة، وكالبدر في الرِّفعة والسنا.
ويقول مرة أخرى — يصف جمال الروض في دمشق في قصيدة يمدح بها الصاحب ابن شكر أثناء
زيارة
هذا الوزير إليها — فهو يقول:
يا نديمي بالله غني بذكرا
ه وَمَوِّه عن ريقه بالكاسِ
واغتنم لذَّة الزمان فما جلَّـ
ـقَ إلَّا للهو والإيناسِ
حبذا النيران من أرض نورٍ
واخضرار المروج من باناس
والنسيم الذي يمر على الغَوْ
فشاعرنا يُعجب بهذه المناظر التي أحاطت بدمشق وبذلك النسيم الذي يمر على غوطة دمشق،
فالطبيعة عنده كانت موضوعًا من موضوعات شعره، فكثيرًا ما كان يُلائم بين غَزَله
والطبيعة، ويُشَبِّه المحبوب دائمًا بالمناظر التي يجدها في الطبيعة.
كان ابن النبيه من جماعة الشعراء الذين ذَكَرَهُم ابن ظافر الأزدي أنهم من أصدقائه،
وروى
له — في كتابه بدائع البداية — بيتين في منافسة ذهنية كانت بين هؤلاء الأصدقاء الشعراء
في
فانوس السحور:
حبذا في الصيام مئذنة الجا
مع والليل مُسبِل أذيالَهْ
خلتها والفانوس إذ رَفَعْتُهُ
صائدًا واقفًا لصيد الغزالَهْ
٣٨
وروى له أيضًا مقطوعة تبارى الشعراء في الصنع في معناها:
وغادةٍ قالت وفي خدها
حية مسكٍ قد سبتني المنام
حُمرة خدي إذا قارنَتْ
سواد أصداغي هام الهوام
أما ترى الحية تسعى إلى النا
ر إذا ما أضْرِمَتْ في الظلام
وروى له في نفس المعنى أيضًا:
في ورد خديك بدت عقرب
وحية تلسع جانيها
يقول مَنْ بات سليمًا بها
يا عيش مَنْ أصبح حاويها
٣٩
ولا ندري كيف اتصل ابن النبيه بالأمراء الأيوبيين، ولكننا نرى في ديوانه عدة قصائد
في
مدح الملك العادل
٤٠ والملك المظفر.
٤١
ولا ندري تمامًا تاريخ هذه القصائد، غير أن ابن النبيه استطاع أن يوثق صِلَتَهُ بالملك
الأشرف موسى، فاتخذه كاتب إنشائه في الجزيرة، فأقام ابن النبيه في نصيبين، وظل بها إلى
أن مات. ونستطيع أن نُرجِّحَ أنه اتصل بالأشرف حوالي سنة ٦٠٠ هجرية، ففي إحدى قصائده
أشار
إلى انتصار الأشرف على كيكاووس صاحب الروم، وهذه الواقعة كانت حوالي سنة ٦١٣ﻫ،
٤٢ ثم إنه أشار في قصيدة أخرى إلى دخول الملك الأشرف إلى خِلاط وكان ذلك سنة
٦٠٩ﻫ، فهذا كله يُرجِّح أن صلة الشاعر بالأشرف كانت قبل هذه السنوات. وإذا عرفنا أنه
مدح القاضي الفاضل بست مقطوعات لا نشك أنه أنشدها قبل سنة ٥٩١ﻫ — وهي السنة التي انقطع
فيها الفاضل عن الحياة العامة واعتزل الناس واعتزل الشعراء — إذن تكون صلة الشاعر
بالأشرف بعد هذه السنة. كل ذلك يجعلنا نُرجِّح أنه ترك مصر إلى الجزيرة حوالي سنة ٦٠٠ﻫ.
وابن النبيه في الجزيرة اتصل بعدد من الشعراء — على نحو ما كان متصلًا بجماعة ابن ظافر
— ونذكر من هؤلاء الشعراء أبا القاسم بن نفطويه، وأبا المعز الأعيمي، وأبا محمد القلعي
وغيرهم.
٤٣
غير أن ابن النبيه لم يمدح أحدًا وهو في الجزيرة سوى الملك الأشرف، فإنه انقطع إليه
انقطاعًا تامًّا، مما يذكرنا بانقطاع المتنبي عندما كان يتصل بأمير من الأمراء.
وابن النبيه في شعره هو تلميذ لمدرسة الطبيعة من ناحية، ومدرسة الرقة والسهولة من ناحية
أخرى، غير أن صناعته الكتابية كانت تؤثر عليه أحيانًا، فهو مع رقته وسهولته كان يزين
شعره بما كان يزين به شعراء مدرسة الكُتاب أشعارَهُم، فاقرأ له هذه المقطوعة وما فيها
من
تشبيهات وكنايات وتلاعُب لفظي مع سهولة في الألفاظ ورِقة في الأسلوب:
من سحر عينيك الأمان الأمانْ
قتَلْتَ رَبَّ السيف والطيلسانْ
أسمر كالرمح له مُقلةٌ
لو لم تكن كحلاء كانت سنانْ
أهيف عبل الردف حلو اللمى
مُرُّ الجفا قاسٍ رطيب البنانْ
يزداد إذ أشكو له قسوةً
ولو شكوت الحب للصخر لانْ
ساقٍ لها رضوان عن حِفْظِه
ففر من جملة حور الجنانْ
بدر وكأس الراح شمس الضحى
للَّه ما أسعد هذا القرانْ
توقدت جمرة لأْلَائِهَا
كأنها بهرام أو بهرمانْ
بخده أو طرفه أو جنا
لماه سكري لا ببنت الدانِ
يا لائمي دعني فإني فتًى
ما ترك الحب بجسمي مكانْ
لا تسأل العاشق عن حاله
فدمعه عن سِره تُرجمانْ
لولا دموعي والضنا لم أبُح
قد ينطق المرء بغير اللسانْ
٤٤
وعلى هذا النحو من الفن كان شعر ابن النبيه، حتى إن بعض مقطوعاته يُتغنى بها في عصرنا
الحديث مثل قصيدته: «أفديه إن حَفِظَ الهوى … إلخ»، وقصيدته: «أمانًا أيها القمر المطل
…
إلخ»، وهذا يدل على أن غَزَله صالح لكل عصر ولكل بيئة.
الفُكاهة
أما الفُكاهة في الشعر المصري في ذلك العصر فقد ظهرت ظهورًا واضحًا، والفُكاهات مما
شغف بها الشعب المصري وعُرِفَ بها منذ أقدم عصوره، بل لا أُغالي إذا قُلْتُ: إنها من
مقومات
الشخصية المصرية. والفُكاهة تقوم في الأغلب على التلاعب اللفظي وخاصة على فن التورية،
ثم على عمق الفكرة، مما يدل على مهارة المصريِّ وبراعته في هذا الفن من القول وعلى
أصالته في نفس الشعب، على أن كثيرًا ما تخرج الفُكاهة المصرية إلى شيء من الفُحش مما
يزيد في أَثَرِ وقعها في النفس. ولا بد هنا أن نفرق بين الفُكاهة والهِجاء، فالهِجاء
لون
من ألوان السباب الغرض الأول منه أن ينال الهَجَّاء من خصمه حتى يشفي غلته ويُريح قلبه
مما فيه من حِقْد، فالغرض منه الإيذاء قبل كل شيء إمعانًا في الخصومة والعداء. أما
الفُكاهة فهي لون من ألوان الإضحاك على الغير دون أن يُقْصَد إلى إيذائه، حقيقةً قد تكون
الفُكاهة أشد إمعانًا في الإيذاء من الهِجاء، فقد تكون السخرية اللاذعة أشد وقعًا من
أي
شيء آخر، ولكن ذلك كله يتوقف على نفسية المُتفكَّه به، فالدُّعابة بين الأصدقاء — مثلًا
— بالرغم مما فيها من قسوة ومن فُكاهة ساخرة لا نستطيع أن نتخذها هِجاء، وإن قيلت
الفُكاهة نفسها في خصم فهي هِجاء؛ لأن المقصود بها في هذه الحالة الإيذاء والنَّيل من
الخصم، فمثلًا قال البهاء زهير:
التحى الأمرد الذي
كان في التيه مُسْرِفَا
حسنًا كان وَجْهُهُ
وسريعًا تصحفا
سُرَّ والله ناظري
ما رأى فيه واشتفى
شكر الله لحيةً
صَيَّرَتْ وَجْهَهُ قَفَا
٤٥
فهنا يتفكه الشاعر بصديقه الأمرد لأنه يريد بهذه الدُّعابة الإضحاك قبل كل شيء. ثم
يقول البهاء زهير أيضًا:
وأحمقٍ ذي لحيةٍ
كبيرةٍ مُنتشرهْ
طلبت فيها وجهه
بشِدَّة فلم أرَهْ
تبًّا لها من لحيةٍ
كبيرةٍ مُحتقرَهْ
مضحكة ما كان قـ
ـطُّ مِثْلَها لمَسخَرَهْ
فالشاعر هنا يهجو، وهِجاؤه فيه سخرية لاذعة مؤذية. وهكذا نستطيع أن نُفَرِّق بين
الفُكاهة والهِجاء، فمن الفُكاهات المصرية التي تَذْهَب مذهب الدُّعابة ما يقوله البهاء
زهير — يصف شيخًا يدعي العلم كان يرتاد مجلسه:
كلما قُلتُ اسْتَرَحْنَا
جاءنا الشيخ الإمامْ
فاعترانا كلنا منـ
ـه انقباضٌ واحتشامْ
وعلى الجملة فالشيـ
ـخُ ثقيلٌ والسلامْ
وقول الوجيه ابن الذروي في صديقه جعفر:
لا تبعثوا بسوى المهذب جعفر
فالشيخ في كل الأمور مُهذبُ
طورًا يُغني بالرباب وتارةً
تأتي على يده الرباب وزينبُ
٤٦
فأمثال هذه الدُّعابة الساخرة أشد إيذاءً من الهِجاء بالرغم من أنها قيلت في صديق،
ولكن المصريَّ إذا أراد أن يتفكَّه فهو يتهكم بصديقه كما يهجو عدوَّه. ومن أمثلة
الفُكاهة في الشعر قول ابن العصار؛ وقد زار قرية فقُدِّمت له المائدة، ولكن أحدق بها
جماعة من البدو، فقال لهم:
لا كان يومٌ قد غدا جامعًا
لي بأُناسٍ ما لهم فائدهْ
قد قُلْتُ إذْ حاموا على زادهِمِ
قد جاءت الأنعامُ والمائدهْ
٤٧
فالشاعر استخدم التورية في هذه الفُكاهة، إذ ذَكَرَ سورة الأنعام ليورِّي بها عن هؤلاء
البدو، ويورِّي بسورة المائدة عن هذه المائدة التي أمامهم. ومثل ذلك قول الأسعد بن
مماتي في رجل رآه بدمشق:
حكى نهرين ما في الأر
ضِ من يحكيهما أبَدَا
فثوري وبردا نهران بالشام، والشاعر شبَّه بهما هذا الإنسان، فهو يُشبه الثور في
الخِلقة والبرد في الأخلاق. ومن الفُكاهات الطريفة تلك القصيدة التي أَنْشَدَها ابن الذروي
في صديق له أحدب ظن أن الشاعر ابن الذروي هجاه، فبعث ابن الذروي إليه هذه القصيدة يتنصل
فيها من الهِجاء ويَعْتَذر إليه، ويمدح حدبته في صورة ساخرة هي أقرب إلى الهِجاء، ولكنها
دُعابة واضحة من اللون الذي يُسميه العامة في مصر «التريقة»:
يا أخي كيف غَيَّرَتْكَ الليالي
وأحالَتْ ما بيننا بالمحالِ
حاشَ للَّه أن أُصافي خليلًا
فيراني في وُدِّه ذا اختلالِ
زعموا أنني أتيت بهجوٍ
مُعرِبٍ فيك عن شنيعِ المقالِ
كَذَبُوا إنما وَصَفْتُ الذي فيـ
ـكَ من النُّبل والسنا والكمالِ
لا تظنَّنَّ حدبة الظهر عيبًا
فهْي للحُسْنِ من صفات الهلالِ
وكذاك القِسِي مُحْدَوْدبَاتٍ
وهْيَ أنكى من الظُّبا والعوالي
ودناني القضاة وهْيَ كما تعـْ
ـلم كانت موسومةً بالجمالِ
وأرى الإنحناء في منسر الكا
سر يلفى ومخلب الرئبالِ
وأبو الغصن أنت لا شك فيه
وَهْوَ رب القوام والاعتدالِ
قد تحَلَّيْتَ بانحناءٍ فأنت الـ
ـراكع المستمر في كل حالِ
وتعجلت حَمْلَ وِزْرك في الظهـ
ـر فأمنًا في موقف الأهوالِ
إن حمل الذنوب أهون في الدنيـ
ـا على أنه من الأثقالِ
كوَّن الله حدبة فيك إن شئـ
ـت من الفضل أو من الإفضالِ
فأنت ربوة على طود حلمٍ
منكَ أو موجةٌ ببحر نوالِ
ما رأتها النساء إلا تمنَّت
لو غدت حليةً لكل الرجالِ
وإذا لم يكُن من الهجر بُدٌّ
فعسى أن تزورني في الخيالِ
٤٩
فالشاعر ابن الذروي يُداعب صديقه ويسخر منه ولكن في صيغة مُهذبة، فهو يمدحه ولكنه
في
الوقت نفسه يريد أن يُضْحِكَ منه وأن يُضحِك عليه إخوانه وأصدقاءه، فهو يمدح حدبته وأنها
دليل الجمال والحُسن، ويتخذ من المحدودبات وسيلة لهذا المدح، فالهلال يُوصف بجماله
وحُسنه، ولا شك أن هذه مغالطة من الشاعر؛ لأن الهلال مقوس، ولكن الشاعر يريد المُداعبة
قبل كل شيء. والقسي ليست أنكى من الظبا والعوالي، إنما هي النِّبال التي تُرمى عن
القسي، فهذه مغالطة أخرى من الشاعر. ثم يعود إلى مداعبته بأن الأحدب هو الراكع المستمر،
وأنه يحمل وزره على ظَهْرِه فهي ذنوب يحملها في هذه الدنيا ستُخفف عنه العذاب يوم القيامة.
ثم اقرأ له هذه الدُّعابة القاسية من أن النساء تتمنى أن يتحلى كل رجل بحدبة. هذه كلها
صور ساخرة مؤلمة أرسلها ابن الذروي إلى صديقه هذا، ثم ختم سخريته بسخرية قاسية بقوله:
«إذا كان الأحدب لا يرى بُدًّا من هَجْر صديقه فهو يطلب زيارته في الخيال.»
ومثل هذا يقول ابن مطروح وقد عاده أصحابه؛ ويظهر أن تلك الزيارة أقلقت الشاعر، فأنشد
يقول:
وصاحبٌ عادني يومًا فأقلقني
حتى ظننت رسول الموت وافاني
ولو أطال قليلًا لم يطل أجلي
وجاءني غاسلي يسعى بأكفاني
فليت شعري وطلاب الهوى عجب
أعادني أم لحاه الله عاداني
٥٠
وهكذا كانت الفُكاهة المصرية. ويطول بي الأمر لو تحدثت عن كل هذه المقطوعات التي
أنشدها شعراء مصر، والتي تظهر فيها روح الدُّعابة بين الشعراء.
فن الهِجاء
أما الهِجاء فقد أكْثَرَ منه الشعراء وكانوا على شيء كثير من القسوة وتَعمُّد الإيذاء،
حتى ذهب الشاعر المصري ابن سناء الملك إلى هجاء الشمس بقوله:
لا كانت الشمس فكم أصدأت
صفحة خَدِّ كالحسام الصقيلْ
وكم وكم صدت بوادي الكرى
طيف خيال جاءني من خليلْ
وأعدمتني من نجوم الدُّجى
ومنه روضًا بين ظلٍّ ظليلْ
تكذب في الوعد وبرهانِهِ
أن سراب القفر منها سليلْ
وتحسب النهر حسامًا فترْ
تاع وتحكي فيه قلب الذليلْ
إن صدأ الطرف فما صقله
إلا التحلي بمحيا جميلْ
وهي إذا أبصرها مُبصِرٌ
حديد طرف عاد عنها كليل
يا غلة المهموم يا جلدةَ
المحموم يا زفرةَ صبٍّ نحيلْ
يا فرحةَ المشرقِ وقْتَ الضحى
وسلحة المغرب عند الأصيلْ
أنتِ عجوز لم تبرجت لي
وقد بدا منكِ لُعابٌ يسيلْ
وأنتِ بالشيطان قرنانة
فكيف تهدينا سواء السبيلْ
٥١
وقال عليُّ بن عرام يهجو شخصًا اسمه خالد:
عناصر الإنسان مِنْ أربعٍ
وخالد عنصره واحدُ
وقال هبة الله بن عرام:
كم عذلوه على بغاه
شُحًّا عليه فما أصاخَا
ولو رأى في الكنيف (أ …)
لغاص في إثره وساخَا
أعياهم دواؤه صبيًّا
فاستيأسوا منه حين شاخَا
٥٣
ويهجو هبة الله بن وزير:
ومشتهر بالبخل غاوٍ بلؤمه
على يده قفْل منيع وأغلاق
إذا زُرْتُهُ يَزْوَرُّ مني تبرمًا
فلا هو مسرور ولا أنا مشتاقُ
من الشجر الملعون لا ورق به
ولا ثمر عقباه نار وإحراق
٥٤
وقال في أحدب:
انظر إلى الأحدب مع عرسه
وهي على الجبهة مبطوحهْ
كأنه لما علا ظَهْرُهَا
فارة نَجَّار على شوحه
قال ابن سناء الملك:
لهفي على عشاقك الطُّرشِ
العُمي في عِشْقِك لا العُمشِ
عاشقك القش ولا غرو أن
تلتهب النيران في القشِّ
قالوا: لقد أحدث مِنْ بَعْدِنَا
ما لا يُرى قُلْتُ: على الفرشِ
٥٥
وبلغ ابن سناء الملك أن الشاعر أبا المكارم بن وزير هجاه فأدبه وشَتَمَه، فكتب إليه
ابن
المنجم الشاعر يقول:
قل للسعيد أدامَ الله دَوْلَتَهُ
صديقنا ابن وزير كيف تظلِمُه
صفعْتَه إذ غدا يهجوك منتقمًا
منه ومن بعد هذا ظَلْتَ تشتِمُه
هَجْوٌ بهجو وهذا الصفع فيه رِبًا
والشرع لا يقتضيه بل يُحَرِّمُه
فإن تَقُل بالهجو عنده أَثَرٌ
فالصفع واللهِ أيضًا ليس يُؤْلِمُهُ
ومما قاله ابن سناء الملك وفيه فُحش:
نا … أو خرقوه
وجاء مثل طنين
وراح وهْو كميم
وجاء وهْو كعين
وهكذا كان الهِجاء في الشعر المصري في العصر الأيوبي عبارة عن تُهَمٍ تُلصق بالمهجوِّ،
أو
تجسيم صفات قبيحة تلحق به للزراية به وإيذائه والنَّيل منه.
الإخوانيات
على أن الفن الذي أكثر منه المصريون في عصرنا هذا هو فن الإخوانيات، والظاهر أن
العلاقة المتينة التي كانت تربط الشعراء بعضهم ببعض مصدرها فن الأدب، فقد قَرَّبَ الفن
بينهم وجعل منهم عُصبةً أُولي قوة، وإخوانًا في السراء والضراء. ويُخيل إليَّ أن هذه
العلاقة لم تكن بين شعراء مصر فحسب، إنما كانت أيضًا بين كل شاعر يَفِدُ على مصر وبين
شعراء هذا البلد. ويكفي أن نذكر للتدليل على ذلك أن الشاعر شرف الدين بن عنين الذي
وَفَدَ على مصر فاستقبله شعراؤها بما يليق بمكانته في فن الشعر — ولا سيما ابن سناء
الملك — بالرغم من أن ابن عنين هجا صلاح الدين والقاضي الفاضل بقوله:
سلطاننا أعرج وكاتبه
أعمش والوزير مُنْحَدِبُ
هجا في هذا البيت السلطان صلاح الدين بأنه أعرج، وهجا العماد بأنه أعمش، وهجا القاضي
الفاضل بأنه أحدب، مما جَعَلَ السلطان يأمر بنفيه إلى خارج مصر، فاضطر إلى الرحلة إلى
الهند، ثم عاد إلى مصر بعد ذلك، واستمر في حياته مع زملائه الشعراء.
مَثَلٌ آخَرُ نضربه لهذا الإخاء بين شعراء مصر والشعراء الوافدين، هي قصة وفود ابن
سعيد
المغربي، وكيف ذهب عَدَدٌ من شعراء مصر لاستقباله بالإسكندرية عندما عَلِمُوا بحضوره.
ويُحَدِّثنا
ابن ظافر في كتابه: بدائع البداية، عن مدى الأخوَّة التي كانت بين الشعراء: شهاب الدين
يعقوب، نجم الدين بن المجاور المعروف بابن أخت الوزير، والشاعر نشو الملك علي بن مفرج
بن المُنجم، والأعز بن المؤيد، والوجيه الذروي، وجعفر المنبوز شلعلع … وغيرهم، وكيف كانوا
يخرجون إلى أماكن النزهة، ويقرضون الشعر، ويتباحثون في موضوعاتٍ شتى، ويتبارَوْن في
الإنشاد، وكثيرًا ما كانوا يختلفون فيما بينهم ويتندر بعضهم ببعض، بل قد يؤدي الأمر إلى
أن يهجو بعضهم بعضًا، ولكنهم سرعان ما يعودون إلى صَفْوهم وودادهم. فمن ذلك مثلًا ما
يُروى من أن الوجيه عليَّ بن الذروي وهبة الله بن وزير وجماعة آخرين ذهبوا إلى حمام،
فجرى بين ابن الذروي وابن وزير تنازعٌ أدى إلى تناكر فضلة الأدب، ثم تراضيا بالتحكيم،
فحُكِمَ بأن يصنعا قطعتين في صفة الحمَّام على البديهة، فصنع ابن الذروي:
إن عَيْشَ الحمَّام عَيْشٌ هنيءٌ
غيرَ أنَّ المقام فيها قليلُ
جنةٌ تُكْرَه الإقامةُ فيها
وجحيمٌ يطيب فيه الدخولُ
فكأن الغريق فيها كليمٌ
وكأن الحريق فيها خليلُ
أما ابن وزير فقد صنع:
للَّه يَوْمٌ بحمامٍ نعمْت به
والماء مِنْ حوضها ما بيننا جارِي
كأنه فوقَ شفاف الرخام بها
ماء يسيل على أثواب قصارِ
فانتقد الجماعة تشبيهه الماء واستبردوا ما أتى به، فقال ابن الذروي:
وشاعرٌ أوْقَدَ الطبع الذكاء له
أو كاد يحرقه من فرْط إذكاءِ
أقام يُجْهِد أيامًا رويَّتَه
وشبَّه الماءَ بعد الجهد بالماءِ
٥٦
ومثل هذا أيضًا تلك القصة التي يرويها ابن ظافر إذ يقول: واجتمعنا ليلة في رمضان
بالجامع، فجلسنا بعد انقضاء الصلاة للحديث وقد وُقِدَ فانوس السحور، فاقترح بعض
الحاضرين على الأديب أبي الحجاج يوسف بن عليٍّ المنبوز بالنعجة أن يصنع فيه، وإنما طُلِبَ
بذلك تعجيزه، فصنع وأنشد:
ونجم من الفانوس يُشْرِقُ ضَوْؤُه
ولكنه دُونَ الكواكب لا يسري
ولم أرَ نجمًا قَطُّ قبل طلوعه
إذَا غاب ينهى الصائمين عن الفطرِ
فانْتَدَبْتُ له من بين الجماعة وقُلْتُ: هذا تعجب لا يصح؛ لأني والحاضرين قد رأينا
نجومًا لا
تدخل تحت الحصر إذا غابت تنهى الصائمين عن الفطر وهي نجوم الصباح، فأسرف الجماعة بعد
ذلك في تقريعه، وأخذوا في تمزيق عرضه وتقطيعه، فصنع وأنشد:
هذا لواء سحورٍ يُستضاءُ بِهِ
وعَسْكَر الشُّهْب في الظلماء جَرَّارُ
والصائمون جميعًا يهتدون به
كأنه عَلَمٌ في رأسِهِ نَارُ
فلما أصبحنا سَمِعَ من كان غائبًا من أصحابنا في ليلتنا ما جرى، فصنع الرشيد أبو عبد
الله محمد بن متانو — رحمه الله تعالى — وأنشدنيه:
أَحْبِبْ بفانوسٍ غَدَا صاعدًا
وضَوْؤُه دانٍ من العَيْنِ
يقضي بِصَومٍ وبفطرٍ معًا
فقد حَوَى وَصْف الهِلَالَيْنِ
وصنع الفقيه أبو محمد القلعي:
وكوكب من ضرام الزند مطلعه
تسري النجوم ولا يسري إذا رَقَبَا
يراقب الصبح خوفًا أن يُفَاجِئَهُ
فإن بدا طالعًا في أُفْقِهِ غَرَبَا
كأنه عاشقٌ وافى على شَرَفٍ
يرعى الحبيب فإن لاح الرقيب خَبَا
ثم صَنَعْتُ بعد حين:
ألَسْت ترى شخصَ المنار وُعُودَه
عليه لفانوس السحور لَهِيبُ
كحاملِ منظومِ الأنابيب أَسْمَرٌ
عليه سنانٌ بالدماء خَضِيبُ
ترى بين زهر الزهر منه شقيقة
لها العود غصْن والمنار كَثِيبُ
وتبدو كخدٍّ أحْمَرٍ والدُّجى لمى
بدا فيه ثَغْرٌ للنجومِ شَنِيبُ
كأنَّ لزنجيِّ الدُّجى من لَهِيبِهِ
ومن خفقه قلبًا عَرَاهُ وجِيبُ
تراه يراعي الصبح ليلًا فإن دَنَا
طلوع صباحٍ حَانَ منه غُرُوبُ
فهل كان يرعاها لعشقٍ فَفَرَّ إذْ
درى أن روميَّ الصباح قَرِيبُ
وقُلْتُ في اختصار هذا المعنى:
انْظُرْ إلى المنار والـ
ـفانوس فيه يُرْفَعُ
كحاملٍ رُمحًا سنا
نُهُ خضيبٌ يَلْمَعُ
وقُلْتُ أيضًا:
ألست ترى حُسن المنار وضوءه
يرفع من جُنح الدجنة أستارَا
تراه إذا جَنَّ الظلام مراقبًا
له مُضْرِمًا في قَلْبِ فانوسه نارَا
كصب بخود من بني الزنج سامَهَا
وصالًا وقد أبدى لترغب دينارَا
وقُلْتُ فيه:
وليلة صومٍ قد سهرت بجُنحها
على أنها من طولها تعدل الدهرَا
حكى الليلُ فيها سَقْفَ ساجٍ مُسمرًا
من الشُّهب قد أضْحَتْ مساميره تِبْرَا
وقام المنار المُشْرِقُ اللونِ حاملًا
لفانوسه والليل قد أظْهَرَ الزهْرَا
كما قام روميٌّ بكأسِ مُدامةٍ
وحيَّا بها زِنْجِيَّةً وشَحَتْ دُرَّا
قال: ولما صنعت هذه القطع ندبت أصحابنا للعمل، فصنع شهاب الدين يعقوب:
رأيت المنار وجُنْحَ الظلامِ
من الجو يُسدِلُ أستارَهُ
وحَلَّقَ في الجو فانوسُهُ
فذَهَّبَ بالنور أقطارَهُ
فقُلْتُ المُحلِّق قد شَبَّ في
ظلام الدُّجى للقرى نارَهُ
وخِلْتُ الثريا يدًا والنُّجُو
مَ ورقًا غَدَا البدرُ قسطارَهُ
وخِلْتُ المنارَ وفانوسه
فتًى قام يَصْرِف دينارَهُ
وأنشدني القاضي أبو الحسن ابن النبيه لنفسه:
حبذا في الصيام مِئْذَنة الْجَا
مِعِ والليل مُسبِل أذيالَهْ
خِلْتُها والفانوسُ إِذْ رَفَعَتْهُ
صائدًا واقفًا لصَيْد الغزالَهْ
وأنشدني ابن نفطويه:
يا حبذا رؤية الفانوس في شَرَفٍ
لمن أراد سحورًا وَهْوَ يتَّقِدُ
كأنما الليل والفانوس مُتَّقِدٌ
في الجو أَعْوَر زِنْجِيٌّ بِهِ رَمَدٌ
وأنشدني أيضًا لنفسه:
نَصَبُوا لواءً للسحور وأَوْقَدُوا
في رأسه نارًا لمن يَتَرَصَّدُ
فكأنه سبَّابة قد قَمَعَتْ
ذهبًا وقامت في الدُّجى تَتَشَهَّدُ
وأنشدني الفقيه أبو يحيى السولي — رحمه الله تعالى — لنفسه:
وليلة مُلِئَتْ أَشْدَاقُهَا لَعَسًا
واستوْضَحَتْ غرر من ثغرها شنبَا
ولاحَ كَوْكَبُ فانوسِ السحور على
إنسانِ مُقْلَتِها النجلاء واشْتَهَبَا
حتى كأنَّ دُجاها وَهْوَ مُلْتَهِبٌ
زنجية حَمَلَتْ في كَفِّهَا ذَهَبَا
وصنع الأديب أبو العز مظفر الأعمى وكتب بها عنه إليَّ — وقد كان سمع جميع المقاطيع
فأخذ معانيها — وقال:
أرى عَلَمًا للناس في الصوم يُنْصَبُ
على جامِعِ ابن العاص أعلاه كَوْكَبُ
وما هو في الظلماء إلا كأنه
على رُمْحِ زنجي سنانٌ مُذَهَّبُ
ومن عَجَبٍ أن الثريا سماؤها
مع الليل تُلْهِي كُلَّ مَنْ يَتَرَقَّبُ
فطَوْرًا تحييه بباقة نرجسٍ
وَطَوْرًا يحييها بكأسٍ تلَهَّبُ
وما الليل إلا قانصٌ لغزالةٍ
بفانوس نارٍ نحوها يتطلب
ولم أرَ صيَّادًا على البُعْد قَبْلَه
إذا قَرُبَتْ منه الغزالةُ يَهْرَبُ
وأنشد في الشريف أبو الفضل جعفر:
كأنما الفانوس في
صاريه لما اتَّقَدَا
وهكذا كان شعراء مصر في هذا العصر يقضون وقتًا طيبًا بين أماكن الزيارة في صحبة بعضهم
بعضًا، ولا يَنْسَوْن وَهُمْ في هذه الزيارات فَنَّهُم الذي أحبوه، فكانوا يقرضون الشعر
في موضوعات
مختلفة، وكلٌّ منهم يريد أن يَبْرز ويتفوق على زملائه، فكانت مباراتهم في الشعر على هذا
النحو سببًا في أن يُجهِد الشاعر نَفْسَه لإجادة فنه وإتقان شعره، بأن يحاول اختراع شيء
من
المعاني الجديدة أو الصور المبتكَرة، أو إجادة تشبيهاته وكناياته … إلى غير ذلك من ألوان
المحسنات البيانية والبديعية.
وكَثُرَتْ المكاتَبات الشعرية بين هؤلاء الشعراء الأصدقاء، مثل تلك التي كانت بين
ابن سناء
الملك والقاضي الفاضل — التي تَحَدَّثْنَا عن شيء منها في حديثنا عنهما — ومثل التي كانت
بين
ابن مطروح والبهاء زهير — وسنتحدث عن ذلك في فصل قادم — أو بين ابن مطروح ومهذب الدين
بن الخيمي، فقد كتب له ابن المطروح وكان ابن الخيمي على ديوان المواريث:
لمهيار مصرَ أسْجل الفضل عندنا
وأبْطَلَت الدعوى لمِهْيَارِ فارِسِ
فبينهما في النظم والنثر إن هما
سَبَرْتَهُمَا ما بين ماشٍ وفارِسِ
فتًى نَظَرَ السلطان فيه مخايل الد
راية والديوان نَظْرَة فارِسِ
فولَّاه أموالَ المواريث حاميًا
به سِربها من كل أجرأ فارِسِ
كأن ابنَ مطروحٍ أقام ابن أحمد
وأحياه من بعد البلى وابنِ فارِسِ
وكلُّ أمير في البلاغة عنده
غلامٌ فلا تَبْعَثْ سواه بفارِسِ
فكتب إليه مهذب الدين بن الخيمي:
أباعِثَهَا مِلْئَ المَسامِعِ حكمةً
قوافِيَ تجلى كالعذارى العرائِسِ
شوارِدَ عن أوهام قومٍ شوارِدٍ
أوانِسَ تزري بالحسان الأوانِسِ
مُهَذَّبة جاءت لنا مِنْ مُهَذَّبٍ
تَذِلُّ له كل القوافي الشوامِسِ
تَعِزُّ على من رامها غير رَبِّها
وتطغى فما تُعْطِي قيادًا لِلَامِسِ
سداسية لو قال آتي بسابعٍ
لها ابن سليمان أتى بَعْد خَامِسِ
وحاوَلْت منها الراء والسين فاحْتَمَتْ
عليَّ بحامٍ ذي اقتدارٍ وحابِسِ
حميتَ حماها ثم أغْلَقْتَ بابها
وحصَّنْتَ منها كل بيتٍ بفارِسِ
٥٨
من لطائف إخوانيات ابن مطروح ما كتبه ردًّا على خطاب صديق له:
وافى كتابُكَ بَعْدَ فَتْرَهْ
فنفى المساءَةَ بالمسرَّهْ
وفَضَضْتُه فلثَمْتُهُ
لما غدا في الحُسْنِ نُدْرَهْ
فطُرِبت حين قرأْتُهُ
وسَكَرت لكن ألْفَ سَكْرَهْ
فحسبت أن الطرس مِنـ
ـه زجاجة واللفظُ خَمْرَهْ
٥٩
وانظر إلى قول ابن النبيه وهو يستدعي بعض أصحابه إلى مجلس أُنس:
نحن في رَوْضَةٍ وزَهْرٍ ونَهْرِ
ومُدامٍ كالشمس من كَفِّ بَدْرِ
مغن قَدْ راسَلَتْهُ الشَّحَارِيـ
ـرُ فأغْنَتْ عن جسِّ عودٍ وزَمْرِ
أنت روحٌ ونحن جسم فإن غِبـْ
ـتَ فإن القلوب تُكوى بجَمْرِ
إنَّ كفًّا إليك قد كَتَبَتْهَا
تتهادى ما بين سُكْرٍ وشُكْرِ
٦٠
وفي نفس هذا الموضوع يقول البهاء زهير:
غِبْتَ عَنِّي فما الخَبَرْ
ما كذا بيننا اشتَهَرْ
أنا ما لي على الجفا
لا ولا البُعْد مُصطبَرْ
لا تَلُم فيك عاشقًا
رام صبرًا فما قَدَرْ
أنْكَرَتْ مُقلتي الكرى
حين عَرَّفْتَها السهَرْ
فعسى منك نَظْرَةٌ
ربما أقنع النظرْ
غَنِيَتْ عَيْنُ مَنْ يرا
كَ عن الشمس والقَمَرْ
أيها المُعرِضُ الذي
لا رسولٌ ولا خَبَرْ
وجرى منه ما جرى
ليته جاء واعتذرْ
كلُّ ذنبٍ كرامةً
لِمُحَيَّاكَ مُغتفَرْ
أنا في مجلسٍ يَرُو
قك مَرأًى ومُختَبَرْ
بين شادٍ وشادنٍ
نُزهة السمع والبصرْ
وصحابٍ بِذِكْرِهِمْ
تَفْخَرُ الكُتْبُ والسِّيَرْ
وإذا ما تفاوضوا
فيهم الزُّهر والزَّهَرْ
فتفضل فيومنا
بك إن زُرْتَنَا أَغَرْ
فسرورٌ تَغِيبُ عنـ
ـهُ وإنْ جَلَّ مُحتَقَرْ
٦١
القصة
وفي هذا العصر الذي انتشر فيه فن «خيال الظل»،
٦٢ ووُضِعت له قصص يلقيها الخيال ويعرضها بشخوص من الجلد، ويؤلفها صُنَّاع
البلاليق بالعامية، نجد بعض الشعراء يَرْوُون قصةً كاملة في قصيدة يحكون فيها حادثة بعينها،
ويلتزمون فيها وحدة الموضوع في كل القصيدة وتَسلسُل هذا الموضوع وتَطَوُّره. فإذن نحن
أمام
قصة من الشعر فيها جميع عناصر القصة القصيرة، فهناك الفكرة وتطورها إلى العُقدة ثم
حلها، وهناك معالم الشخصية وخصائصها الخُلُقية وما يَتْبع ذلك من حالات نفسية، أضِفْ
إلى
ذلك كله التناول الفني للحادثة التي يعرضها الشاعر، فكل هذه الأصول الفنية للقصة نجدها
في الشعر المصري في العصر الأيوبي، فها هو الشاعر البهاء زهير يروي قصة تاجر وَفَدَ إلى
مصر وكيف خرج منها، فهو يقول على لسان هذا التاجر:
دَخَلْتُ مِصْرَ غنيًّا
وليس حالي بخافِي
عشرون حملِ حريرٍ
ومثل ذاك نصافِي
وجملةً من لآلٍ
وجوهرٍ شَفَّافِ
ولي مماليك خود
من المِلاح النظافِ
فرُحتُ أبسط كَفِّي
وبالجزيل أكافِي
وصرت أجمع شملي
بسالفٍ وسُلافِ
ولا أزال أؤاخي
ولا أزال أصافِي
وصار لي حُرَفاءٌ
كانوا تمام حرافِي
وكل يومٍ خوان
من الجِدَى والخرافِ
فبِعت كُلَّ ثمينٍ
معي من الأصنافِ
استهلك البيع حتى
طراحتي ولحافِي
صَرَفْتُ ذاك جميعًا
بمِصْر قبل انصرافِي
وصرت فيها فقيرًا
من ثروتي وعفافي
فالشاعر وهو يروي القصة لم يبتعد عن موضوعها، فهو يصف حالة بطل القصة منذ دخل مصر
ومعه هذه الأحمال من ألوان الأقمشة والجواهر والمماليك، جاء بها يبتغي الغنى والكسب،
ولكنه كان مسرفًا أشدَّ الإسراف، إذ اصطنع بعض الأصدقاء وأخذ يُنْفِق عليهم عن سعة في
ولائم
يومية حتى أتت على كل أمواله، واضطر إلى أن يبيع طراحته ولحافه، وخرج من مصر وهو «جيعان
عريان حافي». فالشاعر هنا قَصَّاص لا شك في ذلك، وقد نجح في عَرْضِه للحادثة على هذا
النحو
الذي رأيناه، كما نجح في تصوير الحالات النفسية التي تَقَلَّب فيها التاجر في أوقات
يُسْرِه وفي أوقات عُسره، ففي قدومه إلى مصر أَخَذَ يزهو بما معه من بضائع، كما كان يفخر
بما
يُنْفِقه على إخوانه، وأخيرًا صَوَّرَ الشاعر حالته وقد أصبح لا يملك شروى نقير، كل هذه
الصور النفسية رسمها الشاعر في بساطة ودقة.
وها هو الشاعر ابن مطروح يَقُصُّ علينا قصة حبيبته التي أَخَذَتْ تشكو هواها إلى دايتها،
وكيف
تريد لقاءه مهما وَجَدَتْ في ذلك من أهوال، ولكنها تخشى أباها الذي لو عَرَفَ قصتها لقتلها،
فالشاعر رسم ذلك كله في هذه المقطوعة، فهو يقول:
سمعتها تشتكي لِدَايَتِها
شكوى تُذيب القلوب والمُهَجَا
تقول: يا دايتي بُلِيتُ به
وما أرى من هواه لي فَرَجَا
ومثل ما بي به ولا عجب
هوى بقلبي وقلبِهِ امْتَزَجَا
فهل سبيلٌ إلى زيارته
ولو رَكِبْتُ البحار واللجَجَا
وإن درى والدي بقصتنا
أراق يا دايتي دَمِي حرجَا
فرحت مما سَمِعْتُ مبتهجًا
كشارب الراح راحَ مبْتَهِجَا
فهذه المقطوعة القصيرة تعطينا قصة هذه الفتاة الوالهة بحبه، وترسم لنا نفسيتها القلقة
المضطربة بين رغبتها المُلِحَّة في زيارة حبيبها وبين خوفها من أبيها، ثم نفسية الشاعر
المحبوب الذي ابتهج عند سماع الحوار بين حبيبته ودايتها، وتأكده من شعورها نحوه، أليست
هذه المقطوعة القصيرة قصة غرام نفسية؟
ولابن مطروح عدة قصص أخرى من هذا اللون الذي نراه في المقطوعة السابقة. وإذن فنستطيع
أن نقول: إن فن القصة ظَهَرَ في الشعر المصري، كما ظَهَرَ في البلاليق المصرية وفي النثر
الفني، وسنرى في حديثنا عن عصر المماليك تَطَوُّر القصة المصرية في الشعر.
ابن مطروح (٥٩٢–٦٤٩ﻫ)
أبو الحسن يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن الحسين، لُقِّبَ بجمال الدين، وعُرِفَ
بابن مطروح، وُلِدَ بأسيوط في ٨ رجب سنة ٥٩٢ هجرية وفيها نشأ، ولا ندري شيئًا عن نشأته
ولا
عن أساتذته، فالمؤرخون أغفلوا الحديث عن هذه الناحية، كما أن ابن مطروح لم يُشِر إليها
في أشعاره، وكل الذي نعرفه أنه انتقل من أسيوط إلى مدينة قوص لسبب لم يذكره المؤرخون
أيضًا. ومدينة قوص في ذلك العصر كانت من أهم المراكز الثقافية والتجارية في مصر، إذ
كانت المركزَ الرئيسي لقوافل الحج والتجارة بين مصر وبلاد الشرق، ولا سيما بعد استيلاء
الصليبيين على طريق فلسطين، فَحُوِّلَ طريق القوافل إلى مدينة قوص ومنها إلى عيذاب على
البحر الأحمر، فبفضل هذه الحالة السياسية التي كانت تسود الشرق الأوسط نَمَت المدينة
وازدهَرَتْ وكَثُرَ فيها العلماء والفقهاء، وتعددت المدارس. ففي هذه المدينة العامرة
بالنشاط
الثقافي والاقتصادي عاش ابن مطروح، وتشاء الظروف أن يتقابل هناك بشاب من الشباب
الوافدين على المدينة — واتخذوها دار إقامة — وهو البهاء زهير، ولا نستطيع أن نؤكد متى
وكيف تَمَّتْ هذه الصداقة التي استمرت طوال حياتيهما. ويُخيَّل إليَّ أن ابن مطروح أتم
دراسته
في قوص وفيها بدأ يصنع الشعر، فمدائحه لمجد الدين بن اللمطي حاكم قوص، وتقلبه مع هذا
الأمير بين الرضا والغضب تدل على أنه كان صغير السن، وأنه كان مبتدئًا في مدح الأمراء
والحكام، ففي إحدى قصائده يمدح فيها والِيَ قوص يقول — بعد المقدمة الغَزَلية:
قالت سَل الأيام قُلْتُ أنا امرُؤٌ
تأبى السؤالَ خلائقي وتَخَلُّقِي
وإذا سألتُ سألتُ ربًّا راحمًا
قُطِعَتْ يدٌ مُدَّت إلى مسترْزِقِ
لأكلفن الجرد ما لم تستطع
صبرًا عليه يعملات الأينَقِ
من كل ضامرة إذا سَرَت الصبا
في إِثْرِها عادَتْ بسعيٍ مخفِقِ
إن لم أَنَلْ بالمغرب الأقصى المُنى
حاولت ذاك ولو بأقصى المشرِقِ
لا فُزْتُ بالمأمول من طَلَبِ العُلا
وبقرب مَجْدِ الدين إن لم أصدُقِ
وافى بأسعد ليلةٍ ودليله
إن الصعيد بيُمن طلعته سُقِي
للَّه آيةُ آيةٍ لك لم تَكُنْ
لسواك مِمَّنْ قد مضى أو مَنْ بَقِي
أي الملوك سواك يُقْدِمُ جَيْشه
جيشان من رعدٍ وغيثٍ مغدِقِ
فليهنني والأولياء قدومه
في غيظ كل منافقٍ مُتَمَلِّقِ
كم قُلْتُ للأعداء روموا سِلْمَهُ
وحذارِ من ذا الأُفعوان المطرِقِ
٦٤
يظهر من هذه الأبيات أن الشاعر لم يكن قد اكتمل في فنه، بل هي محاولة — إن صح هذا
التعبير — لمدح الأمير؛ فمعانيه تافهة، وأسلوبه به ضعف يدل على أنه لا يزال مبتدئًا في
هذا الفن، بالرغم من أن هذه الأبيات تُشعِرنا بأنه يحاول تقليد القدماء، والبيت الأول
والثاني في هذه المقطوعة يدلان على أنه لا يزال صغير السن لم يُجرِّب بَعْدُ مخالطةَ
الأمراء أو مَدْحَهُمْ، فهما بيتان لا يقولهما إلا شاب حَدَث لم تصقله الأيام بعد، فلم
يَعْرِفْ
كيف يخاطب الممدوحين، ويظهر أن صِغَرَ سِنِّه قد أوقعه مع الأمير في بعض المآزق بحيث
اضطر
الأمير إلى تهديده، واضطر هذا الشاب إلى التخاذل والتراجع عن عنجهيته التي رأيناها في
البيتين السابقين، فإذا به يبكي ويترامى على أعتاب الأمير يطلب منه العفو والإقالة، فهو
يقول:
لك الله إنَّ العفو أقرب للتقوى
ومثلك أولى مثلي الصفح والعفوا
أقلني ما قد كان مني جهالةً
أقالك ربٌّ يعلم السر والنجوى
وها أنا من ذنبي الذي كان تائبٌ
ومَنْ تاب تمْحُو الذَّنْبَ توبَتُه مَحْوَا
من الآن فأسعى في تدارُكِ ما مضى
فآبى الذي تأبى وأهوى الذي تهوى
عسى نظرة لي باصطناعك منعمًا
فتَجْبر لي كسرًا وتكشف لي بلوى
فإني في بؤسٍ بسخطك كاربٍ
فلله مِنْ ذا البؤس ثم لك الشكوى
فهذا فؤادي ما يقر وجيبه
وهذي جفوني ما غَفَتْ ساعةً غَفْوَا
وقد نالني من سخطك المُرِّ ما كفى
وإني لأرجو الآن منك الرضى الحُلْوَا
فسخطك نار لا أطيق اصطلاءَها
ومنك الرضى لا زلت في جنة المأوى
فإن تولني عفوًا فإنك أهْلُهُ
ولا بِدْعَ إن عاقَبْتَ مثلي ولا غروا
فلا زِلْت تولي العفو عن كل هفوةٍ
ترى المَنَّ أحلى من جنى الْمَنِّ والسلوى
٦٥
ولا ندري عن حياته في قوص شيئًا، ولكن يُخيل إليَّ أن الأمير ابن الملطي عيَّنه في
ديوانه. ثم نرى ابن مطروح بعد ذلك ينتقل إلى القاهرة، ويتصل بالسلطان الملك الصالح
حوالي سنة ٦٢٦ﻫ.
وكان الشاعر إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان الملك الصالح في ذلك الوقت
ينوب عن أبيه الملك الكامل في حكم مصر، وفي هذه السنة ناب الملك الصالح عن أبيه في حكم
بلاد الجزيرة فاصطحب الشاعر معه، ومنذ اتصل الشاعر بالملك الصالح في هذه الأقاليم
بالمشرق اضطر إلى أن يخوض مع مخدومه المعارك الحربية والسياسية لتوسيع رقعة ممتلكات
الملك الكامل، بحيث أصبح الملك الصالح سيد هذه البلاد جميعًا، ولكن بعد أن توفي الملك
الكامل ٦٣٥ﻫ بدأت سلسلة من المشاحنات والخصومات بين ملوك بني أيوب؛ كان الملك الصالح
من
ناحية، وأخيه العادل بن الكامل، وعمه الصالح إسماعيل، وابن عمه الملك الناصر داود بن
الأشرف من ناحية أخرى، وكان الخلاف شديدًا قاسيًا بينهم — كما حدثنا به المؤرخون
وأطنبوا فيه — فطَوْرًا كان يتفق الملك الصالح إسماعيل مع الملك الناصر والملك العادل
ضد
الصالح أيوب، ويُهزم الملك الصالح أيوب ويُسجن في الكرك، ثم يتفق مع الملك الناصر داود
ضد العادل والصالح إسماعيل فيُطلق سراحه ويتمكن من امتلاك مصر سنة ٦٢٧ﻫ، ومرة ثالثة
يعترف الصالح إسماعيل بمُلك الصالح أيوب لمصر والشام ويحاربان الناصر داود، ثم يعود
هؤلاء الملوك مرة أخرى لمحاربة الصالح أيوب بمساعدة الصليبيين … وهكذا كانت أحوال هؤلاء
الملوك مضطربةً أَشَدَّ الاضطراب، الأمر الذي أدى بالخليفة العباسي في بغداد إلى أن يبعث
بمحيي الدين ابن الجوزي رسولًا من قِبَله إليهم يدعوهم إلى نَبْذ الخلاف، وإلى وحدة العالم
الإسلامي كما كانت في عهد صلاح الدين، ولا سيما أن خطر التتار كان يدق أبواب البلاد
الإسلامية. فكان ابن مطروح في وسط هذه المعمعة؛ لأنه كان مُشْرفًا على جيش الملك الصالح
أيوب، فلما وَفَدَ ابنُ الجوزي رسولُ الخليفة العباسي صَحِبَه ابن مطروح إلى مصر سنة
٦٣٧ﻫ،
غير أنه لم يمكث طويلًا في مصر لأنه غادرها مع ابن الجوزي إلى الشام، ثم إلى القدس
لمقابلة الملك الناصر داود الذي كان قد استولى عليها، فمدحه ابن مطروح بقصيدة جاء
فيها:
المسجد الأقصى له عادة
سارت فصارت مثلًا سائرَا
إذا غدا للكفر مستوطَنًا
أن يبعث الله له ناصِرَا
ومدحه بمقطوعة أخرى يقول فيها:
ثلاثة ليس لهم رابعٌ
عليهم مُعتمد الجودِ
الغيث والبحر وعَزِّزْهُمَا
بالملك الناصرِ داودِ
وفي سنة ٦٣٩ﻫ عاد ابن مطروح إلى مصر فجعله السلطان ناظرًا على خزائنه، وما زال صاحب
حظوة لديه، إلى أن تَمَلَّكَ الملك الصالح أيوب دمشق سنة ٦٤٣ﻫ فجعل ابن مطروح وزيرًا
له
عليها، ومن ثَمَّ جاءه لقب «الصاحب»، ولم يزل وزيرًا على دمشق حتى سنة ٦٤٦ﻫ؛ إذ وَجَّهَهُ
الملك
على رأس حملة إلى حمص، ولكن جاءت الأنباء بعَزْم الصليبيين على غزو مصر، فاستدعى جيش
حمص
وعاد معه ابن مطروح إلى مصر، وظَلَّ في الخدمة بالرغم من غضب الملك عليه لأمور نُسِبت
إليه، فاضطر ابن مطروح إلى أن يبعث إلى الملك يعتذر ويعاتب في الوقت نفسه:
مَنْ مُبْلِغٌ عني المليكَ الأرْوَعَا
عن عبده يحيى مَقَالًا مُقْنِعَا
يا ابْنَ الملوكِ الأكرمين ومَنْ لهم
هِمَمٌ بها سدوا الفضاءَ الأوسَعَا
وإذا النجوم سَعَتْ لتدرك مَجْدَهُمْ
رَجَعَتْ ولم تَبْلُغ نداهم ضلعَا
أيجوز أن أبقى ببابك ظامئًا
ونداك قد وسِعَ الخلائق أجْمَعَا
ولو ادعيت بأن مالك ناصح
مثلي شَهِدْت بصدق هذا المُدَّعَى
ومع النصيحة فالتخلق بالوفَا
خُلُقٌ خُلِقتُ عليه لا مُتَطَبَّعَا
ومحبةٌ لدمي ولحمي مازَجَتْ
وهوًى حَنَيْتُ عليه مِنِّي الأضلُعَا
ولَطَالَمَا جرَّبْتَني فوجدْتَني
أجدى من الملأ الكثير وأَنْفَعَا
وأَسَدَّ آراءً وأثْقَبَ فكرةً
وأَشَدَّ عارضةً وأَلْطَفَ موقعا
ولَكَمْ ليالٍ بِتٌّ في ديجورها
للَّه أدعو خاشعًا متضرِّعَا
حتى رأيتُكَ فوق كسرى رِفعةً
ورأيت دونَكَ في الجلالة تُبَّعَا
فعلامَ بَعْدَ الإصْطِفَاءِ نَبَذْتَنِي
نَبْذَ النواةِ بقول واشٍ قد سَعَى
وسَمِعْتَ في حقي كلامَ مَعاشرٍ
أقصى مُنَاهم أن أَبِيَت مُضَيَّعَا
حق العزول بأن يقول فيَفْتَرِي
لكنْ أُجِلُّكَ أن يقولَ فتَسْمَعَا
إن كُنْتُ خنْتُك ظاهرًا أو باطنًا
فخَسِرْتُ دنيائي وآخرتي مَعَا
أأودُّكم من عنفوان شبيبتي
وأحول إذْ عَهْد الشبيبة ودَّعَا
٦٧
وكان مع الملك في المنصورة أثناء الحملة الصليبية على دمياط، ولكن توفي الملك الصالح
في ١٥ شعبان سنة ٦٤٧ﻫ، فتَرَكَ ابن مطروح خدمة الدواوين مُكرهًا، وعاش في منزله بعيدًا
عن
أي عمل لمدة عامين ساءت فيهما صِحَّتُه، وضعف بصره حتى كاد يفقده، وساءت حالته المالية،
وظَلَّ
كذلك إلى أن مات في شعبان سنة ٦٤٩ﻫ. وشِعْر ابن مطروح ضعيف في جُمْلَته، ويظهر أن حياته
السياسية قد غَلَبَتْ عليه فلم يتفرغ لفن الشعر يُجَوِّده ويتقنه كما كان يفعل غيره،
ومع ذلك
كله فله بعض لمحات نستطيع أن نُثْبِتَ فَنِّيَّته فيها، فمثلًا في قوله مُتغَزِّلًا:
إن قِسْتهُ بالبدر ما أَنْصَفْتهُ
أو بالغزال وَجَدْته مَظْلُومَا
هذا نبي الحُسْنِ جاء فَكُلُّكُمْ
صَلُّوا عليه وسَلِّمُوا تسليمَا
٦٨
ومثل هذه المقطوعة الغَزَلية التي تَحَدَّثْنا عنها سابقًا والتي مطلعها:
هزوا الخدود وأرهفوا سُمر القنا
واستبدلوا بَدَلَ السيوفِ الأعينَا
ولا ندري لماذا لم يُنشد ابن مطروح شعرًا في جمال دمشق وغوطتها كما فَعَلَ غيره من
الشعراء الذين أشادوا بها، ولكن الظاهر من حياة ابن مطروح أنه لم يكن على وفاق مع
الدمشقيين، فلم يتصل بشعرائهم وأدبائهم، ولم يُحَدِّثْنَا عنهم في ديوانه إلا في بيتين
هما:
تَخِذْتُمُ السبتَ يَوْمَ عِيدٍ
وهذه سُنَّةُ اليهودِ
فالشاعر يُعَرِّض بهم وبتاريخهم في مناصرة الأمويين وخاصة يزيد بن معاوية، ولا شيء
غير
ذلك عن دمشق التي كان وزيرًا فيها، كذلك نقول عن الطبيعة في مصر، فهو لم يتحدث عنها
بشيء وكأن جمال الطبيعة لم تؤثر عليه.
من ناحية أخرى كان الشاعر في بعض مقطوعاته يميل إلى ناحية الزُّهد، وكأنه تأثر
بالصوفية الذين كَثُرُوا في عهده، فهو يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى في خشية ووَجَلٍ،
فمن
توسلاته إبان مِحْنَتِه الأخيرة يقول:
يا مَنْ علا في مُلْكِهِ فاقْتَرَبْ
ومَنْ بدا مِنْ نوره فاحْتَجَبْ
ومن هو القصد لأهل النُّهى
والمطْلبُ الأسنى وكل الأرَبْ
عوَّدْتَنِي الأُنس فلا تَنْسَنِي
وهَبْنِيَ الرحمةَ فيما تَهَبْ
ونفحةً من نفحات الرضى
تُطْفِئ عني لفحات الغضَبْ
وقد قدِمْتُ اليوم يا سيدي
عليكَ ضيفًا آخذًا بالحسَبْ
أو قوله:
يا مَنْ لديه الجميل مَوجُودُ
وكل خيرٍ لديه معهودُ
وهْوَ على كل شدة ورخى
بألسُن الخلق وهْو محمودُ
امْنُنْ على عبدك الفقير بما
ينْعِشُهُ اليومَ فهْو مجهودُ
وقد مَدَدْنَا إليكَ أيدينا
لا خُيِّبَتْ والكريم مَقْصُودُ
٧١
ويقول ابن خلكان: «وكانت خِلالُهُ حميدةً، جَمَعَ بين الفضل والمروءة، والأخلاق المرضيَّة،
وكان بيني وبينه مودَّة أكيدة، ومكاتبات في الغيبة، ومجالسات في الحضرة، تُجرى فيها
مذاكرات أدبية لطيفة.»
٧٢ ومدحه الشاعر أبو الحسين الجزار بقصيدة منها:
هو ذا الربْعِ ولي نَفْسٌ مشوقَهْ
فاحبس الركب عسى أقضي حقوقَهْ
فقبيح بيَ في شَرْع الهوى
بَعْد ذاك البِر أن أرضى عُقُوقَهْ
لست أنسى فيه ليلاتٍ مَضَتْ
مَعَ مَنْ أهوى وساعاتٍ أنيقَهْ
ولئن أضحى مجازًا بعْدَهُمْ
فغرامي فيه ما زال حقيقَهْ
يا صديقي والكريم الحر في
مثل هذا الوقت لا ينسى صديقَهْ
ضَعْ يدًا منك على قلبي عسى
أن تهدي بين جنبي خفوقَهْ
فاض دمعي مُذ رأى رَبع الهوى
ولَكَمْ فاض وقد شام بروقَهْ
تعد اللؤلؤ من أدمعه
فغدا يُنْثَرُ في الترب عقيقَهْ
قف معي واستوقف الركب فإنْ
لم يقف فاتركه يمضي وطريقَهْ
فهي أرض قَلَّمَا يلحقها
آمل والركب لم أعدم لحوقَهْ
طالما استجليت في أرجائها
من يتيه البدر إذ يُدعى شقيقَهْ
يفضح الورد احمرارًا خدَّهُ
وتود الخمر لو تشبه ريقَهْ
فيه الحُسن خليق لم يزل
والمعاني بابن مطروحٍ خَلِيقَهْ
٧٣