بداوة وحضارة
من أبرع اللفتات الفكرية عند ابن خلدون، فكرة الصراع بين البداوة والحضارة، بالمعنى الخاص الذي قصد إليه بهاتين الكلمتَين، وهي فكرة استمدَّها استدلالًا مما لحظه من حوله على أرض الواقع، وفي بلاد المغرب بصفةٍ خاصة، فنظرة خاطفة إلى خريطة الوطن العربي الكبير، تكفينا لندرك الصورة في إجمالها، وهي أن ذلك الوطن قوامه الصحراء، التي هي أوسع الصحراوات اتساعًا على وجه الأرض، تطرز حوافيها مراكزُ عريقة في الحضارة، تمتد مع شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتعبر بلاد الشام إلى العراق، لتعود فتمتد على شواطئ الخليج العربي والبحر الأحمر، فكأنك — إذ تنظر إلى خريطة الوطن العربي — فإنما تنظر إلى رقعةٍ فسيحة من النسيج الأصفر، توشي أطرافها — دائرًا ما تدور — زخارف الألوان.
وهنا تأتي الملاحظة البارعة الناقدة، التي ذكرها ابن خلدون، وهي أن الصراع ما انفك قائمًا بين ثقافة المتوسط وثقافة الأطراف، والثقافة الأولى هي ما أسماه ﺑ «البداوة»، والثقافة الثانية هي ما أسماه ﺑ «الحضارة»، أي أن الأمر بينهما لم يكن أمر تخلُّف هناك وتقدُّم هنا، بمعنى أن تكون البداوة مرحلة تجيء سابقة على طريق التطور، ثم تأتي بعدها مرحلة الحضارة، بل الأمر بينهما هو أمر ثقافتَين متجاورتَين، لكلٍّ منهما خصائصه التي يتميز بها، ولما كانتا متجاورتَين على النحو الذي ذكرناه، فقد شهدتا تفاعلًا هو الذي حدَّد مسار التاريخ في هذه الرقعة الفسيحة من الأرض، ولكنه تفاعل لم يكن متوازن الكفتين، بحيث يتعادل التأثر والتأثير، بل كان الأرجح فيه طغيان البداوة على الحضارة أحيانًا، فتهجم الثقافة الأولى على ظهور جيادها وفي ظلال سيوفها، لتغزو الثقافة الثانية في حصونها وقلاعها.
وأبزر العناصر في المركب الثقافي الذي نعنيه بكلمة «البداوة»، العصبية للقبيلة أو العشيرة، والركون — في تأمين المستقبل ضد مفاجآت الحوادث — إلى «المروءة» التي هي مزيج من الكرم والشهامة في نجدة المحتاج، ويقابل هذه الخصائص في المركَّب الثقافي الآخر، الذي نطلق عليه اسم «الحضارة» في سياق حديثنا هذا، الانخراط في بناء الدولة، والانصياع عن طواعية للقوانين، التي تسنُّها تلك الدولة لتنظيم شئون الحياة، وأما تأمين المستقبل فوسيلته في هذه الثقافة الحضارية، هي ادِّخار المال الفائض، ادخارًا يُبقيه كما هو، أو يستثمره في إنتاجٍ جديد.
ولننظر الآن إلى مصر بصفةٍ خاصة، فما الذي حدث لها في كيانها الثقافي، خلال هذا الصراع بين بداوة الوسط وحضارة الأطراف؟ لقد كانت مصر على امتداد تاريخها الطويل، مركزًا هامًّا من تلك المراكز الحضارية، التي قال عنها ابن خلدون إنها ما فتئت مهددة بهجمات «البداوة»، تأتيها من خارج حددها، وإذن فلا بد أن تكون قيمها الأساسية قد ارتجَّت آنًا بعد آن، حتى تداخلت فيها عناصر البداوة مع عناصر الحضارة في مزيجٍ، قد يتعذَّر فيه أن نرد كل عنصر إلى أصله، إلا بعد تحليلٍ هادئ ودقيق.
وربما كان من أوضح المعالم التي تستوقف النظر عند التحليل، أن ثمة ينبوعًا مشتركًا بين ثقافة البداوة الوافدة إلينا من الصحراء، وثقافة الريف الزراعي كما انتهى أمرها تحت سطوة الطغاة، الذين استبدُّوا بالحكم في مصر قرونًا طويلة، وهذا الينبوع المشترك هو فقدان الأمل في كلتا الحالتين — لأسبابٍ تختلف في إحدى الحالتين عنها في الأخرى — فنتج عن الشعور بقِلَّه الأمان مجموعة من القيم في بداوة الصحراء، ومجموعةٌ أخرى من القيم في حضارة الريف الزراعي، فلما غزت ثقافة البداوة بمجموعة قيمها، ثقافة مصر بمجموعة قيمها، حدث مركَّبٌ خليط هو الذي نحياه نحن اليوم.
ولا بد لي أن أذكر، في هذا الموضع من الحديث، أن المركَّب الثقافي الذي نشير إليه بكلمة «بداوة»، هو نفسه المركَّب الثقافي الذي يُشار إليه بكلمة «الجاهلية»، أعني أنه هو مجموعة العناصر الأساسية، التي سادت شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، والذي كان من بين ما استهدفته الدعوة الإسلامية أن تحدَّ من غلوائها وتطرفها؛ تقريبًا لها من خصائص الحياة الحضارية، فليست «الجاهلية» من «الجهل»، وإنما هي اسم يدل على صفات رأى فيها البدوي الجاهلي مثله الأعلى: الحفاظ على العرض، الثأر، الإسراف في الكرم، وتبذير المال، والإسراف في القتل والعنف والزهو بالنفس … إلخ.
قلت إن صفات البداوة الأصيلة، قد انبعثت من الشعور بعدم الأمان الكافي لبثِّ الطمأنينة، وكذلك أدى الشعور نفسه بعدم الأمان الكافي، لطمأنينة النفس إلى مجموعة صفاتٍ أخرى في حضارة الريف المصري، فقد كانت النتائج في الحياة البدوية هي انتشار روح القتال والتحفز بالسيف والخنجر، وضرورة الأخذ بالثأر من المعتدي، ولا عجب أن سادت بين البدو سرعة الانفعال والشعور بالكبرياء، والشجاعة الجريئة في الحروب وأمام المخاطر بشتى صنوفها، وأما نتائج الحياة غير الآمنة في الريف المصري، فقد اختلفت؛ لأنه بينما البدوي متنقل أبدًا لا يستقر في مكان، فإن الريفي ثابتٌ على أرضه؛ ولذلك فقد آثر التقية واصطناع الحيلة للنجاة من الخطر، بدل الوثوب إلى ظهور الجياد والسيف في يده، كما آثر الصبر والهدوء المتمهل على سرعة الانفعال وحدَّة الغضب، وآثر الوداعة على العنف وسرعة الاعتداء، وإن الفرق بين البدوي الأصيل والريفي الأصيل، ليتمثل في نوع الرئيس الذي يختاره كلٌّ منهما، فبينما البدوي يفضل أن تئول الرئاسة إلى المهاجم الجريء، يفضل الريفي أن يلقي بزمام الرئاسة إلى من تتحقق فيه صفات الوالد العطوف.
وكانت الصفات التي يحترمها البدوي، هي نفسها الصفات التي يزدريها الريفي، فالأخذ بالثأر عند البدوي واجبٌ محتوم، مع أن الريفي لا يستريح إليه ويفضل المصالحة، أو الاحتكام إلى حكمٍ يقضي بين الخصمين، يحب البدوي حياة العنف، وأما الريفي فيستعذب الحياة الآمنة الوادعة، يستنكر البدوي أن يجيئه الموت وهو راقدٌ في فراشه، بينما الأمل عند الريفي في أن يستوفي الأجل محوطًا بأهله، ولئن كان البدوي والريفي معًا يرحبان بنسل الذكور، فإنما يصدران في ذلك عن هدفَين مختلفَين: الأول يطلب الذكور للقتال، والثاني يطلبهم لفلاحة الأرض، وتعلَّقت حياة البدوي بناقته وجواده؛ لأنهما دابتا سفر وفروسية، وأما حياة الريفي فقد تعلقت بالجاموسة والبقرة؛ لأنهما دابتا زرع وضرع.
ونستطيع أن نمضي في أمثال هذه المقارنات، لكن حسبنا ما ذكرناه لنوضح به ما أردنا توضيحه، تعليقًا على الفكرة الرئيسية التي استعرناها من ابن خلدون، عن الصراع الذي ما انفك قائمًا طوال عصور التاريخ، بين ما أسماه «بداوة» وما أسماه «حضارة»، والذي أردنا توضيحه هو أن هاتين المجموعتَين من الصفات والقيم، قد اختلطت إحداهما بالأخرى في مجتمعنا المصري، حتى انتهينا بهذا الخليط إلى وضعٍ فيه ما يصلح لحياتنا المتحضِّرة، وفيه كذلك ما لا يصلح لها، فمثلًا: قد بقيت لنا من صفات البداوة فكرة الأخذ بالثأر (على الأقل في بعض أجزاء البلاد دون بعض)، مع أنها فكرة لا تتسق مع مجموعة الصفات الحضارية، وبقيت لنا كذلك بعض الآثار من احتقار البدوي للحرف اليدوية، مع أن البدوي عندما ازدرى الحرف اليدوية امتشق بدلها السيف ليشغل به يديه، على حين أننا حين تابعناه في هذا الازدراء، أبقَينا أيدينا فارغة من أداة القتال، فراغها من أداة العمل، وكذلك بقيت لنا من صفات البداوة تلك «العنطزة»، التي لا يسندها رصيد من حياة النشاط المنتج، مع أن إحدى قيمنا الريفية الحضارية الأصيلة أن نزرع لنحصد.
إننا إذا أردنا تعميرًا حضاريًّا — ونحن نزعم أننا نريد ذلك — تطلب الأمر دراسةً تحليلية للقيم السائدة، لنجتثَّ منها رواسب البداوة، حتى لا يبقى بين أيدينا إلا قيم الحضارة، التي هي جزء من أصولنا وجذورنا، على أنه إذا كان الشعور بقلة الأمان والأمن، هو العلة التي نتج عنها ما نتج — في البداوة وفي الحضارة معًا — من صفاتٍ لا تتفق مع التقدم الحضاري الواثب السريع، فإن أول ما يجب علينا تحقيقه هو بث الشعور بالطمأنينة، وذلك وحده كفيل بإيجاد الخصائص التي يتطلبها التعمير الحضاري المطلوب.
لقد حدث لي ذات يوم أن طلب إليَّ صديق، كان في موقع المسئولية من حياتنا الثقافية، أن أعاونه في رسم خطة تصلح للهداية فيما ينبغي عمله ليتغير المجتمع، فقدمت له تخطيطًا مؤدَّاه أن نُغيِّر من بعض القيم على المدى الطويل، فنظر صديقي إلى ما اقترحته عليه، ثم سألني وابتسامة الإشفاق على شفتيه: كم عامًا تكفي لتنفيذ هذه الخطة الثقافية؟ فأدركت أنه إنما أراد شيئًا ذا مفعولٍ سريع، تبدو فقاقيعه على صفحات الجرائد غدًا، وأجبته وابتسامة الإشفاق أيضًا على شفتي: ألف عام! وكنت بهذه الإجابة لا أخلو من السخرية، بمن يريدون تغيير المجتمع بين طرفة عين وانتباهتها؛ لأنهم في الحقيقة يريدون الزياط المسموع، ولا يأبهون بعد ذلك للنتائج تمتد في جذورها الراسخة، يريدون الزبد الذي يذهب جفاء، ولا يهتمون لما يمكث في الأرض مما ينفع الناس.