سياسة بغير ساسة
ليس هذا العنوان من عندي، بل هو مستعار من الناقد الإنجليزي «هربرت ريد»، أشار به إلى «معنى للسياسة عميق الغور»، قد لا يتفق مع ما يضطلع به رجال السياسة، بالمعنى الشائع المألوف؛ فرجل السياسة بهذا المعنى المألوف الشائع، هو كسائق القطار، مُطالَب بأن يسير على «شريط» مرسوم له، نحو هدفٍ حدَّده الراكبون أو هو — على تقديرٍ أفضل — كسائق السيارة العامة، يجوز له أن ينحني بالسيارة قليلًا نحو اليمين أو نحو اليسار، وفقًا لما يعترضه على الطريق من مفاجآت، لكنه مقيَّد بالاتجاه العام، وبالغاية التي يقصد إليها الراكبون، ومهارته في هذه الحالة مقصورة على أن يبلغ بهم تلك الغاية في أمان، أما المعنى الذي قصد إليه هربرت ريد بالسياسة، التي لا يؤديها رجال السياسة، فهو تحويل المجتمع من اتجاهٍ إلى سواه، ومن هدفٍ معين إلى هدفٍ يخالفه، ومثل هذا التحويل في وجهة النظر وفي الغايات، إنما يقوم به رجال الفكر لا رجال السياسة، ويضرب هربرت ريد أمثلة لذلك؛ وليم مورس، وتولستوي، وغاندي. ونستطيع نحن أن نسوق من عندنا ومن تاريخنا الفكري الحديث، رجالًا من أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده.
وها نحن أولاد اليوم نعرض للحوار «قضية بناء الإنسان الجديد»، فهي إذن قضية من قضايا «التحويل»، التي تتطلَّب «سياسة» لا تجيء من رجال السياسة، بالمعنى المعروف لهذه التسمية؛ لأن مثل هذا التحويل في بناء الإنسان، لا يكون إلا إذا تغيرت وجهات النظر، واتجاهات السير والأهداف، وإلا لو أبقينا الإنسان المراد تحويله بنفس منظاره القديم، وطرائقه القديمة وشواغله القديمة، فأين — إذن — يكون التجديد المطلوب؟ إننا نقول لغوًا إذا ملأنا الأشداق بلفظ «الجديد»، ثم حرصنا في الوقت نفسه على أن نفرغ من الكلمة كل معناها؟ فإذا كنا حقًّا وصدقًا نريد إنسانًا عربيًّا جديدًا، فأول شرط تُمليه البداهة الفطرية، هو ألَّا نجعل القديم معيارًا لنا، عند الحكم على الأشياء والأفكار والمواقف؟ وعندئذٍ يتحول النظر من الماضي إلى المستقبل، بمعنى أننا إذا أردنا أن نُثبت للناس صواب فكرةٍ معينة، أو صلاحية سبيل من سبل العيش، فلا يجوز أن يستند الإثبات على ما قاله فلان وما رواه علان، ممن عاشوا في زمانٍ مضى وانقضت ظروفه، بل ينبغي أن يكون سند الإثبات، هو ما «سوف» يقوله أبناؤنا وأحفادنا في القرن الحادي والعشرين. إننا إذا كنا ننعم اليوم بشيءٍ أو نشقى بشيء، فما ذلك النعيم أو الشقاء إلا الثمرة التي خلَّفتها لنا أفعال السابقين، وعلى هذا النحو سينعم اللاحقون أو يشقون، نتيجةً حتمية لأفعالنا، الحاضر وليد الماضي، وسيكون والدًا للمستقبل، فلا بد لهذا الحاضر من الأخذ عن الماضي، ليجيء تيار الحياة موصولًا، لكن لا بد له كذلك من التحوير والتطوير، في جوانبَ أساسيةٍ ليجيء ذلك التيار الحيوي الموصول، تيارًا ناميًا صاعدًا، أما إذا قصر الحاضر نفسه على تمثل الماضي، فإنه إنما يجعل من نفسه نسخةً منقولة عن أصلٍ قديم، ثم يسير المستقبل كذلك على هذا الطريق نفسه، فيجيء نسخةً أخرى، وهلمَّ جرًا، فلا يكون عندئذٍ فرق بين مثل هذا المجتمع الراكد، وبين جثة مُحنَّطة تمضي عليها السنون، فتتناقص وتزداد تشويهًا، لكنها لا تعرف لازدهار الحياة ونمائها معنًى.
إذا أردنا جادِّين أن نفكر في بناء الإنسان العربي الجديد، وجب بحكم البديهة السليمة ألا يكون «التقليد» (وجمعها تقاليد) مدارنا، فالتقليد — أو التقاليد — لا يعني إلا أن يجيء إنسان اليوم محاكيًا لإنسان الأمس، ومن حقك أن تقول ما شئت في هذه المحاكاة من رفضٍ أو قبول، إلا أن تدَّعي بأنها ستُخرج لك الإنسان الجديد؛ إذ الجديد والتقليد ضدان كما تنبئنا القواميس، غير أن تقاليد الماضي، إن لم تكن صالحة كلها اليوم، فهي كذلك ليست فاسدة كلها، وهكذا تسير الجماعات الحية المتطورة — كما يسير أي كائنٍ عضويٍّ حيٍّ متطور — تزول من كيانها خلايا وتحل محلها خلايا، في عمليةٍ تجديديةٍ متصلة، وتظل للكائن العضوي شخصيته؛ لأنه يحافظ على هيكله العام، ولا ينفض خلاياه جميعًا دفعةً واحدة؛ ليضع مكانها خلايا جديدة دفعةً واحدة، أما أن ينمو الرجل فيأبى عليه وفاؤه لماضيه، إلا أن يستبقي لنفسه خلايا طفولته أو مراهقته، فذلك ضد طبائع الحياة، ولنضغط على كلمة «الحياة»، حتى لا تفلت منا، فكثيرون منا لا يكادون يفرقون بين جسدٍ ينمو ويكبر لأنه حي، وجسد يذبل ويضمر لأنه ميت.
إذا وضع الإنسان العربي «مستقبله» لا ماضيه أمام عينيه، بحيث لا يبقى من الماضي إلا ما يضيء له طريق المستقبل، كان قد وضع بذلك قدمَيه على أول موقعٍ يؤدي به إلى ولادةٍ جديدة، فالنظر إلى المستقبل يشعره بمسئوليته كاملة، كالمسافر الذي يعلم أنه لا وصول إلا بالخطو إلى أمام، أما النظر إلى الماضي فهو أقرب شيءٍ إلى نظرة «المتفرج»، الذي يفتح عينَيه على مشهدٍ يُعجبه، لكنه لا يدري بعد ذلك ماذا يصنع به. وليأذن لي القارئ أن أضرب مثلًا واحدًا، مما يدور في ذهني، وأنا أكتب هذه الكلمات: سمعت منذ قريب حديثًا لأستاذٍ فاضل لا أشك لحظةً واحدة في فضله وإخلاصه وحسن طويته، وقد أدار حديثه ذلك على نقطتين، هما أن الأجل محدود وأن الرزق محدود، وإني لعلى يقين بأنه من أعلم الناس بهذا المجال الذي يتحدث للناس فيه، لكني تمنيت من عمق أعماقي أن يصبَّ لنا الضوء، على الطريقة التي يريدنا بها أن نفهم هذه «المحدودية» في الأجل وفي الرزق، بحيث لا نشعر بالعبث حين نعمل على نشر الثقافة الصحية، وعلى إقامة مشروعات التنمية الاقتصادية، والسعي الكادح نحو زيادة الدخل القومي، ورفع مستوى الأجور بالنسبة للأفراد العاملين، لكنه لم يفعل، وسؤالي عقب استماعي للحديث هو: وماذا يراد لنا أن نفعل؟ إن مثل هذا القول لو ترك هكذا بغير تفسير يشرحه، يترك سامعه كالمكنة المُعطَّلة لا تتحرك فيها تروس وعجلات، وبالتالي فلا تحول به نحو أن يكون إنسانًا جديدًا.
قلت إن شعور الإنسان بمستقبله، يلقي عليه بمسئولية التحرك نحو تحقيقه، ولست أعجب إذ أرى الكثرة الغالبة منا، على غير شعورٍ واضح بالمستقبل، الذي يسددون نحوه خطاهم؛ مما حدا بهم أن يكلوا الأمور كلها إلى ضمير الغائب، فتسمعهم يقولون في كل سياقٍ من حديث: «هم» يريدون كذا، و«هم» يريدون كيت، فمن «هم»؟ لو كان الناس مؤرَّقين بمستقبلٍ ترتسم أمام أعينهم سبيله، لاستبدلوا بضمير الغائب هذا ضمير المتكلم وضمير المخاطب، «فأنا» أريد كذا و«نحن» نريد كيت، و«أنت» تريد و«أنتم» تريدون، فبناء الإنسان الجديد لن تقوم له قائمة، إلا إذا أحسَّ الناس بأن الإرادة إرادتهم، بحيث لا يكتب لهم كاتب أو يتحدث إليهم متحدث، إلا وقد تركهم أكثر علمًا وأوضح رؤية لما «يعلمونه»، بناء على ما قرءوه أو سمعوه، لكن كم من كاتبٍ يكتب ليسلي، وكأنه النديم في مجالس الطرب! وكم من متحدثٍ يتحدث تجميدًا للحركة، لا تحريكًا للسكون!