حرية الفلاح المصري
هي عبارةٌ غريبة، وقفت عندها، وأردت أن يقف معي القارئ مشاركًا في النظر، وأعني بها عبارة وردت في محاضرةٍ عامة، ألقاها المفكر البريطاني المرموق «أزايا (= أشعيا) برلين»، في جامعة أكسفورد سنة ١٩٥٨م، وكان عنوان المحاضرة «فكرتان عن الحرية»، ثم ضم هذه المحاضرة مع ثلاثة فصولٍ أخرى، كلها تدور حول فكرة «الحرية» في كتابٍ صدر حديثًا، جعل عنوانه: «أربع مقالات عن الحرية»، ولقد بلغ «أشعيا برلين» من الشهرة في الفكر الإنجليزي المعاصر، ما استحق به أن يُمنح لقب «سير»، وكان الرجل أستاذًا للعلوم الاجتماعية والسياسية في أكسفورد، ثم عميدًا للكلية التي يعمل فيها، ولعله ليس من فضول القول أن أذكر عنه، بأنني كنت قد التقيتُ به في دلهي، عندما أقامت حكومة الهند مهرجانًا أدبيًّا سنة ١٩٦١م، للاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد شاعرها العظيم رابندرانات تاجور، دُعيتُ له من مصر، كما دُعي له أزايا برلين من بريطانيا، وكما دُعي له كذلك آخرون من أقطار العالم، ولقد كنت على علمٍ بشيء مما كتبه «برلين» قبل ذلك، خصوصًا كتابه «القنفذ والثعلب»، الذي أراد به أن يميز بين ضربَين من ثقافات البشر، فضربٌ منهما ينطوي على نفسه؛ فيكون كالقنفذ في طبيعته، والضرب الآخر متطلِّع يجول في فجاج الأرض، يلتمس المعرفة حيثما وجدها؛ فيكون أشبه بالثعلب في جَوَلانه، نعم، كنت على علمٍ بشيء مما كان قد كتبه «برلين» قبل ذلك، لكني وجدت الرجل محدِّثُا أقل منه كاتبًا، فشاهت صورته في خيالي إلى حدٍّ ما، عندما رأيت لسانه كيف تثقل به الحركة بين شدقيه، بما لا يتناسب قط مع قلمه، وكيف يسلس له الجريان على الورق.
أما العبارة التي وقفتُ عندها، في الفصل الذي عرض فيه «فكرتَين عن الحرية»، فخلاصتهما ما يلي: إن معنى الحرية يختلف بين الناس اختلافًا بعيدًا، فليس معناها عند أستاذ في جامعة أكسفورد، كمعناها عند الفلاح المصري. إننا نكون بمثابة من يسخر من الفلاح المصري، إذا منحناه حقوقه السياسية، وأقمنا له الضمانات التي تضمن له، ألا تتدخل الدولة في شئونه الخاصة، لينعم بحريته الشخصية، نعم، إننا نكون بمثابة من يسخر من بؤسه، إذا منحناه تلك الحقوق والضمانات، بينما هو على حالته من عري، وأُمية، ومرض، ونقص في الغذاء. إن ذلك الفلاح إنما يحتاج أولًا إلى الرعاية الطبية، وإلى التعليم؛ لكي يُتاح له أن يفهم الحرية، وأن يعرف كيف يكون استخدامها؛ إذ ما لم تتوافر الظروف، التي تمكن الإنسان من الانتفاع بحريته، فإن هذه الحرية تفقد كل قيمتها، والأمر هنا كالأمر الذي أشار إليه كاتبٌ روسي في القرن التاسع عشر، حين قال ما معناه إن هناك حالات يكون فيها الحذاء عند الإنسان، أرفع قيمة من كل ما أنتجه شيكسبير، والفلاح المصري — هكذا يستطرد أشعيا برلين في حديثه — بحاجةٍ إلى الثياب وإلى الدواء، قبل أن يكون بحاجةٍ إلى حريته الشخصية، على أننا — برغم ذلك — لا ينبغي لنا أن نفهم من ذلك، أن الحد الأدنى من الحرية الشخصية، التي لا بد لذلك الفلاح أن ينعم بها، وما قد يضاف إلى ذلك الحد الأدنى فيما بعدُ من حريات، ليست «نوعًا» آخر من الحرية، غير النوع الذي ينعم به الأستاذ في جامعة أكسفورد، أو ينعم به الفنان، أو صاحب الملايين؛ لأن الحرية صنفٌ واحد، لا يتعدَّد بتعدُّد الشعوب.
كان أول سؤال ألقيه على نفسي همسًا، بعد قراءة هذه الفقرة من كتاب «أشعيا برلين» هو هذا: ولماذا الفلاح المصري دون سائر خلق الله؟ ألم يجد الكاتب من كل من حوله من شعوب الأرض أحدًا يقارن حريته — أو عدم حريته — بحرية أستاذ في جامعة أكسفورد؟ (ولعله يقصد في نفسه في هذه المقارنة)، على أن هذا السؤال الذي همست به لنفسي، لا يصلح وحده جوابًا ولا تعليقًا على ما أورده الكاتب في عبارته التي أسلفناها؟ فخلاصة الرأي الذي أرادنا الكاتب أن ننطبع به، هو أن فتح الطريق أمام الفلاح المصري، نحو مزيد من حريته الخاصة في حياته، هو ضرب من العبث الساخر، ما دام ذلك الفلاح على حالته، من عريٍ ومرض وجوع وجهل.
فالسؤال الإيجابي الذي نوجِّهه إلى المفكر البريطاني هو: على فرضٍ جدلي بأن طبائع الفلاح المصري على تلك الحضارة التي صوَّرها الكاتب، فهل تدل طبائع الأمور وحقائق التاريخ المصري، على وجوب مراعاة الترتيب الزمني، بحيث يظل المستعبَد مستعبدًا، إلى أن تتحسن حياته، فيكتسي بعد عري، ويشبع بعد جوع، ويصحَّ بعد مرض، ويعلم بعد جهالة؟ ومن ذا الذي — يا ترى — سيكفل له هذه الجوانب كلها نيابةً عنه؟ هل قعدت إنجلترا عن المطالبة بالحرية السياسية من حكامها — عندما ظفرت «بالماجنا كارتا» في قلب العصور الوسطى، أقول هل قعدت إنجلترا عن تلك المطالبة، انتظارًا ليوم يتحقق فيها للشعب، ما كان ينقصه يومئذٍ من مقومات الحياة؟ أو أن الأمر قد جرى على عكس ذلك تمامًا، وهو أن يطالب الشعب لنفسه بحريته من طغيان حاكميه؛ لكي يتسنى له في ظل الحرية أن يحقق لنفسه ما يريد؟
ثم أنتقل مع المفكر البريطاني إلى مسألةٍ أخرى، أراها أخطر وأهم، وهي هذه: أصحيح أن الفلاح المصري تنقصه الحرية إلى الدرجة التي تخيَّلها ذلك الكاتب؟ إنه لخلطٌ كثير الوقوع، وهو أن يخلط المفكرون عندما يُصدرون أحكامهم على الشعوب، بين «من هو هذا الشعب الفلاني؟» من جهةٍ، وبين «ماذا يملك من القوى الاقتصادية في لحظةٍ عابرة من الزمن؟» من جهةٍ أخرى؛ إذ سرعان ما تغري حالة فقر عابرة يمر بها شعبٌ معين، بالظن بأن ذلك الفقر العابر دليل فقرٍ حضاري كذلك، وما هكذا حقائق التاريخ في كثيرٍ جدًّا من الحالات.
فما هي «الحرية» التي يراها أشعيا برلين، قد انعدمت في الفلاح المصري، وتمتع بها الأستاذ في جامعة أكسفورد؟ لعله يعلم أكثر جدًّا مما أعلم في مجال الفكر السياسي (لأنه ميدان تخصصه هو، وليس ميدان تخصصي أنا)، بأن مؤرخي الأفكار السياسية في حياة الإنسان، قد أحصوا لمفهوم «الحرية» أكثر من مائتي معنًى، وردت كلها عند الشعوب المختلفة في العصور المختلفة، وفي الظروف والمواقف المختلفة، فما هو المعنى من بين هذا العدد الضخم، الذي وجد المفكر البريطاني أن الفلاح المصري — في إطار ذلك المعنى — لا ينعم بشيءٍ مما ينعم به الأستاذ في جامعة أكسفورد؟ نعم، إن للأستاذ في جامعة أكسفورد ضروبًا كثيرة من الحرية، لا تطوف للفلاح المصري ببال، ولكن ألا يجوز أنها لا تطوف بباله؛ لأنه لا يريدها، في الوقت الذي اختار لنفسه فيه ضربًا من الحرية آخر، لا يريده الأستاذ في جامعة أكسفورد، بل وربما لا يستطيعه حتى إذا أراده، وأعني به الحرية من قيود الرغبات العاجلة العابرة، ابتغاء قيمٍ أعلى؟ ولا تقل لي متسرعًا ما يقوله كثيرون عن غير وعي: إن الحرية هي بين القيم الإنسانية أعلاها؛ لأنها لو كانت كذلك لما قبل الإنسان، أن يضحِّي بجزءٍ منها عند نشأة المجتمع، في سبيل حصوله على قيمٍ أخرى، كالمساواة والعدالة والأمن، والإبداع الفكري والفني إلخ.
لقد عرفت أستاذًا للفلسفة في إحدى جامعات أمريكا، كنت أُزامِله في الجامعة نفسها وفي قسم الدراسات الفلسفية منها، وكان ذلك إبان فترةٍ قضيتها هناك أستاذًا زائرًا، فكان الأستاذ الأمريكي يملك بيتًا صغيرًا في قلب غابة، تقع على بحيرة عند الحدود الفاصلة بين الولايات المتحدة وكندا، وكان له في تلك البحيرة زورقٌ بخاري، فإذا ما جاءت عطلة آخر الأسبوع، أحيانًا يذهب بسيارته مصحوبًا بأسرته، ليقطع بها مئات الأميال، حتى يبلغ طرف البحيرة، فيجد زورقه البخاري هناك في انتظاره، فينتقل من سيارته إلى زورقه، فيشقُّ به ماء البحيرة، وصولًا إلى مكان منزله الصغير داخل الغابة، فيقضي ما بقي له من ساعات الراحة، ثم يعود هذا الطريق كله، ليستأنف عمله بالجامعة في أول أيام الأسبوع الجديد، وإنه ليعود ليشكو إليَّ قلة ماله، والأزمات التي تحيط به وصعوبة التغلب عليها، كنت أعجب من تصرفه وكان يعجب من تصرفي، فهو «حر» الحركة، لكنه بتلك الحركة الواسعة يوقع نفسه في مشكلاتٍ اقتصادية، قد يتعذَّر حلها عليه، وأما أنا فقد كنت بالنسبة إليه «مقيَّد» الحركة، لكني في الوقت نفسه، لم أكن أعاني ما كان يعانيه من أزمات، برغم قلة «المنحة» المالية التي كنت أتقاضاها، بالنسبة إلى راتبه الكبير، فها هنا ضربٌ من الحرية عند أستاذٍ جامعي، لم أكن راغبًا فيه، كان في حركته ناشطًا، ليس لديه فرصة للتفكير الطويل، في موضوعات اختصاصه الجامعي، وكنت في قيودي مُقعدًا، لكنني نعمت بفرصة التفكير، فيما أقرأ وما أكتب.
ولا أقول ذلك لأُفاضل بين حياةٍ وحياة، بل أقوله لأوضح فكرتي، بأن الحرية ضروبها كثيرة، قد ينعم بضربٍ منها إنسان، ويمسك عن ذلك الضرب نفسه إنسانٌ آخر عامدًا، ليحقِّق ما يظنه أفضل وأَولى.
والفلاح المصري تتراكم في فؤاده طبقاتٌ حضارية، جاء بعضها فوق بعض على طول الزمان، والبحث في ثقافته المخزونة المتراكِمة، هو كالبحث الجيولوجي في طبقات الصخور، إن قلبه لا يزال ينبض برواسب حضارة الفراعنة، في فنها وإيمانها وفتوَّتها، وبرواسبَ أخرى من حضارة اليونان والرومان، ورواسبَ ثالثةٍ من حضارة العصر المسيحي، وبطبقةٍ عميقة فوق ذلك كله من حضارة الإسلام، ثم جاءت حضارة هذا العصر لتكون غلافًا يحيط بهذا كله، دون أن يمحو منه شيئًا.
فإذا انخدع مشاهدٌ خارجي — حتى ولو كان «سير أزايا برلين» — بما قد يبدو على الفلاح المصري، من بعض الفقر والمرض والأمية، فقال لنفسه: إنه لا حرية لمثل هذا المسكين، فقد فاته الجوهر وخدعته القشور؛ لأن الفلاح المصري يحيا حياة فيها من ضروب الحرية أسماها، وأعني بها حرية القيد الأخلاقي، الذي يفرضه الإنسان على نفسه، حين يكون في وسعه أن يستهتر ويعربد.
إن أزايا برلين في كتابه هذا، يُقرِّر لنا أن السؤال الرئيسي في النظرية السياسية، هو سؤال عن «الطاعة»: فلماذا أطيع سواي؟ ومن يكون هذا «السواي»؟ وإلى أي حدٍّ أطيعه؟ على أن هناك حدًّا فاصلًا ضروريًّا في حياة الإنسان، يفصل بين رقعةٍ هي حياته الخاصة، التي لا يطيع فيها أحدًا إلا ضميره، ورقعةٍ أخرى هي حياته المشتركة العامة التي تخضع للقوانين، وها هنا تكون الطاعة للقانون، ثم يكون سؤالنا عن هذا القانون: من الذي يضعه، ومن الذي يحميه؟ هو لب النظرية السياسية.
وأخذًا بهذا التعريف نفسه، وتطبيقه على حياة الفلاح المصري، فإني ألحظ ما لا يلحظه سير أزايا برلين في فلاحنا المصري، وهو أن لهذا الفلاح حياةً خاصة، قوامها أسرته وعقيدته، ولم يشهد التاريخ مرةً واحدة، اعتدى فيها المعتدون على تلك الحياة الخاصة، دون أن يتصدى الفلاح المصري لأولئك المعتدين، وأما ما وراء ذلك من حياةٍ عامة فيها حكومة وفيها قوانين، فهو يضعه في المرتبة الثالثة من اعتباره واهتمامه؛ لأن تاريخه الطويل قد علَّمه درسًا نافعًا، وهو أن حياة الحكومات والحكام والقوانين الوضعية، كلها أمور تجيء وتذهب، فلا تستحق كل الحرص الذي تجعله النظريات السياسية الحديثة أحق بكل اعتبارٍ واهتمام.
ولو عاش الأستاذ في جامعة أكسفورد، ما عاشه الفلاح المصري، فقد يرى ما يراه من تفرقةٍ بين ما يتبخَّر مع الأيام، وما يبقى بقاء الخلود.