حوافز التقدم
قرأت بحثًا لأستاذ العلاقات الاجتماعية بجامعة هارفارد (هو الأستاذ ماكليلاند)، يستوقف النظر بطرافته؛ طرافة منهجه وطرافة نتائجه، وكان السؤال الذي طرحه ليحاول الإجابة عنه ببحثه هذا، هو سؤال عن العامل الرئيسي، الذي لا بد من توافره عند الفرد الواحد، أو عند أمة بأسرها؛ لكي يحقق ذلك الفرد أو هذه الأمة تقدمًا على طريق الحضارة، فإذا ما غاب هذا العامل الرئيسي على وجه الحياة، استحال على الفرد أو على الأمة، أن تحقق من التقدم الحضاري شيئًا، مهما توافرت بعد ذلك سائر العوامل، وكانت الإجابة التي انتهى إليها الباحث عن سؤاله ذاك، هي أن العامل الرئيسي الذي يدور مع التقدم الحضاري وجودًا وعدمًا، هو ما أسماه ﺑ «الفيروس العقلي» تشبيهًا بالفيروسات التي قد تسري في الأبدان، لا يكاد يدركها البصر إلا بعدسات المجاهير، ومع ذلك فهي تُحدِث في الأبدان أحداثًا جسامًا، وكذلك يمكن القول بأنه قد تسري في عقل الإنسان حالة يصعب تحديدها، لكنها — إذا ما سرت — حفزت الإنسان حفزًا إلى العمل الدءوب، الذي لا يعرف الكلل، حتى يحقق هدفه المنشود.
يقول الباحث إن سائر العوامل التي يفسر بها الناس وثبة التقدم، إنما هي في الحقيقة مصاحباتٌ ثانوية، قد تحضر أو تغيب، دون أن تتأثر بحضورها أو بغيابها عمليات التقدم الحضاري، في وثباتها الملحوظة على مسار التاريخ، فمثلًا قد يُعلِّلون ذلك التقدم بعوامل البيئة مع أن عوامل البيئة هذه تراها هي بعينها، دائمة عند من تقدم ومن تخلف على السواء، وقد يُعلِّلونه بنوعية الأجناس البشرية، فهذا الجنس الفلاني قادر على التقدم، وذلك عاجز عنه، مع أنك واجد في الجنس البشري الواحد، جماعةً تقدمت وأخرى تخلفت، بل قد تجد في الجماعة الواحدة، أنها تتقدم حينًا وتتخلَّف حينًا، وقد يعللونه بالمهارة في الحروب والقدرة على الغزو والتوسع، فكأنما الغازي هو دائمًا أكثر تقدمًا ممن وقع عليه الغزو، مع أن الأمثلة لا حصر لعددها، الأمثلة التي تدل على أن الأمة المغزوَّة، كانت وظلت بعد الغزو، أكثر تقدمًا في مدارج الحضارة من الجماعة الغازية، لا، بل يزعم الباحث أن الوثبات الحضارية لا يفسرها، ما يكون عند الجماعة الواثبة من علم ومن تكنية، ما لم يكن ذلك العلم أو هذه التكنية، مصحوبة بما أسماه «الفيروس العقلي»، ويسوق أمثلةً لذلك، منها أن أحد الشعوب المعاصرة المتخلفة، أعطت لصيادي السمك فيها أدوات تكنية، صنعها العلم الحديث، من شأنها زيادة الحصيلة السمكية بمجهودٍ أقل، ولقد أدت تلك الأدوات مهمتها؛ فزاد المحصول بالفعل، وزادت معه دخول الصيادين، ولكن لوحظ في هؤلاء الصيادين أحد أمرين؛ فبعضهم أوقف العمل عندما توافرت بين يديه ثروةٌ تكفيه فترة يعيشها بلا عمل، وبعضهم الآخر واصل العمل وزيادة الكسب، ولكنه أسرف في الإنفاق على النساء والخمر، وكانت النتيجة أنه برغم ما أُتيح لهؤلاء الناس من ثمار التقدم العلمي، لم يستطيعوا لأنفسهم ارتقاءً حضاريًّا، وكان الذي فاتهم فضيَّع عليهم عملية الارتقاء، هو ما أسماه الباحث بالفيروس العقلي.
وعبارة «الفيروس العقلي» هذه، عبارة أطلقها صاحبها على سبيل المجاز، وأراد بها ذلك الضرب من المهمة العازمة، التي لا تترك حاملها ليستريح على جنبيه إلا أن يرى حياته، مليئة بالعمل المنتج الناجح، الذي ما ينفك يزداد إنتاجًا ونجاحًا، عامًا بعد عام، كأنما في رأسه نحلة تطن وتلسع، حتى تحول بينه وبين الاسترخاء المطمئن البليد، ومن لم تصبه هذه الحالة المؤرِّقة الهلوع على النماء المستمر والارتقاء المتصل، قد ينظر إلى غيره ممن أُصيب بها، فيظن به الهوس والجنون، وقد يتساءل في عجب: فيمَ هذه العجلة المكروبة، وعند هذا المجنون من الرزق ما يكفيه؟ لكنه «الفيروس العقلي» أصاب واحدًا ولم يصب الآخر، فتقدم الأول ونما، وتخلف الآخر وانكمش.
هذه الرغبة الحارقة عند الإنسان، في أن يعمل، وأن يظل عمله يزداد، فتزداد ثماره كثرة في الكم وتجويدًا في الكيف؛ هي شرط التقدم الحضاري عند الفرد وعند الجماعة، قد تضاف إليها أمجاد التاريخ وقوة الجيوش، وغزارة الإنتاج الفني والأدبي، وقد لا تضاف؛ لأنها وحدها إذا وجدت تبعتها الوثبة الحضارية، ثم جاءت بالتالي تلك العوامل الإضافية الأخرى، كالأذناب تلحق بالرءوس.
أما المنهج الذي اتبعه الباحث في بحثه هذا، فهو منهجٌ تجريبي يتلخص فيما يلي: اختار من عصور التاريخ — في شتى أقطار الحضارة الإنسانية — فترات ازداد فيها النشاط الحضاري، وأخرى هدأ فيها هذا النشاط أو خمد، واختار في كل حالة من الحالات، معيارًا يقيس به ذلك النشاط الحضاري زيادةً ونقصًا، كأن يختار عنصرًا معينًا، كانت له أسبقية في ميدان التجارة، أو الصناعة أو الفكر والفن، وأخذ يُحلِّل هذه النماذج المختارة، للصحوة الحضارية أو للخمول الحضاري، أخذ يحلل هذه النماذج تحليلًا بلغ من الدقة أقصى درجاتها، لعله يقع على العامل الرئيسي، الذي إذا حضر، حضرت معه الصحوة، وإذا غاب غابت الصحوة وحلَّ الخمول، فأوقعه التحليل على جوانبَ عجيبة:
منها المادة الدراسية التي يُطالعها الناشئون في المدارس أو غيرها، في الفترة التي تسبق الازدهار، أو تسبق الخمول بنحو عشرين عامًا، فوجد علاماتٍ مميزةً لتلك المطالعات الدراسية في كلتا الحالتين؛ علامات خاصة في حالة الازدهار اللاحق، وعلاماتٍ أخرى في حالة الخمول اللاحق؛ وذلك لأن تلاميذ المدارس، وهم في مراحلها الأولى، هم الذين سيصبحون بعد عشرين عامًا أو نحوها، رجال الحكم ورجال التجارة ورجال الصناعة، ورجال العلوم والفنون والآداب، وعلى نوع المادة التي تُعبَّأ بها رءوسهم وهم أطفال، تكون وجهات أعمالهم وأنظارهم وهم كبار.
لماذا اشتد الازدهار الحضاري عند اليونان الأقدمين، إبان القرن السادس قبل الميلاد، بالقياس إلى الهبوط النسبي في القرن الخامس فنازلًا؟ لماذا ازدهرت إنجلترا في القرن السادس عشر، أكثر جدًّا مما حدث لمعاصرتها إسبانيا؟ ولقد اهتم الباحث بعصرنا الحديث بصفةٍ خاصة، واختار لطائفةٍ من البلاد سنوات ازدهار وسنوات انكماش، ثم تعقب الأمور على أصولها، فيما كان قد سبق من مادةٍ دراسية، طالعها أبناء المدارس قبل الازدهار بمدةٍ كافية، أو قبل الانكماش، ولقد أجرى بحثه هذا على أربعين بلدًا من بلدان العالم المختلفة؛ ليصل إلى نتيجةٍ مرجَّحة الصواب، وهي أنه كلما ازدادت مواد القراءة التي تبعث على الأمل والعمل، جاءت النتيجة بعد ذلك بنحو عشرين عامًا زيادة في النمو الاقتصادي، والعكس كذلك صحيح، وكان من أهم ما لحظه الباحث في مطالعات البلاد التي تقدمت بعد حين، أنها احتوت على العلاقات الاجتماعية، التي تجعل الفرد يعمل من أجل نفسه، ومن أجل سواه في آنٍ معًا، كما كان من أهم ما لحظه الباحث في مطالعات البلاد التي تدهورت بعدئذٍ، أو واصلت طريق التدهور، أنها بالغت في الإشادة بالطرائق التقليدية في الفكر والسلوك.
ولست أريد أن أضع في نفس القارئ العربي ذرة من تشاؤم، لكنني أدعوه دعوةً مخلصة إلى النظر في كثيرٍ مما يطالعه أبناؤنا وبناتنا، إما خلال المواد الدراسية، وإما عن طريق ما تبثه وسائل الإعلام؛ ليرى كم من هذا المقروء والمسموع يؤدي إلى بناء الأفراد وبناء الأمة، على القيم الحضارية التي بثها في الناس، إذا أردنا حقًّا أن نصحو من سباتٍ؛ لنعوِّض ما فات من تقصيرٍ ونلحق بالطلائع؟
أذكر منذ عهدٍ قريب أن مجلةً عربية، نشرت فيما تنشره من روائع التراث، عبارة يُسأل فيها والد عن أحب بنيه إليه وأحب بناته، فقال عن أحب بناته إليه، إنها البنت التي تكون أسرع من أخواتها إلى القبر، ولعل موسيقى العبارة المذكورة، قد صادفت هوًى لدى مذيع عندنا، فسمعته يذيعها في الراديو؛ ليشهد للسامعين على عظمة الكنوز الموروثة، فهل فكَّرت المجلة أو فكَّر المذيع، حين نشرت الأولى ما نشرته، وحين أذاع الثاني ما أذاعه، ما هي القيم التي يستهدف إقامتها بما يُنشَر أو يُذاع؟
إني والله لأرى أبصارًا طامحة، وأعناقًا متطاولة، ورءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني أنا صاحبها، كأني أنظر إلى الدماء، ترقرق بين العمائم واللحى …
فمن ذا الذي يريد الآن حاكمًا يبدأ حكمه بخطبةٍ، يُهدِّد فيها أصحاب الأبصار الطامحة والأعناق المتطاولة، بأنه مُحطِّمها ومُريق دماءها؟ من ذا الذي يريد الآن حاكمًا يقول للناس — حالفًا بالله — إن رءوسهم قد حان أوان حصدها، وإنه هو صاحبها الذي يطيح بها متى شاء، تلك قيم بين حاكمٍ ومحكوم، ربما ساغت لسابقين، لكننا نرفضها اليوم رفضًا حاسمًا، ففيمَ إذن حفظ عبارةٍ كهذه وروايتها والتمزُّز بجرسها، كأنها تعبر لنا عن نزعةٍ ساديةٍ مكتومة في صدورنا؟
أول التقدم حافز يحفزنا إليه، والحافز موضعه العقول والقلوب، والذي يثبته في موضعه ذاك مقروء ومسموع، ومُحال أن نقرأ وأن نسمع ما يقذف بنا القهقري، إلى عصورٍ خلت وذهبت قيمها مع التاريخ، ثم نطمع في الوقت نفسه أن يكون لنا من الحضارة العصرية نصيب.