هذا العصر وثقافته
الجمع بين الأصالة والمعاصرة مشكلة، بل لعلها تكون أعسر المشكلات الثقافية، وأشدها تعقيدًا بالنسبة للبلاد الناهضة — ونحن منها — ولكنها مشكلةٌ غير واردة في البلاد المتقدمة؛ فلا تجد في فرنسا — مثلًا — أو في إنجلترا سؤالًا مطروحًا أمام المفكرين يسألهم: كيف تكون سبيل الناس إلى مركبٍ ثقافي، يجمع بين العناصر الأصيلة من جهة، وخصائص العصر من جهةٍ أخرى، بل لا تكاد تقع عند القوم هناك على علامةٍ واحدة، تدل على قلقٍ يساورهم بالنسبة إلى تراثهم القديم، على حين أن مشكلة المشكلات الفكرية عندنا اليوم، هي هذه:
كيف أصون تراثي ليبقى هذا التراث في حياتي الحاضرة كائنًا حيًّا، لا مجرد أثر من آثار المتاحف؟ ثم كيف يتفاعل هذا التراث نفسه مع مقوِّمات هذا العصر، تفاعلًا يجعلني أحيا الجانبين معًا، بغير تكلُّفٍ ولا تصنُّع ولا ادِّعاء، فأظل عربيًّا كما كنت دائمًا، وأكسب صفة المسايرة لعصري حتى لا أتخلَّف، فيصيبني الركود فالجمود فالموت؟ وليس الأمر في هذا مُقتصرًا علينا — نحن الأمة العربية — وحدنا، بل هو إشكال يتحدى رجال الفكر في جميع البلاد الناهضة كما ذكرت، ولقد حدث لنا منذ نحو ثمانية أعوامٍ، أن تلقَّينا دعوةً من جماعةٍ من أرباب الثقافة في لاهور بباكستان، وجَّهت دعوتها إلى أكبر عددٍ ممكن من البلاد النامية — كما يسمونها — وكان كاتب هذه السطور أحد ثلاثة، ذهبوا موفَدين من مصر لتمثيلها في تلك الندوة الفكرية، وكان الموضوع الرئيسي المطروح للبحث، هو هذا السؤال نفسه: كيف يُتاح لهذه الأمم الناهضة أن تقبل مقومات العصر مع المحافظة على تراثها؟ ما هي أفضل صيغة يجتمع بها العنصران في بلدٍ ما، دون أن يطغى منهما عنصر على عنصرٍ آخر فيمحوه؟ إننا لنشاهد بالفعل بلادًا انمحت ملامحها الأصيلة، فلم يبقَ لها إلا جانب الثقافة الوافدة، دون أن تكون هذه الثقافة الوافدة مُتصلة بطبعها الأصيل، فلا هي عُدَّت بهذا الانصهار بين البلاد المتقدمة، ولا هي استبقت لنفسها طبيعتها؛ لتنعم بطمأنينة النفس على أقل تقدير.
أعود فأقول إن هذه الأزمة الفكرية لا يتأزم بها بلد من البلاد المتقدمة، وتعليل ذلك واضحٌ وبسيط؛ فالحضارة العلمية الجديدة وليدة تلك البلاد، انبثقت من عقول رجالها وقلوبهم، وبالتالي فقد جاءتهم موصولة بماضيهم صلةً طبيعية، حتى لتستطيع أن تتعقَّب هذا الحاضر إلى الوراء خطوةً خطوة، من خطوات التاريخ الذي سارت به تلك البلاد المتقدمة حياتها، فإذا تسلسل الحلقات أمام عينيك واضح، لا يدعوك إلى قلقٍ أو تساؤل! تستطيع أن تسير بادئًا من أينشتين وزمرته من أصحاب الفيزياء النووية الجديدة، وقافلًا إلى الوراء خطوةً خطوة، فإذا أنت مع نيوتن وغيره، أو أن تسير — في دنيا الفنون التشكيلية — بادئًا من بيكاسو وقافلًا إلى الوراء، فإذا أنت مع رجال الفن في عصر النهضة الأوروبية، وقُلْ هذا في كل شعاب الحياة العلمية والفنية، بل قله كذلك في كل ميادين الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي بصفةٍ عامة، وذلك رغم التفاوت البعيد بين ما كان قائمًا في الماضي، وما قد أصبح عليه الأمر في الحاضر، لكنه تفاوت كالذي يكون بين الطفل والرجل، يمكنك تعقُّب العناصر التي هي قوام الرجل الآن، فإذا أنت بعد التحليل أمام الطفل الذي كان، وإزاء هذا النمو الطبيعي لا ينهض أمام الناس إشكالٌ خاص بالتراث، ولا سؤال عما يجب عمله للجمع بين ما هو تراث وما هو معاصر.
لكن الإشكال الضخم هو إشكالنا نحن، والسؤال المُعضِل هو سؤالنا نحن؛ فحضارة العصر ليست من صنعنا، ولا شاركنا في ذلك الصنع بكثيرٍ أو قليل، بل هي حضارةٌ، فتحنا بابنا فإذا هي واقفةُ أمامنا كائنًا عملاقًا متكامل البناء والأجزاء، يريد الدخول في الديار، أو نريد له نحن مختارين ذلك الدخول، فأخذتنا الربكة الشديدة: ماذا أنا صانع بمحتوى بيتي إذا دخله هذا العملاق؟ أؤلقي بذلك المحتوى في البحر؛ ليخلص المكان للوافد الجبار، أم أسارع بإعادة ترتيب المحتوى، بحيث لا يكون ثمة تعارض بينه وبين الزائر الكبير؟ إن شيئًا كهذا يحدث بالفعل حين تشاء المصادفة للواحد منا — إذا كان يحيا في بيته حياةً متواضعة — أن يفجأه زائر عُرف عنه الثراء الضخم أو التحضُّر الحديث، فعندئذٍ تأخذنا ربكة فيما نحن صانعوه بأنفسنا، ليتَّفق الوضع مع منزلة الزائر المُترَف المتحضِّر.
نعم، هذه هي الصورة لما هو قائمٌ في حياتنا الفكرية: في دارنا تراث نعتز به، وفيه انعكاس لخصائص نفوسنا، غير أن حضارةً جديدة تقَّحمت علينا الأبواب، ودخلت بقوادمها، وإن تكن بقية أعجازها ما زالت مُنحشِرة عند أبواب الدخول، ولو كان هذا الوافد الكاسح غير مُرحَّب به بإجماع الرأي، لسهل علينا طرده والقبوع وراء أبوابٍ مغلقة — وقد فعلتْ ذلك بلاد نعرفها — وكذلك لو كان هذا الوافد مقبولًا بحذافيره، ليحل محله ما هو قائم، بحيث يملأ وحده علينا المكان؛ لما تعذَّر علينا أن نُلقي بما تحتوي عليه الدار في ألسنة اللهب ونستريح، لكن حقيقة الأمر هي بين بين؛ فلا بد من تقبُّل الزائر عن رضًى، شريطة أن يتكيَّف لما عندي من مقاعد وأَسرَّة وأوانٍ وصحون.
لست أذكر أن تبادل الرأي في الندوة الثقافية، التي حضرتها في لاهور منذ ثمانية أعوام أو نحوها، قد وصلت في هذه الأزمة الفكرية الحضارية إلى حلٍّ أو ما يشبه الحل، برغم أن عددًا كبيرًا من البلاد الواقعة في مثل هذه الأزمة قد حضر من يمثله، وإني لأرى الأمر أخطر جدًّا من أن يُترك بغير حل، وهو كذلك أخطر جدًّا من أن تُترك حلوله في أيدٍ عابثة، يسهل عليها حل العقدة بقَطعها. ولست أفتري على الله شيئًا من الكذب، إذا زعمت للقارئ بأن هذه المشكلة الفكرية، كادت لا تبرح ذهني يومًا منذ ندوة لاهور، ولقد أوشكت على الوصول إلى حل يرضيني، عرضت أطرافًا منه في مناسباتٍ متفرقة، لو جاز لي أن أضغط هيكله في هذا الفراغ الضئيل، الذي بقي لي قبل أن يتم المقال، لقلت: إن أوضح ما يميِّز العصر هو العلم وتقنياته، هذا أمر لم يَعُدْ محلًّا لاختلاف، فإذا صببنا هذا المضمون العلمي بمميزاته في وعاءين من عندنا، كانت لنا النتيجة التي نريد: أما الوعاء الأول فهو اللغة، فأنقل إلى اللغة العربية نتاج الفكر العصري كما هو، يصبح هذا النتاج عربي القسمات والملامح، وأما الوعاء الثاني فهو قواعد السلوك من تشريعٍ وعُرف، على شرط ألا تتعارض هذه القواعد مع ما تقتضيه علوم العصر على اختلافها، فإن تعارضتا وجب الإبقاء على علوم العصر، وحذف ما تعارض معها من قواعد السلوك، وإني لعلى يقين بأن الأنماط السلوكية الإقليمية المحايدة، بالنسبة لأحكام العلم كافية وحدها، أن تصون للأمة مميزات تميزها من سواها، وبهذا — فيما أتصور — نساير عصرنا بالفكر العلمي، ونميز أنفسنا باللغة، وبهذه الأنماط السلوكية التي نتفرَّد بها.
أقول ذلك بهذا الإيجاز المركَّز الذي لا يشفي غليلًا، وأنا على علمٍ بالصعاب التي تكتنف ملء هذين الوعاءين بمضمون العصر؛ فوعاء اللغة يجد من يصرخون — من العاجزين — بأن تعريب بعض العلوم ضربٌ من المحال، ووعاء السلوك المميز كذلك يجد من يحتجُّون — من الجامدين — بأنه إما أن يبقى لنا قديمنا كله، وإما أن تُلقُوا بعلومكم هذه الجديدة كلها في النار، لكننا بهذه الكلمة لا نخاطب لا هؤلاء ولا أولئك.