حضارة تأكل نفسها
منظرٌ رأيته ولم أكن قد أكملت العاشرة، وذلك أن رأيت قطةً في ركنٍ من بناءٍ مهجور، تأكل قطيطات لها، كانت ولدتها لتوِّها، أو هي ولدتها لفترةٍ وجيزة سلفت، الصغار من حولها أجسادٌ هلاميةٌ عمياء، آلية الحركات، لم تستقم على سيقانها، ولقد استدارت لها الأم في صوتٍ وحشي غليظ، كأنها انقلبت عندئذٍ نمرًا صغيرًا، وما زالت إلى ساعتي هذه أذكر، كم اختلطت عندي الرغبتان: رغبة الفرار فزعًا، ورغبة الوقوف لأشهد المأساة حتى نهايتها! وأظنني قد سألت الكبار يومئذٍ، فأنبَئوني أنها من طبيعة القطة فلا عجب، لكنني عجبت وما أزال! وأذكر أن تعليلًا لهذه الحقيقة من طبائع القطط، قد صادفني ذات يوم، غير أني نسيت كيف كان.
ذهب عني «مضمون» ذلك المنظر الرهيب، ولكن بقي لي منه «الشكل»، وهو أن يخلق الإنسان لنفسه خلقًا جديدًا، لا لينعم به، بل لتدبَّ في نفسه الكراهية له، حتى لقد تؤدي به إلى أن يفتك بما كان قد خلق وأبدع، وإنها لكثيرة ومنوعة، تلك الحالات التي ينطبق عليها هذا «الشكل»، الذي وعيته منذ طفولتي الباكرة، وإنها لحالات تتفاوت فيما بينها أهميةً وتفاهة، لكنها تشترك معًا في أن ينهش الصانع صنيعته.
والحالة التي أردت اليوم عرضها، تطبيقًا لشكل الهرة تأكل بَنيها، هي إحدى الحالات الهامة والخطيرة، وأعني بها أن يقف أبناء عصرنا لينقضُّوا على حضارته هدمًا وتخريبًا، مع أنهم هم بناتها، ومع أنها حضارة لم تزل بعدُ في طور التكوين ولم تبلغ مداها، ولو أن الانقضاضة جاءت من أبناء العالم المتخلف؛ لقلنا إنها قصة الثعلب الذي لم ينلْ عنقود العنب الناضج، فقال إنه حصرمٌ مرٌّ؛ تعزيةً لنفسه عن فشل أصابه، لكنها انقضاضةٌ تجيء من عددٍ لا بأس به، من أبناء العالم المتقدم، الذين صنعوا للعصر حضارته هذه التي استداروا إليها لينهشوها.
ومن أقرب هذه الصيحات المستنكَرة ظهورًا، مسرحية للكاتب الإنجليزي «إدوارد بوند» اسمها «بنجو» — وهو اسم للعبة تفاجئ اللاعبين بالنتائج العشوائية — ولقد اختار الكاتب مادة لمسرحيته شخصية شكسبير، مبينًا أن هنالك تشابهًا بين ما قد كان في حياة شكسبير من تناقض، وبين هذا التناقض نفسه في حياتنا العصرية الراهنة، وهو تناقضٌ يُباعد بين الأوضاع الفعلية للحياة كما هي واقعة، وبين ما يدَّعيه الدعاة من مبادئ وقيم، وكما حدث لشكسبير من خيبة أمل، أودت به إلى أن يُزهق روحه بيديه، فلا بد أن نتوقع لعصرنا أن يحطم بنيانه بمعاوله.
يقول الكاتب عن شكسبير إنه قد تساءل في مسرحياته عن أمورٍ كثيرة أقلقته وأرَّقته، تمسُّ الأوضاع كما كانت قائمة بين الأغنياء والفقراء، وبين أصحاب القوة ومن لا قوة لهم من سواد الناس، فمن قرأ هذه الكتابة القلقة المؤرَّقة، لم يتوقع من صاحبها أن يسلك سلوك الأغنياء الأقوياء حين تجمع المال بين يديه، بل إن نزاعًا كان قد نشب في بلده، بين من كانوا يملكون الأرض، وأرادوا تسويرها ليردُّوا عنها المرتادين من عامة الشعب، وبين هؤلاء الفقراء الذين أرادوا الانتفاع، وإن لم يطمعوا في امتلاك، فوقف شكسبير في صف المالكين مؤيدًا، لم يقلقه ولم يؤرِّقه أن ينال هؤلاء المُعوِزون، ما نالهم من سجن وتعذيب، وجلد بالسياط وتشويه للأجساد، بل ومن الموت شنقًا، فلعله قد ظن كما ظن سائر الأغنياء الأقوياء؛ أن هذه كلها أمورٌ طبيعية خلقها الله للإنسان.
وكان شكسبير قد ألقى بالقلم من بين أصابعه قبل أوانه، فيتساءل الكاتب: لماذا أمسك شكسبير عن الكتابة؟ إن مثل هذا الإمساك لا يحدث إلا في إحدى حالتين: أُولاهما أن يكون قد أفرغ كل ما في جعبته، ولم يعد لديه ما يقوله، والثانية هي أن يشعر بلذع الضمير، دون أن يملك الإرادة ليغيِّر من سلوكه بما يرضي ضميره، وإنما يلذع الضمير صاحبه، حين يفعل ما يعلم أنه خطأ، وحين يقول ما يعلم أنه كذب. ولقد وقع شكسبير في الكذب وفي الخطأ، وهو عالم بما وقع فيه، والأرجح ألَّا يكون شكسبير قد أمسك عن الكتابة للسبب الأول، وأن تكون العلة هي فراره من ضميره.
ومثل هذا التناقض الفاضح بين القول والفعل، هو ما يُكرِث حضارة عصرنا بأفدح الكوارث، وسيؤدي بها إلى النتائج نفسها، أعني أن يخيب الرجاء فتأكل الهرة بنيها وينتهي الأمر. إننا ننادي بضرورة التعاون والتفاهم بين الأمم، لكن طبيعة العصر تدعو هذه الأمة أن تتنافر وأن تتناكر، وننادي بضرورة أن نلقي إلى عقولنا بزمامنا، لكن طبيعة العصر تدعونا إلى اصطناع اللاعقل وخرافته، وننادي بضرورة السلام، وطبيعة العصر تدعونا إلى القتال أو الاستعداد للقتال، إننا ندعو إلى تحرير الأبدان والعقول، وطبيعة العصر تدعونا إلى أن نجعل المساكن الحديثة أقفاصًا نسجن فيها الأبدان، وإلى أن نجعل من مدارسنا وجامعاتنا أقفاصًا أخرى، تُقيِّد الخيال وتُكبِّل العقل، ندَّعي الديمقراطية، وطبيعة العصر تجعل رقاب الكثرة في قبضة القِلَّة القوية أو الغنية، لقد أمدَّتنا علوم العصر وتقنياته بقوة المارد، لكنها كذلك أمدتنا بأخلاق المارد وأهدافه، وهي أخلاق وأهداف تنطوي على خبثٍ وشر وتدمير، لقد كان التطور التاريخي ينحو بالإنسان، نحو مزيدٍ من التعاطف والرحمة والعون، لكن عصرنا بطبيعة كيانه التقني (التكنولوجيا) يقلب المسار، فيعود بنا إلى مزيدٍ من القسوة والعنف واللامبالاة. لقد بات عسيرًا على الإنسان في عصرنا أن يكون إنسانًا، وانقلبت ملايين المعوزين من البشر، أشبه شيءٍ بقصاصات من الورق ذات بُعدين، أُلصقت على لوحاتٍ خربة. إننا اليوم نشهد أكثر مما شهد الناس قبلنا، ونسمع أكثر مما سمعوا، ونعرف أكثر مما عرفوا، ومع ذلك كله فإن الحياة تبدو لنا اليوم، أقل معنًى مما بدت لإنسان الأمس؛ فلم تعد كثرة المرئي والمسموع والمعلوم، تزيد من قدرتنا على فهم أنفسنا، وفهم العالم من حولنا، فلو كنا أكثر فهمًا، وبالتالي أكثر إحساسًا بالتبعة، لغيَّرنا من الأوضاع المحيطة بنا، ولكننا لم نفعل، كأنما نحن الرجل المخمور، ذهبت الخمر بوعيه وإرادته.
تلك شهادة كاتب معاصر، وشهادة أخرى يدلي بها شاهدٌ آخر، هو «جورج شتاينر» (كاتب أمريكي، لكنه فرنسي المولد)، فيقول عن الحياة الثقافية في بريطانيا، إنها قد أنهكها التعب، فقعدت عن السير، فهي تجتاز اليوم حقبةً ميتة من تاريخها الفكري، وإلا فأين فلاسفتها؟ لقد كاد ينعدم فيها خلال الأربعين عامًا الماضية، كل جهدٍ فلسفي مما يتناسب مع تاريخها، وكذلك قل في الإنتاج الأدبي، فلقد نضب معينها من العظماء، فانصرفت إلى ماضيها تجترُّه من جديد، وكأنما لسان حالهم يقول: إن الأوائل لم يتركوا للأواخر شيئًا، وليست فرنسا وغيرها من أقطار أوروبا، بأحسن من بريطانيا حالًا (باستثناءٍ وحيد، هو ألمانيا)، فلقد امتلأت رءوس الشباب بتهاويم اللامعقول والخرافة، ولعل ذلك كله راجع إلى تعبٍ، أصابهم من الحياة العلمية والتقنية التي أنقضت ظهورهم، وأرَّقت جنوبهم في مضاجعها.
وشاهدٌ ثالث هو «يواقيم كايزر»، يقول إن أهم ما يلفت النظر في وسط أوروبا، هو الشعور بخيبة الأمل فيما هو جديد؛ ولذلك ترى حركةً قوية تعود بالناس إلى المسرح التقليدي القديم؛ في المسرح، وفي الشعر، وفي دور النشر، وغيرها من ميادين الفكر والأدب والفن، لقد نهضت في أوروبا ثورات ثقافية — كثورة الطلاب مثلًا سنة ١٩٦٨م — لكنها كانت ثورات أرادت تحطيم القديم، دون أن تقترح الحل البديل، وكثيرًا ما لجأ دعاة الجديد إلى قديمٍ يُلطِّخونه بالأصباغ ليُجمِّلوه، كمن بحث عن الجمال في فتاةٍ شابة، ولما لم يجده، صبغ وجه الجدة العجوز بالمساحيق.
هذه وغيرها شهادات نقع عليها حينًا بعد حين عند كتَّاب أوروبا وأمريكا، ضيقًا منهم بحضارة عصرهم التي صنعوها بأيديهم، فسرعان ما نلقف نحن أمثال هذه الشهادات فرحين بها؛ لنُدلل بها على وجوب التنكر للعصر وحضارته، قائلين ها هم أولاء شهود من أهله قد أدلوا بالشهادة، وبذلك ننسى الفرق الجوهري، بين رجلٍ قوي يشعر بوعكة المرض، ورجلٍ عليل يشعر بصحوةٍ من عافية، لقد شرب هؤلاء كأس العصر حتى الثمالة، فلا بأس عليهم من داعٍ، يدعو إلى شيءٍ من كبح الجماح، وأما نحن فلم نجرع من حضارة العصر إلا جرعة، لا أظنها تزيد عن المضمضة إلا قليلًا، وإذن فلا جناح علينا من غمس لأبداننا وعقولنا في علوم العصر وتقنياته، وسيمضي وقتٌ طويل قبل أن يأخذنا ما أخذ أولئك من قلق.
ولكننا مع ذلك كله لا نخلو من مشكلةٍ هي أعسر المشكلات، وهي الصيغة التي تجيء بها حضارة العصر لتمتزج بتراثٍ لنا أصيل.