تحوُّلات في المناخ الفكري
سؤالٌ عن حياتنا الفكرية، طرحته أمامي، ولا أظنني قد اهتديت عنه إلى جوابٍ مريح، وهو: هل حدثت في حياتنا الفكرية ثورة تُساير الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي أحدثت لنا تغيرًا ملحوظًا لا جدال فيه؟ بعبارةٍ أخرى: هبنا قد أقمنا مقارنةً تحليلية بين أوجه نشاطنا الفكري خلال العشرينيات من هذا القرن، وما يقابلها خلال الستينيات، فهل نجد بينهما فارقًا نوعيًّا، يستحق أن يُوصف بأنه «ثورة» في عالم الفكر؟
قد يُقال إن الثورة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع، هي في حد ذاتها ثورة في الفكر، إذ ماذا يكون الفكر إلا فكرًا في موضوعات هذه الميادين؟ أم تريد للفكر أن يتحرك في فراغ التجريد، فينمو أمامنا كالجذع الأجرد، بلا ورق ولا ثمر؟ نعم، قد يُقال هذا، وهو قول لا يخلو من الصواب! ولكن أوجه النشاط الفكري التي أعنيها، ليست هي الأوجه التي تنشط بها في هذه الميادين، بل هي أقرب إلى أن تكون المبادئ الأولية والقواعد الأساسية، التي بناء عليها نقيم حياتنا الفكرية القريبة من ميادين العمل في دنيا السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولقد يحدث للناس أن تتسق لهم مبادئهم الأولية تلك وقواعدهم الأساسية، مع دنياهم في هذه الميادين، فتكون حياتهم عندئذٍ متجاوبة الأجزاء، لا شدَّ فيها ولا جذب؛ مما يحدث القلق والتوتر. ولكن قد يحدث لهم كذلك ألَّا تتسق لهم هذه مع تلك، فيعيشون النتائج من شكل، ويحتفظون بالرءوس من شكلٍ آخر، كالذي يضع أمامه قواعد النحو، ثم يكتب على خلافها، فتقول له القواعد: ارفع الفاعل وانصب المفعول، ويظل مُحتفظًا في رأسه بهذه القاعدة النظرية، ولكنه إذا كتب نصب الفاعل ورفع المفعول!
وعندما طرحت أمام نفسي السؤال عن حياتنا الفكرية: هل حدثت أو لم تحدث فيها ثورة، وحاولت الجواب، خُيل إليَّ أننا قد غيَّرنا أسطح حياته في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وأبقينا ما هو مستقرٌّ في القاع العقلي من مبادئ وقواعد، كما هو بغير تغيير؟ ولو كانت تلك الأسطح مُتمشية مع هذا القاع، لاستقرت السفائن في بحارها، ولكنهما يتنافران في مواضعَ كثيرة، فالسطح العملي في ناحية، والقاع النظري في ناحيةٍ أخرى.
ولو اصطلحنا على أن نسمي مجموعة المبادئ والقواعد «بالمناخ الفكري» أو «بالنمط الفكري»، كان الذي أريد أن أقوله، هو أن حياتنا المعيشة على صعيد النشاط العملي، قد تغيَّرت بصورةٍ ملحوظة، وأما المناخ الفكري العام، فيوشك ألَّا يصيبه من التغير شيء ذو بال، فإذا تذكرنا أن «الثورة» الفكرية بمعناها الأعمق، لا يتم قيامها إلا إذا تحوَّل «المناخ» أو «النمط» من حالٍ إلى حال، علمنا أننا ما زلنا بحاجةٍ إلى جهدٍ، يُبذَل في حياتنا الفكرية لعلنا نظفر بما نريد.
إنك لا تعرف طبيعة العصر من تفصيلات المعيشة العملية، بقدر ما تعرفها من الطابع الفكري العام، الذي تكون له السيادة في توجيه الناس، وهم بصدد الحكم على الأشياء والناس والمواقف، فمهما قلت لك من دقائق حياة الناس في مصر وفي أمريكا — مثلًا — فلا أحسبك قادرًا على تصور الفرق بينهما، بمثل ما تقدر على هذا التصور، إذا أنا استقطبت لك هذه الدقائق الكثيرة في طابعٍ عام، كأن أقول: إن في مصر يضيق المكان ويتسع الزمان (التاريخي)، وفي أمريكا يتسع المكان ويضيق الزمان، فالأرض المأهولة في مصر ضيقة، فلا تسمح لأهلها بالمغامرة، مع امتداد عمرها التاريخي، امتدادًا تترسب معه طائفةٌ ضخمة من التقاليد، فتكون النتيجة هي أن يشتد احترام المصري للمبادئ، مع قلة فرصته في سرعة الحركة وأبعادها، وأما في أمريكا فالأرض فسيحة الأرجاء، والأمد التاريخي وراءهم قصير، فتُتاح الفرصة للتحرك السريع والبعيد للسببين معًا، فلا رقعة الأرض تحول دون المغامرة، ولا التقاليد الموروثة بذات وجود فتعيق المغامر.
أعود إلى فكرتي التي أردت عرضها، وهي أن العصر، أو القوم، إنما يُعرف بالمناخ الفكري العام، أكثر جدًّا مما يُعرف بدقائق التفصيلات العملية، فهذه هي في الأغلب نتيجة ذلك، أو هكذا ينبغي أن تكون؛ لكي تتم للحياة وحدتها. وإن ذلك نفسه ليصدق على الحياة العملية ذاتها، فترى العلماء — علماء الطبيعة مثلًا أو علماء الكيمياء — لهم في كل عصر «نمط» فكريٌّ عام، يلتزمونه في منهاج البحث والنظر، ولولا ذلك لما كان لكل عصرٍ علمي طابعٌ خاص يميزه، فلقد كان النمط الأرسطي في التفكير، هو المناخ الغالب على علماء العصور الوسطى جميعًا — في الشرق وفي الغرب على السواء — فالعناصر الأولية التي كانوا يردُّون إليها الكائنات، هي العناصر الأربعة المعروفة التي أخذ بها أرسطو، وطريقة الاستدلال العلمي هي نفسها الطريقة القياسية التي صاغها أرسطو، وهكذا، فإذا قلنا إن النهضة الأوروبية قد أحدثت «ثورة» في الفكر، كان معنى ذلك أنها غيرت «النمط»، واستبدلت به «نمطًا» آخر، سواء بقيت النتائج العلمية القديمة أو تبدَّلت؛ إذ المعول في الثورة الفكرية هو على النمط العام في طريقة التفكير، لا على تفصيلات النتائج ودقائقها.
ولا تحدث الثورة الفكرية — بمعنى إحلال مجموعة من المبادئ النظرية محل مجموعةٍ أخرى — دفعةً واحدة؟ أو على الأقل أن مثل هذا التغيير المفاجئ لطريقة التفكير، لم يحدث خلال التاريخ، وإنما تتم الثورة الفكرية، بتحولاتٍ تدريجية تنقل الناس شيئًا فشيئًا، من نمطٍ فكريٍّ قديم إلى نمطٍ آخرَ جديد، ومتى يحدث هذا التحول؟ إنه يحدث كلما طالع الناس في حياتهم وقائع، يستحيل تعليلها بمبادئهم القديمة؛ فيضطرون اضطرارًا إلى اصطناع مبادئَ جديدة، تُفسِّر لهم تلك الوقائع، فمثلًا: كان الناس ذات يومٍ على مبدأ، أن الارض ثابتة والكواكب تدور حولها (وهذا هو النمط البطليموسي في الفلك)، فظهرت لهم أشياء لا يمكن فهمها وتفسيرها، إلا إذا غيرنا المبدأ وجعلنا الأرض — كغيرها من كواكب المجموعة الشمسية — تدور حول الشمس (وهذا هو نمط كوبرنيق في النظر)، وعندئذٍ يُقال بحق إن ثورةً فكرية قد حدثت في تاريخ العلم.
والأغلب ألَّا يغيِّر الناس طريقتهم في التفكير، عند أول استثناء يظهر لهم في الأفق، بل تظل الاستثناءات تتراكم، والنمط القديم باقٍ، إلى أن تتأزَّم الأمور لكثرة الحقائق، التي لا تتفق مع الطريقة القديمة في التفكير، وهنا يرجح أن يظهر في الناس رجل؛ ليقدم نظرةً جديدةً قادرة على حل المتناقضات التي تراكمت، فتكون هذه هي «الثورة» الفكرية.
وعقيدتي هي أن ثورةً فكرية كهذه، لم تحدث لنا خلال هذا القرن كله، برغم التغيرات الكثيرة، والهامة، التي طرأت على صورة الحياة؛ وذلك لأن النمط الفكري القديم باقٍ كما كان دائمًا، والعجيب الذي يلفت النظر، هو أن الفجوة الكائنة بين ذلك النمط الفكري من جهة، وتفصيلات الحياة الجديدة من جهةٍ أخرى، لا تحدث فينا شيئًا من القلق أو التوتر، الذي لو حدث لحفزَنا إلى سد الفجوة، بالملاءمة بين المبادئ العامة وتفصيلات الحياة العملية.
تمنيت لو أن الفرصة مُتاحة هنا، لتحليل مناخنا الفكري القديم إلى أهم عناصره، ولكن حسبي أن أوجز القول في عبارةٍ واحدة، فأقول إن طريقتنا في النظر لم تزل — كما كانت منذ قرون — هي البحث في الموروث عن «الشواهد» التي تُبرِّر الجديد أو لا تبرره، فكأننا نمسك بين أيدينا قالبًا من حديد؛ لنرغم الحياة المتدفِّقة الفوَّارة على الخلود فيه إلى سكينة النائم، تتغير حياتنا وذلك الإطار الحديدي لا يريد أن يتغير، وما لم تحدث في مناخنا الفكري تحوُّلات، تُوائم بينه وبين صور الحياة الجديدة، فسيظل التنافر قائمًا بين الرأس والقدمين.