الرؤية الساذجة
هي رؤيةٌ لصيقة بالفطرة قبل أن يصيبها شيء من التهذيب والتقييد، كرؤية الطفل أو رؤية الإنسان قبل أن يتحضَّر، وليس في مثل هذه الرؤية الساذجة عيب يُعاب، إذا هي وضعت في مكانها الذي أرادته لها طبائع الأشياء، فلسنا نتوقع من الطفل أن يستبدل بسذاجته الفطرية، نظرةً ناضجة يقيمها على دقة التحليل وضبط الحساب، كما لا نتوقع من حضارة العصر الحجري أو ما يقرب منها، أن تنتج مركباتٍ صاروخية تنقل الناس إلى سطح القمر، لا بل إننا إذا ما لحظنا طفلًا قد سبق الأيام بنضجه العقلي، أخذَنا الجزع، وربما أشفقنا عليه من شرٍ يصيبه، كأنه نبات نما في غير موسمه وقبل أوانه.
وإنما العيب هو أن ترتفع السن برجلٍ، حتى ليعدُّ بين الرجال بحكم سنه، ثم نراه يتصرف في أموره بسذاجة الأطفال، فلو استطعنا إبراز الفوارق المميزة للطفولة الحق من الرجولة الحق، لكان لنا بذلك نفسه مقياس، نفرق به بين الرؤية الساذجة بفطرتها، والرؤية الناضجة بعد تحضُّر وتهذيب، فما هي أوضح تلك الفوارق ظهورًا؟
أوضحها — في ظني — هو القدرة على رؤية الأشياء أو المواقف بتفصيلاتها، التي يتشابك بعضها مع بعض كأنها الخيوط في رقعةٍ من النسيج، فرؤية الشيء أو الموقف بتفصيلاته، هي الخطوة الضرورية الأولى، التي يمكن أن تتبعها خطوة القياسات الكمية والضبط العددي، وهذه بدورها هي طريقنا الوحيد إلى صياغة معرفتنا بذلك الشيء أو الموقف صياغةً علمية، أما الرؤية التي تقف من الأشياء عند أسطحها، لندركها في جملتها لا بتفصيلاتها الداخلة في تقويم كيانها، فهي كالشارع المسدود من أحد طرفيه، فلا ينفذ منه السائر إلى بعيد، ولا بد له أن يرتدَّ إلى نفسه حيث كان، وهذه الرؤية الإجمالية هي طريقة الأطفال في النظر، فيتعذَّر عليهم أن يجاوزوا السطح إلى ما وراءه من مقوماتٍ وعناصر، وأما الناضج برؤيته بين الراشدين، فينفذ خلال السطح إلى ما قد يخفى على البصر العاري من مكنونٍ خبيء، وعندئذٍ يتبيَّن أن أشد الكائنات أو المواقف بساطة في مظهره، قد يخفي طي كيانه من التفصيلات المركبة، ما قد يحتاج إلى دراسةٍ متأنيةٍ صابرة، قبل أن يُلمَّ بها الدارس إلمامًا، يمكِّنه من التصرف حيالها وهو بمأمنٍ من الزلل، وهل أبسط في ظاهره من قطرة ماء؟ سل علماء الكيمياء والفيزياء عن قطرة الماء، بعد تحليلها تجد من أمرها عجبًا.
على أن الذي يعنيني هنا ليس هو قطرات الماء، أو غيرها من ظواهر الطبيعة؛ لأن هذه الظواهر في أيدٍ أمينة من علماء التجارب الدقيقة في أجزائها وحسابها، وإنما الذي يعنيني هو الإنسان في حياته الاجتماعية، والإنسان العربي بصفةٍ أخصَّ؛ لأنه في أكثر الحالات يترك نهبًا لنفرٍ من أصحاب الرؤية الساذجة، يقضون في أموره — وفي أشد أموره حيوية وخطورة — بالنظرة الطفلية السطحية، التي لا تتأرَّق من خشية الوقوع في خطأ الحساب، فكثيرًا ما تصدر مجموعة من القوانين في شئون التعليم أو الاقتصاد أو غيرهما من شئون الناس، ثم لا تمضي فترةٌ طويلة حتى يبدلوها بمجموعةٍ أخرى، قد تكون بالنسبة لسابقتها كالنقيض مع النقيض؛ وإذن فلا بد أن يكون الأمر قد تم بغير حساب في إحدى الحالتين، وربما تم بلا حساب في الحالتين جميعًا، فتلحق بهما حالةٌ ثالثة، إن الصواب في مسألةٍ واحدةٍ معينة هو واحد، وأما الخطأ فلا يحصره عدد لكثرته التي لا تنتهي، فإذا جمعنا اثنين إلى ثلاثة، كان الحاصل الصحيح هو خمسة دون سواها، وأما الحاصل الخطأ فقد يكون أي عدد من سلسلة الأعداد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النظم التي نقيمها لشئون حياتنا، الصائب منها في كل حالة نظامٌ واحد، لو وقعنا عليه بعد الدراسة العلمية المتمهلة، لكان الراجح أن يدوم طويلًا ما دامت ظروفه التي جاء ملائمًا لها قائمة، لكننا لكي نحقق لأنفسها مثل هذا الخطوِ الوئيد الثابت، نحتاج إلى الرؤية الناضجة، وهي رؤية الدارسين والعلماء.
الموقف الحضاري يتحول في عصرنا من صورةٍ ماضية ذهب زمانها، إلى صورةٍ أخرى هي في طريقها إلى أن تكتمل على امتداد المستقبل القريب أو البعيد، وأصحاب الرؤية الساذجة منا ينظرون في براءة الأطفال، إلى ما يحدث حولهم من انقلابٍ واسع الرقعة بعيد الأغوار، فلا يكادون يرون منه إلا شذراتٍ تافهة، لا يتماسك بعضها مع بعض في تصورٍ متَّسقٍ موحد، ومع ذلك تراهم لا يتحرجون من التنكُّر له، والأمر الغريب هنا هو أنهم إذ يتنكرون له، فإنما هم يتنكرون له مستعينين به، فهم يُذيعون ذلك بوسائل العصر، التي لولاها لما سُمع لهم صوت، ولو نظروا إلى الأمر برؤيةٍ ناضجة، لوجدوا أن هذا المنكر ليس من بساطة التركيب، بحيث يمكن قبوله بنظرةٍ واحدة، أو رفضه بنظرةٍ واحدة، فما نسميه «بحضارة العصر» هو الفنون الجديدة كلها، من موسيقى وتصوير ونحت وعمارة، هو الأدب الجديد كله من قصةٍ ومسرحية وشعر، هو العلم الجديد كله في ميادين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وغيرها، هو الدراسات الإنسانية الجديدة كلها، من علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة، هي التجارب العلمية الجديدة كلها في مجالات الطب والجراحة، كل هذه الدنيا العامرة المليئة هي حضارة العصر، مأخوذة بتفصيلاتها، وهي من الامتلاء والخصوبة بحيث بات محالًا على الإنسان الواحد، أن يلمَّ بأكثر من جزءٍ واحد من فرعٍ واحد من علمٍ واحد، أفيجوز أن نحزمها كلها في حزمةٍ واحدة، لتضؤل أمام أبصارنا، ثم ننعتها بهذه الصفة أو بتلك الصفة، مما هو كريه إلى نفوسنا، لندير إليها ظهورنا، التماسًا لركن هادئ من هياكل الماضي، نلوذ به ونعيش فيه، كأن ذلك أمرٌ ممكن حتى لو أردناه! فإذا كان أمره محتومًا على من أراد الحياة المتجددة، فلماذا نتلقاه بأنصاف قلوبنا أو أرباعها؟
كتب سيرفانتيس قصة «دون كيخوتة»، عندما آلت العصور الوسطى إلى زوال، ولعل بعض ما أراده الكاتب من قصته، هو أن يسخر ممن لبثوا يتشبثون بعصورٍ غاربة، فصوَّر شخصية «دون كيخوتة» المعروفة، ليصوِّر بها رجلًا تعلَّق بشعائر الفروسية، بعد أن ذهب مع الأيام لُبابها، ومن هنا جاء «دون كيخوتة» مدعاة للضحك؛ فهو يلبس الدروع كما كان يلبسها فرسان العصور الذاهبة، برغم أنه ليس منهم، قرأ «دون كيخوتة» كثيرًا من أخبار الفروسية وعصورها، ولو وقف عند هذا الحد لعددناه في زمرة المثقفين، لكنه صدق كل ما قرأ، وأراد أن يبعثه من مدفنه ليحياه؛ فأصبح بهذا موضوعًا للسخرية.
من شأن الرؤية الساذجة أن تخطئ الأبعاد والأعماق، فقد ينظر الطفل إلى القمر، ويحسبه على امتداد ذراع كذراعه الضئيلة، فيمدَّ إليه كلتا ذراعيه ليمسك به فينكفئ على وجهه، وإنه ليُحكى أن رجلين؛ أحدهما ساذج الرؤية والآخر ناضجها، وقفا أمام إناءٍ ضخمٍ مليء بالماء، وفيه سمكات تسبح، أراد الساذج أن يمسك بالسمكات، فاتجه إلى هدفه بطريقٍ مباشر غشيم، فتعذر عليه المراد، ولم يخرج إلا بالبلل، فتقدم الناضج الذي يحسب للخطوات حسابها، وبدأ باغتراف الماء من الإناء حتى لم يبقَ فيه إلا السمكات، وقد هدأ نشاطها وهي ملقاة على القاع، فأمسك بها في غير عناء، فبالحيلة المدروسة يكون تحقيق الأهداف.