القلة الناقدة

يُقال إن محاورة «المأدبة» — لأفلاطون — هي أروع ما قد كتبه ذلك الفيلسوف، إذا قيست محاوراته بموازين الفن الأدبي، ولعل الروعة في بنائها الفني، أن تكون العلة التي تفسر لنا اختلاف الناس، في فهم المعنى المقصود بتلك المحاورة، فموضوع «المأدبة» — كما قد يعلم القارئ — هو الفكرة التي اشتهرت على ألسنة ناس باسم «الحب الأفلاطوني»، مع أن هذا الذي أسماه الناس بالحب الأفلاطوني، هو أشد الأشياء بُعدًا عن فكر الفيلسوف.

كان «أجاثون» — الشاعر المسرحي — قد ظفر عند أول ظهوره في جمهور الناس بشعره المسرحي الجديد، بإعجابٍ شعبيٍ كاسح؛ مما جعل طائفةً من عشاق الفن، تقيم مأدبة لتكريم الشاعر، امتلأت بصحاف الطعام وكئوس الشراب، وصخبت بالموسيقى والغناء، وفي الليلة التالية أقيمت مأدبةٌ أخرى في بيت «أجاثون»، حضرها سقراط، لكن جماعة الأصدقاء هذه المرة، لم يريدوا بعد العشاء خمرًا ولا موسيقى، ورغبوا في أن تكون مسلاتهم حوارًا فلسفيًّا، يليق بأصحاب الكفايات العقلية الموجودة ليلتئذٍ في الحفل، واقترح أحد الحاضرين أن يدور حوارهم حول ما يمكن أن يتوجَّه به الإنسان من آيات المديح إلى إله الحب، ولقي الاقتراح ترحيبًا من الحاضرين، وترحيبًا من سقراط بصفةٍ خاصة؛ فقد كان هذا الرجل يعيش بنصفه في شئون دنياه، وبنصفه الآخر في ملكوت الفكر، حتى ليمكن تشبيهه بكبار الصوفية، الذين قد يحيون مع الناس بأبدانهم، لكنهم يحاولون بأرواحهم، أن يشقُّوا حُجب الغيب المستور؛ ولذلك لم يتوقَّع سقراط لموضوع الحب، الذي تأهَّب الحاضرون لطرحه في حوار، لم يتوقع له إلا أن يكون معناه المقصود، أقرب إلى معنى الحب الإلهي، كما يعهده الناس عند أهل التصوف.

كان سقراط يجلس في الحفل إلى جوار «أجاثون» — وهو الذي من أجل تكريمه لنجاحه الفني العظيم عند الجمهور، أقيمت مأدبة الأمس ومأدبة اليوم — وكان بين الحاضرين شاعر الكوميديا الموهوب «أرستوفان»، ولقد تعمد أفلاطون في روايته، أن يعطي الحديث عن الحب إلى الشاعرين المسرحيين على التوالي، فيتكلَّم أرستوفان، ثم يأتي بعده مباشرة أجاثون، وأن يقع حديثهما — كواسطة العقد — ويلحقهما سقراط بحديثه القوي العميق، ولماذا تعمد صاحب المحاورة، أن يضع حديث الشاعرين في منتصف الطريق؟ قد يكون ذلك ليجيء حديثهما أشبه بمحطة الراحة بين مرحلتين من كدِّ العقل، فكأنما قد فرغ الحاضرون؛ ليشهدوا شاعرين بينهما ما بين «أرستوفان» و«أجاثون» من فارقٍ بعيد، ماذا يقولان؟ وكيف تكون المقارنة بينهما، وهنا بيت القصيد من هذا المقال.

أما «أرستوفان» الموهوب، صاحب الفطرة الأدبية السليمة الفنية، فقد تناول الموضوع — موضوع الحب بين الجنسين — بأظرف ما تكون السخرية المحبَّبة إلى النفوس، وأما «أجاثون» — الشاعر الناشئ الذي لقي كل ما لقيه عند «الجمهور» من إعجابٍ شديد — فلم يزد حديثه عن عباراتٍ لفظية جوفاء، لا تحمل شيئًا من دسم المعنى، حتى لكأن حديثه الفارغ ذاك، إهانة لعقول الحاضرين.

قال أرستوفان الساخر إن الناس قد انقسموا في أصل نشأتهم ثلاثة أجناس، فرجال ونساء، ثم إلى جانبهم جنس ثالث هو المخنَّثون، الذين يمكن أن يكونوا رجالًا مع الرجال ونساءً مع النساء، وكان المخنث في تكوينه الأول، مركَّبًا من جسدَين ملتصقَين، أحدهما للذكورة منه، والآخر للأنوثة؛ ولذلك فقد كان له أربع أذرع وأربع أقدام، ومن ثم فقد كانت له قوةٌ فياضة وسرعة في الحركة، ولا عجب أن أخذهم الغرور في أنفسهم — هؤلاء المخنثون — حتى لقد خيف أن يتهددوا الآلهة، فيأخذوا زمام الأمور كلها في أيديهم؛ ولذلك اجتمع الآلهة ليتدبروا الأمر في هذا الخطر الداهم، واختلف الرأي بينهم، فقد رأى فريق من الآلهة، أن يبيدوا الإنسان بكل أجناسه؛ ليطمئن الآلهة على سلطانهم، لكنه رأي لم يصادف الرضا؛ لأن إبادة الإنسان معناها أن يضيع على الآلهة، ما يقدمه الناس إليهم من قرابين ونذور، وهي كنوز لا يُستهان بها، ثم انقدح عقل كبير الآلهة — زيوس — عن فكرةٍ عظيمة، وهي أن يشطر كل إنسان نصفَين، فبذلك يحقق الآلهة غرضَين: أولهما أن يزيد عدد الناس ضعفَين، فيزيد بالتالي مقدار ما يُقدَّم إلى الآلهة من قرابين ونذور، والثاني هو أن يتخلَّصوا من الجنس الثالث الخطر الذي هو جنس المخنثين، وبهذا الانشطار لكل جسدٍ إلى شطرين سيظل كل شطر منهما، يسعى مشوقًا إلى الشطر الآخر، وذلك هو الحب في صميمه.

كان ذلك ما قاله أرستوفان، وبعده أعطيت الكلمة للشاعر الناشئ، الذي ظفر بإعجاب الجماهير، فتكلَّم كما يتكلم الخطباء على المنابر، حين يجيء كلامهم لفظًا مزركشًا يرنُّ في المسامع، دون أن يحمل إلى العقول معنًى واحدًا جديرًا بالتأمل، نعم، لقد هذب أجاثون حديثه وشذَّبه، لكن الفرق بينه وبين أرستوفان، كان كالفرق بين البستان الذي أنفق البستاني، كل جهده في تهذيبه وصقله وتنظيمه، لكنك تبحث فيه عن ثمرة تُستاغ فلا تجد، أما أرستوفان فقد ترك طبيعته الغنية تنفجر بثرائها، كما يحدث للمرج في الربيع، عند أجاثون صناعة، وعند أرستوفان الطبع الأصيل.

كان سقراط يعلم عن أجاثون التفاهة والضحالة، فكان رأيه في قدرته الفنية والعقلية، على طرفَي نقيض مع رأي الجماهير فيه، وعلى طريقة سقراط في لذع العاجزين، المكابرين الأدعياء بسياط السخرية، قال لمن كان ينظم ترتيب الحديث بين المتحاورين، حين أعلن في البداية أن سقراط سيأتي دوره بعد أجاثون، قال له سقراط عندئذٍ ما معناه: لماذا تضعني هذا الموضع المفزع المخيف؟ كيف لي أن أتحدث بعد هذا الرجل النابغة، الذي خطف بالأمس القريب مسامع الجماهير؟ ماذا أقول وأنا فقير الفكر ضعيف الموهبة، بعد أجاثون بكل ما وهبته الآلهة من قدرةٍ على الخلق والإبداع؟! وكأنما أحسَّ أجاثون بمقاصد سقراط، فقال له معاتبًا: لقد أحرجتني بكلامك هذا؛ لأنك أوهمت به الحاضرين أن يتوقعوا مني الشيء الكثير!

أجابه سقراط ملاطفًا في دهاء: وهل يمكن يا عزيزي أجاثون لفئةٍ قليلة من أمثالنا أن تفزعك وتنال منك؟ أننسى ما قد رأيناه منك، عندما واجهت حشود الجمهور في ساحة التمثيل، حين واجهتَهم بجرأةٍ جريئة، فعلَوْت في أعينهم إلى قمة المجد؟ فقال أجاثون تعليقًا على قول سقراط: بل إن العاقل لتأخذه الرهبة، أمام قلةٍ ذكيةٍ ناقدة، مهما تبلغ به الشجاعة في مواجهة العامة من سواد الناس.

وكان أجاثون بجوابه هذا صادقًا وحكيمًا، فلئن كان للكثرة العددية رجحان على القلة الناقدة في دنيا السياسة، فهل يجوز أن نترك لها مثل هذا الرجحان في دنيا العلوم والفنون والآداب؟ فلقد تُنكَب جماعة من الناس برجالٍ من طراز «أجاثون» في حياتها الثقافية، يقدِّمون التافه الضحل، ويحصلون به على إقبالٍ جماهيري، وعندئذٍ تكون رحمة الله بتلك الجماعة من الناس، أن تظهر فيها القلة الناقدة ليعتدل الميزان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤