عصبية عمياء
آرثر كيستلر كاتبٌ يهودي، يصادفك اسمه دائمًا مع الصفوة العليا من رجال الفكر والأدب، كلما اجتمعت هذه الصفوة على هدف تخطط له، كان أول كتاب قرأته له — وكان ذلك في أوائل الخمسينيات — هو «ظلام في الظهيرة»، شدني إليه ما قرأته عنه في مجلات النقد، وهو كتاب يقصُّ فيه، ما كان قد لقيه من تعذيبٍ في سجنٍ سياسي، ثم شاءت لي المصادفات البحتة أن يهديني صديق في موسم من مواسم الأعياد كتابًا، فإذا هو لهذا الكاتب نفسه، وهو «عصر الحنين» الذي أراد أن يُبين فيه كيف أن أبناء هذا العصر، تنقصهم الفكرة التي يؤمنون بها، فتعصمهم من الحيرة والضياع.
قرأت هذين الكتابَين في فترتَين متقاربتَين، ووجدت فيهما قدرة على التحليل والتصوير تستوقف النظر، ولم أكن بعدُ قد عرفت من ذا يكون هذا الكاتب، لكني أخذت أتعقب ما يصدره وما ينشره، وأبحث عما كان قد سبق له أن نشره وأصدره؛ فكان من أهم ما صادفني له، كتاب عنوانه: «اليوجي والقوميسار» — وهو بالطبع يشير باليوجي إلى ثقافة الهند الصوفية، كما يشير بالقوميسار إلى ثقافة الشيوعية المادية — وهو إذ يوازن بينهما، قد جعل إحداهما في طرف، والأخرى في طرف، وبين الطرفين ظلال وأطياف متدرِّجة تأخذ من كليهما، وقد تأخذ من طرف التصوف جانبًا أكبر، وذلك بحسب الظروف التي تحيط بجماعات الناس في مختلف الأقطار، وعرفت أن الكتاب قد أخذ عنوانه من عنوان المقالة الرئيسية بين مجموعة مقالات جُمعت فيه، وكانت هذه المقالة التي عنوانها «اليوجي والقوميسار»، قد صدرت سنة ١٩٤٢م، أي إنها صدرت ورحى الحرب العالمية الثانية دائرة.
و«القوميسار» في هذه المقالة، هو رمز للعقيدة بأن الغاية أهم من الوسائل المؤدية إليها؛ ولذلك فلا ضير في قسوة أو غدر أو تعذيب، إذا كان ذلك يحقق الغاية المطلوبة آخر الأمر، وأما «اليوجي» — في هذه المقالة أيضًا — فيرمز إلى عقيدةٍ مضادة لذلك، إذ يرمز إلى العقيدة بأن الوسائل أهم من غاياتها، فلا بد من حياةٍ مقدَّسةٍ مطهرة من الإثم، مهما تكن النهاية التي تنتهي إليها تلك الحياة، عقيدة القوميسار هي أن إصلاح الأوضاع الخارجية يأتي أولًا، ثم يتبعه بالضرورة إصلاح الحالات النفسية الداخلية، وأما اليوجي فعقيدته هي عكس ذلك؛ إذ إن شوط الإصلاح عنده يبدأ من داخل النفس وينتهي إلى ما هو خارجها من أوضاعٍ ظاهرة، منهاج القوميسار مُرتكز على العقل المنطقي العلمي المنصرف، ومنهاج اليوجي معتمد على الحياة الشعورية الداخلية، الأولوية عند القوميسار هي للجهد الذي تبذله الجماعة مجتمعة، وأما اليوجي فالأولوية عنده هي للجهد الذاتي الخاص الذي يبذله الفرد في رياضته لنفسه.
كان ذلك هو مضمون المقالة كما نشرت أول مرة، لكن الكاتب قد عنَّ له بعد ذلك — في أواخر الستينيات — ألا يكتفي عن حياة الصوفي الهندي بما يقرؤه؛ فلقد أحسَّ إحساسًا قويًّا نبع له من خبرته الشخصية، بأن دعوة «القوميسار» إلى العلم وحده والحياة المادية وحدها، لم تعد تكفي للحياة المتزنة المطمئنة، وتساءل: ترى هل يكون الجانب المفقود هو شيئًا من صوفية الهند، أو قل صوفية الشرق بصفةٍ عامة؟ فما هو إلا أن ارتحل إلى الهند وإلى اليابان، ليرى بنفسه ماذا عند اليوجي الهندي، أو عند اﻟ «زن» الياباني ليعطيه لعلم الغرب وصناعته؟
التقى وهو في الهند بأربعة أقطاب من رجال التصوف، وزار عدة مراكز خاصة بأبحاث اليوجا، وكانت النتيجة التي انتهى إليها أن كل ما عند الهند من روحانية، لا يجدي شيئًا في تخفيف العبء النفسي عن المثقف الغربي، فليس فيها — كما رآها بعينه المتحيِّزة — إلا التخلف والقذارة والمرض، وأما عن اليابان فقد زارها، وهو مفتون بها أول الأمر، لأخذها بأسس الحضارة العصرية، وظن أنه ربما وجد فيها امتزاج هذه الحضارة العصرية بنزعةٍ صوفيةٍ شرقية، فيتحقق له ما أراد أن يجده علاجًا لأمراض العصر، لكنه سرعان ما خاب أمله — هكذا قال — لأنه إذ نفذ ببصره وراء الظواهر المصطنعة، رأى كيف تنصبُّ حياة الياباني في قوالبَ جامدةٍ، وبدل أن تعمل عوامل الحضارة العصرية، التي أخذتها اليابان لنفسها أخذًا سريعًا، بدل أن تعمل تلك العوامل على تحطيم قوالبهم الجامدة تلك، زادتها صلابة وجمودًا؛ لأن الياباني في أعماقه قد خشي على وجوده من الضياع في تيار عصر، لم ينشئه هو، بل أنشأه آخرون، فازداد تمسكًا بقوالب حياته؛ لعلها أن تكون له درعًا واقية تصون ذاته المتميزة عن سواها.
قالها آرثر كيستلر صريحةً، بعد زيارته للهند ولليابان، إنه لم يجد عند صوفية الشرق إلا سخافاتٍ ترتدي ثوب الوقار، وأذكر أني بعد أن قرأت له الكتاب الذي يحمل عنوان «اليوجي والقوميسار»، اشتدت رغبتي في أن أعلم عن شخص هذا الكاتب، ما يصوره لي بدرجةٍ كافية من الوضوح، فمن ذا يكون هذا الرجل الذي لم تعجبه لا شيوعية الشرق الأوروبي، ولا ديمقراطية الغرب الأوروبي، ولا صوفية الهند، ولا نهضة اليابان؟ من ذا يكون هذا الرجل الذي أخذتُ أتتبع مقالاته وأتتبع كتبه؛ فأجد فيها دائمًا الرأي الجريء، الذي يصيب حينًا ويخطئ حينًا، لكنه في كلتا الحالتين قلق لا يستقر على مذهب يرضيه؟ فسرعان ما وجدت حقيقته، في كتابته، هو عن نفسه، وفي كتابات الآخرين عنه، فهو يهوديٌّ صهيوني، يعترف بأن الصهيونية قد جذبته عندما كان في شبابه طالبًا في فينا، فذهب إلى فلسطين؛ ليرى الموقف هناك على الطبيعة كما يقولون، ثم عاد إلى أوروبا واشتغل بالصحافة، متخصِّصًا في العلوم، ولم يلبث أن جاءه الجذب هذه المرة من المذهب الشيوعي، فالتحق عضوًا في الحزب الشيوعي، ولم تمضِ على عضويته عشر سنوات، حتى انقلب عدوًّا للمذهب الشيوعي، وذلك بعد أن ذهب إلى إسبانيا أيام حربها الأهلية — في الثلاثينيات — واشتغل مراسلًا صحفيًّا، وقبضت عليه حكومة فرانكو، وحكمت عليه بالإعدام، غير أن محاكمات التطهير في موسكو أيام ستالين، قد زعزعت عقيدته في الشيوعية، وكتب كتابه «الجلَّادون» وهو لم يزل عضوًا في الحزب، ثم خرج منه فكتب أشهر كتبه «ظلام في الظهيرة»، الذي أشرت إليه فيما سبق، وهنا عاد إلى فلسطين وكانت عندئذٍ قد اغتصبتها «إسرائيل»، فكتب عنها كتابًا.
علمت عن الرجل هذه الحياة المتقلِّبة، التي ترتدي ثوبًا وتخلع ثوبًا، ووراء كل ثوب منها صهيونيةٌ كامنة، فبدأت أقرأ له بعين الشك والحذر، حتى وقعت له على موقفٍ مُتخبِّط أثار في نفسي الدهشة، إن لم يكن الازدراء، برغم كل ما كنت لمسته في أعماله من معرفةٍ غزيرة وذكاءٍ نافذ، ذلك أنه اضطلع منذ مدة — في شهر نوفمبر ١٩٧٣م — بحملةٍ غوغائية في إحدى الصحف البريطانية الأسبوعية، قوامها الدفاع عن الخرافة، أو ما يندرج تحت الخرافة من وجهاتٍ للنظر، فمن ذا الذي يتوقع من رجلٍ، صبغ فكره بصبغة العقل العلمي، ووصف الروحانية الهندية بكل ما وصفها به من زرايةٍ وتحقير، أن يظهر لنا اليوم بروحانيةٍ من الصنف الرخيص، لكنه يعلي من شأنها، ويُروِّج لها؛ لأنها — فيما أظن — من طرازٍ غير شرقي؟! كأن من حقه أن يلتزم علمية النظر، وكأن من حقه أن يأخذ بروحانية الاتجاه، ولكن ليس من حقه أن يلبس منظار العقل العلمي، وهو ينظر إلى صوفية الشرق، وأن يعود فيلبس منظار الرؤية الغربية، وهو ينظر إلى علمية الغرب. ولو قرأت الحكايات التي يعرضها على قرائه؛ ليُثبت لهم بها أن وراء المنطق العقلي مصدرًا تنبع منه المعرفة، لوجدتها من قبيل ما يحكيه عامة العامة من سواد الناس، وعجبت من رجلٍ تنكر بكل عِلْميَّته لروحانية الشرق، يرويها مصدقًا ومحاولًا، أن ينتزع التصديق من قارئيه.
إنها العصبية العمياء، التي تستحسن الشيء وتستهجنه في آنٍ واحد، بحسب المكان الذي تراه فيه، فإن كان عند الأهل والمحبين، كان جميلًا، وإن كان عند الأغراب المبعدين كان قبيحًا! فماذا نقول في حياةٍ فكريةٍ هذا الرجلُ من روَّادها؟