مدارِس الشعر
رأينا في دراستنا للشعر في العصر الفاطمي أن الشعراء كانوا موزَّعين بين اتجاهات فنية مختلفة، وكل جماعة اتخذوا مذهبًا في الفن يختلف عن مذهب الجماعة الأخرى، مما جَعَلَنَا نقسمهم إلى مدارس فنية كان أبرزها:
(١) مدرسة شعراء العقائد
وهؤلاء هم شعراء المدح الذين ظَهَرَتْ في أشعارهم المصطلحات والعقائد الفاطمية، واستخدموا ذلك كله في مدح الأئمة، مما جعل شعراء هذه المدرسة تتمايز بتلك الصفة الخاصة عن غيرهم من شعراء العصر، كانوا مضطرين إلى أن يلائموا بين هذه المصطلحات وبين الألفاظ الضخمة التي استخدَموها في شعرهم؛ فجاء شعرهم فيه من غريب المصطلحات ومن غريب الألفاظ ما أدى أحيانًا إلى شيء من التعقيد، وإلى أن يكون كلامهم أقْرَبَ إلى النظم في أغلب الأحيان. استمرت هذه المدرسة بعد العصر الفاطمي — أي في عصر الأيوبيين — بالرغم من أن الشعراء لم يكونوا من الشيعة، وأن الممدوحين لم يكونوا أئمة الشيعة — على نحو ما أَظْهَرْنَا ذلك في فصل الشعر والتشيع وفصل الشعر والتصوف من هذا الكتاب — فالعقائد الفاطمية استمرت مصطلحاتها في شعر المدح، غير أن مدلولاتها تحولت وتطورت إلى غير ما كانت تُعْرَف به في عصر الفاطميين، والشعراء الذين تحدثوا بهذه المصطلحات خضعوا لنفس المؤثرات الفنية التي كانت عند الشعراء الفاطميين — وقد تحدثنا عن ذلك بما فيه الكفاية — غير أن شعراء هذه المدرسة في العصر الأيوبي كانوا قِلَّة ولم يختصوا بتلك المدرسة، ولم يوقفوا شعرهم على هذا النحو من الفن، إنما كانوا يُلِمُّون بخصائص هذه المدرسة إلمامًا هيِّنًا على نحو ما رأيناه عند ابن النبيه وابن سناء الملك وغيرهما.
(٢) مدرسة الرقة والسهولة
فقد اهتم شعراء هذه المدرسة اهتمامًا خاصًّا بالمقدمات الغَزَلية في قصائدهم التي قصدوا بها إلى موضوعات الشعر المختلفة، كما أكثروا من الغَزَل وأطالوا فيه، وقد رأى أصحاب الطريقة الغرامية تناسُب شطري بيت الابتداء، فإن كان الشطر الثاني من مطلع القصيدة ليس من جنس الشطر الأول اعتُبِرَ ذلك الطريق الغرامي. ويروى أن ابن سعيد المغربي في زيارته لمصر اجتمع بالبهاء زهير وسأله أن يرشده السبيل إلى الطريقة الغرامية هذه، فوجهه البهاء لقراءة بعض دواوين الشعراء على أن يراجعه بعد ذلك، فغاب ابن سعيد مدة أكثر فيها من قراءة هذه الدواوين إلى أن حَفِظَ أغْلَبها، ثم اجتمع بعد ذلك بالبهاء زهير وتذاكَرَا في الغراميات، وفي غضون حديثهما أنشد البهاء:
وقال: أشتهي أن يُكْمَلَ هذا المطلع، ففكر ابن سعيد قليلًا ثم قال:
فقال البهاء: والله حسن، ولكن الأقرب إلى الطريق الغرامي أن تقول:
فأنت ترى كيف جعل البهاء زهير الشطر الثاني من البيت ليس من جنس الشطر الأول، ثم لعلك لاحَظْتَ هذه الألفاظ الرقيقة اللينة التي تألف منها البيت بشطريه. وعلى هذا النحو سار شعراء مدرسة الرقة والسهولة في العصر الأيوبي على نفس النحو الذي كان يسير عليه شعراء هذه المدرسة في العصر الفاطمي، بل ازدادت رِقَّتُهم وسهولتهم، حتى وهم بعض الباحثين إلى أن شِعْرَهم هو شعْرٌ شعبي مليء بالألفاظ العامية. والحقيقة أننا لا نجد لفظة عامية واحدة في هذه المجموعة من الأشعار التي حُفِظت لنا عن هذا العصر، ولكن سهولة ألفاظ الشعر جَعَلَت الباحثين يتوهمون هذا الوهم ويدَّعون الشعبية في شعر البهاء زهير وغير البهاء زهير. وشعراء هذه المدرسة تحدثوا في جميع الموضوعات التي عَرَفَها الشعر، فها هو البرهان إبراهيم بن الفقيه المتوفى سنة ٦٤٠ﻫ يقول:
فلعلك تلاحظ كيف لانت ألفاظ هذه المقطوعة وسَهُلَت، حتى كأن الشاعر إنما يتحدث حديثًا عاديًّا بألفاظ اعتادها كل يوم، مع ما في المقطوعة من موسيقى أتت من اختيار تلك الألفاظ اللينة واستعمالها هذا الاستعمال الفني الخاص. ثم إننا لا نجد في هذه المقطوعة من التلاعب اللفظي ما يدل على أن الشاعر أراد الصنعة، فجرى الشعر سهلًا بسيطًا على هذا النحو. ومن هؤلاء الشعراء أمين الدين بن أبي الوفاء المشهور بابن العصار، وكان من شعراء الملك الكامل بن العادل، فهو يقول مثلًا في إحدى مقطوعاته:
في هذه المقطوعة نرى عاطفة الشاعر الرقيقة تنبعث من هذه الألفاظ السهلة الرقيقة، مما يجعل لها وقعًا خاصًّا في كل قلب، كما تلذ لها الأُذن لِمَا فيها من موسيقى.
وقال هبة الله بن عرام:
وها هو الشاعر النفيس — وهو أبو العباس أحمد بن أبي القاسم المتوفى سنة ٦٠٣ﻫ — يقول في مقطوعة له يمدح بها الأمير جلدك والِيَ دمياط:
لعل أهم ما يلفت النظر في هذه المقطوعة رقة ألفاظها، وحُسن التخلص إلى الغرض من القصيدة وهو مدح الأمير جلدك، فقد وُفِّقَ الشاعر إلى ذلك توفيقًا يدعو إلى الإعجاب بفنه.
وأصحاب هذه المدرسة اتخذوا لأنفسهم المقطوعات القصيرة بدلًا من القصائد الطويلة، لذلك نرى أكثر الشعر الأيوبي الذي قاله شعراء الرقة والسهولة من نوع المقطوعات، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنهم كانوا يُنْشِدون لأنفسهم ولأصدقائهم في مناسبة خاصة من المناسبات التي يريدون بها تسجيل عاطفتهم وشعورهم، فتركوا طريقة الشعر التقليدي القديم — أي هذا الشعر الذي كان يُنشَد للملوك والأمراء في حفلات أو في البلاط — ولهذا لم يجدوا ضرورة إلى أن ينشدوا المطولات واكتفوا بهذه المقطوعات. وأكبر دليل على ذلك أن الشاعر البهاء زهير كان من شعراء مدرسة الرقة والسهولة، ولكنه عندما كان يمدح، وكان مضطرًّا أحيانًا إلى أن يتخذ الطريقة التقليدية القديمة، ويطيل في قصائده، ويتخذ في كثير من الأحيان التفاعيل الطويلة، وهنا تظهر شخصية الفنان المُقلِّد الذي يختلف في أكثر الأحوال عن شخصية الشاعر المطبوع الذي يَصْدُر فَنُّه عن وَحْيه وإلهامه لا عن تقليد وتَصَنُّع. فمن أمثلة قول البهاء في الرقة هذه المقطوعة — وما أكثر مقطوعاته التي تدل على ما نريد:
فلعل هذه المقطوعة التي تدخل في باب الانسجام عند أصحاب البديع، تَدُلُّنا على مدى رقة هذا الشاعر وسلاسته، وكيف سَهُلت تراكيبه وعَذُبت ألفاظه، فالبهاء زهير أحد الذين عُرِفوا بهذا اللون من الشعر عند القدماء وعند المحدثين، واقرأ له مرة أخرى هذه المقطوعة:
فهذه السهولة توهم القارئ لأول مرة أنه يستطيع أن يأتي بمثلها، ثم لا يلبث أن يراها ممتنعة، فهي نوع من الموسيقى العذبة، ومن الانسياب الطريف، والبساطة في التعبير التي هي عندي عين الجمال الفني، تلك البساطة التي وَهِمَ كثير من الباحثين فذهبوا إلى أنها شعبية.
البهاء زهير (٥٨١ إلى سنة ٦٥٦ﻫ)
أبو الفضل زهير بن محمد بن عليِّ بن يحيى بن الحسن الأزدي المهلبي المعروف ببهاء الدين زهير.
وُلِدَ في ٥ ذي الحجة سنة ٥٨١ﻫ في وادي نخلة بالقرب من مكة في أسرة عربية أصيلة تنتسب إلى قبيلة الأزد، ويقال إنه من نسل المهلب بن أبي صفرة ولذلك يُعرف بالمهلبي، وبالرغم من هذا النسب الرفيع فإن البهاء زهير لم يَذْكُر نِسْبَته هذه في شعره. ولم يصلنا شيء عن نشأته في الحجاز إبان طفولته ولا عن أسرته؛ إلا أنه ترك الحجاز صغيرًا إلى مصر فاستوطن مع أسرته مدينة قوص بصعيد مصر، ورحلته إلى مصر غامضة أَشَدَّ الغموض، فلم يتحدث أحدٌ من المؤرخين عن سبب هجرة أُسْرَتِهِ من الحجاز، ولم يُحَدِّثْنَا هو نفسه بشيء عن ذلك، فلم يَرِدْ في ديوانه أَيَّةُ إشارة عن سَبَبِ هذه الهجرة ولا متى كانت، والباحثون الذين تحدثوا عن البهاء زهير يذكرون دائمًا أنه كان يحن إلى وطنه الأصلي بالحجاز، وأنه أنشد في ذلك يقول:
ويُحدثنا المؤرخون أن البهاء بدأ حياته العملية في مدينة قوص أيضًا، إذ عَمِلَ كاتبًا في ديوان ابن اللمطي، وقد هنأ ابن اللمطي عندما تولى الأعمال القوصية سنة ٦٠٧ﻫ بقوله:
وتُعد هذه القصيدة أول مدحٍ له؛ ولذلك نراه فيها شاعرًا مقلدًا في صوره ومعانيه، متخذًا نفس المنهج التقليدي للمديح، فهي تمثل طورًا من أطوار حياته الفنية هو ذلك الطور الذي يَمُرُّ به كل فنان في شبابه. واستمر البهاء زهير على صلته بابن اللمطي، ويظهر أنه اتصل في ذلك الوقت بالشاعر ابن مطروح، وتَوَطَّدَتْ الصداقة بين الشاعرين — تلك الصداقة التي استمرت طول حياتيهما. وفي هذا الطور مَدَحَ الملك العادل أنشده قصيدة بقلعة دمشق سنة ٦١٢ﻫ، كما أشاد بانتصار الملك الكامل في موقعة دمياط سنة ٦١٨ هجرية والتي فيها يقول:
كذلك نقرأ له في ديوانه مدائحه في الأمير جلدك، والملك المسعود صلاح الدين، والملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل وغيرهم، ومعنى ذلك أنه لم ينقطع إلى الأمير مجد الدين بن اللمطي، بل اتصل بغيره من الملوك والأمراء يبيع لهم مدائحه ويتقرب إليهم. وهو مع ذلك كله لم يزل يعمل في ديوان مجد الدين بن اللمطي، حتى حَدَثَ ما أغضب منه الأمير، فأخذ البهاء يعاتبه معتذرًا حينًا، ويتوسل إليه متذللًا حينًا آخر. ثم نراه ينتقل إلى القاهرة ويعمل في ديوان الملك الصالح نجم الدين عندما كان ينوب في حكم نصر عن أبيه الملك الكامل، وعندما انتقل الملك الصالح إلى الجزيرة استصحب معه كاتبه البهاء زهير. ولما حدث هذا الشقاق بين ملوك الأيوبيين بعد وفاة الملك الكامل — وقد ذكرنا شيئًا عنه في حديثنا عن ابن مطروح — ظل البهاء زهير وفيًّا لمخدومه الملك الصالح، وظل مقيمًا بمدينة نابلس طوال المدة التي سُجِنَ فيها الملك الصالح بالكرك، وبعد عودة الصالح إلى مصر عاد البهاء زهير معه وأصبح رئيسًا لديوان إنشائه، ولُقِّبَ بالصاحب أيضًا بالرغم من أن هذا اللقب كان من ألقاب الوزراء، ولكن مرتبته كانت تضارع مرتبة الوزراء ولذلك لُقِّبَ بهذا اللقب.
فهذه إشارة إلى فرقة الصوفية المنسوبة إلى الرفاعي، وقد عُرِفَ عن هذه الفرقة أنهم يبلعون قطع النار. ويتهكم مرة أخرى على الصوفية فيقول:
أما ثقافته فيُخيل إليَّ أنه كان مُلِمًّا بكثير من الشعر القديم، فحينًا كان يُضمِّن قصائده أشطُرًا من الشعر القديم مثل قوله:
فهذا الشطر الأخير هو مطلع قصيدة المتنبي المشهورة. وقال أيضًا:
فالأصل في هذين البيتين قول امرئ القيس:
وفي إحدى قصائده في مدح النصير بن اللمطي يقول:
فهذا كله يدل على أن البهاء زهير كان مُلِمًّا بأشعار زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان وبأشعار حسان بن ثابت. ومرة أخرى يَذْكُر ذا الرمة، وكعب بن الإيادي وحاتم الطائي، فيقول:
ويُحَدِّثُنا عن الفرزدق وجرير فيقول:
ويذكر بثينة وجميل فيقول:
ويذكر النابغة والحطيئة بقوله:
ويُضَمِّن الشطر الثاني من بيتٍ للمتنبي:
فقال البهاء:
ثم انظر إلى هذه المقطوعة فهو يقول:
وسنرى في عصر المماليك تأَثُّر أكثر الشعراء بالبهاء، وبمعنًى آخَرَ بمدرسة الرقة والسهولة.
(٣) شعراء مدرسة الكُتاب
وبالرغم من ذلك كله، فإن مدرسة الرقة والسهولة تقابلت مع مدرسة الكُتاب، وامتزجتا امتزاجًا لافتًا عند كثير من الشعراء الذين جمعوا بين المذهبين، فنجد في شعر ابن المرصص، وابن عرام، وابن ظافر، والأسعد بن مماتي ما يجعلنا نقول: «إن تطورًا جديدًا قد ظَهَرَ في الشعر في هذا العصر. هذا التطور هو نتيجة لتغَلُّب الطبع مع الميل إلى الزُّخرف اللفظي، وكان هذا التطور مصدرًا لما نراه عند شعراء أواخر العصر الأيوبي وأوائل العصر المملوكي من فن جديد نراه عند الجزار، والحمامي، والسراج … وغيرهم من الشعراء.»
القاضي الفاضل (٥٢٩–٥٩٦ﻫ)
ونحن نعلم أن العادل ولي الوزارة من سنة ٥٤٨ﻫ حتى سنة ٥٥٠ﻫ، ففي هذه المدة عُيِّنَ القاضي الفاضل كاتبًا بديوان الإنشاء مع أستاذه السابق ابن الخلال رئيس الديوان. ويُخيل إليَّ أنَّ حَسَدَ زملائه الكُتابِ الآخرين له ازداد — وهم الذين رأيناهم يحقدون عليه ويحسدونه — لأنهم لم يَبْلُغوا ما بلغه هو في فن الكتابة، شأنهم في ذلك شأن ما يكون دائمًا بين أرباب المهنة الواحدة والعمل الواحد، وأنهم اتخذوا من خلقة القاضي الفاضل المشوهة مجالًا لنكاتهم ونوادرهم، فقد كان الفاضل أحدب أوقص قصيرًا، وهو الذي كان يقول عن نفسه — وقد دخل حمَّامًا ذا قبة:
ويقول شاعر آخر — قيل إنه ابن سناء الملك، ولكني أستبعد أن ابن سناء الملك يقول هذه المقطوعة في وَلي نعمته وأستاذه القاضي الفاضل:
فهذه القصة إن دلت على شيء، فإنما تدل على مدى شعور القاضي الفاضل بمُركب النقص من تكوين جسده، وربما كانت هذه الحالة النفسية سببًا في أن يذهب القاضي الفاضل في فنه الأدبي إلى هذا النحو الذي رأيناه من شدة الميل إلى الزُّخرف والزينة، كما كانت سببًا فيما عُرِفَ عنه من حدة الطبع.
فمهما كانت المبالغة شديدة في هذا القول، فإنه يدلنا على مقدار ما كان يُكِنُّه صلاح الدين من اعتزازٍ برأي الفاضل وفَنِّه؛ حتى أصبح الفاضل هو المدبر الأول للبلاد وحاكمها الفعلي. ويغلب على الظن أن ما قام به القاضي الفاضل من تدبيرات للقضاء على الدولة الفاطمية إنما كان من قبيل الانتقام لما حدث لأبيه ولما قاساه هو من رجال الدواوين، فهو لم ينسَ أن الفاطميين صادَروا أموال أبيه وعذَّبوه حتى مات، ولم ينسَ هِجاء الكُتاب وأصحاب الدواوين له وتندرهم به ومحاولتهم الإيقاع به، وكيف صَبَرَ على ذلك كله حتى واتته فرصة الانتقام فلم يتردد في انتهازها، وكان انتقامًا رهيبًا حقًّا بالرغم مما عُرِفَ عنه من أنه لم يكن يحب الانتقام من أحد.
بلغ القاضي الفاضل في عهد صلاح الدين وابنه العزيز ما لم يَبْلُغْه أحد من قبل، إذ كان المستشارَ الأول لصلاح الدين في سياسته الداخلية في البلاد التي أخضعها لسلطانه، وفي سياسته الخارجية مع الدول الأخرى، وقد أخلص في عمله الإخلاص كُلَّه؛ حتى أجمع المؤرخون على أنه كان غيورًا على مصلحة مولاه صلاح الدين، وعلى مصلحة الشعب نفسه. كان يعمل جهْدَهُ لإعلاء كلمة المسلمين ورَفْع شأنهم أمام الصليبيين المغتصبين، ولا غرو في ذلك، فقد وُلِدَ ونشأ بفلسطين مجاورًا للإمارات الصليبية، وعاش بالقرب من هؤلاء المستعمرين الأوروبيين، وشاهَدَ عن كثب ما قاساه المسلمون على أيدي الطغاة، فشعر بآلام إخوانه في العروبة والدين، وهو الرجل الذي عُرِفَ بدقة إحساسه ورقة شعوره، فأخذ يفكر كيف يُخَلِّص المُعذَّبين مما هم فيه، ودبَّر لصلاح الدين سبيل الانتصار؛ فكان — والحق يقال — رشيدًا في كل نصائحه التي بعث بها إلى السلطان. ولا تزال أكثر هذه النصائح محفوظًا في رسائله التي وَصَلَتْنَا، مما جعلني أعدُّ رسائله وثائق تاريخية عن هذا العصر؛ بالرغم من أن أكثر المؤرخين لم يأبهوا بها زعمًا بأنها من اختصاص مؤرخي الآداب! فهذه الرسائل كانت أقوى سببًا في أن يَجِدَّ صلاح الدين في حروبه، وفي تحمُّل أعباء الجهاد والصبر عليها بعد أن وَثِقَ من أن بلاده في يد رجل أمين مُخْلِص، فلا غرابة بعد ذلك أن نقرأ ما قاله صلاح الدين من أنه فَتَحَ البلاد بكلام القاضي الفاضل ونصائحه.
ونقرأ له مقطوعة أخرى يصف فيها مهارته البلاغية في الترسل:
فلا نجد فيها سوى هذا التكلف البغيض والصناعة اللفظية التي يتعسف الشاعر فيها، ومع ذلك كله فإنا نرى له بعض مقطوعات لا نشك في صدورها من فنان ماهر في صناعة الشعر، فمن ذلك هذه الأبيات التي يستشهد بها البلاغيون في التورية:
أو قوله في مدح الوزير شجاع وزير الفاطميين:
وهكذا كان الفاضل في بعض مقطوعاته شاعرًا، ولكنه لم يبلغ في الشعر ما بلغه في النثر. بيد أني أريد أن أشير هنا إلى ناحية من فن الفاضل فَطِنَ لها القدماء من النقاد، وهي ناحية إسرافه الشديد في المبالَغة التي ظهرت في شعره وفي نثره، وأنَّ مَنْ كان حوله من الشعراء اقتَدَوْا به وساروا على نهجه، وما قاله النقاد في ذلك حَقٌّ لا مِرْيَة فيه، غير أني أقول: «إن المبالغة في القول ليست جديدة على مصر والمصريين، بل هي من أخص خصائص الشخصية المصرية في كل عصورها، فنحن نجد هذه المبالغة في الشعر المصري وفي الكتابة المصرية في جميع العصور، وإلى الآن نرى المثل العامي: «يعمل من الحبة قبة» دليلًا واضحًا على ما وَصَلَتْ إليه المبالغة المصرية وتغلغلها عند المصريين جميعًا. وربما أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن المصري مُبالِغ في كل شيء، فهو يغالي في مسكنه وملبسه، ويبالغ في أفراحه وأحزانه، ويُسْرِف في آماله وتشاؤمه، وحياتنا الاجتماعية في مظاهرها المختلفة واضحة أمام أعيننا نستطيع أن نتعرف منها هذا الغلو في كل شيء. فإذا كان القاضي الفاضل قد بالَغَ في نَثْرِه وشِعْرِه فهو لم يأتِ بشيء جديد على مصر، إنما كان يُعَبِّر عن طبيعة الحياة المصرية، كما عبر عنها غيره من الشعراء والكُتاب الذين أسرَفوا في المبالغة أيضًا.»
ويحاول بعض الباحثين المحدثين أن يعزوا التعقيد في شعر القاضي الفاضل وشدة ولعِهِ بالزينة اللفظية إلى أنه نشأ في بلد غير مصر، ولكننا ذَكَرْنَا من قبل أنَّ ما ذهب إليه القاضي الفاضل إنما أُخِذَ عن الفن المصري الذي كان قبل الفاضل، وأنه كان تلميذًا للمصريين فيما ذهب إليه.
الأسعد بن مماتي (سنة ٥٤٤–٦٠٦ﻫ)
فبادر الخطير بن مماتي هو وأولاده وأسلموا على يد الوزير، فعفا الوزير عنه وأمَّره على ديوان الإقطاعات مدة، ثم صَرَفَهُ بعد ذلك، فهجاه الوجيه ابن الذروي بأبيات منها:
وكان الخطير يتغزل في ابن النحال وزير الملك العادل، وكان أيضًا قبطيًّا وأسلم، فمن قوله فيه:
وكان ابن النحال يسكن في أول درب نور الدين، وكان في آخر الدرب صبي جميل الوجه نصراني يُعْرَفُ بابن زنبور، فقال في ذلك الخطير:
وله في غلام قبطي أيضًا:
ومن قول الخطير في مدح صلاح الدين الأيوبي:
فهذه القصيدة تدلنا على دقة حِسِّ هذا الشاعر ورقة شعوره، وعلى حُسن اختياره للفظ الذي يتلائم فيه المعنى مع الموسيقى. ثم هذه التشبيهات الكثيرة التي تعطينا صورًا مختلفة لهذا العاشق الذي فارقه حبيبه، فهو مِنْ وَجْدِه في أنينٍ وزفرة، وفي سهاد كأن عيونه لم يُخلق لها جفون، وتشبيهه ظلام الليل وقد انتشر في الأفق بينما لاح القمر في السماء في وسط هذا الظلام بوجه الحبيب عندما يُسْفِر وقد أحاط به شَعره الأسود، وهذه الثريا ترنو إلى القمر وكأنها في غيرة منه وجعلتها هذه الغيرة لا تنام، وهذا كوكب سهيل يرتعش وَمِيضُه كأنه خائف مرتاع تساوره الظنون والأوهام، وهذا نجم السها حينما يبدو ويختفي كأنه ذلك الذي يحفظ سِرًّا لا يريد أن يَطَّلِع عليه أحد، وهذا كوكب الجوزاء وكأنه ذلك المقاتل الذي يطعن السماك. كل هذه الصور المختلفة رَسَمَهَا لنا الخطير بن مماتي في تلك الدقة التي تدلنا على أنه كان فنانًا دقيق الحس حقًّا، واسع الخيال، يجيد فنه. ثم انظر كيف تخلص هذا الشاعر في رقة ولباقة إلى الغرض من القصيدة وهي مدح صلاح الدين، فشبه صلاح الدين بالشمس التي لولاها ما كان ينبلج الصباح، كل ذلك صور يتلو بعضها بعضًا في سهولة ورِفْق شأن الفنان المتمكن من فنه.
وتوفي الخطير في ٦ رمضان سنة ٥٧٧ هجرية.
أما الأسعد بن مماتي فقد خلف أباه على ديوان الجيش وتصدر فيه مدة طويلة وأُضيف إليه ديوان المال، واستمر على هذه الدواوين أيام صلاح الدين وابنه العزيز، واختص بالقاضي الفاضل فحظي عنده، وكرم لديه، وأشاع من ذِكْره، ونبه على فضله، وصنف للقاضي الفاضل عدة كُتب باسمه، ومدحه بعدة قصائد منها:
ولعلك لاحظت في هذه المقطوعة هذا التكلف وذلك التصنع الذي ظَهَرَ ظهورًا لافتًا في كل بيت من تلك المقطوعة، فبالرغم من أن الأسعد لم يكن يميل إلى الجناس — كما ذكرنا من قبل — ولكنه هنا اضطر إلى أن يستخدمه؛ لأنه كان يمدح القاضي الفاضل الذي كان يعشق هذا التلاعب اللفظي، فخاطَبَهُ الأسعد بالفن الذي يعشقه. وعلى هذا النحو من الشعر كان ينشد الأسعد كلما مدح الفاضل.
لم يزل الأسعد متصلًا بالأيوبيين وعلى ديوانهم إلى أن وَزَرَ ابن شكر للملك العادل، وكان بين الوزير الجديد وبين الأسعد عداوة قديمة منذ كان الأسعد رئيسًا على ابن شكر، وكثيرًا ما كان يهينه، فحقدها ابن شكر عليه إلى أن صارت إليه الوزارة، فأقبل بكُلِّيَّتِه على الأسعد، وفوض إليه جميع الدواوين لمدة سنة كاملة اطمأن فيها الأسعد إلى هذا الوزير الجديد، ثم أظهر الوزير حقده الدفين بعد مؤامرات دسها عليه، وأَوَّلَ أعمالَ الأسعد تأويلاتٍ نَكَبَهُ على إِثْرِهَا نَكْبة شنيعة، وطالبه بأموال جمة لم يكن له وَجْه فيها، وأخال عليه الجنود فطالبوه وآذوه، وعُلِّقَ في المطالبة على باب داره في الطريق العام إحدى عشرة مرة في يوم واحد، فلما رأى الجند أنه لا يستطيع الوفاء بالمال قيل له: تحيل ونَجم هذا المال، فقال الأسعد: أما المال فلا وَجْهَ له عندي، ولكن إن أُطْلِقْتُ استجْدَيْتُ من الناس، فليس لي بعد ما أخذتموه درهم واحد، فأُطلِق بعد أن قُسِّطَ المال عليه، وبقي مدة قصيرة إلى أن حل بعض القسط عليه فاختفى في مقبرة في القرافة، وأقام هناك مدة عام كامل حتى ضاق الأمر عليه، فهرب قاصدًا إلى الشام، وبينما هو في الطريق لحقه فارس مُجِدٌّ سَلَّمَ إليه مكتوبًا، فإذا هو من الوزير يقول فيه: لا تحسب أن اختفاءك عني كان بحيث لا أدري أين أنت، ولا أين مكانك، فاعلم أن أخبارك كانت تأتيني يومًا يومًا، وأنك كنت في قبور المادرائيين بالقرافة منذ يوم كذا، وأنني اجتزت هناك واطلعت فرأيتك بعيني، وأنك لما خرجت هاربًا عَرَفْتُ خَبَرَكَ، ولو أرَدْتُ رَدَّكَ لَفَعَلْتُ، ولو علمت أنك قد بقي لك مال أو حالٌ لما تركتك، ولم يكن ذنبك عندي مما يبلغ أن أُتْلِفَ معه نفسك، وإنما كان مقصودي أن أدعك تعيش خائفًا، فقيرًا، غريبًا، ممججًا في البلاد، فلا تظن أنك هربت مني بمكيدة صَحَّتْ لك عليَّ، فاذهب إلى غير دعة الله. فعندما قرأ الأسعد هذا الخطاب بقي مبهوتًا إلى أن وصل حلب، وقد أنشد في هذه القصة:
وقال أيضًا إبان محنته:
واتصل هناك بالوزير جمال الدين الأكرم ونزل في داره، وعندما عرف الملك الظاهر بن صلاح الدين خبره أجرى عليه رزقًا دون أن يستعمله، إلى أن توفي بحلب سنة ست وستمائة للهجرة.
ولم يذكر ياقوت كتابين ذَكَرَهُما ابن خلكان: الأول كتاب نظم كليلة ودمنة، والثاني ذلك الكتاب القيِّم: كتاب قوانين الدواوين الذي نشره الأستاذ الدكتور سوريال عطية.
من هذا كله نستدل على أن الأسعد لم يكن شاعرًا فحسب أو كاتبًا من كُتاب الدواوين المالية، إنما كان أديبًا مؤلِّفًا، كما كان سريع البديهة حلو النكتة. أما شعره فهو — مثل شعر القاضي الفاضل — ضعيف في جملته لم يرتفع إلى درجة غيره من الشعراء المعاصرين، وذلك بسبب التكلف الذي اضطر إليه، فانظر إليه وهو ينشد السديد عَلَم الرؤساء ابن رفاعة:
لعلي في غنى عن التعليق على ضعف هذا الشاعر، فصناعته واضحة في القصيدة، غير أن لهذا الشاعر مقطوعات خالية من التكلف وصادرة عن طبيعته نستطيع أن نلمس فيها فنه الطبيعي، فمن ذلك قوله يصف جزيرة الروضة:
وقوله في وصف الخليج:
هكذا نرى جميع شعراء مدرسة الشعراء والكُتاب يضعف شعرهم عندما يتعمدون الزينة والتكلف، ويرق شعرهم عندما يعودون إلى طبعهم.