وجدان هذا الشعب
كانت الكاتبة القصصية «أدنا أوبرايان» قد أمسكت عن الكتابة بضع سنوات، وخلدت إلى الراحة في مسكنٍ هادئ، يحيط به الجمال في بساطته، أو البساطة في جمالها، فلما سئلتْ: لماذا لا تكتبين؟ قالت: إن حياة الناس لم تعد تُمدُّني بما يستحق الكتابة؛ لأنهم — في حياتنا المكروبة اللاهثة — قد أغلقوا صدورهم على أنفسهم، ولم يعودوا يفصحون بشيءٍ ذي دلالة! ولكن الكاتبة لم تكد تذيع حديثها هذا تبريرًا لصمتها، حتى رأت شابًّا صديقًا لولدها، وكان ذلك الشاب بهي الطلعة إلى درجةٍ أوقفت نظرها! فسألت ابنها عن صديقه ذاك: ما طبيعته؟ فأجابها ابنها بقوله: هو يا أمي من ذلك الطراز من الناس، الذي يعطيك نصف طعامه، إذا لم يكن هناك إلا طعامه، وعنده أن صديقين يكونان معًا بين الشبع والجوع، خير من أن يشبع أحدهما كل الشبع، ويجوع الآخر كل الجوع.
سمعَت الأم الكاتبة هذا الوصف عن صديق ابنها، فعجبت في نفسها لهاتين الصفتين تجتمعان في إنسان، ولم تعهدهما تجتمعان في أحد، وهما أن يكون جميل الخلقة وكريم الخلق في آنٍ معًا! وكأن اجتماع هذين الضدَّين (من وجهة نظرها) في ذلك الشاب، أقرب إلى الكشف الجديد عن طبيعة الإنسان؛ فالخلقة الجميلة لا تتنافى مع الخُلق الجميل. وخرجت الكاتبة من دارها، لتجلس وحدها على أريكةٍ في متنزَّهٍ عام، سارحة بتأملاتها في هذه التركيبة البشرية، التي لم يقع في ظنها أنها قد تتحقق في دنيا البشر، وإذا بقصةٍ تنفجر في خيالها، كاملة من الفاتحة إلى الختام، ثم ما هي إلا أن عادت إلى دارها لتبدأ من فورها، في كتابة القصة، حتى فرغت منها في أيامٍ قلائل، وجعلت لها عنوانًا معناه: أيها الإنسان، إني لا أكاد أعرف عنك شيئًا، وهي قصة يُنتظر صدورها بعد حينٍ قصير.
لكن الخلاصة الموجزة التي نشرتها الصحف الأدبية قبل صدور الكتاب، أثارت في نفسي تعجبًا وتساؤلًا؛ إذ قالت لنا تلك الخلاصة إن مدار القصة، هو أن ذلك الفتى الجميل جسدًا وروحًا، قد أحب فتاة، وسار معها شوط الحب، حتى انتهى به الأمر أن غدرت به حبيبته، فاغتالته في غير رحمة! فيا عجبًا! هل أرادت الكاتبة بذلك أن تقول إن ذلك الطراز النادر من البشر لا يعيش؟
وليس لي شأن هنا برأي الكاتبة الذي استمدَّته من خبراتها في وطنها، وإذا سمحتُ لنفسي أن أُترجم جمال الجسد وجمال الروح، اللذين هما عند الكاتبة البريطانية ضدان لا يجتمعان، ثم أنظر بعد ذلك في خبرتي، التي أستمدُّها من وطني وشعبه لأسأل: هل دلَّت الشواهد على أن الفطرة الموروثة فينا والفضائل المكتسبة، ضدان لا يتلاقيان في أحد؟ فإذا سلمت الفطرة فسد الخلق المكتسب؟ لست أظن ذلك، وربما كان هذا الجمع بين الجميلين — جمال الفطرة وجمال الاكتساب — هو مما يميزنا، ولا ينفي عنا ذلك أن يشذَّ أفرادٌ إما في جانبهم الفطري، وإما في أخلاقهم المكتَسبة، وإما في الجانبَين معًا، وهو شذوذ إذا ما وقع، شد أبصارنا إليه، بحيث نلتقي كلنا في غضبةٍ واحدة، تنفث غضبها في زمجرةٍ واحدة، كتلك الغضبة القومية الشاملة التي غضبناها؛ لقتل المغفور له الدكتور محمد حسين الذهبي.
عرفت الرجل من مسافةٍ قريبة، حين اجتمعنا ذات حين في جامعةٍ واحدة، هي جامعة الكويت، يُدرِّس الشريعة وأُدرِّس الفلسفة، فما رأيت فيه إلا رجلًا يمثل وجدان شعبنا خير تمثيل، ولكن ماذا أريد بعبارة «وجدان شعبنا»؛ تلك العبارة الغزيرة بمضمونها، العميقة بأبعادها؟
لقد تعودت أن أفهم المعاني العامة المجردة، مستعينًا بتطبيقاتها التي تتجسد فيها، وماذا يكون «معنًى» لا أراه وهو يمشي على قدمَين؟ ماذا يكون «مبدأ» لا أجده ناطقًا متحركًا مشخَّصًا في أفرادٍ يحيونه ويتمثلونه؟ ومثل هذا القول هو الذي أغضب مني كثيرين — زملاء وغير زملاء — لأنهم كثيرون جدًّا بيننا؛ أولئك الذين يحبون للمبادئ وللمعاني وللأفكار، أن تظل في رءوسهم أطيافًا أو أشباحًا، لا يكتب لها أبدًا أن تخرج من محبسها ذاك، لتكتسي لحمًا وعظمًا، ولتجري في عروقها دماء الحياة الحقيقية النشيطة، التي تدب بأقدامها على الأرض سعيًا نحو تحقُّقٍ كامل.
ولا أقول إن إخراج الأفكار المجرَّدة إلى عالم الأحياء والأشياء، بدل احتباسها أوهامًا في الرأس أو ألفاظًا على اللسان، لا أقول إن ذلك المطلب أمرٌ هين، كلا ولا هو بالأمر الذي يصبر على صعوبة تحقيقه كل الناس، فأكثرهم — كما أسلفت — يؤثر لنفسه الراحة، فترى الواحد منهم ينزلق على أعوص الأفكار والمعاني انزلاقًا، لا يعبأ بما قد يكون تحت السطح، الذي ينزلق عليه من أغوار، إنه ينزلق على أسطح الأفكار والمعاني، كما ينزلق اللاعب على سفح جبلٍ مثلوج في فصل الشتاء، لا يعنيه إلا هذا السطح الذي ينزلق عليه، وبهذه السهولة في حياته الفكرية، لا يعارض في أن ينعم الآخرون بسهولةٍ مثلها، فتكون النتيجة الأخيرة التي نتورط فيها، هي أن نجد أنفسنا في مناخٍ فكري، نُردِّد فيه الألفاظ ونتبادل الكلمات والعبارات، لا نفهم معانيها ولا نتعمق أبعادها.
لقد استطرد الحديث بي هكذا، بعد أن سألت قائلًا: وماذا تعني بعبارة «وجدان الشعب»؟ لأنني موقِن بأن معظم القارئين على استعدادٍ بأن يقبلوا هذه العبارة، وكأنها واضحة كل الوضوح، لا تستدعي شرحًا ولا تحليلًا، فاستطردت في الحديث؛ لأُنبِّه إلى أن ما يُظن به الوضوح والفهم، قد لا يكون كذلك.
وأولى الصعوبات التي تعترضنا، في محاولتنا توضيح «الوجدان الشعبي» ما هو؟ هي صعوبة التفرقة بين جانبَين، لا بد منهما معًا للإنسان في حياته — سواء كانت حياةً فردية أو حياةً اجتماعية — وهما جانب الاستمرار الذي يضمن للماضي، أن يرتبط بالحاضر والمستقبل في هويةٍ واحدة، وجانب التغيُّر الذي يتيح للإنسان أن يجدد في حياته بحسب ما تقتضيه الظروف المتطورة، فهذان جانبان يبدوان وكأنهما متناقضان.
وحقًّا أن هذا التناقض الظاهر، بين أن نطلب استمرار الشخصية القومية من جهة، وأن نطلب في الوقت نفسه بضرورة أن نتكيف للمواقف الجديدة، إنما يخلق إشكالًا عندما نحاول أن نتخلص منه، مع المحافظة على كلا الطرفين المتناقضَين، فالوالد المثقف الواعي، الذي يريد تربية ولده على خير صورة ممكنة، يعترضه هذا الإشكال نفسه، وهو: كيف يربي ولده بحيث يشبُّ الولد على صيانة موروث أمته وطريقتها في الحياة، وبحيث يستطيع في الوقت نفسه ألَّا يتقيَّد بذلك الموروث، إذا ما دعت ضرورة التطور ألَّا يتقيَّد به؟
والكاتب المسئول يعترضه الإشكال بعينه، وهو: كيف يكتب بحيث لا يجعل من نفسه عاملًا على تشويه ملامح الثقافة القومية، وبحيث يدعو — في الوقت نفسه — إلى أن تُساير أمتُه عصرَها بكل ظروفه؟ بل إن هذا الإشكال نفسه هو الذي يصدم المجتمع الحساس، ويصدم الدولة الحريصة على سلامة شعبها؛ فالتناقض الظاهر نراه قائمًا في كل الحالات، والخروج منه بصيغةٍ مناسبة تصون الطرفين، وتتخلص منهما في آنٍ واحد، هو عادةً محورٌ رئيسي، تدور حوله الحركة الثقافية في الشعوب الصاحية اليقظانة، وأقول ذلك لأنني أعلم بأنه كثيرًا ما يصعب على الأفراد أو على الجماعات، أن تخرج لنفسها بصيغةٍ توفيقية كهذه، فيحدث لها أحد أمرين: فإما يتغلب الجانب الموروث التقليدي فينفرد وحده بالميدان؛ وعندئذٍ يكون الجمود الذي يشل الحركة، وإما أن يتغلب جانب الجديد الدخيل، فينفرد وحده بالميدان كذلك؛ وعندئذٍ يكون التفكك والانحلال وضياع الشخصية القومية.
والركن الهام الذي تحقق به الصيغة التوفيقية التي أشرنا إليها، هو في التفرقة بين ما هو ثابت في خصائص الشعب، بحيث لا يجوز أن ينال منه الجديد، وبين ما هو متغير في تلك الخصائص! والجانب الثابت هو ما نريد له أن يكون «وجدان الشعب» كما نفهمه، فهنا نرى هذا الوجدان يثور إذا ما جاءت الصفات الجديدة، فهددت الكيان الثابت بالزوال أو بالضعف، ولكنه يغمض العين عن كل صفةٍ جديدة، تجيء في هامش المتغيرات، وهو هامشٌ عريض، وبهذا الفهم لمعنى «الوجدان الشعبي»، لا نرى مبررًا لقسمة الناس إلى أنصار للقديم وأنصار للجديد، أو قسمتهم إلى رجعيين وتقدُّميين؛ لأن كل إنسان في هذه الحالة التي نتصورها، «يجب» أن يكون من أنصار القديم، فيما هو ثابت من مقوِّمات الشخصية الوطنية، وأن يكون في الوقت نفسه من أنصار الجديد، فيما هو متغير من تلك المقومات، فإذا قلنا — مثلًا — إن من المقومات الثابتة: اللغة والعقيدة الدينية وشبكة العلاقات الرئيسية بين الأفراد في حياتهم، خصوصًا داخل الأسرة، وتصور البطولة؛ كان لا بد لكل فردٍ منا أن يكون من أنصار القديم في هذه الأمور الثوابت؛ فيحرص على كيان اللغة الأساسي، وعلى أركان العقيدة، وعلى العلاقات الجوهرية بين أفراد الشعب، وعلى النماذج العليا التي يُقاس إليها سلوك الإنسان، للتمييز بين ما هو سلوكٌ جيد وما هو سلوكٌ رديء.
إننا شعبٌ عاش «حضاراتٍ» متتالية، وليس تاريخه الماضي مجرَّد مئات من السنين أو ألوف منها تتابعت، بل هي «حضارات» تعاقبت! وهذه نقطة يصعب إدراكها للوهلة الأولى، فترانا نكتفي بقولنا: إننا أصحاب تاريخٍ طوله ستة آلاف أو سبعة آلاف من السنين، ونكاد ننسى أن هذه الآلاف لم تكن كلها — حضارة — واحدة، بل هي «حضارات» أعقب بعضها بعضًا، وأهمية هذه النقطة هي أننا ما لم نكن قد فرَّقنا في أنفسنا بين ما هو ثابت وما هو قابل للتغير، لما ظللنا مصريين على طول هذا التاريخ المديد، بفضل الثوابت المستقرة، ولما استطعنا في الوقت نفسه أن نستبدل حضارة بحضارة، بفضل قبولنا لتغيير ما يجوز عليه أن يتغير.
لقد قيل عن وجدان الشعب المصري إنه معتدل المزاج، فلم يتطرف في حياته الثقافية قط! وما هذا المزاج المعتدل، إلا ما قد أشرتُ إليه من تفرقةٍ واضحة عندنا، بين ما يجب ثباته وما يجوز تبديله، وبهذا المقياس نستطيع أن نميِّز فينا بين السويِّ والمنحرف؛ إذ الانحراف بمقياسنا يكون في الانحصار داخل الجانب الثالث، وقفل الأبواب دون المتغير، أو يكون في الانحصار في هامش المتغيرات، ونبذ الثوابت في كياننا التاريخي.
فلما قلت عن المغفور له الشهيد الدكتور محمد حسين الذهبي، إنني عرفته عن قرب، فوجدته يجسد وجدان هذا الشعب، فإنما عنيتُ بذلك القول أنه ممن أدركوا أين حدود الثوابت، وأين يجوز التجديد؛ فكان يُجسِّد بشخصه تلك الصيغة، التي قلنا إنها هي التي تضمن لنا استمرارية الشخصية المصرية، مع ارتقائها في الوقت نفسه على سلَّم التطور الحضاري، كلما استبدلت الإنسانية حضارةً بحضارة.