مقياس الحضارة
في الحياة المثلى التي صوَّرها توماس مور في كتابه «يوتوبيا» (وتوماس مور إنجليزي من القرن الخامس عشر)، لا يكون للمال دخل في تقدير الناس ارتفاعًا وانخفاضًا، فقد يتكدس الذهب أكوامًا عند إنسان، لا قيمة له بمقاييس الحياة المرهفة المهذبة، وكذلك قد لا يملك إنسانٌ آخر قيراطًا واحدًا من الذهب، ولكنه بمقاييس تلك الحياة يحتل المكانة العليا.
وفيما يلي عبارة وردت في هذا الكتاب: «… لقد خشي أهل يوتوبيا أن ينخدع بعض الناس ببريق الذهب، فيأخذون في جمعه وتكديسه، فقرروا أن تصاغ من الذهب قيود المجرمين وأغلال المساجين، فعقاب الجريمة الفلانية قرط من ذهب يُعلَّق بالأذن، وعقاب الجريمة الأخرى حلقة من ذهبٍ يخزم بها الأنف، أو عقد يطوَّق به العنق، أو سوار يدور حول المعصم، وبهذا أنزلوا من قدر الذهب، حتى جعلوه علامة التحقير وموضع السخرية والازدراء. ولقد حدث ذات مرة أن بعثت بعض الدول الأجنبية بسفرائها إلى أرض يوتوبيا، فرأيتُ بعينَي رأسي كيف استقبلهم الناس هناك. جاء السفراء مُثقَلين بأحمالٍ من الذهب في أعناقهم وعلى صدورهم، ظنًّا منهم أن ذلك يرفع منزلتهم في أعين الناس؛ فلشد ما دهشوا حين رأوا أن الذهب هناك سمة المجرمين، أو لعبة الأطفال، وقد سمعت طفلًا وقف إلى جانب أمه أثناء مرور موكب السفراء، سمعته يصيح قائلًا: انظري يا أماه كم بلغ هذا الرجل من السن، وما زال يتعلق بلعب الأطفال، فأجابته الأم قائلة: صه يا بني، فلعله تابع من أتباع السفراء، جاءوا به ليكون منهم موضع الضحك.
لهذا أدهش أهل يوتوبيا أن يعلموا عن أهل البلاد الأخرى، أنهم يقيسون منزلة الرجل بنسج ردائه، فإن كان الرداء رقيق الغزل، كان الرجل شريفًا نبيلًا، وإن كان غليظ الخيوط كان صاحبه من عامة الناس، وتساءل أهل يوتوبيا قائلين في عجب: أما يدري هؤلاء أن الصوف الذي صنعت منه الثياب — رقَّ غزلها أم غلظ — كان غطاء لجلود الخراف، وكانت الخراف بصوف جلودها ذاك في منزلةٍ سواء؟! وإن أهل يوتوبيا ليتندَّرون فيما بينهم، بما سمعوه عن سكان البلاد الأخرى، من أن الغبي الأبله فيهم، يمكنه أن يستذل من هم أحكم منه وأعقل، إذا كان في حوزته كومة من ذهب، فإن تحولت كومة الذهب إلى خادمه، أصبح الخادم من فوره سيدًا والسيد خادمًا …»
لقد ذكرت هذا كله، حين قرأت منذ أيامٍ قلائل، موجزًا قصيرًا لأبحاث قامت بها جماعة من رجال الاقتصاد والاجتماع، أرادوا بها الوقوع على معيارٍ دقيق، يقيسون به الأمم تقدمًا وتخلفًا، فكان أول ما ورد إلى خواطرهم، هو أن يكون معيار القياس متوسط دخل الفرد؛ فبارتفاع هذا الدخل يكون التقدم، وبانخفاضه يكون التخلف، لكنهم سرعان ما تنبهوا إلى أن مقدار الدخل لا يقيس إلا الدخل، ويوشك ألَّا يكون له أثر بعد ذلك، في الدلالة على درجة التحضر بصفةٍ عامة، مما يذكرنا بعبارة تلفت النظر، قالها نيكسون رئيس الولايات المتحدة السابق، ضمن خطاب له في الكونجرس الأمريكي، إذ قال: في العشرة الأعوام الآتية، سيرتفع مستوى العيش عندنا بمقدار خمسين في المائة، ولكن السؤال الهام فيما أرى هو هذا: هل يصبح الأمريكيون بهذا الارتفاع، أسعد مما هم الآن بمقدار خمسين في المائة أيضًا؟ وهل تجود لنا طبيعة الحياة بمقدار خمسين في المائة؟!
قال أولئك العلماء من رجال الاقتصاد والاجتماع ما معناه: إن نسبة الدخل قد تتغير عند قومٍ في يومٍ وليلة، فهل يدل ذلك على أي تغير عميق في حياة هؤلاء القوم؟ لقد أُذيعت في العام ١٩٧٣م مقارنةٌ إحصائية، كانت فيها السويد أعلى مستوى من الولايات المتحدة، وبعدهما جاءت كندا، فسويسرا، ففرنسا، فالدنمارك، فألمانيا الغربية، كانت ألمانيا الغربية هي السابعة في الترتيب، وكانت اليابان هي السابعة عشرة! ولقد أقام أصحاب هذا الترتيب الإحصائي، حسابهم على أسعار العملات المختلفة كما كانت في عام ١٩٦٣م، لكن أسعار هذه العملات قد تغيرت تغيرًا شديدًا، فلو حسبنا متوسط الدخل للفرد الواحد، كما هو اليوم بناء على سعر العملة، لهبطت الولايات المتحدة، وصعدت ألمانيا الغربية واليابان، فهل يمكن أن يكون معيار القياس بهذا التقلب السريع؟
لا بد — إذن — من البحث عن معيارٍ آخر، نقيس به حياة الناس عمقًا وغزارة. إن أرقام الكسب والإنفاق قد لا تدلُّ وحدها على ما نريد قياسه، فقد يُقال لنا — مثلًا — إن كذا مليونًا من الجنيهات تنفقها الدولة على التعليم، فهل يكون ذلك دالًّا بالضرورة على مقدار ما ارتفع به الناس في درجات الاستنارة والحضارة؟ أليس من الجائز أن تكون هذه الملايين، قد ذهبت لتخرج لنا «متعلمين» بالشهادات؟ لكنهم في دنيا العقل العلمي يُعدُّون ذوي جهالة وخرافة وتعصبٍ ذميم؟
إن أرقام الإحصاءات الاقتصادية — وحدها — لا تكفي؛ لأنها وإن أشارت إلى بُعدٍ واحد من أبعاد الموقف، فهي لا تشير إلى سائر الأبعاد، على حين أن الموقف الحضاري، إنما هو حصيلة هذه الأبعاد الكثيرة التي تتألَّف منها الحياة، وكما قد قيل: إن السائر في الحديقة قد تمتعه أشجار السنديان، ومتعته هذه هي جزء من حياته ولا شك، لكن أشجار السنديان هذه، لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد، إلا بعد أن تزول من الوجود بصفتها تلك، أعني أنها لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد، إلا إذا اقتُلعت، وقُطعت وبيعت شرائحها في أسواق الخشب.
لهذا أراد علماء الاقتصاد والاجتماع، الذين أشرتُ إليهم، أن يبحثوا عن معيارٍ آخر، أو معاييرَ أخرى، تمكننا من معرفة الدرجات المتفاوِتة بين حياةٍ وحياة، بشرط أن تؤخذ غزارة الحياة في الحساب، ولا يكتفى بقياسها طولًا وعرضًا، فوضعوا في اعتبارهم مقدار ما ينعم به الإنسان من «يسر»، بأوسع معاني هذه الكلمة؛ لأن الحياة الميسَّرة تتطلَّب — إلى جانب ارتفاع المستوى الاقتصادي — جوانب أخرى قد يصعب قياسها بدقة الحساب، كالصحة والخلو من المرض والجهالة، وكالتربية التي تعمل على تطوير الشخصية الإنسانية بكل ممكناتها، وتكافؤ الفرص بين الناس في العمل، وفي التمتع بالفراغ، ونقاء البيئة مما يلوثها، وضمان الحياة الآمنة من المفزعات، وسيادة القانون سيادةً يخضع لها الناس أجمعون، لا فرق بين حاكمٍ ومحكوم، ومشاركة المواطنين مشاركةً فعَّالة في توجيه وطنهم؛ فكيف نقيس بمقدار الدخل وحده جوانب كهذه: الصحة، وحرية التعبير، والعدالة، والمساواة في الفرص، والتمتع بالفراغ؟
بعبارةٍ أخرى: أرادت تلك الجماعة من علماء الاقتصاد والاجتماع، أن تنشئ خطًّا آخر، موازيًا لخط الإحصاءات الاقتصادية؛ ليقيسوا به «كيف» الحياة ما دامت الإحصاءات الاقتصادية تقصر نفسها على جانب «الكم» وحده، فإذا كانت هذه الإحصاءات تبحث عن مقدار «الدخل»، فإن الجانب الآخر مطالَب بأن يقيس مقدار «الراحة» و«اليسر» وما إليهما؛ مما يُضفي على الحياة لونًا وطعمًا وقيمة، وبالطبع لم يقف هؤلاء العلماء عند مجرد سرد العوامل المختلفة والكثيرة، التي من شأنها أن تضفي على حياة الإنسان لونها وطعمها وقيمتها، بل طفقوا — شأن العلماء دائمًا — يُحلِّلون تلك العوامل تحليلًا يبين تفصيلاتها، كما يبين نسبة أهميتها بعضها إلى بعض.
أفلا يجدر بجماعةٍ من علمائنا — ونحن نتأهَّب للتعمير الشامل — أن تُجري عن حياتنا بحثًا كهذا؟