قومية ثقافية
يخطئ أفحش الخطأ من يتوهم أن الوطن العربي، الذي ننتمي إليه هو الرقعة الجغرافية وحدها، التي تمتد من الخليج إلى المحيط؛ فذلك ضربٌ واحد من الانتماء، هو الانتماء إلى مكانٍ بعينه، أما الضرب الثاني من الانتماء، وهو الذي بغيره لا تتكامل للمواطن أبعاده الحقيقية، فهو الانتماء إلى خطٍّ زماني معلوم، وأعني به الانتماء إلى تاريخٍ معيَّن، بكل ما تشمل هذه الكلمة من وجوهٍ وأغوار، ولو كان الوجود المكاني وحده يصنع قومية، لجاز أن نقول إن يومنا الراهن، يكفينا دون أمسنا القريب أو البعيد، أما إذا كانت القومية تتألف أساسًا من بُعديْن متكاملَين، هما هذا الوجود الجغرافي الذي تُحدِّده رقعة الأرض، مضافًا إليه وجودٌ زماني، يمتد خلف ظهورنا إلى حيث يشاء له تاريخنا أن يمتد؛ فلا مناص عندئذٍ من أن يمتزج الماضي بالحاضر، امتزاجًا لا فكاك لنا منه، مهما تكن طبيعة المواقف التي تعترضنا، وتتطلب منا القرار والعمل؛ فنحن عرب بالمكان والزمان معًا، بالواقع الحاضر، وبالتاريخ الماضي، بالموقع الجغرافي وبالثقافة الموروثة في آنٍ واحد.
فللعربي أن يهاجر إلى أي أرضٍ أراد، لكنه سيظل عربيًّا بثقافته، بتاريخه، كما هو عربي بانتمائه إلى أبويه، وإنه لمن التناقض أن يتشكك مُتشكك، في وجود الصلة الوثيقة بين حاضرنا وماضينا، في الوقت الذي يجري شكه هذا في لغةٍ عربية، لم يخلقها لنفسه صباح اليوم، بل جاءته من ماضيه بمفرداتها وطرائق تركيبها، وليست اللغة رموزًا من نوع الرموز الرياضية المجرَّدة، بل إن كل كلمة فيها مشحونة بفكرٍ ووجدان، تولَّد عن فكر أسلافنا ووجدانهم على طول التاريخ، ولو لم يكن في مفردات اللغة وأساليب تركيبها هذه الشحنة العقلية الشعورية، لما استطاع كاتب أن يُعبِّر بها عن فكرةٍ تراوده، أو عن شعورٍ يختلج في نفسه، فأنت مثقف بثقافةٍ عربيةٍ موروثة، كلما استخدمت اللغة العربية كتابةً وكلامًا.
لقد أوقعتني المصادفة ذات يوم منذ عشرين عامًا، على مجلةٍ كانت تصدرها حينئذٍ جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية — فيما أذكر — فوجدت بها ترجمةً إنجليزية لصفحة، وردت في كتاب لتوفيق الحكيم، وكانت المادة المنقولة متعلقة بموقفٍ تاريخي، أظنه كان من مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأراد المترجم الأمريكي أن يوضِّح المعاني للقارئ، فراح يكتب شروحًا في الهوامش، تُبيِّن الخلفية التاريخية الثقافية، التي لا بد منها للقارئ الأمريكي، حتى يتمكن من فهم العبارة المنقولة، فهالتني كثرة الشروح التي رآها المترجم ضرورية لذلك، فبينما القارئ العربي تكفيه النظرة الواحدة السريعة إلى ذلك النص المنقول فيُلمُّ بمعناه؛ احتاج القارئ الأمريكي إلى عدة صفحات من الشروح الهامشية قبل أن يُلمَّ بذلك المعنى؛ وذلك لأن القارئ العربي ممتلئ بثقافته العربية، امتلاءً قد لا يشعر به في كل لحظةٍ من حياته، لكنه امتلاء يتبدَّى في اللحظة التي يعايش بها الأقدمين، عند النظر إلى شيءٍ من مخلفاتهم التي ورثناها، على أن هذه المخلَّفات الموروثة، ليست ترقيماتٍ ميتةً من مدادٍ مسكوب على ورق، بل هي معانٍ وقيم، فلا يكاد العربي يطالعها حتى تنزو في عقله، وفي قلبه حياةٌ نابضة، يحسُّها هو وإن لم يحسَّها معه سائر البشر أجمعين.
لكننا نسيء الفهم أفظع إساءة، لو ظننا أن هذا البعد التاريخي الثقافي الممدود خلف ظهورنا؛ ليصل حاضرنا بماضينا، من شأنه أن يردَّ الحاضر إلى الماضي، بمعنى أن أعود بكل مشكلات يومي هذا إلى حلول أبحث عنها في عصر مضى؛ إذ الأقرب إلى التصور الصحيح، هو أن تلك الصلة الثقافية التاريخية، من شأنها أن تستحضر ذلك الماضي، حضورًا يواجه العصر القائم، وما تكتنفه من مشكلات، والفرق بعيد بين رجلَين، أحدهما يفتح دفاتر السابقين، بحثًا عن صيغة تصلح لموقفٍ حاضر، وأما الآخر فيرى أن مهمته هي أن يضيف دفترًا جديدًا من عنده إلى دفاتر السابقين، على شرط أن يجيء الجديد في نفس الإطار الذي جاء فيه القديم؛ ليتكون من المرحلتَين تاريخٌ واحد لشعبٍ واحد.
وأعني بالإطار الواحد هنا، وجهة النظر العامة إلى الكون والإنسان؛ فها هنا تكمن أصول القومية الثقافية، التي تتيح للفرد الواحد أن ينتمي إلى أمته العربية انتماءً بالبعد الزمني، كما ينتمي إليها بالوجود في مكانٍ جغرافي ذي حدودٍ أرضية معلومة. وثقافات الشعوب إنما يختلف بعضها عن بعض أساسًا في وجهات نظرها العامة، قبل أن تختلف في تفصيلات تلك الثقافات، فمثلًا قد يكون التصور الأخلاقي عند غيرنا، هو أن مبادئ الأخلاق هي حصيلة خبراتٍ بشريةٍ طويلة، فما قد ثبت بالخبرة الطويلة أنه في صالح الناس، أثبتوه في قائمة الفضائل التي يجب على الأفراد مراعاتها، في سلوكهم العملي خلال حياتهم الجارية، وهي وجهة من النظر تجعل الإنسان جزءًا من الطبيعة لا يعلو عليها، وأما مبادئ الأخلاق في تراثنا نحن الثقافي، فهي مبادئ فُرضت فرضًا على الطبيعة البشرية لتعلو بها وتتسامى، ومعنى ذلك أنه إذا حدث اختلاف بين ما تُمليه علينا الغرائز، وما توجبه المبادئ الخلقية، لم نتردد في أن نجعل لهذه المبادئ أولوية على تلك الغرائز، شيء كهذا هو مما يُكوِّن لنا وجهة عامة للنظر، نرى من خلالها ونحكم، فإذا احتفظنا نحن المعاصرين بالنظرة نفسها التي كانت للأقدمين، كان في ذلك ما يكفي لوصلنا معًا في حياةٍ ثقافيةٍ واحدة، دون أن نلجأ إلى نماذجَ بعينها عند هؤلاء الأقدمين من قولٍ أو من عمل.
إن شر خيانة يخون بها المعاصرون أمانة السالفين، هي أن يُقلِّدوهم تفصيلة بتفصيلة، وموقفًا بموقف، وإنما تصان الأمانة بأن نحافظ على المنظار، الذي يساعدنا على رؤية ما هو دقيق وما هو بعيد، دون أن نتوقَّع رؤية المشاهد نفسها التي كان قد شهدها السابقون بهذا المنظار، فمن الحقائق الحضارية الكبرى أن الحضارة المعينة، إذا ما بلغت درجةً عليا من الكمال، تأخذ في الانحدار إذا ظللنا نحاكي هذا الكمال نفسه كما وقع، ولكنها تطرد في الصعود إلى كمالٍ أوفى، إذا نحن اصطنعنا طريقة السير التي سار بها السابقون، فالزمن تياره دافق، والكائنات في تغيرٍ لا يقف لحظة، وليس أمام الإنسان حيال هذا التيار الجارف من صيرورةٍ وتغير، إلا أن يختار واحدة من اثنتين؛ فإما أن يتقدم مع التيار، وإما أن يذبل ويموت، وإما أن يختار لحركة الزمن «الوقوف» عند خطٍّ حضاريٍّ معين بكل حذافيره، أو «الرجوع» إلى نمطٍ مضى زمانه فذلك اختيار للمحال.
والتقدم مع التيار — كما قلنا — لا يقتضي التنكُّر للماضي ومبادئه، بل إن عكس ذلك تمامًا هو الصحيح؛ لأن ذلك التقدم لا تنتظم خطاه، إلا إذا جاء وفق خريطةٍ فكرية، رسمت على نظرةٍ معينة إلى الإنسان وأهدافه، وهذه النظرة لا تولد عند أصحابها لحظة بلحظة، ولكنها — كالبوصلة عند ربان السفينة — تورث ليكون لها في كل عصرٍ تطبيقٌ جديد.
حاضرنا لا بد أن يكون نسيجًا من قديمٍ وجديد، القديم هو لحمته والجديد هو سداه، وكيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؟ هل يطير الطائر إلا إذا ورث عن أبويه الجناحين؟ وهل يبصر الرائي إلا إذا أمدَّه المسلف بالعينين؟ إن الواحد منا ليسافر إلى بلدٍ في أوروبا أو أمريكا — مثلًا — فتصدمه ضروب من العلاقات البشرية لم يألفها، فيرى الناس يحزنون لما يفرح له هو، ويفرحون لما يحزن له، يراهم يهتفون بأمورٍ لا أهمية لها عنده، ويتجاهلون أمورًا لها كل الأهمية عنده، فكثيرًا ما يعجب لسلوكهم عجبهم من سلوكه، فلكل من الطرفين خريطة حياة تُحدِّد له المواقع وخطوط السير، تختلف عن خريطة الآخر في حياته، وتلك هي الثقافة القومية التي بثت فيها قواعد النظر ومبادئ السلوك، وهي ثقافة لا تولد لقومها بين عشيةٍ وصبحها، بل هي كالشجرة التي لبثت على مر القرون، تبدل أوراقًا بأوراق، كلما دار الحول وجاء الربيع، لكن جذورها ثابتة في الأرض، ما بقيت لها في هذه الأرض موارد الغذاء والسقيا.
وأخطر الخطر أن يحملنا الإعجاب بشجرتنا الثقافية، على أن نجمد أوراقها فوق غصونها، فنلصقها بالصمغ حتى لا تسقط، ونطليها بالأخضر حتى لا تصفرَّ مع الخريف، فالإعجاب بشجرتنا هذه إنما يتحقق على أكمل وجه، لو تركناها تبدل ثوبها مع دوام جذعها وجذورها، فكما أن الداعين إلى حاضرٍ بلا ماض، قد أخطئوا خطأً فاحشًا، فكذلك يخطئ مثل هذا الخطأ من يدعو إلى ماضٍ بلا حاضر، نعم إن التزام الماضي بكل تفصيلاته طريقٌ مأمون من الزلل، لكنه كذلك طريق يسير بالسائر إلى وراء، ليعود به إلى حيث كان الابتداء، وتدفُّق الحياة يوجب على الكائن الحي أن يغامر في الجديد المجهول، حتى وإن عرَّضته المغامرة إلى شيءٍ من خطر، على أن تجيء المغامرة مستندة إلى أصولٍ ثابتة، كقصة الغلام — في الأسطورة اليونانية — الذي أراد ارتياد جبٍّ مجهول، فربط جسده بخيطٍ وجعل أمه على رأس الجب، مُمسكة بالطرف الآخر من الخيط، حتى لا يضل ضلالًا بلا عودة.
ليست الثقافة القومية، أو القومية الثقافية، كومة من أقوال هي أحسن ما قيل، ولا من أعمال هي أفضل ما عمل، ثم ما علينا إلا أن ننكت الكومة لنستخرج منها نموذجًا من قولٍ أو من عمل، بل هي «وجهة نظر»، نستخلصها من تلك الأقوال والأعمال؛ لنسلِّطها على مشهدٍ آخر من عصرٍ جديد.